
كتابات نقدية حرة عن السينما في الحياة، والحياة في السينما............. يحررها أمير العمري
السبت، 28 فبراير 2009
محمد خان يفتح ملف "ستانلي"

الأربعاء، 25 فبراير 2009
"الرقص مع بشير": عن الأوسكار والكلاب المسعورة وعقدة الذنب
المقال نشر أولا في جريدة "البديل"
ثانيا هذا فيلم، أساسه وجوهره، حول "الفاعل" وليس المفعول به، أي عن المأزق "الإنساني" الذي يزج بالجنود الإسرائيليين فيه، ويؤكد في كل أجزائه أنهم "مغلوبون على أمرهم" "سيقوا إلى حرب لا يعلمون شيئا عنها" "كانوا شبابا صغار السن يافعين"، وأنهم "كانوا نائمين وقتما صدرت لهم الأوامر بركوب سيارات والتوجه إلى الجبهة، ووصلوا وهم لايزالون نائمين". هذا ما يتردد في الفيلم بشكل حرفي.
بمعنى آخر، هذا فيلم عن المٌعتدي وليس المعتدى عليه، وهو إن كان يظهر بعض الصور في النهاية للمعتدى عليهم فبقصد غسل ضمير المعتدي، وتخليصه من "عقدة الإحساس بالذنب" المفتعلة فنيا أي أنها عقدة "غير حقيقية" صنعت بنظرة ليبرالية مفتعلة موجهة للغرب تحديدا، بقصد تصوير "العذاب" الروحي الذي يعانيه المعتدي لعجزه عن حماية "المعتدى عليه" من اعتداء لم يأت من طرف هذا "المعتدي" الذي هو الإسرائيلي، الغازي، الذي اقتحم أرض الغير، وشن حرب تصفية شملت آلافا من المدنيين الأبرياء، ودمر إحدى أهم العواصم العربية، بل من "معتد" آخر هو حزب الكتائب اللبناني. صحيح أن هذا المعتدي الآخر كان عميلا وذيلا للمعتدي الصهيوني، إلا أن الفيلم يريد أن يقول لنا إنه تجاوزه في وحشيته إزاء الفلسطينيين، وإزاء رغبته في الانتقام بأبشع الطرق لاغتيال زعيمه بشير الجميل.
هنا يتطهر الإسرائيلي ويغتسل من عقدة الذنب، وينجو من الإدانة المباشرة: كإنسان، وكجندي، وكمواطن إسرائيلي عادي اضطر لأداء "الخدمة" العسكرية في 1982 في لبنان، ثم تحول إلى "مخرج سينمائي" لديه أيضا حساسيته الخاصة.
هنا يُلقي ذلك "الجندي السابق- السينمائي الحالي" اللوم بأسره على قيادته المتمثلة في شارون (اليميني، العسكري المحترف الخشن، العنيف، رمز الجيل المؤسس المتطرف صهيوينا، ًالمدان لفرط توحشه في الأوساط الغربية) كما لو كان شارون مثلا أكثر وحشية من ليفني أو أولمرت أو باراك. فهل هناك بعد ذلك لامعقولية أكثر من هذا!
والغريب أن الناقد السينمائي سمير فريد (وهو متمرس على مشاهدة الأفلام) يكرر في أكثر من مقال له أن الفيلم يصور غزو الإسرائيليين للبنان على صورة كلاب متوحشة سوداء تفتك بالفلسطينيين. وهذا غير صحيح على الإطلاق.
والصحيح أن الفيلم يبدأ بكابوس (نعرف فيما بعد أنه يتكرر في حياة بطل الفيلم منذ عودته من الحرب اللبنانية عام 1982). في هذا الكابوس المتكرر يرى البطل- المنكسر- الذي يعاني من أزمة نفسية، 26 كلبا أسود، يطاردونه باستمرار ويحاصرون منزله في تل أبيب، ومن هذا الكابوس المعذب يبدأ الفيلم، فهذا الجندي السابق (بواز) يلتقي بالمخرج آري فولمان ويطلب نصيحته بشأن هذا الكابوس، ويروي له أنه كان قد كلف أثناء غزو لبنان عام 1982 مع زملائه باقتحام قرية لبنانية في جنوب لبنان للقضاء على أفراد المقاومة فيها، وكانت المهمة التي أوكلت إليه تحديدا قتل عدد من الكلاب المتوحشة التي كانت تحرس تلك القرية (لأن رؤساءه كانوا يعرفون أنه لا يستطيع قتل البشر!) وأنه اضطر لقتلها واحدا واحدا، وكان عددها 26 كلبا.
غير أن سمير فريد يتخذ من هذا المشهد- الكابوس دليلا على أن الفيلم يدين الجيش الإسرائيلي ويشبه جنوده بالكلاب، فهو يقول بالنص:" لم يحدث أبداً، فى حدود معلوماتى، أن تم إنتاج فيلم يصور مخرجه ضباط وجنود جيش البلد الذى ينتمى إليه على شكل كلاب مسعورة عيونها حمراء تنقض على مدينة فى ظلام الليل كما فعل آرى فولمان، وهو يصور غزو بيروت عام ١٩٨٢" (المصري اليوم- 29 يناير 2009).

قبل ذلك، وبعد أن شاهد سمير فريد الفيلم نفسه في مهرجان كان كتب يقول بالحرف الواحد أيضا:"ويدين الفيلم الغزو حتي أنه يبدأ مع العناوين بكلاب متوحشة تقوم بالغزو، وينتهي بمشاهد تسجيلية للمذبحة وإحدي الفلسطينيات تصرخ في المخيم: تعالوا صوروا القتل.. أين العرب.. وأين العالم مما يحدث لنا" (المصري اليوم- 17 مايو 2008).
يقول سمير فريد أيضا في مقاله الذي يعلق فيه على ترشيح الفيلم لأوسكار أحسن فيلم "أجنبي" تحت عنوان "أول فيلم تحريك يرشح لأوسكار أحسن فيلم أجنبي" (المصري اليوم- 29 يناير): " وقد يتصور البعض ممن لم يشاهدوا الفيلم أن وصوله إلى ترشيحات أوسكار أحسن فيلم أجنبى، ودخوله التاريخ كأول فيلم تحريك يتنافس على هذه الجائزة يرجع إلى «تعاطف» أغلب أعضاء الأكاديمية «نحو ٦ آلاف عضو» التى تنظم الأوسكار مع إسرائيل، حيث يتم الترشيح والفوز بعد ذلك من خلال التصويت الفردى المباشر، ولكن من واقع مشاهدة الفيلم، ومن دون إنكار التعاطف السائد فى الغرب عموماً مع إسرائيل بالحق أو الباطل، فإن السبب فى رأيى ليس التعاطف مع إسرائيل بقدر ما هو تأييد السلام، وتقدير الفيلم من الناحية الفنية حيث يعتبر نقلة نوعية فى أفلام التحريك".
وسمير فريد بالطبع حر بالطبع في إعجابه بالفيلم وبمستواه الفني رغم ما فيه من قتامة في الألوان وتواضع شديد في نوعية ومستوى رسومه التي تبدو مثل رسوم الأطفال وموسيقاه الزاعقة التي تثير من الضجيج أكثر مما تدفع إلى التأمل، غير أنني أود التوقف هنا أمام فكرة أن أعضاء الأكاديمية من المؤيدين للسلام.
أي سلام ذلك الذي يتعاطف معه أعضاء الأكاديمية: فهل رسالة هذا الفيلم تتلخص في الدعوة إلى السلام؟ النقاد في الغرب بل وداخل إسرائيل نفسها، يتفقون على أن الهدف الأساسي من الفيلم هو هدف "علاجي" therapeutic ويروي كثير من الجنود الإسرائيليين الذين حاربوا في لبنان 1982 مثل فولمان لصحيفة "هاآرتز" الإسرائيلية (5 فبراير) كيف أن مشاهدة الفيلم جعلتهم يشعرون بالراحة النفسية بعد أن أعاد إدخالهم إلى التجربة وتنتقية الذاكرة حولها، والأهم، توضيح عدم مسؤولية الجنود كأفراد عما وقع في صبرا وشاتيلا.
إنه العلاج النفسي (بقصد تطهير الروح) عن طريق استعادة الماضي، واستدعاء الأحداث بقسوتها وعنفها على طريقة التحليل النفسي، وهو المدخل الذي يستخدمه فولمان في فيلمه بوضوح لا ريب فيه.
يقول بيتر برادشو ناقد صحيفة "الجارديان" البريطانية (21 نوفمبر 2008) إن من الممكن الاعتراض على الفيلم باعتبار أنه "يجعل الأولوية لآلام المتفوق على حساب المضطَهد".
ويقول ج. هوبرمان في "هوستون برس" الأمريكية (13 يناير 2009) "إن الفيلم "يهتم أساسا باستدعاء التجربة القاسية. هناك جانب علاجي في هذا الموضوع، وليس غريبا أن فولمان أحد صناع عرض تليفزيوني إسرائيلي شهير كان مقتبسا من الدراما النفسية التي أنتجها تليفزيون إتش أه بي "في العلاج".
ولاشك أن "فتح الجرح" أو استدعاء التجربة، عامل أساسي في العلاج وفي تحقيق الشفاء، ولكن كم من العلاجات والصدمات والمواجهات مع النفس سيحتاج الجنود الإسرائيليون في المستقبل بعد كل هذه المذابح المستمرة!
إن ترشيح الفيلم من جانب القائمين على الأوسكار الذين لم يمنحوا جائزة واحدة في تاريخهم لفيلم يتعاطف مع الفلسطينيين ولو بأي مقياس (ولا حتى لفيلم "ميونيخ" من إخراج طفلهم المدلل سبيلبرج)، ليس حبا في السلام، بل من أجل التأكيد على "التفوق" الإسرائيلي: في شن الحروب، وفي البحث عن الشفاء من عقدة الحروب، في مواجهة الأعداء، وفي مواجهة النفس وقتما يقتضي الأمر بغرض تحقيق الاسترخاء اللازم للعودة إلى مواصلة القتل، في استخدام أدوات الدمار للتخلص من "المواد البشرية الفائضة"، ثم في استخدام أدوات السينما بغرض تطهير أرواح الأبناء من عقد الإحساس بالذنب.
الاثنين، 23 فبراير 2009
مفاجآت محدودة في جوائز الأوسكار
كما كان متوقعا حصد الفيلم البريطاني "مليونير العشوائيات" أكبر عدد من الجوائز يحصل عليها فيلم بريطاني منذ "المريض الانجليزي" (1997) بعد فوزه بثماني جوائز رئيسية منها أحسن فيلم وأحسن مخرج وأحسن سيناريو معد عن أصل أدبي وأحسن تصوير.
وكما كان متوقعا أيضا حصلت الممثلة البريطانية كيت ونسليت (33 عاما) على جائزة أحسن ممثلة عن فيلم "القاريء" The Reader رغم ما تعرض له الفيلم من هجوم شديد من جانب المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة وعلى رأسها مركز سيمون فيزنثال وعصبة الدفاع اليهودية، متهمين الفيلم بتجميل النازية، والتماس العذر لبطلته (التي عملت حارسة في معتقل نازي في الماضي) لكونها أمية لم تكن تعرف القراءة والكتابة، وبالتالي- حسب تفسيرات تلك المنظمات اليهودية- لم تكن تستطيع أن توقع على أمر اعتقال 300 يهودي وترحيلهم إلى مصيرهم، وهو ما رأوا فيه نوعا من تخليص الألمان من الخطيئة التي ارتكبوها في حق اليهود!
معظم الجوائز الأخرى بعد ذلك جاءت متوقعة بما فيها جائزة الممثل الثانوي (هيث ليدجر) والممثلة الثانوية (بنيلوب كروز).
أما المفاجأة فربما تتمثل في حصول شون بن على جائزة أحسن ممثل، لا لأن أداءه أقل من غيره، بل لأن أداء ميكي رورك في "المصارع" كان بارزا بدرجة كبيرة وسيطر على أذهان جميع من شاهدوا الفيلم، وكانت عودته إلى الأضواء بعد ابتعاد طويل جديرة من وجهة نظر الأوساط السينمائية الأمريكية بالترحيب خاصة وأن دوره في الفيلم يتماهى مع مسار حياته الشخصية خلال العقدين الأخيرين. وإن كان رأيي الشخصي أن الممثل الجدير حقا بالجائزة (في مسابقة أخرى تحكم المعايير الفنية وحدها، وتأخذ في الاعتبار القيمة الفكرية والفنية للفيلم وليس أي اعتبارات أخرى) هو العملاق الكبير فرانك لانجيلا الذي قام بدور ريتشارد نيكسون في فيلم "فروست/ نيكسون". لكن مؤسسة الأوسكار عادة ما تميل إلى تكريم الصناعة السائدة وليس الأعمال الفنية التي تتجاوز السائد. وربما كان الفيلم نفسه جديرا بجائزة السيناريو المعد عن أصل أدبي وجائزة الإخراج أيضا إن لم يكن أيضا أحسن فيلم، فهو في رأي كاتب هذه السطور أحسن الأفلام الخمسة المتنافسة على الجائزة.
داني بويل مخرج "مليونير العشوائيات"
والواضح أيضا أن "هوليوود" أرادت على ما يبدو توجيه رسالة سياسية واضحة تؤكد على "ليبراليتها" في المرحلة السياسية الجديدة تحت إدارة أوباما، وهي أنها تؤيد حقوق المثليين، وهو الموضوع الذي ناضل ومات من أجله هارفي ميلك الذي يدور حول شخصيته فيلم "ميلك" Milk ولذا ذهبت الجائزة إلى شون بن الذي فوجيء هو نفسه بها، لأنه يعرف أن أمامه عملاقين: ميكي رورك وفرانك لانجيلا.
ومن المفاجآت المحدودة أيضا خروج فيلم "الحالة الغريبة لبنيامين بوتون" من المسابقة بثلاث جوائز فقط (فرعية تقنية) وهو الذي كان مرشحا لأكبر عدد من الجوائز (13 ترشيحا).
ولعل المفاجأة الأخيرة في إعلان الجوائز أيضا تتمثل في حصول الفيلم الياباني "رحيل" Departures على جائزة أحسن فيلم أجنبي في حين أنه كان من المتوقع أن تذهب الجائزة إلى الفيلم الإسرائيلي "الرقص مع بشير"، وقد يكون تجاهل الفيلم الإسرائيلي قد خضع أيضا لتوازنات معينة، فهذا الفيلم اعتبر في نظر المنظمات اليهودية الأمريكية المتشددة فيلما يكشف "الضعف الإسرائيلي" وبالتالي لم يكن هناك ترحيب به. وفي مقابل منح كيت ونسليت جائزة التمثيل، تم اسقاط الفيلم الإسرائيلي، تجنبا لأن يقال أيضا أن هوليوود تكرم إسرائيل بعد كل ما وقع في غزة.. وكلها اجتهادات شخصية بالطبع. وكل أوسكار وأنتم بخير!
الجمعة، 20 فبراير 2009
من مخزن الذاكرة: أيام في الدار البيضاء


جمعتنا أيام جميلة في الدار البيضاء (عام 1992) عندما شاركنا في الموسم الثقافي الجميل الذي نظمته كلية الآداب - ابن مسيك بالدر البيضاء حول "السينما والأدب" ووجهت الدعوة وقتها لعدد كبير من السينمائيين البارزين الذين كان لي شرف التواجد معهم، وكذلك النقاد.. نقاد الزمن الصعب من المشرق والمغرب.
وقد حفل الأسبوع بالعروض والمناقشات المثمرة التي دارت داخل مدرج كلية الآداب بالجامعة العريقة. وكان الدكتور محمد برادة أستاذ الأدب، رئيسا للجلسات وقتها. وأتذكر أن منظم الأسبوع كان الصديق الناقد المغربي حمادي كيروم، وكانت تلك المرة الأولى التي نلتقي وقد وجه لي الدعوة للمشاركة بورقة بحثية في المؤتمر وكانت وقتها بعنوان "السينما والأدب وأشكال التعبير: علاقة اقتباس أم استلهام، أمانة أم خيانة؟"، ويمكن القول باختصار أنها كانت دفاعا مسهبا عن "الخيانة" أي عن حق السينمائي في خيانة العمل الأدبي وتطويعه للغتة السينما ولأسلوبه ورؤيته، وكان فيها نوع من "التحيز" للسينما. وقد أثارت وقتها ضجة كبيرة ومناقشات صاخبة ونشرت فيما بعد في صحف مغربية، وأتذكر أنني تلقيت أيضا هجوما شديدا من طرف أحد الطلاب الذي انتفض واقفا بغضب محموم وكان يرتجف من فرط الانفعال وهو يتكلم موجها لي انتقادات شديدة، وكان أساس غضبه أنه شعر بالاستفزاز من كلمة "خيانة" وتصور فيما يبدو أنني أدعو إلى الخيانة الزوجية مثلا، أو إلى الإباحية ربما لأنني ضربت وقتها مثالا بفيلم "العاشقة" الفرنسي الذي كان قد ظهر مؤخرا في فرنسا عن رواية لمرجريت دورا وأثار ضجة كبرى لتجاوزه الرواية كثيرا. وكان الطالب المسكين كما بدا واضحا للجميع مدفوعا بأيديولوجية سلفية أو متشددة كانت لاتزال كامنة إلى حد ما في المغرب في تلك الفترة.
وقد نشر ذلك البحث ضمن كتابي "هموم السينما العربية" الذي صدر في القاهرة ضمن سلسلة "آفاق السينما" وأعتبره أسوأ كتبي على الإطلاق من حيث الإخراج والتنفيذ والطباعة، وإن كان من أكثرها اهتماما من جانب الكثير من المهتمين وطلاب السينما، فقد كنت كلما التقيت بأحد من هؤلاء يذكر الكتاب ويشيد بتأثيره عليه، وكنت أدهش كثيرا لذلك وأعتذر عن رداءة الطباعة خصوصا وأن الصديق كمال رمزي المشرف على السلسلة في تلك الفترة، أصدر معه كتابا ثانيا لي هو "سينما الرؤية الذاتية"، وقال في كلمته التي نشرت على ظهر الغلاف إنه يقدم "في هذا السفر عملين يكشف فيهما المؤلف عن همومه كناقد تجاه السينما العربية والعالمية".. ولم أقتنع بفكرة دمج كتابين منفصلين في كتاب واحد كما لم أقتنع بأنني كتبت "سفرا" أو شيئا من هذا القبيل!
كان الناقد كمال رمزي (الذي يظهر معي في الصورة السفلية (إلى اليسار)، ومع المخرج السينمائي الفلسطيني غالب شعث (أقصى اليمين) والصحفية المغربية أمينة بركات ,والإعلامية المغربية الأستاذة صباح بن داود)، صديقا مقربا في تلك الفترة وما تلاها، ولكن شاءت التغيرات والمتغيرات التي عصفت بكل شيء في مصر أن تغير أيضا الكثير من العلاقات والصداقات، وتصنع علاقات أخرى ربما تقوم على أشياء لا علاقة لها بحبنا القديم المشترك وهو السينما، أو بأحلامنا القديمة في تغيير الدنيا إلى الأفضل بعد أن سقطت الدنيا في المستنقع وسقط معها كثيرون!
كان المخرج غالب شعث، وهو رجل شديد التهذيب والأدب والرقة بل ويمتلك أيضا ثقافة رفيعة وحسا فنيا بليغا، مدعوا إلى المؤتمر- الأسبوع- المهرجان (أظن أن الإخوة في المغرب أطلقوا عليه وقتذاك "ملتقى الرواية والسينما") لعرض ومناقشة تجربة فيلمه الشهير "الظلال في الجانب الآخر" (1973) الذي كان باكورة إنتاج جماعة السينما الجديدة في مصر في عز سنوات الحلم بالتغيير بعد هزيمة 67 العسكرية التي احدثت نوعا من اليقظة بل والثورة الثقافية الشاملة التي كانت، لو قدر لها أن تستمر ولا يتم إجهاض مشروعها في 1971 ثم في 1974 مع إعلان السادات تغيير توجه المجتمع بالكامل وبقرار علوي من فوق، دون أن يملك أحد التصدي له سوى طلاب الجامعات، لكان من الممكن أن تلحق مصر بركب التطور ولا تنزلق وتسقط في غبار الفكر المتصحر المتصلب الجاف القادم من أعماق الصحراء المجاورة جالبا معه أزياءه وأشكاله وسحناته الشيطانية!
كان غالب شعث من أوائل السينمائيين الفلسطينيين الواعدين في مجال السينما الروائية الحقيقية، سينما التعبير باللفتة والحركة والهمسة والعلاقة بين الصور واللقطات، وذلك في وقت سادت فيه (أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات) سينما أخرى فلسطينية تعتمد على الشعارات وعلى أننا اصحاب حق و"عائدون" وكانت تمتلئ بالكثير من التدريبات العسكرية وتخلو من اللمسات الفنية الإنسانية. غير أن هذا المخرج الموهوب بحق امتنع بعد إخراج عمله البارز "الظلال" عن الإخراج السينمائي، وفشلت كل الجهود لدفعه للعودة للإخراج مرة أخرى حتى يومنا هذا. ورغم أنه درس السينما دراسة رفيعة في فيينا في الستينيات، إلا أنه فضل الأعمال التجارية متخذا من القاهرة منذ فيلم "الظلال" مقرا لإقامته حتى يومنا هذا.
كان من بين المدعوين إلى الدار البيضاء أيضا من الذين شاركوا بأوراق ومداخلات مكتوبة المخرج السوري الكبير نبيل المالح وعرض له فيلم "الكومبارس" وقد لقي استقبالا بديعا، وتحدث أيضا على ما أذكر أيضا المخرج الصديق داود عبد السيد الذي عرض له فيلم "الكيت كات" وكان قد ظهر حديثا وكانت تلك المرة الأولى التي أشاهده فيها، فقد جئت من لندن (كالعادة). غير أن رأيي دائما في داود وهو رجل عميق الاطلاع والمعرفة، انه أحد أفضل السينمائيين الذين ظهروا في تاريخ السينما المصرية قاطبة، غير أنه ليس متحدثا جيدا.
جاء وفد كبير من الأدباء والسينمائيين والنقاد من مصر يتقدمه الراحل الكبير صلاح أبو سيف، وكان يرأس الوفد الصديق الراحل أيضا عبد الحميد سعيد مؤسس أرشيف الفيلم المصري الذي لم يكتمل أبدا بسبب معوقات إدارية. وكان هناك الكاتب الكبير صبري موسى متعه الله بالصحة والعافية (صاحب سيناريو فيلم "البوسجي" الشهير الذي أخرجه حسين كمال قبل أن يتحول إلى إخراج الأفلام الرائجة)، وكان المؤتمر يعرض عددا من أفلام صلاح أبو سيف المأخوذة عن أعمال أدبية منها فيلم "بداية ونهاية" و"القاهرة 30". وعرض كذلك أفلاما من تونس والمغرب ولبنان وفلسطين.
أذكر أنه كان من بين المدعوين الصديق المخرج علي بدرخان الذي أخرج الكثير من الأفلام الجيدة التي تعتمد على نصوص أدبية مثل "الكرنك" و"أهل القمة" و"الجوع". وعلي بدرخان طبعا معروف بمقالبه الكثيرة التي يدبرها على سبيل المزاح. وقد حاول أن يجرب معي أحد مقالبه ونحن في الفندق حينما اتصل بي يدعوني للحضور فورا إلى غرفته في الفندق بحجة أن "أمرا مهما من إدارة المهرجان" في انتظاري أو شيئا من هذا القبيل.. لكني على ما يبدو شممت رائحة توحي بوجود مقلب ما في الموضوع، فلم يكن ما ذكره مقنعا تماما، كما أن قدرته على التمثيل لم تقنعني كما تقنعني قدرته على الإخراج. وقد ذهبت إلى الغرفة بالفعل وأنا أتشكك مسبقا في وجود أمر ما مدبر، فوجدت كمال رمزي منفجرا في الضحك ومعه صبري موسى وداود عبد السيد وطبعا علي بدرخان الذي حاول أن يوهمني بجدية الأمر، دون أي جدوى بالطبع.. لا أذكر كيف انتهت الجلسة، لكن على خير طبعا!
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com