الجمعة، 20 فبراير 2009

من مخزن الذاكرة: أيام في الدار البيضاء



جمعتنا أيام جميلة في الدار البيضاء (عام 1992) عندما شاركنا في الموسم الثقافي الجميل الذي نظمته كلية الآداب - ابن مسيك بالدر البيضاء حول "السينما والأدب" ووجهت الدعوة وقتها لعدد كبير من السينمائيين البارزين الذين كان لي شرف التواجد معهم، وكذلك النقاد.. نقاد الزمن الصعب من المشرق والمغرب.
وقد حفل الأسبوع بالعروض والمناقشات المثمرة التي دارت داخل مدرج كلية الآداب بالجامعة العريقة. وكان الدكتور محمد برادة أستاذ الأدب، رئيسا للجلسات وقتها. وأتذكر أن منظم الأسبوع كان الصديق الناقد المغربي حمادي كيروم، وكانت تلك المرة الأولى التي نلتقي وقد وجه لي الدعوة للمشاركة بورقة بحثية في المؤتمر وكانت وقتها بعنوان "السينما والأدب وأشكال التعبير: علاقة اقتباس أم استلهام، أمانة أم خيانة؟"، ويمكن القول باختصار أنها كانت دفاعا مسهبا عن "الخيانة" أي عن حق السينمائي في خيانة العمل الأدبي وتطويعه للغتة السينما ولأسلوبه ورؤيته، وكان فيها نوع من "التحيز" للسينما. وقد أثارت وقتها ضجة كبيرة ومناقشات صاخبة ونشرت فيما بعد في صحف مغربية، وأتذكر أنني تلقيت أيضا هجوما شديدا من طرف أحد الطلاب الذي انتفض واقفا بغضب محموم وكان يرتجف من فرط الانفعال وهو يتكلم موجها لي انتقادات شديدة، وكان أساس غضبه أنه شعر بالاستفزاز من كلمة "خيانة" وتصور فيما يبدو أنني أدعو إلى الخيانة الزوجية مثلا، أو إلى الإباحية ربما لأنني ضربت وقتها مثالا بفيلم "العاشقة" الفرنسي الذي كان قد ظهر مؤخرا في فرنسا عن رواية لمرجريت دورا وأثار ضجة كبرى لتجاوزه الرواية كثيرا. وكان الطالب المسكين كما بدا واضحا للجميع مدفوعا بأيديولوجية سلفية أو متشددة كانت لاتزال كامنة إلى حد ما في المغرب في تلك الفترة.
وقد نشر ذلك البحث ضمن كتابي "هموم السينما العربية" الذي صدر في القاهرة ضمن سلسلة "آفاق السينما" وأعتبره أسوأ كتبي على الإطلاق من حيث الإخراج والتنفيذ والطباعة، وإن كان من أكثرها اهتماما من جانب الكثير من المهتمين وطلاب السينما، فقد كنت كلما التقيت بأحد من هؤلاء يذكر الكتاب ويشيد بتأثيره عليه، وكنت أدهش كثيرا لذلك وأعتذر عن رداءة الطباعة خصوصا وأن الصديق كمال رمزي المشرف على السلسلة في تلك الفترة، أصدر معه كتابا ثانيا لي هو "سينما الرؤية الذاتية"، وقال في كلمته التي نشرت على ظهر الغلاف إنه يقدم "في هذا السفر عملين يكشف فيهما المؤلف عن همومه كناقد تجاه السينما العربية والعالمية".. ولم أقتنع بفكرة دمج كتابين منفصلين في كتاب واحد كما لم أقتنع بأنني كتبت "سفرا" أو شيئا من هذا القبيل!
كان الناقد كمال رمزي (الذي يظهر معي في الصورة السفلية (إلى اليسار)، ومع المخرج السينمائي الفلسطيني غالب شعث (أقصى اليمين) والصحفية المغربية أمينة بركات ,والإعلامية المغربية الأستاذة صباح بن داود)، صديقا مقربا في تلك الفترة وما تلاها، ولكن شاءت التغيرات والمتغيرات التي عصفت بكل شيء في مصر أن تغير أيضا الكثير من العلاقات والصداقات، وتصنع علاقات أخرى ربما تقوم على أشياء لا علاقة لها بحبنا القديم المشترك وهو السينما، أو بأحلامنا القديمة في تغيير الدنيا إلى الأفضل بعد أن سقطت الدنيا في المستنقع وسقط معها كثيرون!
كان المخرج غالب شعث، وهو رجل شديد التهذيب والأدب والرقة بل ويمتلك أيضا ثقافة رفيعة وحسا فنيا بليغا، مدعوا إلى المؤتمر- الأسبوع- المهرجان (أظن أن الإخوة في المغرب أطلقوا عليه وقتذاك "ملتقى الرواية والسينما") لعرض ومناقشة تجربة فيلمه الشهير "الظلال في الجانب الآخر" (1973) الذي كان باكورة إنتاج جماعة السينما الجديدة في مصر في عز سنوات الحلم بالتغيير بعد هزيمة 67 العسكرية التي احدثت نوعا من اليقظة بل والثورة الثقافية الشاملة التي كانت، لو قدر لها أن تستمر ولا يتم إجهاض مشروعها في 1971 ثم في 1974 مع إعلان السادات تغيير توجه المجتمع بالكامل وبقرار علوي من فوق، دون أن يملك أحد التصدي له سوى طلاب الجامعات، لكان من الممكن أن تلحق مصر بركب التطور ولا تنزلق وتسقط في غبار الفكر المتصحر المتصلب الجاف القادم من أعماق الصحراء المجاورة جالبا معه أزياءه وأشكاله وسحناته الشيطانية!
كان غالب شعث من أوائل السينمائيين الفلسطينيين الواعدين في مجال السينما الروائية الحقيقية، سينما التعبير باللفتة والحركة والهمسة والعلاقة بين الصور واللقطات، وذلك في وقت سادت فيه (أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات) سينما أخرى فلسطينية تعتمد على الشعارات وعلى أننا اصحاب حق و"عائدون" وكانت تمتلئ بالكثير من التدريبات العسكرية وتخلو من اللمسات الفنية الإنسانية. غير أن هذا المخرج الموهوب بحق امتنع بعد إخراج عمله البارز "الظلال" عن الإخراج السينمائي، وفشلت كل الجهود لدفعه للعودة للإخراج مرة أخرى حتى يومنا هذا. ورغم أنه درس السينما دراسة رفيعة في فيينا في الستينيات، إلا أنه فضل الأعمال التجارية متخذا من القاهرة منذ فيلم "الظلال" مقرا لإقامته حتى يومنا هذا.
كان من بين المدعوين إلى الدار البيضاء أيضا من الذين شاركوا بأوراق ومداخلات مكتوبة المخرج السوري الكبير نبيل المالح وعرض له فيلم "الكومبارس" وقد لقي استقبالا بديعا، وتحدث أيضا على ما أذكر أيضا المخرج الصديق داود عبد السيد الذي عرض له فيلم "الكيت كات" وكان قد ظهر حديثا وكانت تلك المرة الأولى التي أشاهده فيها، فقد جئت من لندن (كالعادة). غير أن رأيي دائما في داود وهو رجل عميق الاطلاع والمعرفة، انه أحد أفضل السينمائيين الذين ظهروا في تاريخ السينما المصرية قاطبة، غير أنه ليس متحدثا جيدا.
جاء وفد كبير من الأدباء والسينمائيين والنقاد من مصر يتقدمه الراحل الكبير صلاح أبو سيف، وكان يرأس الوفد الصديق الراحل أيضا عبد الحميد سعيد مؤسس أرشيف الفيلم المصري الذي لم يكتمل أبدا بسبب معوقات إدارية. وكان هناك الكاتب الكبير صبري موسى متعه الله بالصحة والعافية (صاحب سيناريو فيلم "البوسجي" الشهير الذي أخرجه حسين كمال قبل أن يتحول إلى إخراج الأفلام الرائجة)، وكان المؤتمر يعرض عددا من أفلام صلاح أبو سيف المأخوذة عن أعمال أدبية منها فيلم "بداية ونهاية" و"القاهرة 30". وعرض كذلك أفلاما من تونس والمغرب ولبنان وفلسطين.
أذكر أنه كان من بين المدعوين الصديق المخرج علي بدرخان الذي أخرج الكثير من الأفلام الجيدة التي تعتمد على نصوص أدبية مثل "الكرنك" و"أهل القمة" و"الجوع". وعلي بدرخان طبعا معروف بمقالبه الكثيرة التي يدبرها على سبيل المزاح. وقد حاول أن يجرب معي أحد مقالبه ونحن في الفندق حينما اتصل بي يدعوني للحضور فورا إلى غرفته في الفندق بحجة أن "أمرا مهما من إدارة المهرجان" في انتظاري أو شيئا من هذا القبيل.. لكني على ما يبدو شممت رائحة توحي بوجود مقلب ما في الموضوع، فلم يكن ما ذكره مقنعا تماما، كما أن قدرته على التمثيل لم تقنعني كما تقنعني قدرته على الإخراج. وقد ذهبت إلى الغرفة بالفعل وأنا أتشكك مسبقا في وجود أمر ما مدبر، فوجدت كمال رمزي منفجرا في الضحك ومعه صبري موسى وداود عبد السيد وطبعا علي بدرخان الذي حاول أن يوهمني بجدية الأمر، دون أي جدوى بالطبع.. لا أذكر كيف انتهت الجلسة، لكن على خير طبعا!
كان المرحوم صلاح أبو سيف يصحو مبكرا ويمشي كثيرا قبل أن يتناول طعام الإفطار. وكنا نجلس في المساء نتبادل الروايات والحكايات بعد العشاء في المطعم، وفي العاشرة مساء تماما ينهض صلاح أبو سيف، فقد حل موعد نومه الذي ظل ثابتا طيلة حياته كما قال لي. ولم يكن أبو سيف يدخن أو يقرب الشراب، وقد عاش حياته مع نفس الزوجة مخلصا لها حتى النهاية.. وقد توفي عام 1996 عن 81 عاما ولم يكن يعاني حسب علمي، من أي أمراض بل هو قضاء الله وقدره.
أيام الدار البيضاء كانت بيضاء بحق، وكانت تمتلئ بالحب والدفء والإقبال على الحياة، والرغبة في معانقة الآخر.. ولم نكن قد بلغنا بعد عصر العولمة، أو التدهور والانهيار وفقدان الثقة فيما يحدث حولنا.. ولم تكن الغربة قد اشتدت بنا وامتدت كما هي الآن. أين هذه الأجواء الآن، بل وأين نحن منها، ومن الذي يمكنه أن يجمع هؤلاء معا مرة أخرى، وهل يمكن أصلا أن يجتمعوا بعد كل ما صار!

الخميس، 19 فبراير 2009

عصر نهاية السينما


نتحدث كثيرا عن "السينما" كما لو كان صنع الأفلام أو إنتاجها هو الهدف المنشود وانتهى الأمر، بينما الحقيقة أن المشكلة تبدأ بعد الانتهاء من تصوير الفيلم، والبحث عن وسيلة لعرضه.إن المنفذ الطبيعي لعرض الأفلام في كل بلدان العالم يكون عن طريق ما يعرف بـ"دور العرض السينمائي"، والذي أصبح الآن يقال له "قاعات العرض" أو "الشاشات" بعد ظهور المجمعات السينمائية المتعددة الشاشات والقاعات.
هذه القاعات أصبحت عملة نادرة في البلدان العربية في حين أن من دونها يصعب الحديث عن "السينما"، ويتضاءل الحديث ليصبح عن "عرض الأفلام السينمائية على شاشة التليفزيون".. وهو مصير لا أتصور أن سينمائيا أو مخرجا للأفلام يسعى إليه أو يطلبه، فالقصد من التصوير بكاميرا السينما أن تعرض الأفلام على الشاشات الكبيرة في القاعات ودور العرض السينمائية، فهي لم تصنع حسب المواصفات الجماعية لشاشة التليفزيون.ولكن كيف ستوجد عروض سينمائية، أي منافذ لتوزيع الأفلام وعرضها على جمهورها الطبيعي بينما أصبح الجمهور نفسه يحجم عن التردد على دور العرض كما كان يفعل في الماضي بعد شيوع ثقافة أخرى ترده بعيدا عن السينما، وتحبسه داخل قناعات منها أن الاختلاط في الظلام يولد الشيطان، أو أن مشاهدة الأشكال المتحركة المجسدة رجز من عمل الشيطان، وأصبح أصحاب دور العرض أنفسهم، أو قطاع كبير منهم، يرى أن السينما "حرام"، وأن من الأفضل له أن يحول قاعة السينما التي يملكها إلى نشاط آخر يحصل على فتوى بمشروعيته من الدعاة الجدد أو القدامى، لا فرق!
الإحصائيات المتوفرة تقول لنا إن قاعات السينما تنقرض، فبعد أن كانت تونس تملك 120 قاعة تضاءل العدد وبلغ حاليا 14 قاعة فقط في تونس العاصمة.
وبعد أن كانت بغداد تحتوي 40 قاعة أصبح عددها الآن 5 قاعات تغامر بعرض الأفلام أحيانا!وكانت الجزائر قد ورثت عن "الاستعمار" الفرنسي 450 قاعة للعرض السينمائي، لكن العدد الكلي للقاعات تضاءل فبلغ حاليا 15 قاعة.. وليحيا الاستقلال!
وأصبح عدد القاعات في المغرب 72 قاعة بعد أن كان 250 قاعة عام 1980.
أما في مصر التي يبلغ عدد سكانها قرابة الثمانين مليون فلا يوجد أكثر من 230 قاعة للعرض السينمائي. وأصبحت هناك مدن مصرية كبيرة، كاملة بل ومحافظات بأسرها، تخلو تماما من دور العرض.
ما تبقى من الدول العربية (المنضوية تحت لواء الجامعة العربية) لا يزيد عدد قاعات العرض فيها عن 30 قاعة!عن ماذا نتكلم إذن.. وهل تشهد السينما نهايتها قريبا قي العالم العربي بينما تتوالد المهرجانات السينمائية وتزداد انتشارا، ربما تحت شعار"مهرجان سينما لكل شيخ قبيلة"!

الأربعاء، 18 فبراير 2009

عن أفلام الرسوم: هل هي للصغار فقط؟



((تلقيت قبل أيام الرسالة التالية التي الهمتني كتابة الموضوع الذي يعقبها والذي أثاره الرد على الرسالة التي تعكس شغفا حقيقيا بنوع من السينما أهملناه)).
أخي العزيز:
أراسلك بخصوص فرع من فروع السينما الحالية ألا وهي الرسوم المتحركة .
أخي العزيز: الرسوم المتحركة هي أكثر العناصر ظلما في السينما حسب رأيي المتواضع واطلاق الأحكام عليها ومعاملتها بطريقة مجحفة جعل منها عنصرا منبوذا في كثير من الأحيان خصوصا هنا في عالمنا العربي .
كثيرا ما تُعامل على أنها موجهة للأطفال ولا أعلم ما هو السبب. ربما تكون النشئة هي ما خلق ذلك التفكير ففي بدايات قيمها تزعمتها الولايات المتحدة بانتاج توم وجيري مما جعل هذه الرسوم ذائعة الصيت في العالم ككل والعالم العربي خصوصا نظرا للآلة الاعلامية وتوجه أنظار العالم كله نحو الولايات المتحدة على أنها الوجه الجديد والمثير لكل شيء فقدمت لنا تلك النماذج ودعمتها بكثير من الجوائز لخلق الجو المناسب لتسويقها .
في اعتقادي أن ما حث أمريكا على القيام بذلك هو رؤية سياسية بحته ليس أكثر، تقديم هذا المنتج الجديد بشكل مثير ويجلب الانتابه العالمي نحوه، تقديم الجوائز لهذا الوجه الجديد لتعيم تواجده في أوساط العالم، والاعلام المسلط على الولايات المتحدة وجميع ما تفعله. جميع هذه العناصر أعطت أمريكا تصريحا بالتصرف بهذا النوع الجديد من الفن كما يحلو لها، والتوجيه صار يتم على يدها، والمضمون والمحتوى صار يوضع على ما تريد، وهي التي قررت لنا إلى من سيكون هذا الفن الناشئ، نعم انه الفن الموجه للأطفال .
عندما تقرر إلى من سيكون له هذا الفن تقرر توجيه بناء على مصالح سياسية بحته، وصرنا نرى ما يلمع صورة الانسان الغربي في كل لقطة، وصرنا نرى الاساءة للثقافات الشرقية في كل لحظة، صرنا نرى تبريرا لكل ما يريده ويدعو له الانسان الغربي المتحضر في كل حين. وبذلك حكموا على ذلك الفن بالخروج من دائرة الانسان إلى الساحات السياسية والتوجهات التي تخدمها نظرا لكونها وسيلة تم الترويج لها مسبقا على أنها ملك لأمريكا ولها الحق في توجيهها أينما تريد .
الاشكالية أن تلك الحركة أتت ثمارها هنا في عالمنا العربي فنشأ لدينا جيل من السينمائيين ونقادهم لا يعرفون شيئا عن الفن المسمى بالرسوم المتحركة، كل ما هنالك أنهم اكتفوا بما قدم لهم في صورة مسبقة بأنه فن موجة للأطفال ووقفوا على ذلك، كثيرون ممن تحدثت مهم عن هذا النوع من الفن استوقفوني بأنه غير مثير للاهتمام وبأنه لا يعدو كونه موجه للنشئ فقط، لا أعلم هل هذا الحكم ناتج عن تفكير مسبق أم ماذا ؟ أليس هذا الفن يستوجب لوجوده على أرض الواقع مخرج وسيناريو وجميع عناصر الفن السينمائي ؟ أليس يوجد في السينما ما هو عار ان يسمى فيلما كأفلام إد وود وهلم جرى؟ إذا الفن هو من يخرجه وبفكر من يخرج وليس بالصور المسبقة التي طبعت عنه. الفن قابل للتمدد ليشمل جميع الأطياف الانسانية ويستطيع أن يقدم لهم جميعا ما يريدون، ومن يحدد توجه الفن هو الانسان لأنه صنع له وليس من يصنعه، معيار الجودة الفنية هو من يقدمها وليس من حكم عليها مسبقا بتصور موجه بفكر سياسي أوما شابه. في مقابل ذلك التوجه الذي كان ينتج لنا توم وجيري كان هناك توجه لم يكن يملك تلك الصورة الاعلامية التي كانت لدى الولايات المتحدة، كان فن يخرج لنا روائع كانت مجهولة ومنكرة في عالمنا العربي نظرا لكونها تخالف التوجه السائد الذي كان ينظر للفن نظرة منكرة. كان هناك الروائع من أمثال قبر اليراعات وجون حافي القدمين وسبيرتد أوي. كان هناك مخرجون من أمثال هياوا ميزاكي وأيزاوا تاكاهاتا وساتوشي كون وغيرهم ممن قدموا لنا أعمال تأرخ لهذا الفن الجميل. لا أعلم من يحكم على ذلك الفن بالطفولي كيف يستطيع أن يحكم على قبر اليارعات بذلك وهو المثقل بالحس الانساني والأعاجيب السينمائية الكثيرة. لا أعلم من يحكم على ذلك الفن بالطفولي كيف يحكم على جون حافي القدمين بذلك وهو مثقل بالهم السياسي ويخرج لنا بتريحات لا يستطيع اخراجها الكثير في فيلم حي لا أعلم من يحكم على هذا الفن بالطفولي كيف يحكم على همس القلب بالطفولي.. والقائمة تطول.
أتأسف للإطالة لكنها مشاعر متدفقة لم أستطع كفها ولك تحياتي.
منصور الحقيل- نجد- السعودية

ردا على رسالة الأخ منصور، أود أولا أن أشكرك على مبادرتك بالكتابة في هذا المجال ومحاولة لفت الأنظار إلى أهميته وتأثيره الكبير. وأتفق معك فيما ذهبت إليه من أن الولايات المتحدة أولا حاولت تسويق ذلك الفن باعتباره "أمريكيا" ومنحته الصبغة الأمريكية وجعلته تعبيرا عن نمط الحياة الأمريكية وقوالبها وقيمها. وهذا طبيعي، فالفنان يعبر عن بيئته. أما الاستخدام السياسي فأيضا ليس بعيدا عن اهتمامات صناع هذا النوع من الأفلام. وهذا أيضا طبيعي. والطبيعي أيضا أن يتجه أصحاب الثقافات الأخرى إلى الاهتمام بهذا الفن وجعله وسيلة للتعبير عن مفاهيمهم الثقافية، لكن هذا لم يحدث في عالمنا العربي، بل ان ما ظهر من محاولات كانت ساذجة وكانت، كما أشرت أنت بوضوح، موجهة أساسا للأطفال، وتريد أن تصور لنا هذا النوع من أفلام الرسوم (التي يطلق عليها البعض أفلام التحريك على أساس أنها لا تقوم فقط على الرسوم بل على تحريك النماذج المجسدة أيضا) على أنها أفلام للأطفال فقط.
غير أن اليابانيين مثلا بدأوا منذ نهاية الستينيات في صنع أفلام رسوم للكبار وليس للأطفال فقط، وهناك أفلام شهيرة في هذا المجال مثل "أكيرا" لكاتسوهيرو أوتومو، وفيلم "شبح في القوقعة" لمامورو أوشي. لكن المشكلة أن الأفلام اليابانية لم تنجح في الوصول إلى العالم بسبب تحكم شركات التوزيع الأمريكية الكبرى في السوق العالمية، وبسبب سيادة وشيوع اللغة الانجليزية في عدد كبير من البلدان وتفضيلها. وخلال السنوات الأخيرة فرضت أفلام الرسوم اليابانية نفسها في الأسواق الأوروبية بعد ما حققته من نجاح كبير في المهرجانات السينمائية الدولية. وقد عرض في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا السينمائي الأخير (2008) فيلمان من أفلام الرسوم اليابانية وهو حدث نادر من نوعه. وتحول فيلم "أكيرا" الياباني إلى أحد أكثر أفلام الرسوم المصنوعة للكبار رواجا وانتشارا.
وكان مهرجان فينيسيا قد منح المخرج السينمائي الياباني هاياو مازاياكي Hayao Miyazaki جائزة الأسد الذهبي عن إنجازه السينمائي طيلة حياته، وكانت تلك المرة الأولى التي يحصل فيها مخرج لأفلام الرسوم المتحركة على جائزة على هذا المستوى الرفيع. ومازيايكي معروف بأسلوبه الذي يمزج بين الطابع الرومانسي والطابع الإنساني، وتبحث أفلامه مواضيع موجهة للكبار أساسا تتناول علاقة الانسان بالطبيعة وبالتكنولوجيا ومن أفلامه البارزة "الأميرة مونونكي" و"القلعة المتحركة" و"حورية على ربوة بجوار البحر" والأخير كان أحد الفيلمين اللذين عرضا في مسابقة مهرجان فينيسيا الأخير كما أشرت، وكان مرشحا بقوة للفوز بالجائزة الكبرى، وقد منحه النقاد الحاضرون في المهرجان المرتبة الأولى وأكثر الافلام التي استمتعوا بها طوال المهرجان.
هناك مشكلة تتمثل في أن فيلم الرسوم يتكلف ميزانية طائلة قد تتجاوز المائة مليون دولار بعد اضافة تكاليف الدعاية. ويجب أن تضمن شركات الإنتاج تحقيق أرباح، أو أنها على الأقل لا ترغب في المغامرة بصنع أفلام للكبار لا يقبل عليها لا الكبار ولا الصغار. فلابد من توفر موضوع مثير جاد، ليس بالضرورة خياليا مطلقا لكي يشد الكبار أيضا.
وقد ظهرت محطات تليفزيونية متخصصة في عرض أفلام الرسوم منها محطة Cartoon Network التي خصصت مساحة لعرض أفلام رسوم للكبار تقوم بانتاجها علما بأن الانتاج للتليفزيون أقل تكلفة بكثير من الانتاج للسينما في حالة أفلام الرسوم تحديدا.
إحدى المشاكل، التي ربما تكون أنت قد أشرت إليها في رسالتك، هي أن النظرة السائدة لأفلام الرسوم باعتبارها موجهة فقط للأطفال تعود إلى أن معظم هذه الأفلام تفضل الإغراق في الخيال المطلق أو الفانتازيا، بينما هناك أفلام تصلح دون شك للكبار والصغار وقد حققت نجاحا مدويا منها على سبيل المثال فيلم Lion king أو الأسد الملك الذي حقق أرباحا طائلة، وهناك أيضا الفيلم التشيكي العظيم "أليس" Alice للمخرج الشهير في مجال الرسوم يان سفانكماير Jan Svankmajer الذي شاهدته قبل عشرين عاما ولا أستطيع نسيانه حتى اليوم.
وقد ابتكر ماكس فليشر طريقة عرفت باسم rotoscoping تتلخص في تصوير الفيلم أولا باستخدام شخصيات وحركة حقيقية تماما، ثم يقوم الرسامون بالتلاعب في الأشكال والصور وتحويلها - صورة صورة- إلى رسوم بالرسم فوقها عن طريق جهاز خاص يعرف بالـ rotoscope. وقد استخدم المخرج الأمريكي ريتشارد لينكلاتر هذه الطريقة في فيلميه Slacker و"حياة تسير" Walking Life وهي أفلام مختلفة تماما في رسومها وأسلوبها.
ولم يعد الأمر يقتصر على المواضيع الفانتازية أو المغرقة في الخيال فقط بل إن فيلما مثل الفيلم الإسرائيلي الحديث "الرقص مع بشير" Waltz with Bashir يقدم عملا "وثائقيا" باستخدام الرسوم، وهو بالتالي موجه للكبار، فهو فيلم جاد تماما يدور عن تجربة الجيش الإسرائيلي في الحرب على لبنان عام 1982. أما موضوع الفيلم وتفسيره فموضوع آخر تناولته من قبل في هذه المدونة وساعود إليه لاحقا لأهمية الجدل الدائر حوله.
وهناك أيضا فيلم "برسيبوليس" Persepolis للمخرجة الإيرانية ماريان ساترابي مع الفرنسي فنسنت بارونو (دائما ما يغفل اسمه لأسباب سياسية) على عدة جوائز عالمية، وهو فيلم جاد تماما، يروي قصة حياة فتاة منذ نشأتها في طهران حتى هجرتها من البلاد.
ولعل غياب الاهتمام بأفلام الرسوم في بلادنا العربية وغياب النقاد الذين يفهمونها ويحللونها كما أشرت أنت، يرجع إلى غياب هذا النوع من الأفلام أصلا عن السينما التي تنتج في البلدان العربية، وإذا وجدت فهي لا تعرض سوى على شاشة التليفزيون وللأطفال أساسا وبطريقة تعليمية أو بهدف تربوي مباشر. أما دور العرض فهي لا تغامر كثيرا بعرض أفلام الرسوم حتى المخصصة للكبار منها لأنها تخشى الخسارة، فالبعض يرى أن كل أفلام الرسوم متشابهة، فلماذ نضيع الوقت في مشاهدتها أصلا!
وفي النهاية أرجو أن أكون قد أجبت عن بعض تساؤلاتك، وإن لم يكن فعلى الأقل، نكون، انت وأنا، قد نجحنا في لفت الأنظار إلى أهمية هذا الخيال السينمائي الجميل.

الأحد، 15 فبراير 2009

قتل السينما

يساهم الكثيرون، سواء عن وعي أو غير وعي، في قتل السينما واغتيالها والتسبب في الأضرار بها بشتى السبل عندما يقيمون عروضا منظمة وتظاهرات بل ومهرجانات تقوم بالكامل على عرض أفلام منسوخة على شرائط فيديو أو على اسطونات رقمية (دي في دي) بدعوى أن هذه هي السينما الآن، وأن امكانياتهم لا تسمح سوى بذلك، وهي كلها ذرائع غير مقنعة.
وفضلا عما في ذلك من تدمير لفكرة السينما والفيلم السينمائي كفيلم، صوره مصوره على أساس العرض بمناسيب معينة، على شاشة كبيرة وبعمق محدد في المجال، وبإضاءة وظلال وكتل يريد التركيز عليها وابرازها بشكل محسوب، فإن في الفكرة أيضا نوعا من الاستنطاع بل والسرقة الواضحة أيضا، فهذه الشرائط وتلك الاسطوانات لم تصنع أصلا بغرض العرض العام بل لغرض العرض المنزلي فقط، وهناك قوانين تنظم ذلك.وربما يمكن فهم كيف تسطو جماعات كثيرة على الأفلام المطبوعة على شرائط واسطوانات وتقوم بعرضها عروضا عامة، لكن من غير المفهوم على الإطلاق أن تلجأ جهات رسمية يفترض أنها موقعة على اتفاقات دولية، مثل المجلس الأعلى للثقافة في مصر ومكتبة الاسكندرية، بتنظيم أسابيع ومهرجانات مزعومة، باستخدام هذه الشرائط والاسطوانات "المنزلية" أيضا.
وعندما يقولون لك "مهرجان لأفلام المرأة" فانت تتخيل أنهم تمكنوا من الحصول على نسخ 35 مم وأدخلوها من مطار الدولة البوليسية، وشاهدتها الرقابة المتعفنة وأقرتها، بينما لا يعدو الأمر بعض "الفهلوة" واستخدام مجموعة الاسطوانات الخاصة المتوفرة لدى منظم المهرجان اياه!
ونحن هنا لا يهمنا الجانب المتعلق بمخالفة الرقابة، فلسنا فقط مع ضرب عرض الحائط بكل قوانين الرقابة في كل مكان لأنها ليست سوى وسيلة للقمع، إلا أن الخوف كل الخوف يكمن في احتمال اندثار الفيلم السينمائي نفسه كعمل مرئي مطبوع على شرائط السليولويد، وهي تقنية لا تضاهيها حتى الآن أي تقنية رقمية. والعمل المستمر والمنظم والدءوب على استبدال "الفيلم" بشريط فيديو أو باسطوانة رقمية، يدمر فكرة السينما من الأساس، وينسف قيمة الفيلم كفن مصور له مناسيبه وجمالياته، بل ويشجع الجهات الرسمية التي تبني القصور والمؤسسات على تجاهل اقامة قاعات للعرض السينمائي التي نود أن نراها تمتد إلى المدارس والجامعات، فما لزوم هذه القاعات إذا كان بوسعنا أن نعرض على حائط من جهاز متخلف بدائي عتيق صورا باستخدام شريط فيديو أو أسطوانة.. مشروخة!
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger