الخميس، 8 يناير 2009

مخرجون ونقاد

من أسوأ ما يمكن أن يتعرض له ناقد أن يلح عليه مخرج صديق أو غير صديق، على مشاهدة فيلمه، بل وربما يرسله أيضا إليه، ويظل يطارده بإلحاح، لكي يعرف رأيه فيما شاهده. وهو أمر مشروع تماما.. غير أن الناقد عندما يقول رأيه الحقيقي في العمل الذي شاهده، وبذل جهدا لكي يكون رأيا علميا موضوعيا تفصيليا لا يتوقف عند باب الانطباع الشخصي السريع والعابر فيه، سيفاجأ في أغلب الأحيان بأن المخرج لا يرضى عن رأيه، بل إن هذا الرأي إذا كان سلبيا في الفيلم المقصود، سيغضبه أيضا، بل وربما يرد عليك قائلا ببساطة مثيرة للدهشة والعجب: هذا الفيلم الذي لم يعجبك أعجب آخرين!
والحقيقة أن المرء يحتار كيف يرد على قول مثل هذا، هل يقول مثلا: ولكني لا أعبر عن رأي الآخرين بالطبع بل أعبر عن رأيي الشخصي الذي يعكس فهمي ورؤيتي وتحليلي بل وثقافتي الخاصة ايضا.. سواء أعجبك هذا الرأي او لم يعجبك!
والحقيقة الثابتة أن الناقد الجاد لا يمكنه أن يخرج مباشرة من أي فيلم برأي تفصيلي عميق ونهائي، بل يقتضي الأمر منه العودة إلى تأمل الفيلم واستدعائه مرة أخرى في عقله وذهنه، وربما أيضا مراجعة الملاحظات التي دونها عنه أثناء مشاهدته قبل أن يبدأ في الكتابة عنه. غير أن الأمر المخزي حقا أن المخرجين في بلادنا العزيزة، تربوا على أن يخرج النقاد اياهم من عروض الأفلام لكي يشدوا على أيديهم ويقبلونهم ويقولوا لهم "مبروك" وهو تقليد "بلدي متخلف" مستمد من الأفراح والموالد وحلقات الاحتفال بالمواليد والأعياد وما إلى ذلك!
وربما يضطر المرء أحيانا.. عندما يجد مخرج الفيلم واقفا على باب الخروج في نهاية العرض.. لأن يقول له كلمة مشجعة على سبيل المجاملة، وربما ايضا يقول له "سأكتب عنه" أو "ستقرأ مقالي عنه" كما أفعل أنا شخصيا أحيانا، ولكن ليس معنى هذا أن الناقد عندما يذهب للكتابة عن الفيلم بشكل تحليلي تفصيلي لابد أن يشيد به..
ماذا يتوقع أن يقول الناقد وهو يجد امامه مخرجا يسد منفذ الخروج أمامه مثلا؟ هل يقول له مثلا: فيلمك فشل في إقناعي لأن الإخراج فيه ينقصه كذا وكذا والتمثيل غير متجانس مع الموضوع والصورة ينقصها الوضوح والإضاءة لا تتناسب مع طبيعة الفيلم والتناقض المفتعل بين شريطي الصوت والصورة يشتت الذهن. وغير ذلك.. أم يقول له: سأفكر في فيلمك.. ثم أكون رأيا خاصا تفصيليا بعد ذلك.
رأيي الشخصي أن من الأفضل في هذه الحالة عدم حضور العروض الخاصة على الإطلاق.
وشخصيا أفضل كثيرا مشاهدة الفيلم بعيدا عن مخرجه، خاصة إذا كان يعتبر من "الأصدقاء".. بعد أن خسرت الكثير جدا من هؤلاء الأصدقاء بسبب رأيي في أفلامهم، فهو يتوقعون أن تشد على أيديهم وتشيد بأفلامهم، في كل الأحوال سواء أعجبتك أم لم تعجبك. وأن يمتد اعجابك إلى كل ما يصنعونه حتى ما لا يعجبك منه، وهو منطق عصابات في الحقيقة وليس منطق أصدقاء. ولكنه، أساسا، مأزق ثقافة تعاني من انعدام الثقة في النفس، واهتزاز الرؤية، وانعدام القدرة على التفرقة بين الاشياء وتحديد الوظائف والأدوار!

الثلاثاء، 6 يناير 2009

كلاسيكيات حديثة: لغز كاسبار هاوزر.. لغز الوجود

يعد الفيلم الألماني "لغز كاسبار هاوزر" The Enigma of Kaspar Hauser للمخرج الشهير فيرنر هيرتزوج – أحد أهم أفلام بحركة السينما الألمانية الجديدة في السبعينيات، تلك الحركة التي قدمت أسماء لمخرجين موهوبين أصبحوا فيما بعد من كبار السينمائيين في العالم، مثل فيم فيندرز وفولكر شولوندورف ومرجريتا فون تروتا وراينر فيرنر فاسبندر.
أخرج هيرتزوج فيلمه "لغز كاسبار هاوزر" عام 1975 استنادا إلى حادثة حقيقية، ففي عام 1828، عثر في الساحة الرئيسية بمدينة نورمبرج على شاب في السادسة عشرة من عمره، لا يقوي على الكلام، يقف بصعوبة وفي يده خطاب.
حاول المارة التحدث معه، لكنهم فشلوا تماما في فهم الغمغمة التي صدرت عنه، اعتقد البعض أنه قد يكون مخبولا أو ثملا، فاقتادوه إلى ضابط الشرطة، فأخذ الفتى يردد أمامه عبارة واحدة هي"أريد أن أصبح فارسا مثل أبي".
مستوى معرفة الصبي وطريقته في الحديث توحي بأن تكوينه العقلي متوقف عند عمر ثلاث أو أربع سنوات فقط.الخطاب الذي يحمله موجه لصانع أحذية في المدينة من عامل قال إنه ظل يحتفظ بالولد منذ أن كان عمره 3 سنوات داخل غرفة لم يغادرها قط.
يقول العامل إنه نظرا لفقره الشديد ولأنه يعول عشرة أطفال فلم يد قادرا على تحمل كفالة الصبي لذا فقد أرسله إلى صاحبنا. وينصح الرجل بالإبقاء عليه أو ضربه حتى الموت أو شنقه في المدخنة!
دروس في التحضر
ينتقل كاسبار هاوزر إلى كفالة رجل دين، يؤويه ويقدم له ثيابا نظيفة مهندمة، ويقدم له الطعام، ويبدأ في تعليمه اللغة، والأهم- تلقينه مبادئ "الحضارة" حسب المفهوم الشائع.
بعد عامين يتمكن كاسبار من الحديث، معبرا عن أحاسيسه واستجاباته لأسئلة الآخرين: إنجاز كبير دون شك لراعيه الذي يشعر بالفخر بإنجازه!يقوم بتقديمه إلى المجتمع الراقي، فيبدي أرستقراطي انجليزي الرغبة في استضافته ورعايته. يقوم بتعليمه الموسيقى، وخاصة العزف على البيانو، والتصرف بطريقة "متحضرة".
يبدي الفتى اهتماما لا بأس به بتعلم الموسيقى والعلوم والمنطق ومعانى الأشياء، إلا أنه يفهم الأمور والمعاني بطريقته الخاصة، بقدر كبير من البراءة في مواجهة محاولات صارمة من الطرف الآخر لفرض مفاهيم خاصة متزمتة تنتمي للثقافة السائدة في ذلك الوقت، في عصر التقسيم الفكري: ما بين متفوق وأدنى.
كاسبار هاوزر يبدو وحيدا كأنه خرج لتوه من رحم أمه وألقي به في العالم الرحب، لكي يصطد بقوانينه وقوالبه الخاصة.
يسأله معلمه وراعيه عن الفرق بين ثمار الطماطم التي كانت حمراء ناضجة في العام الماضي، والثمار الجديدة الخضراء الصغيرة الحالية، فيقول إن الثمار تعبت وتحتاج للراحة، فيقول له معلمه إن الثمار لا تتعب وليست لها استقلالية خاصة عن الإنسان بل هي رهن مشيئته، فيرفض كاسبار تصديق ذلك ويصر على أنها تستطيع أن تفعل ما تشاء بعيدا عن سيطرة الإنسان.

لغز الوجود
جوهر الفكرة التي تتجسد في مشهد شديد الحيوية والقوة، يدور حول ماهية الوجود نفسه: هل الكينونة منفصلة عن الخالق أو مرتبطة بمصير يتحدد سلفا.
لذلك فإن كاسبار هاوزر يقبل على تعلم معظم المعارف إلا أنه يجد التلقين الديني داخل الكنيسة صعبا على أفهامه، ويشكو من أن الغناء الجماعي داخل الكنيسة يعوي في أذنيه، فيفر خارج المكان.
هناك تعارضات مقصودة في هذا الفيلم البديع بين البراءة والكهولة الفكرية، بين التعلم الحر المفتوح، والقوالب الجاهزة التي يريد البعض أن يفرضها علينا فرضا باسم العلم والمعرفة الإنسانية بل والحضارة، بين الطفولة البشرية التي تتعرض للاعتداء الفظ عليها من جانب المجتمع، وبين مجتمع لا يجد غضاضة حتى في استخدام تلك "الطفولة"- أو ذلك "الرجل/ الطفل" كسلعة في جذب المتفرجين داخل خيمة الاستعراض الذي يقترب من عالم السيرك.

إن هذا المشهد الذي يدور داخل الخيمة، حيث يستعرض المشرف على العرض كل عجائب القرن التاسع عشر بما فيها "كاسبار هاوزر" نفسه، يذكرنا على نحو ما بمشهد آخر شديد الدلالة في فيلم ألماني آخر ينتمي لنفس المدرسة، هو فيلم "الخوف يأكل الروح: أو كل الآخرين اسمهم علي" للمخرج الكبير الراحل فاسبندر.
هذا الفيلم الذي كان أساسه العلاقة بين الشرق والغرب، بين الأوروبي (المتحضر) والآخر (العربي) من خلال العلاقة العاطفية بين المهاجر العربي "علي" وامرأة ألمانية تجاوزها الشباب، تشعر بالاحتياج إليه، إلا أنها تريد أن تحوله إلى نموذج متحضر.

وهي تستعرض في مشهد طريف أمام صديقاتها عضلات علي وتطلب منه أن يفتح فمه لكي تريهن كيف يعتني بنظافة أسنانه!

نحن والآخر
عودة إلى "لغز كاسبار هاوزر"، نرى أن الفيلم رغم ما فيه من سحر خاص يرتبط بالغموض المحيط بالشخصية، هو في حقيقة الأمر ليس فيلما عن كاسبار هاوزر بقدر ما هو عن أنفسنا، عن نظرتنا للآخر "المختلف"، عن شئ ما داخل النفس البشرية المقولبة يرفض ويتعالى ويحتج ويتعصب ويريد أن يفرض مفهومه هو، وعندما يفشل يلجأ إلى العنف.

النبيل الإنجليزي الذي يتبنى كاسبار هاوزر يكتشف ذات يوم- بعد أن تصور أنه قطع شوطا طويلا في "تحضير" كاسبار- أي منحه دفعة حضارية إلى الأمام خاصة بعد أن يقدمه وهو يعزف على البيانو لضيوفه إحدى مقطوعات موتسارت، قد ارتد إلى تخلفه مجددا.
إنه يراه وقد تخلى عن سترته الأنيقة وعاد سيرته الأولى أي غير قادر على ترديد الكلمات المنمقة التي علموه اياها، وأصبح يفضل العزلة عن المجتمع.
ربما يكون كاسبار قد أدرك وحشية المجتمع وفضل الابتعاد عنه باتخاذ مثل هذا الموقف الرافض للتواصل معه.جزاء كاسبار على أي حال، يكون الضرب والاستبعاد والنبذ، أما مصيره فينتهي قتلا داخل زنزانته في جريمة تظل مجهولة حتى اليوم.
من الذي قتل كاسبار هاوزر ولماذا وما هو الخطر الذي كان يمثله هذا الشخص المسكين على المجتمع حتى يتم التخلص منه؟ هذه الأسئلة تظل مفتوحة على شتى الاحتمالات. ولكن دون حقيقة "يقينية" بعد أن أضحت كل الحقائق نسبية على أي حال!

السبت، 3 يناير 2009

السينما المستقلة في مصر.. قضية العام

من فيلم "بصرة" لأحمد رشوان
من فيلم "عين شمس" لابراهيم البطوط

((الزميل محمد الروبي، محرر صفحة الفنون في جريدة "البديل" كتب مقالا في عدد 31 ديسمبر من "البديل" أكد فيه أن 2008 كان بدون شك، عام السينما المستقلة في مصر. ومدونة "حياة في السينما" تنشر المقال هنا للتاريخ، كشاهد على أننا خضنا معا، وعلى مستويات متعددة وعبر منابر مختلفة، معركة ضارية دفاعا عن السينما المستقلة، وتناولنا ومازلنا نفعل، كل جوانبها بالتحليل والمناقشة وفتحنا باب الحوار حولها، ومعنا غيرنا بالطبع كثيرون في أوساط النقاد والسينمائيين، ممن وقفوا ولايزالون يقفون موقفا صلبا في تبني هذه القضية الممتدة- أمير العمري)).

السينما المستقلة في مصر.. قضية العام الفنية

بقلم: محمد الروبي

حينما فكرنا - الزملاء وأنا - في قضية فنية نختارها قضية عام 2008، لنعيد طرحها في العدد الأخير من العام، قفزت أمامنا جميعاً وبلا استثناء قضية «السينما المستقلة» في مصر.. وتذكرنا علي الفور تلك المعركة الكبري التي خاضها فيلم «عين شمس» ومخرجه إبراهيم البطوط مع الرقابة التي فاجأته بعدم التصريح بعرض الفيلم إلا تحت مسمي «فيلم أجنبي»، بحجة أن الفيلم الذي صوره بطريقة خاصة أهم ما يميزها أنها لم ترتكن إلي سيناريو متكامل يعرض قبل التصوير علي الرقابة، ومن ثم تعطيه تصريحاً مبدئياً تعتمده وزارة الداخلية «!» للتصوير في الشارع، وزادت المشكلة تعنتاً من قبل الرقابة حين حصل المخرج علي منحة من المغرب ورئيس جهاز السينما بها تتيح له تحويل الفيلم من «الديجيتال» إلي «سينما 35 مللي».. وحينما حاول المخرج إدخال الفيلم إلي مصر مرة أخري لعرضه فوجئ بأنهم يصرون علي وصمه بعبارة «فيلم أجنبي»!
كان من الطبيعي أن يرفض البطوط هذه الصفة، وكان من الطبيعي أن يناضل ومعه كثيرون من عشاق السينما الحقيقية، وزاد من فرصة نجاحه ونجاحهم أن الفيلم الذي عرض في أكثر من مهرجان عالمي، وبإصرار صاحبه علي أنه فليماً مصرياً، قد حصل علي العديد من الجوائز هنا وهناك.. ومع كل جائزة يحصل عليها الفيلم كانت فرصة نجاح كسب المعركة تزداد اتساعاً، بل إنني أذكر أنني كتبت عن الفيلم أكثر من مرة، لكن المرة التي أعتز بها كانت تلك التي امتزجت بفرح مضاعف حين راسلني الصديق إبراهيم البطوط عبر الهاتف يبشرني بحصول فيلمه «فيلمنا» علي جائزة أفضل فيلم في المسابقة الرسمية لأفلام دول البحر المتوسط بمهرجان «تاورمينا» الإيطالي في دورته الرابعة والخمسين.
وكانت حيثيات فوز الفيلم مصاغة بكلمات واضحة، ترد دون أن تقصد، علي تعنت البيروقراطية المصرية ووقوفها أمام عرض الفيلم في مصر، حيث جاءت تقول وبالنص: «.. نجح الفيلم في خلق مزيج بين التوثيقي والخيالي.. كما تعرض الفيلم بشكل مؤثر وفعال إلي الظروف والقيم الإنسانية التي لا تعرف حدوداً ولا وطناً».. وسريعاً ما اتسعت مساحة الفرحة بداخلي حينما علمت أن الفيلم فاز أيضاً بجائزة العمل الأول في مهرجان «روتردام»، وكانت فرحتي بفوز الفيلم بجائزتين عالميتين، هي الدافع للعودة مرة أخري إليه والكتابة عنه مجدداً، فهو فيلم - كما سبق أن أشرت حينها - يستحق المشاهدة مرة ومرات ومرات.
في الكتابة الأولي عن الفيلم، ذكرت أن الطريقة التي صنع بها إبراهيم البطوط فيلمه، ليست جديدة، بقدر ما هي مختلفة عن السائد المعتاد في سياق تاريخ السينما المصرية والعربية بشكل عام، ويمكن لها أن تكون ويقيني أنها ستكون - بداية لطريق جديدة في صنع أفلام سينمائية، تتجاوز ما هو سائد، وتهيل التراب علي جثة سينما باتت رائحتها تزكم الأنوف!
قلت حينها، إن من سيشاهده الفيلم ومن سيشهده في المستقبل، سيؤكد صدق إبراهيم البطوط الذي صرح في مواجهة الرقابة بأنه لم يكن لديه سيناريو متكامل للفيلم بالمعني التقليدي لكلمة سيناريو.. وإنما هي فكرة تبني علي موقف من الحياة، تثمر في البداية شخصية ما، ثم شخصيات، تتجادل فيما بينها للتعبير عن هذه الفكرة، فتتطور الشخصيات ومن ثم الفكرة كلما تقدمت الخطوات العملية في تنفيذ الفيلم.
وأذكر أنني أشرت إلي أن هذا الأسلوب وتلك الطريقة، ليست بالجديدة علي مشوار السينما العالمية، وهي الطريقة أو الأسلوب الذي يمكن تلخيصهما في جملة «هدم الجدار الوهمي بين النوعين التسجيلي والروائي»، ولنا في التاريخ السينمائي العالمي أمثلة كثيرة، منها ما عرف بـ«الواقعية الإيطالية الجديدة»، وكذلك ما حققه الألماني العظيم «فاسيندر» في سبعينيات القرن الماضي، الذي كان يعمل بطريقة «الورشة» أو «المختبر»، الذي اعتمد في معظم أعماله علي الهواة من الممثلين، واستخدام الأماكن الحقيقية لتصوير أحداثه السينمائية، بل كان هو من أوائل الذين استخدموا التصوير التليفزيوني قبل أن نعرف هذا الجديد المسمي «ديجيتال».
إذن كل أقوله عن فيلم «عين شمس» وما سبق أن قلته عنه، يؤكد أن العجلة قد دارت بالفعل، ولن تجدي معها محاولات الحمقي في إيقافها، وهو الأمر الذي تأكد بعد أن حصل الفيلم علي التصريح بالعرض تحت عنوان يليق به وهو «مصري»! سواء كان ذلك بحصوله علي الجوائز في مهرجانات عالمية تحت هذا العنوان، أو كان عبر الوعد الذي حصل عليه مخرجه ومنتجه بعرض الفيلم في مصر باعتباره مصرياً خالصاً... وفيلم «بصرة»«بصرة» لمخرجه أحمد رشوان، الذي كان عنوانه «مية في المية حي» والذي صوره بتقنية «الديجيتال»، يعد نجاحاً آخر علي طريق السينما المستقلة في مصر، فالفيلم كـ«عين شمس» حصل علي منحة من قناة أوربيت لتحويله إلي 35 مللي.. وعرض الفيلم في مهرجان فالينسيا وحصل به مدير التصوير فيكتور كريدي علي جائزة أفضل تصوير، كما حصل أحمد رشوان علي جائزة أفضل سيناريو بالمناصفة مع الفلسطيني رشيد مشهراوي من مسابقة الفيلم العربي بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي الأخير.
نجاح آخر يؤكد ما نعتقده من أن المستقلين قادمون، وأن الموهومين بإمكانية وقف الطوفان لن ينالوا سوي الغرق.
لكن قضية السينما المستقلة في مصر، لا تقف عند حدود فيلم «عين شمس»، فمساحة معركتها أوسع بكثير، ولعل في الموقف الذي اتخذته السلطات الرسمية مؤخراً بإلغاء مهرجان السينما المستقلة الأخير، بحجة أنه يقام في الفترة نفسها التي يقام فيها مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، خير دليل علي أن الرسميين لا يريدون لهذا النوع من السينما أن يزدهر، وهو طبعاً ما يقابل بالرضا الكامل من قبل المحتكرين للإنتاج والتوزيع والعرض في مصر.
وكنا طوال عام مضي - ندافع وباستماتة عن هذا النوع «المستقل» من السينما، وكنا ولا نزال، نري أنه الأحق بالتواجد وبالدفاع عنه، بل إننا لم نترك فرصة إلا وعقدنا مقارنة بين ما يحدث عندنا وما يحدث هناك علي الجانب الآخر من العالم.. وهنا لابد من التذكير بذلك التقرير الذي كتبه الزميل نبيل سمير في السابع من ديسمبر تحت عنوان يشير به إلي مفارقة جديرة بالتأمل: «بعد تضييق الخناق علي المصري.. نجوم هوليوود يتفقون علي إنجاح مهرجان السينما المستقلة في أمريكا».. وذكر التقارير تفاصيل مؤلمة عما حدث في مصرمن إلغاء، وتعطيل للمهرجان، وحجج مسئولين تثير الضحك، وكذلك تفاصيل عن المهرجان الأمريكي الذي أسسه ويدعمه الممثل «روبرت ريدفورد».
أيضاً شاركنا الناقد السينمائي المتميز «أمير العمري» بمقال مطول كناقد نشرناه في الثاني من ديسمبر تحت عنوان: «بانتصار «عين شمس» لم يعد الأمر مجدياً..
مغزي الحرب القائمة ضد السينما المستقلة في مصر» وفيه أكد العمري أن «في كل بلاد الأرض تدرك النخبة معني ومغزي وأهمية وجود جيل آخر جديد من السينمائيين، وأهمية إتاحة كل الفرص أمامهم للتجريب والسباحة في مناطق غير تقليدية..».. ورداً علي حجة أن مهرجان السينما المستقلة يقام في الوقت نفسه لمهرجان القاهرة الدولي، كتب أمير العمري يقول: «.. مهرجانات السينما الدولية الكبيرة حقاً، تاريخاً ومقاماً، التي تريد أن يحسب لها أنها لا تستبعد الجديد مهما كان جامحاً في تجربته وأفكاره، عادة ما تسمح بمساحة علي الهامش لتلك «السينما الأخري».
وذكر أمير العمري أكثر من مثال لأكثر من مهرجان دولي يتبني شباب السينما وتفخر بهم.. وأخيراً يصف العمري قرار إلغاء مهرجان السينما المستقلة بـ: «.. أن هذه الواقعة الشائنة تعكس حالة الهلع التي أصابت بعض الأجهزة أخيراً من زحف السينما المستقلة بهدوء وإصرار، لكنها تؤكد، علي نحو ما أيضاً، أن السينما المستقلة قادمة، يؤكد وجودها انتصار فيلم «عين شمس» لإبراهيم البطوط في معركته الدامية مع الرقابة بعد أن رضخت أخيراً للأمر الواقع وقررت السماح بعرضه كفيلم مصري، وليس مغربياً، وهو ما يؤرخ لبداية نهاية الرقابة بشكلها القائم المتخلف».
لهذا كله.. وغيره الكثير.. من إنجازات سينمائية شابة. لم نختلف «الزملاء وأنا» حول اختيار «السينما المستقلة» باعتبارها قضية العام 2008.. ونعتقد أنها ستستمر تواصل نجاحاتها في القادم من الأعوام.

الخميس، 1 يناير 2009

نحن والنقد الثقافي والاجتماعي في الغرب


الاتجاه الجديد - القديم في نقد الفنون والآداب في الغرب القائم علي ما يعرف بـ"النقد الثقافي" cultural criticism، وهو اتجاه أصبح يطغي كثيرا علي معظم مدارس النقد بل امتد إلي النقد الذي ينشر في الصحافة العامة، يمكن القول إنه أصبح هناك ولع خاص بتطبيقه علي الأعمال الإبداعية القادمة من ثقافة "الآخر" أي من العالم غير الناطق بالإنجليزية أو "العالم غير الأوروبي".
يمزج النقد الثقافي بوضوح بين النظرة التي تسعي للتعامل مع الإبداع ليس كنتاج "نخبوي" بل كنتاج يصلح للناس جميعا، ويجب أن ينظر إليه في إطار الثقافة الكلية السائدة في المجتمع، وبين اعتباره تطويرا، علي نحو ما، للنقد الاجتماعي الذي يهتم كثيرا بتأثير البعد الاجتماعي أو المجتمعي علي المبدع (الكاتب، الشاعر، المؤلف، الموسيقار، الرسام.. إلخ) أكثر من اهتمامه بذات المبدع نفسه، وبتجربته الذاتية وعلاقته بالوسيلة التي يبدع من خلالها واهتماماته الجمالية التي قد تصل إلي قدر من التجريد يصعب الإحاطة بأسسه الاجتماعية عادة.
ويميل النقد الثقافي الذي يجنح في اتجاه التعامل من الزاوية السوسيولوجية مع المنتج الفني والأدبي إلي الاهتمام بـ"الوصف" أكثر من "التقييم"، وفحص العلاقة بين العمل الإبداعي والعالم، من الحكم عليه أو تقدير قيمته في تاريخ تطور النوع الإبداعي.
الاهتمام إذن ينصب بشكل أساسي علي علاقة المنتج الإبداعي بغيره من الأعمال، وعلاقته بالأنماط الاقتصادية ، والظروف الاجتماعية السائدة (وضع المرأة في المجتمع، العلاقة بين الجنسين، الإشارات ذات الدلالة السياسية، الوجود المستقل للأقليات وتبعيتها للمحيط الاجتماعي في الوقت نفسه أو خضوعها القهري أحيانا.. وغير ذلك).
هذه النظرة تحكم معظم الكتابات التي تتناول الأعمال الإبداعية القادمة من ثقافتنا. رواية "عمارة يعقوبيان" مثلا، ثم الفيلم كشكل فني آخر يقوم علي الصور والعلاقات داخل النص الأصلي الأدبي، تم تناولها نقديا في الدوريات والصحف البريطانية ليس كعمل فني مستقل، قائم بذاته يمكن الحكم علي قيمته الفنية في إطار ما ينتج في عصره من أعمال مشابهة، بل كـ"دليل" أدبي علي ما يحدث في "المجتمع" المصري اليوم، أي كبيان للعلاقات التالية: العلاقة بين الجنسين، الصراعات الطبقية، تضاؤل دور الطبقة الوسطي، الكبت الجنسي والكبت السياسي والاجتماعي، دور الضباط في مجتمع ما بعد 52 مقارنة بعالم الباشاوات فيما قبل 52، القهر الاجتماعي والفقر كمنبع للتطرف الديني، تدهور أخلاقيات الطبقة الحاكمة (الفساد) وبروز الدور الأمني، الرفض الأخلاقي - الديني للمثلية الجنسية، وتضاؤل دور المثقف وهامشيته.
أما من ناحية البناء الروائي، والشكل الفني، والاستخدامات المختلفة للغة العربية كوسيلة تعبير أساسية في حالة الرواية، واللغة السينمائية والشكل السردي والعلاقة بين اللقطات والمشاهد وطريقة تركيبها معا في حالة الفيلم، فهذه كلها جوانب لا ينشغل بها عادة النقد الثقافي- الاجتماعي في الغرب.


وقد تمتلئ الكتابات عن أعمالنا الأدبية والفنية بالكثير جدا من المقاربات والمقارنات وتحليل الإشارات ودلالاتها الاجتماعية والسياسية، لكنها لا تخلص عادة إلي تحديد "القيمة" الفنية للعمل ككل في إطار مثيله مما ينتج في العالم، وذلك في إطار رفض اعتبار "القيمة الفنية" قيمة عليا ترتبط بنظم وأنساق فنية مستقرة، فلاشيء مستقر علي حاله، وهذا صحيح، لكن الأمر الذي يشغل بال هذا النوع من النقد أكثر من غيره في تناول أعمالنا هو الاعتبار الكبير للدلالات السياسية والاجتماعية، أما فنيا أو إبداعيا فلا تؤخذ هذه الأعمال كثيرا عادة علي محمل الجد، ولا تقارن بغيرها من الإبداعات الكبيرة في الأدب "الغربي" مثلا، أو الإنساني عموما.وهذه مشكلة حقيقية، فالمستوي الفني والأدبي يظل "غامضا" أو مجهولا في نظرة هؤلاء النقاد، وهو ما يؤدي إلي اعتبار كل الأعمال التي يمكن استخراج بعض الدلالات الاجتماعية والسياسية الآنية منها أعمالا مهمة، تلقي الكثير من الاهتمام والحفاوة، في حين أن مستواها الفني نفسه قد يكون محدودا للغاية.
ولعل أكبر دليل علي ذلك مثلا ما ينشر أحيانا من كتب تحوي ما أصبح يعرف باسم "أدب التشات" chat أي تلك الكتابات الوصفية المليئة بالاستطرادات والثرثرة بلغة أنظمة التخاطب المتوفرة علي شبكة الانترنت حاليا، وما تلقاه من ترحيب حماسي في الكثير من الأحيان، لا لشيء إلا بسبب دلالاتها الخاصة التي تتجاوز أسقف الحرمان والقهر والجفاف القائمة وتخترقها، دون أن يعني هذا أنها تتمتع في الواقع بأي قيمة أدبية أو مستوي فني.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger