الثلاثاء، 6 يناير 2009

كلاسيكيات حديثة: لغز كاسبار هاوزر.. لغز الوجود

يعد الفيلم الألماني "لغز كاسبار هاوزر" The Enigma of Kaspar Hauser للمخرج الشهير فيرنر هيرتزوج – أحد أهم أفلام بحركة السينما الألمانية الجديدة في السبعينيات، تلك الحركة التي قدمت أسماء لمخرجين موهوبين أصبحوا فيما بعد من كبار السينمائيين في العالم، مثل فيم فيندرز وفولكر شولوندورف ومرجريتا فون تروتا وراينر فيرنر فاسبندر.
أخرج هيرتزوج فيلمه "لغز كاسبار هاوزر" عام 1975 استنادا إلى حادثة حقيقية، ففي عام 1828، عثر في الساحة الرئيسية بمدينة نورمبرج على شاب في السادسة عشرة من عمره، لا يقوي على الكلام، يقف بصعوبة وفي يده خطاب.
حاول المارة التحدث معه، لكنهم فشلوا تماما في فهم الغمغمة التي صدرت عنه، اعتقد البعض أنه قد يكون مخبولا أو ثملا، فاقتادوه إلى ضابط الشرطة، فأخذ الفتى يردد أمامه عبارة واحدة هي"أريد أن أصبح فارسا مثل أبي".
مستوى معرفة الصبي وطريقته في الحديث توحي بأن تكوينه العقلي متوقف عند عمر ثلاث أو أربع سنوات فقط.الخطاب الذي يحمله موجه لصانع أحذية في المدينة من عامل قال إنه ظل يحتفظ بالولد منذ أن كان عمره 3 سنوات داخل غرفة لم يغادرها قط.
يقول العامل إنه نظرا لفقره الشديد ولأنه يعول عشرة أطفال فلم يد قادرا على تحمل كفالة الصبي لذا فقد أرسله إلى صاحبنا. وينصح الرجل بالإبقاء عليه أو ضربه حتى الموت أو شنقه في المدخنة!
دروس في التحضر
ينتقل كاسبار هاوزر إلى كفالة رجل دين، يؤويه ويقدم له ثيابا نظيفة مهندمة، ويقدم له الطعام، ويبدأ في تعليمه اللغة، والأهم- تلقينه مبادئ "الحضارة" حسب المفهوم الشائع.
بعد عامين يتمكن كاسبار من الحديث، معبرا عن أحاسيسه واستجاباته لأسئلة الآخرين: إنجاز كبير دون شك لراعيه الذي يشعر بالفخر بإنجازه!يقوم بتقديمه إلى المجتمع الراقي، فيبدي أرستقراطي انجليزي الرغبة في استضافته ورعايته. يقوم بتعليمه الموسيقى، وخاصة العزف على البيانو، والتصرف بطريقة "متحضرة".
يبدي الفتى اهتماما لا بأس به بتعلم الموسيقى والعلوم والمنطق ومعانى الأشياء، إلا أنه يفهم الأمور والمعاني بطريقته الخاصة، بقدر كبير من البراءة في مواجهة محاولات صارمة من الطرف الآخر لفرض مفاهيم خاصة متزمتة تنتمي للثقافة السائدة في ذلك الوقت، في عصر التقسيم الفكري: ما بين متفوق وأدنى.
كاسبار هاوزر يبدو وحيدا كأنه خرج لتوه من رحم أمه وألقي به في العالم الرحب، لكي يصطد بقوانينه وقوالبه الخاصة.
يسأله معلمه وراعيه عن الفرق بين ثمار الطماطم التي كانت حمراء ناضجة في العام الماضي، والثمار الجديدة الخضراء الصغيرة الحالية، فيقول إن الثمار تعبت وتحتاج للراحة، فيقول له معلمه إن الثمار لا تتعب وليست لها استقلالية خاصة عن الإنسان بل هي رهن مشيئته، فيرفض كاسبار تصديق ذلك ويصر على أنها تستطيع أن تفعل ما تشاء بعيدا عن سيطرة الإنسان.

لغز الوجود
جوهر الفكرة التي تتجسد في مشهد شديد الحيوية والقوة، يدور حول ماهية الوجود نفسه: هل الكينونة منفصلة عن الخالق أو مرتبطة بمصير يتحدد سلفا.
لذلك فإن كاسبار هاوزر يقبل على تعلم معظم المعارف إلا أنه يجد التلقين الديني داخل الكنيسة صعبا على أفهامه، ويشكو من أن الغناء الجماعي داخل الكنيسة يعوي في أذنيه، فيفر خارج المكان.
هناك تعارضات مقصودة في هذا الفيلم البديع بين البراءة والكهولة الفكرية، بين التعلم الحر المفتوح، والقوالب الجاهزة التي يريد البعض أن يفرضها علينا فرضا باسم العلم والمعرفة الإنسانية بل والحضارة، بين الطفولة البشرية التي تتعرض للاعتداء الفظ عليها من جانب المجتمع، وبين مجتمع لا يجد غضاضة حتى في استخدام تلك "الطفولة"- أو ذلك "الرجل/ الطفل" كسلعة في جذب المتفرجين داخل خيمة الاستعراض الذي يقترب من عالم السيرك.

إن هذا المشهد الذي يدور داخل الخيمة، حيث يستعرض المشرف على العرض كل عجائب القرن التاسع عشر بما فيها "كاسبار هاوزر" نفسه، يذكرنا على نحو ما بمشهد آخر شديد الدلالة في فيلم ألماني آخر ينتمي لنفس المدرسة، هو فيلم "الخوف يأكل الروح: أو كل الآخرين اسمهم علي" للمخرج الكبير الراحل فاسبندر.
هذا الفيلم الذي كان أساسه العلاقة بين الشرق والغرب، بين الأوروبي (المتحضر) والآخر (العربي) من خلال العلاقة العاطفية بين المهاجر العربي "علي" وامرأة ألمانية تجاوزها الشباب، تشعر بالاحتياج إليه، إلا أنها تريد أن تحوله إلى نموذج متحضر.

وهي تستعرض في مشهد طريف أمام صديقاتها عضلات علي وتطلب منه أن يفتح فمه لكي تريهن كيف يعتني بنظافة أسنانه!

نحن والآخر
عودة إلى "لغز كاسبار هاوزر"، نرى أن الفيلم رغم ما فيه من سحر خاص يرتبط بالغموض المحيط بالشخصية، هو في حقيقة الأمر ليس فيلما عن كاسبار هاوزر بقدر ما هو عن أنفسنا، عن نظرتنا للآخر "المختلف"، عن شئ ما داخل النفس البشرية المقولبة يرفض ويتعالى ويحتج ويتعصب ويريد أن يفرض مفهومه هو، وعندما يفشل يلجأ إلى العنف.

النبيل الإنجليزي الذي يتبنى كاسبار هاوزر يكتشف ذات يوم- بعد أن تصور أنه قطع شوطا طويلا في "تحضير" كاسبار- أي منحه دفعة حضارية إلى الأمام خاصة بعد أن يقدمه وهو يعزف على البيانو لضيوفه إحدى مقطوعات موتسارت، قد ارتد إلى تخلفه مجددا.
إنه يراه وقد تخلى عن سترته الأنيقة وعاد سيرته الأولى أي غير قادر على ترديد الكلمات المنمقة التي علموه اياها، وأصبح يفضل العزلة عن المجتمع.
ربما يكون كاسبار قد أدرك وحشية المجتمع وفضل الابتعاد عنه باتخاذ مثل هذا الموقف الرافض للتواصل معه.جزاء كاسبار على أي حال، يكون الضرب والاستبعاد والنبذ، أما مصيره فينتهي قتلا داخل زنزانته في جريمة تظل مجهولة حتى اليوم.
من الذي قتل كاسبار هاوزر ولماذا وما هو الخطر الذي كان يمثله هذا الشخص المسكين على المجتمع حتى يتم التخلص منه؟ هذه الأسئلة تظل مفتوحة على شتى الاحتمالات. ولكن دون حقيقة "يقينية" بعد أن أضحت كل الحقائق نسبية على أي حال!

السبت، 3 يناير 2009

السينما المستقلة في مصر.. قضية العام

من فيلم "بصرة" لأحمد رشوان
من فيلم "عين شمس" لابراهيم البطوط

((الزميل محمد الروبي، محرر صفحة الفنون في جريدة "البديل" كتب مقالا في عدد 31 ديسمبر من "البديل" أكد فيه أن 2008 كان بدون شك، عام السينما المستقلة في مصر. ومدونة "حياة في السينما" تنشر المقال هنا للتاريخ، كشاهد على أننا خضنا معا، وعلى مستويات متعددة وعبر منابر مختلفة، معركة ضارية دفاعا عن السينما المستقلة، وتناولنا ومازلنا نفعل، كل جوانبها بالتحليل والمناقشة وفتحنا باب الحوار حولها، ومعنا غيرنا بالطبع كثيرون في أوساط النقاد والسينمائيين، ممن وقفوا ولايزالون يقفون موقفا صلبا في تبني هذه القضية الممتدة- أمير العمري)).

السينما المستقلة في مصر.. قضية العام الفنية

بقلم: محمد الروبي

حينما فكرنا - الزملاء وأنا - في قضية فنية نختارها قضية عام 2008، لنعيد طرحها في العدد الأخير من العام، قفزت أمامنا جميعاً وبلا استثناء قضية «السينما المستقلة» في مصر.. وتذكرنا علي الفور تلك المعركة الكبري التي خاضها فيلم «عين شمس» ومخرجه إبراهيم البطوط مع الرقابة التي فاجأته بعدم التصريح بعرض الفيلم إلا تحت مسمي «فيلم أجنبي»، بحجة أن الفيلم الذي صوره بطريقة خاصة أهم ما يميزها أنها لم ترتكن إلي سيناريو متكامل يعرض قبل التصوير علي الرقابة، ومن ثم تعطيه تصريحاً مبدئياً تعتمده وزارة الداخلية «!» للتصوير في الشارع، وزادت المشكلة تعنتاً من قبل الرقابة حين حصل المخرج علي منحة من المغرب ورئيس جهاز السينما بها تتيح له تحويل الفيلم من «الديجيتال» إلي «سينما 35 مللي».. وحينما حاول المخرج إدخال الفيلم إلي مصر مرة أخري لعرضه فوجئ بأنهم يصرون علي وصمه بعبارة «فيلم أجنبي»!
كان من الطبيعي أن يرفض البطوط هذه الصفة، وكان من الطبيعي أن يناضل ومعه كثيرون من عشاق السينما الحقيقية، وزاد من فرصة نجاحه ونجاحهم أن الفيلم الذي عرض في أكثر من مهرجان عالمي، وبإصرار صاحبه علي أنه فليماً مصرياً، قد حصل علي العديد من الجوائز هنا وهناك.. ومع كل جائزة يحصل عليها الفيلم كانت فرصة نجاح كسب المعركة تزداد اتساعاً، بل إنني أذكر أنني كتبت عن الفيلم أكثر من مرة، لكن المرة التي أعتز بها كانت تلك التي امتزجت بفرح مضاعف حين راسلني الصديق إبراهيم البطوط عبر الهاتف يبشرني بحصول فيلمه «فيلمنا» علي جائزة أفضل فيلم في المسابقة الرسمية لأفلام دول البحر المتوسط بمهرجان «تاورمينا» الإيطالي في دورته الرابعة والخمسين.
وكانت حيثيات فوز الفيلم مصاغة بكلمات واضحة، ترد دون أن تقصد، علي تعنت البيروقراطية المصرية ووقوفها أمام عرض الفيلم في مصر، حيث جاءت تقول وبالنص: «.. نجح الفيلم في خلق مزيج بين التوثيقي والخيالي.. كما تعرض الفيلم بشكل مؤثر وفعال إلي الظروف والقيم الإنسانية التي لا تعرف حدوداً ولا وطناً».. وسريعاً ما اتسعت مساحة الفرحة بداخلي حينما علمت أن الفيلم فاز أيضاً بجائزة العمل الأول في مهرجان «روتردام»، وكانت فرحتي بفوز الفيلم بجائزتين عالميتين، هي الدافع للعودة مرة أخري إليه والكتابة عنه مجدداً، فهو فيلم - كما سبق أن أشرت حينها - يستحق المشاهدة مرة ومرات ومرات.
في الكتابة الأولي عن الفيلم، ذكرت أن الطريقة التي صنع بها إبراهيم البطوط فيلمه، ليست جديدة، بقدر ما هي مختلفة عن السائد المعتاد في سياق تاريخ السينما المصرية والعربية بشكل عام، ويمكن لها أن تكون ويقيني أنها ستكون - بداية لطريق جديدة في صنع أفلام سينمائية، تتجاوز ما هو سائد، وتهيل التراب علي جثة سينما باتت رائحتها تزكم الأنوف!
قلت حينها، إن من سيشاهده الفيلم ومن سيشهده في المستقبل، سيؤكد صدق إبراهيم البطوط الذي صرح في مواجهة الرقابة بأنه لم يكن لديه سيناريو متكامل للفيلم بالمعني التقليدي لكلمة سيناريو.. وإنما هي فكرة تبني علي موقف من الحياة، تثمر في البداية شخصية ما، ثم شخصيات، تتجادل فيما بينها للتعبير عن هذه الفكرة، فتتطور الشخصيات ومن ثم الفكرة كلما تقدمت الخطوات العملية في تنفيذ الفيلم.
وأذكر أنني أشرت إلي أن هذا الأسلوب وتلك الطريقة، ليست بالجديدة علي مشوار السينما العالمية، وهي الطريقة أو الأسلوب الذي يمكن تلخيصهما في جملة «هدم الجدار الوهمي بين النوعين التسجيلي والروائي»، ولنا في التاريخ السينمائي العالمي أمثلة كثيرة، منها ما عرف بـ«الواقعية الإيطالية الجديدة»، وكذلك ما حققه الألماني العظيم «فاسيندر» في سبعينيات القرن الماضي، الذي كان يعمل بطريقة «الورشة» أو «المختبر»، الذي اعتمد في معظم أعماله علي الهواة من الممثلين، واستخدام الأماكن الحقيقية لتصوير أحداثه السينمائية، بل كان هو من أوائل الذين استخدموا التصوير التليفزيوني قبل أن نعرف هذا الجديد المسمي «ديجيتال».
إذن كل أقوله عن فيلم «عين شمس» وما سبق أن قلته عنه، يؤكد أن العجلة قد دارت بالفعل، ولن تجدي معها محاولات الحمقي في إيقافها، وهو الأمر الذي تأكد بعد أن حصل الفيلم علي التصريح بالعرض تحت عنوان يليق به وهو «مصري»! سواء كان ذلك بحصوله علي الجوائز في مهرجانات عالمية تحت هذا العنوان، أو كان عبر الوعد الذي حصل عليه مخرجه ومنتجه بعرض الفيلم في مصر باعتباره مصرياً خالصاً... وفيلم «بصرة»«بصرة» لمخرجه أحمد رشوان، الذي كان عنوانه «مية في المية حي» والذي صوره بتقنية «الديجيتال»، يعد نجاحاً آخر علي طريق السينما المستقلة في مصر، فالفيلم كـ«عين شمس» حصل علي منحة من قناة أوربيت لتحويله إلي 35 مللي.. وعرض الفيلم في مهرجان فالينسيا وحصل به مدير التصوير فيكتور كريدي علي جائزة أفضل تصوير، كما حصل أحمد رشوان علي جائزة أفضل سيناريو بالمناصفة مع الفلسطيني رشيد مشهراوي من مسابقة الفيلم العربي بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي الأخير.
نجاح آخر يؤكد ما نعتقده من أن المستقلين قادمون، وأن الموهومين بإمكانية وقف الطوفان لن ينالوا سوي الغرق.
لكن قضية السينما المستقلة في مصر، لا تقف عند حدود فيلم «عين شمس»، فمساحة معركتها أوسع بكثير، ولعل في الموقف الذي اتخذته السلطات الرسمية مؤخراً بإلغاء مهرجان السينما المستقلة الأخير، بحجة أنه يقام في الفترة نفسها التي يقام فيها مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، خير دليل علي أن الرسميين لا يريدون لهذا النوع من السينما أن يزدهر، وهو طبعاً ما يقابل بالرضا الكامل من قبل المحتكرين للإنتاج والتوزيع والعرض في مصر.
وكنا طوال عام مضي - ندافع وباستماتة عن هذا النوع «المستقل» من السينما، وكنا ولا نزال، نري أنه الأحق بالتواجد وبالدفاع عنه، بل إننا لم نترك فرصة إلا وعقدنا مقارنة بين ما يحدث عندنا وما يحدث هناك علي الجانب الآخر من العالم.. وهنا لابد من التذكير بذلك التقرير الذي كتبه الزميل نبيل سمير في السابع من ديسمبر تحت عنوان يشير به إلي مفارقة جديرة بالتأمل: «بعد تضييق الخناق علي المصري.. نجوم هوليوود يتفقون علي إنجاح مهرجان السينما المستقلة في أمريكا».. وذكر التقارير تفاصيل مؤلمة عما حدث في مصرمن إلغاء، وتعطيل للمهرجان، وحجج مسئولين تثير الضحك، وكذلك تفاصيل عن المهرجان الأمريكي الذي أسسه ويدعمه الممثل «روبرت ريدفورد».
أيضاً شاركنا الناقد السينمائي المتميز «أمير العمري» بمقال مطول كناقد نشرناه في الثاني من ديسمبر تحت عنوان: «بانتصار «عين شمس» لم يعد الأمر مجدياً..
مغزي الحرب القائمة ضد السينما المستقلة في مصر» وفيه أكد العمري أن «في كل بلاد الأرض تدرك النخبة معني ومغزي وأهمية وجود جيل آخر جديد من السينمائيين، وأهمية إتاحة كل الفرص أمامهم للتجريب والسباحة في مناطق غير تقليدية..».. ورداً علي حجة أن مهرجان السينما المستقلة يقام في الوقت نفسه لمهرجان القاهرة الدولي، كتب أمير العمري يقول: «.. مهرجانات السينما الدولية الكبيرة حقاً، تاريخاً ومقاماً، التي تريد أن يحسب لها أنها لا تستبعد الجديد مهما كان جامحاً في تجربته وأفكاره، عادة ما تسمح بمساحة علي الهامش لتلك «السينما الأخري».
وذكر أمير العمري أكثر من مثال لأكثر من مهرجان دولي يتبني شباب السينما وتفخر بهم.. وأخيراً يصف العمري قرار إلغاء مهرجان السينما المستقلة بـ: «.. أن هذه الواقعة الشائنة تعكس حالة الهلع التي أصابت بعض الأجهزة أخيراً من زحف السينما المستقلة بهدوء وإصرار، لكنها تؤكد، علي نحو ما أيضاً، أن السينما المستقلة قادمة، يؤكد وجودها انتصار فيلم «عين شمس» لإبراهيم البطوط في معركته الدامية مع الرقابة بعد أن رضخت أخيراً للأمر الواقع وقررت السماح بعرضه كفيلم مصري، وليس مغربياً، وهو ما يؤرخ لبداية نهاية الرقابة بشكلها القائم المتخلف».
لهذا كله.. وغيره الكثير.. من إنجازات سينمائية شابة. لم نختلف «الزملاء وأنا» حول اختيار «السينما المستقلة» باعتبارها قضية العام 2008.. ونعتقد أنها ستستمر تواصل نجاحاتها في القادم من الأعوام.

الخميس، 1 يناير 2009

نحن والنقد الثقافي والاجتماعي في الغرب


الاتجاه الجديد - القديم في نقد الفنون والآداب في الغرب القائم علي ما يعرف بـ"النقد الثقافي" cultural criticism، وهو اتجاه أصبح يطغي كثيرا علي معظم مدارس النقد بل امتد إلي النقد الذي ينشر في الصحافة العامة، يمكن القول إنه أصبح هناك ولع خاص بتطبيقه علي الأعمال الإبداعية القادمة من ثقافة "الآخر" أي من العالم غير الناطق بالإنجليزية أو "العالم غير الأوروبي".
يمزج النقد الثقافي بوضوح بين النظرة التي تسعي للتعامل مع الإبداع ليس كنتاج "نخبوي" بل كنتاج يصلح للناس جميعا، ويجب أن ينظر إليه في إطار الثقافة الكلية السائدة في المجتمع، وبين اعتباره تطويرا، علي نحو ما، للنقد الاجتماعي الذي يهتم كثيرا بتأثير البعد الاجتماعي أو المجتمعي علي المبدع (الكاتب، الشاعر، المؤلف، الموسيقار، الرسام.. إلخ) أكثر من اهتمامه بذات المبدع نفسه، وبتجربته الذاتية وعلاقته بالوسيلة التي يبدع من خلالها واهتماماته الجمالية التي قد تصل إلي قدر من التجريد يصعب الإحاطة بأسسه الاجتماعية عادة.
ويميل النقد الثقافي الذي يجنح في اتجاه التعامل من الزاوية السوسيولوجية مع المنتج الفني والأدبي إلي الاهتمام بـ"الوصف" أكثر من "التقييم"، وفحص العلاقة بين العمل الإبداعي والعالم، من الحكم عليه أو تقدير قيمته في تاريخ تطور النوع الإبداعي.
الاهتمام إذن ينصب بشكل أساسي علي علاقة المنتج الإبداعي بغيره من الأعمال، وعلاقته بالأنماط الاقتصادية ، والظروف الاجتماعية السائدة (وضع المرأة في المجتمع، العلاقة بين الجنسين، الإشارات ذات الدلالة السياسية، الوجود المستقل للأقليات وتبعيتها للمحيط الاجتماعي في الوقت نفسه أو خضوعها القهري أحيانا.. وغير ذلك).
هذه النظرة تحكم معظم الكتابات التي تتناول الأعمال الإبداعية القادمة من ثقافتنا. رواية "عمارة يعقوبيان" مثلا، ثم الفيلم كشكل فني آخر يقوم علي الصور والعلاقات داخل النص الأصلي الأدبي، تم تناولها نقديا في الدوريات والصحف البريطانية ليس كعمل فني مستقل، قائم بذاته يمكن الحكم علي قيمته الفنية في إطار ما ينتج في عصره من أعمال مشابهة، بل كـ"دليل" أدبي علي ما يحدث في "المجتمع" المصري اليوم، أي كبيان للعلاقات التالية: العلاقة بين الجنسين، الصراعات الطبقية، تضاؤل دور الطبقة الوسطي، الكبت الجنسي والكبت السياسي والاجتماعي، دور الضباط في مجتمع ما بعد 52 مقارنة بعالم الباشاوات فيما قبل 52، القهر الاجتماعي والفقر كمنبع للتطرف الديني، تدهور أخلاقيات الطبقة الحاكمة (الفساد) وبروز الدور الأمني، الرفض الأخلاقي - الديني للمثلية الجنسية، وتضاؤل دور المثقف وهامشيته.
أما من ناحية البناء الروائي، والشكل الفني، والاستخدامات المختلفة للغة العربية كوسيلة تعبير أساسية في حالة الرواية، واللغة السينمائية والشكل السردي والعلاقة بين اللقطات والمشاهد وطريقة تركيبها معا في حالة الفيلم، فهذه كلها جوانب لا ينشغل بها عادة النقد الثقافي- الاجتماعي في الغرب.


وقد تمتلئ الكتابات عن أعمالنا الأدبية والفنية بالكثير جدا من المقاربات والمقارنات وتحليل الإشارات ودلالاتها الاجتماعية والسياسية، لكنها لا تخلص عادة إلي تحديد "القيمة" الفنية للعمل ككل في إطار مثيله مما ينتج في العالم، وذلك في إطار رفض اعتبار "القيمة الفنية" قيمة عليا ترتبط بنظم وأنساق فنية مستقرة، فلاشيء مستقر علي حاله، وهذا صحيح، لكن الأمر الذي يشغل بال هذا النوع من النقد أكثر من غيره في تناول أعمالنا هو الاعتبار الكبير للدلالات السياسية والاجتماعية، أما فنيا أو إبداعيا فلا تؤخذ هذه الأعمال كثيرا عادة علي محمل الجد، ولا تقارن بغيرها من الإبداعات الكبيرة في الأدب "الغربي" مثلا، أو الإنساني عموما.وهذه مشكلة حقيقية، فالمستوي الفني والأدبي يظل "غامضا" أو مجهولا في نظرة هؤلاء النقاد، وهو ما يؤدي إلي اعتبار كل الأعمال التي يمكن استخراج بعض الدلالات الاجتماعية والسياسية الآنية منها أعمالا مهمة، تلقي الكثير من الاهتمام والحفاوة، في حين أن مستواها الفني نفسه قد يكون محدودا للغاية.
ولعل أكبر دليل علي ذلك مثلا ما ينشر أحيانا من كتب تحوي ما أصبح يعرف باسم "أدب التشات" chat أي تلك الكتابات الوصفية المليئة بالاستطرادات والثرثرة بلغة أنظمة التخاطب المتوفرة علي شبكة الانترنت حاليا، وما تلقاه من ترحيب حماسي في الكثير من الأحيان، لا لشيء إلا بسبب دلالاتها الخاصة التي تتجاوز أسقف الحرمان والقهر والجفاف القائمة وتخترقها، دون أن يعني هذا أنها تتمتع في الواقع بأي قيمة أدبية أو مستوي فني.

الاثنين، 29 ديسمبر 2008

فيلمان من سورية: "حسيبة" و "أيام الضجر"



الأسطورة والرمز والواقع السياسي

عرض في 2008 فيلمان من سورية طافا على عدد من المهرجانات السينمائية الدولية في العالم العربي مثل دمشق والقاهرة ودبي. الفيلمان هما "حسيبة" للمخرج ريمون بطرس، و"أيام الضجر" للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد.
السمة السائدة في الفيلمين أنهما من أفلام الماضي، أي أن أحداثهما لا تدور في الزمن المضارع بل في الماضي الذي كان، سواء في عشرينيات القرن العشرين كما في الفيلم الأول، أو في زمن الوحدة المصرية- السورية كما في الثاني.
واختيار "الزمن"، رغم مشروعيته، يعكس مع تكراره كثيرا جدا، نوعا من "الهروب" من مناقشة المشاكل الحالية في الواقع السوري التي يعرفها المشاهد السوري جيدا ويمكنه التعرف على نفسه فيها. وهذه "الماضوية" إذا جاز التعبير، سمة سائدة في معظم أعمال "الدراما السورية".. أي في الأعمال السينمائية والتليفزيونية السورية على نحو لافت للنظر.
السمة الثانية أن المحور الرئيسي للفيلمين يدور حول المرأة، وهي في الفيلمين، ضحية للرجل: تارة كنوع من اللعنة التي تطاردها بسبب اختيارها أن تسلك مسلك الرجال كما في "حسيبة"، وتارة أخرى كضحية مباشرة لما يفعله الرجال. ولكن في الفيلمين أيضا يبدو "القدر" الذي لا يستطيع الابطال منه فكاكا، هو القوة العاتية التي تسوق الشخصيات إلى نهاياتها الحتمية المأساوية.
"حسيبة"
فيلم "حسيبة" مقتبس عن رواية لخيري الذهبي. وهذا ليس عيبا بل يمكن أن يكون ميزة إذا عرف كاتب السيناريو والمخرج (وهما شخص واحد هنا) كيف يتوصل إلى معادل سينمائي يجعل شخصيات الرواية تنبض، والأهم، أن يوصل المغزى الاجتماعي والسياسي ويجيد استخدام الجانب الأسطوري في الرواية، لكي يمنح المتفرج المتعة ولو من خلال تصوير أقصى درجات المأساة.
لكن ما حدث أن مخرج هذا الفيلم ريمون بطرس، يقع في كل الأخطاء التي كان يتعين عليه أن يتلافاها وهو ينقل عملا أدبيا إلى لغة السينما.
ولعل الخطأ الأول في رأيي يعود إلى الرغبة في "الإخلاص" الشديد للعمل الأدبي، وهو هاجس يسيطر على كثير من المخرجين وكتاب السيناريو، ويتسبب في إفساد الكثير من الأفلام التي يتيح نسيجها أن تخرج بمستوى فني متميز، بينما المطلوب لتحقيق النجاح استلهام روح العمل الأدبي وجوهره والابتعاد تماما عن أسلوبه ومفرداته واستطراداته واعتماده الأساسي على الوصف المسهب.
ريمون بطرس، الذي لاشك في موهبته السينمائية ورؤيته البصرية المتميزة، يرتكب هذا الخطأ، رغبة منه في تجسيد ما لن ينجح في تجسيده على الشاشة، لسببين أساسيين:
الأول: أسلوب رواية الأحداث ذو الطابع الأدبي الذي يمتلئ بالثرثرة والتفاصيل، وتعدد الشخصيات على نحو محير أحيانا، والاعتماد الأساسي على الحوار الطويل الذي يبدو أحيانا أقرب إلى "المونولوج" منه إلى "الديالوج" أي على طريقة المسلسلات، وغياب تبرير تصرف الشخصيات، ورغم تصويره حرمان المرأة من الرجل عموما إلا أنه يبتعد عن التصوير الحسي المباشر خوفا من الرقابة بل تغيب عن الفيلم حتى الايحاءات الجنسية.
أما السبب الثاني فيعود إلى عدم توفيق المخرج في العثور على لغة سينمائية تتناسب مع موضوعه، فنراه يلجأ إلى التداخل في الأزمنة أحيانا لا لكي يسلط الضوء على نقاط محددة يريد أن يبرزها من أجل أن يعطينا صورة محددة عن الموضوع الذي يتناوله ويريده أن يصل إلينا بل لكي يروي كل شيء عن كل شيء، وينتهي بالتالي إلى فقدان السيطرة على الإيقاع واستطالة الفيلم وانفراط شخصياته دون أن يكون هناك اي تطور في الحدث بل دوران مكرر حول الفكرة نفسها.
الفيلم ببساطة واختصار شديد، يصور واقع الحياة في دمشق في عشرينيات القرن العشرين وتحديدا واقع المرأة من خلال شخصية "حسيبة" التي تذهب مع الرجال إلى الجبال للكفاح ضد الاستعمار الفرنسي، وتعود لكي تتزوج لكنها لا تنجب ذكورا بل تنجب فتاة وحيدة.

يموت زوجها فتكافح من أجل الاستمرار في الحياة وتلجأ إلى صناعة الجوارب وبيعها وتحقق تجارتها رواجا، لكن عندما يأتي صحفي مناضل للسكنى في بيتها تقع في حبه بينما يقع هو في حب ابنتها.
وينتهي الأمر بأن يتزوج الصحفي الإبنة وينجب الاثنان ولدا هو الذي سيموت فيما بعد لكي تكتمل المأساة. وستموت أيضا كل شخصيات الفيلم من النساء بعد حياة جافة، ومعاناة لافتقاد الرجال، كما ستفقد الإبنة عقلها تماما بعد أن يغادر زوجها إلى فلسطين ثم يعود إلى دمشق كما نعرف، لكنه لا يعود إلى البيت.
اللعنة التي تحل على حسيبة سببها قد يعود إلى أنها تشبهت بالرجال واختارت طريق الكفاح وحمل السلاح، رغم أن سلاف فواخرجي الجميلة لا تبدو عليها أي آثار للكفاح المسلح ولا حتى للتمرد.. في الفيلم طبعا!
إلا أن الفيلم في الحقيقة يقتبس من الجانب الميتافيزيقي الكائن في الرواية ولكن بطريقة مباشرة لا تتناسب أصلا مع الأجواء التي تدور فيها الأحداث.
ويتمثل هذا الجانب في الاعتقاد بوجود شؤم ناجم عن روح شريرة ترقد داخل النافورة التي تتوسط المنزل الدمشقي الذي تقيم فيه حسيبة مع ابنتها ومع شقيقة زوجها الراحل "خالدية" (التي تقوم بدورها ببراعة الممثلة جيانا عيد).
هذا الجانب الأسطوري كان ينبغي أن تدور حوله الأحداث أو أن يجعل الشخصيات تلقي مساحة أكبر من الاهتمام به، أو أن يصبح محورا لبعض الأحداث المتعاقبة وكلها أحداث سيئة في الحقيقة، لكنه يُهمل إلى حد بعيد، إلى أن يتم تذكره قبل النهاية.
الأسطورة والواقع
فيلم "حسيبة" لا يبدو أن له مغزى ما يلقى اهتمام المخرج- المؤلف، بل إن غرابة أجواء الرواية تبدو هي الأساس الذي استند عليه صانع الفيلم ولكنه عجز عن التوصل إلى لغة سينمائية تلعب في المساحة الرمادية الغامضة بين الأسطورة والواقع، وانشغل بدلا من ذلك، باستعراض دروس من التاريخ، وما استتبعه ذلك من بعض الحوارات التي تمتلئ بالخطابة والمباشرة وكأنه يتباكى على أحوال الأمة، أو بالأحرى، وكأنه يضع على ألسنة الشخصيات رسالة سياسية مؤداها التباكي على ما آلت إليه أحوال الأمة وهو خطاب يشوب الكثير من المسلسلات والأفلام السورية التي تدور في التاريخ وتعشق الاستغراق في الماضي، لكي تلعب من خلاله على الرمز الذي لا يتجاوز عادة "غمز الواقع" من بعيد وعلى استحياء.
والنتيجة أننا في حالة "حسيبة"، أمام عمل مثقل بالمشاهد الطويلة، والحوارات الزائدة عن الحاجة، بل والشخصيات التي لا تقدم ولا تؤخر، والتي تظهر وتختفي، أو تموت فجأة بطريقة تجعل الجمهور الذي لم تنجح الدراما السينمائية التي يشاهدها في استيعابه والاستيلاء على مشاعره وذهنه، يضج من الملل، خاصة وأن إيقاع الفيلم يهبط كثيرا بعد نصف الساعة الأولى، وخاصة وأن الأداء التمثيلي، رغم براعته، لا يتخلص من الطريقة المسرحية التي تعتمد على المبالغة.
لا عيب على الإطلاق في اختيار موضوع "مأساوي" أو تراجيدي، لكن التراجيديا أيضا لها شروطها وحدودها، التي إذا أفلتت أصبحت أقرب إلى السخرية بدلا من التعاطف.


"أيام الضجر"
أما فيلم "أيام الضجر" فيبدو بعد مشاهدته أن المخرج الموهوب عبد اللطيف عبد الحميد تعجل اختيار موضوعه دون دراسة كافية، ودون تطوير كاف لفكرته. تدور أحداث الفيلم في زمن الوحدة المصرية السورية، أي في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات.
ولاشك أن جانبا كبيرا مما يرويه الفيلم مستمد من التجربة الشخصية لمخرجه ومؤلفه، ومن ذكريات طفولته. ولكن ليس كل ما يمر به المرء يصلح لتقديمه في السينما وعرضه على الجمهور العريض. وفيلم عن الضجر يجب ألا يسقط في الضجر بل يجب أن يتمتع بالقدرة على إثارة اهتمام المتفرج.. الأمر الذي يفتقده "أيام الضجر" بوضوح.
هنا أيضا امرأة تنعكس عليها كل سلبيات المرحلة هي وأولادها الأربعة وزوجها "مصطفى" الجندي في الجيش.
الأسرة تعيش في هضبة الجولان، والأولاد يبتكرون شتى أنواع الألعاب والحيل للتغلب على الملل الذي يعيشونه.
والأب "مصطفى يستدعى في مهمة داخل إسرائيل لا يبدو أنها تحقق أي شئ يذكر، ويغيب عن المنزل فترة طويلة تتكفل فيها الأم برعاية الأولاد.
وتضطر الأم إلى الانتقال مع الأولاد لفترة بعيدا عن الجولان مع تفجر الأزمة اللبنانية في أواخر الخمسينيات واحتمالات اندلاع عمليات عسكرية بعد تدخل الأسطول السادس الأمريكي إلى جانب حكومة كميل شمعون، وبعد سقوط نظام نوري السعيد في بغداد.
أما الجانب الذي يحظى كثيرا باهتمام الفيلم فهو صورة الوحدة كما يراها المخرج- المؤلف، ويجسدها أولا في ضابط مصري مسؤول عن المنطقة كل ما يشغله إقامة مسابقات للجري بين تلاميذ المدارس وتوزيع هدايا بسيطة على المتفوقين منهم، ودعوتهم إلى ترديد الهتافات بحياة الرئيس جمال عبد الناصر، ووجود دبابة معطوبة ضخمة قرب منزل أسرة الجندي مصطفى، لا يتم إزالتها إلا في النهاية (على سبيل الرمز للوحدة المعطلة!)، وتحركات عسكرية تبدو هزلية، ومهمة يقوم بها عدد من الجنود والضباط داخل إسرائيل لا يبدو أنها تحقق أي شئ، وفي النهاية عودة مصطفى إلى أسرته بعد طول غياب وقد فقد عينيه وذراعه بعد أن انفجار لغم أرضي في جسده.

ويقوم بدور الضابط المصري ممثل سوري يفشل في اتقان اللهجة المصرية، بل يبدو كما لو كان يسخر منها من خلال كلماته الطفولية الساذجة وتعبيرات وجهه التي تكشف عن غباء واضح، وربما يكون هذا نفسه مقصودا فلا نتصور أن عبد اللطيف يعجز عن العثور على ممثل مصري يقوم بالدور.
ومن الواقع إلى الرمز، يصور الفيلم عجز الزوجة عن الحصول على ابنة لمصطفى بعد أن أنجبت 4 أولاد وعندما تحمل أخيرا في البنت المنتظرة تتعرض للإجهاض وتفقدها.. والبنت رمز الخصوبة.. فهل السبب في الإجهاض هو أيضا الوحدة!
إطالة واستطرادات
يعاني الفيلم من الإطالة والاستطرادات ومن ضعف الإخراج في بعض المشاهد مثل مشهد الحافلة التي تنقل المهاجرين التي يبدو واضحا أنها لا تتحرك. ويعاني مشهد الأطفال وهم يحاولون الامساك بالدجاج من الترهل الواضح، وهناك إطالة لا معنى لها أيضا في مشهد ولادة الزوجة الذي ينتهي بنزول جنين ميت.
ولم يكن هناك أي معنى لتخصيص مشهد طويل آخر لدفن الجنين في بكائية حزينة لا معنى لها.
ويعاني مشهد الجد وهو يعزف على الناي والأولاد حوله يتراقصون ويقفزون من الإطالة بلا معنى، ويبدو رقص الخال قبل مشهد النهاية في حركات بلهاء مشهدا لا يضيف شيئا، بل يبدو غليظا، ونرى بعده مباشرة عودة مصطفى عاجزا معوقا. لكن مصطفى نفسه، كما يريد أن يقول لنا الفيلم، لم يفقد الأمل رغم إصابته، لذا فهو يغني ويطلب من أبنائه الاستمرار في المرح والغناء والرقص، وهو اصطناع يتوقعه المتفرج في السياق فيبدو مفتعلا أيضا.
ولا ينجح موضوع الفيلم في تكثيف "رؤية" معينة ذات دلالات إنسانية عميقة عن معاناة أسرة في زمن "الضجر" أي زمن الوحدة، التي يحملها الفيلم كل خطايا الواقع في تلك الفترة. ولا تكفي هنا تصريحات المخرج عن رغبته في الحديث عن عدم تغير ما يعيشه الناس خلال خمسين سنة، فهو لا يروي قصة خمسين سنة ولا يقول لنا ما الذي حدث بعد انهيارالوحدة، ولا كيف يرى الناس الوضع الحالي في سورية المعاصرة بعد أن انقضى زمن الشعارات الكبيرة.
الأولاد يصابون في البداية بالتخدر بعد أن أكلوا ثمرة مسمومة كادت تودي بحياتهم، والأم فقدت الأمل في إنجاب بنت، والأب ينتهي معاقا بعد أن يفقد عينيه وذراعه، تراجيديا قدرية مكتملة.. كان يمكن أن تصنع فيلما تجريديا رائعا إذا ابتعد مخرجها ومؤلفها عن الإفراط في الرمز السياسي المباشر، والركون إلى الغمز الذي لا جدوى منه ولم يعد الجمهور في حاجة إليه بل في حاجة إلى النقد السياسي المباشر الموجع والحديث عما يجري اليوم.
كان حري بعبد اللطيف عبد الحميد أن يطلق على فيلمه "أيام الكوارث" بدلا من "أيام الضجر"!
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger