الجمعة، 26 ديسمبر 2008

أفلام أجنبية يحتفى بها باعتبارها مغربية

يسعد محرر مدونة "حياة في السينما" أن يستضيف هنا الصديق الناقد المغربي الكبير مصطفى المسناوي الذي ننشر مقاله الجديد المثير للجدل حول الوضع الراهن للسينما في المغرب، نظرا لأنه يكشف لنا ما لا نعرفه من جوانب متعددة تتعلق بالنشاط السينمائي الحالي هناك وما يكتنفه من صعوبات وإشكاليات تجلت أخيرا، كما يوضح، في مسابقة الأفلام المغربية السنوية التي أقيمت في طنجة.
هل هي نهاية "السينما المغربية"؟
بقلم: مصطفى المسناوي

من فيلم "كل ما تريده لولا"

رغم الخطابات "التهليلية" التي تروج لها جهات و منابر معينة بخصوص "النهضة" التي تعرفها السينما المغربية في الوقت الحالي، ينبغي الاعتراف بأن وضعية هذه الأخيرة صارت تبعث على القلق فعلا؛ وذلك عبر العديد من العلامات والتجليات التي لا تخطؤها العين، والتي تواترت في الآونة الأخيرة بشكل بلغت معه حد الاستهتار: الاستهتار بالحدود الدنيا لقيم دافعنا ومازلنا ندافع عنها في المشهد الثقافي – الفني المغربي، والاستهتار بالحقائق الملموسة وبعقل المشاهد – القارىء – المتابع المغربي المغلوب على أمره.
وبصرف النظر عن "العلامات" اليومية التي تشي بدخول السينما بالمغرب مرحلة الاحتضار (من قبيل الإغلاق المتزايد للقاعات السينمائية في غياب إرادة فعلية لإنقاذها، وتحوّل "صندوق الدعم" إلى عرقلة تحول دون "مغامرة" الرأسمال الخاص بالدخول إلى مجال الصناعة السينمائية)، كان اختيار فيلم "قنديشة" لتمثيل المغرب في الدورة الأخيرة لمهرجان مراكش السينمائي الدولي "علامة" كاشفة نبهت من تبقّى من الغافلين إلى أن خطاب "كولو العام زين" في السينما ليس سوى محاولة للتغطية على إخفاق كبير يهم تدبير المجال بأكمله مثلما يعبر عن غياب رؤية استراتيجية للسينما ببلادنا ودورها المفترض في بناء "المغرب الحداثي" كما يطيب للبعض أن يسميه.
إن هذا الفيلم، ولنقل ذلك دون تردد، فيلم فرنسي الجنسية من إنتاج شركة فرنسية وليس فيلما مغربيا أبدا، لا يشفع له في ذلك اختياره لموضوع اعتبره "مغربيا" ولا استعانته بممثلين "مغاربة". ولعل خير شهادة على "فرنسيته" قول مخرجه السيد جيروم كوهين أوليفار بلسانه – أثناء تقديم الفيلم بمهرجان مراكش- إنه "يشكر المغرب الذي ساعده على إخراج فيلمه إلى حيز الوجود"؛ وهو أمر لا يمكن أن يفعله مخرج مغربي الجنسية فعلا (مصطفى الدرقاوي أو أحمد البوعناني أو الجيلالي فرحاتي أو عبد القادر لقطع أو محمد العسلي أو محمد عبد الرحمن التازي، على سبيل العد لا الحصر) لأنه سيعتبر، حتما، أن دعم بلاده له – إن هي دعمته - لا يدخل في باب الفضل والصدقة الذي تستحق الشكر عليه وإنما هو حق من حقوقه عليها يندرج مباشرة في باب تشجيع الدولة، كل دولة، للمبدعين من مواطنيها الذين لا يملكون جنسية غير جنسيتها، ولا يقفون لنشيد وطني غير نشيدها، ولا يربطون الانتماء إليها بالحصول على مصلحة أو على منفعة من المنافع المادية الخاصة.
يضاف إلى ذلك أن اختيار فيلم فرنسي لتمثيل المغرب في مهرجان مراكش هو عبارة عن إدانة لمجمل الإنتاج السينمائي المغربي لهذا العام: فإما أن المخرجين المغاربة لم يخرجوا أي فيلم هذه السنة (وهذا يناقض تصريحات بعض القائمين على أمر القطاع بأن إنتاجنا السينمائي وصل إلى معدل 15 فيلما في السنة)، وإما أن كل ما أنجزه هؤلاء المخرجين لا يرقى – في نظر الإدارة الفنية للمهرجان- إلى مستوى الاختيار للتباري مع غيره من الأفلام.
وقبل أن تغيب هذه "العلامة" عن أذهاننا وأعيننا، ها هي ذي "علامة" أو "علامات" أخرى تأتينا من طنجة، على رأسها حصول فيلم "كل ما تريده لولا" لصاحبه نبيل عيوش على الجائزة الكبرى للمهرجان الوطني للسينما في دورته العاشرة.
ومرة أخرى، بصرف النظر عن أن الفيلم لا يستحق المشاركة في دورة هذا العام لأنه من إنتاج عام 2007 وكان مفروضا أن يشارك في الدورة التاسعة للمهرجان قبل عام لولا أن صاحبه رفض ذلك، فإن "كل ما تريده لولا" فيلم فرنسي – كندي من جهة إنتاجه، وموضوعه بعيد كل البعد عن المغرب (الذي جعل المخرج ممثليه يتحدثون بعامية مصرية رديئة ويلعبون أدوارا ثانوية هامشية)، كما أن مخرجه مزدوج الجنسية (فرنسي- مغربي).
معنى هاتين "العلامتين" – كي نتوقف عندهما دون غيرهما – هو أن كل الخطاب الرسمي الذي تم تداوله في وقت من الأوقات عن "دعم السينما المغربية" ( بأموال دافعي الضرائب) قد انتهى عمليا إلى دعم وتشجيع شركات الإنتاج الأجنبية وخاصة منها الفرنسية؛ بل إن الأمر أخطر من ذلك حين يتم، مثلا، إعطاء "جائزة المونتاج" في مهرجان طنجة الأخير (الخاص بالسينما المغربية) لتقني فرنسي الجنسية هو جوليان فور (عن فيلم "قنديشة")؛ حيث إن المعنى الوحيد لذلك هو أن السينما المغربية التي يحتفل البعض هذا العام بالذكرى الخمسين لظهورها (وهو تاريخ غير صحيح) لم تنجح طيلة نصف قرن من الزمان في إعطائنا ولو تقنيا (أو فنيا) واحدا مختصا بالمونتاج (من مراجعة الأفلام الطويلة المشاركة في مهرجان طنجة ويبلغ عددها 14 فيلما نجد أن 10 من بينها أنجز عملية "مونتاجها" أجانب).
لقد انشغل المسؤولون عن الشأن السينمائي ببلادنا، وطيلة ما يزيد على عقدين من الزمن، بالتركيز على "الإنجازات اللحظية البرّاقة" التي من شأنها أن تدغدغ مشاعر العاملين بالميدان وتثير ضجة إعلامية حولها (في الخارج بالخصوص) لكن دون أن يكون لها تأثير يذكر على تطوير الفن السابع والصناعة السينمائية ببلادنا: هكذا، وبدل إنشاء معهد عال للسينما وتطوير شبكة القاعات السينمائية (مع إعادة النظر في النظام الضريبي المفروض علىالتوزيع والاستغلال)، تم الذهاب باتجاه "دعم" إنتاج الأفلام فحسب، والرفع من قيمة "الدعم" من حين لآخر إلى أن بلغ اليوم ستة مليارات سنتيم سنويا.

وكانت النتيجة هي ما انتهينا إليه اليوم:
- ندرة، بل غياب مختصين مغاربة في مهن السينما (من مدراء التصوير إلى مهندسي الصوت مرورا بفنيي المونتاج...)؛
- إغلاق متزايد لقاعات السينما واختفاؤها من الأحياء وتحول الجديد منها إلى "غيتوهات" معزولة وبعيدة عن الأحياء السكنية؛
- تزايد عدد "المنتجين" المعتمدين على "الدعم العمومي" وغياب تام للمنتجين الخواص المغامرين بأموالهم في مجال السينما؛
- تحويل دعم الدولة (المقتطع من أموال دافعي الضرائب المغاربة) من المخرجين والأفلام وشركات الإنتاج المحلية إلى المخرجين والأفلام و شركات الإنتاج الأجنبية؛
وهاهي ذي، في نهاية المطاف، "مهرجانات" محلية ودولية منظمة ببلادنا تختار أفلاما أجنبية لتمثيلنا وتوزع جوائزها عليها وعلى التقنيين العاملين فيها؛ وكل المطلوب منا هو أن نلعب دور المتفرج المصفق على مأساة عبثية تتخذ شكل ملهاة.
لن نستغرب، والحالة هذه، إذا سمعنا غدا أن السلطات الإسبانية ضبطت على شواطئها قاربا للهجرة السرية مليئا بسينمائيين مغاربة هاربين من "نهضة" سينمائية مفترضة لم يعد للفن السابع ولهم فيها مكان.

الخميس، 25 ديسمبر 2008

هارولد بنتر العظيم يغادر عالمنا


توفي في لندن في وقت متأخر من الرابع والعشرين من ديسمبر عن 78 عاما.. البريطاني العظيم هارولد بنتر الحائز على جائزة نوبل في الآداب عام 2005. كان بنتر كاتبا مسرحيا كبيرا، وكاتبا للسيناريو كما عمل ممثلا ومخرجا مسرحيا، وكتب الشعر كما عرف كناشط سياسي يدافع عن حقوق الإنسان، ويناهض التعذيب كما كان له موقف مناهض للحرب في العراق. وقد رفض الحصول على لقب "سير" أو فارس من ملكة بريطانيا.
كتب 29 مسرحية بارزة من أهمها "الحارس" و"الحجرة" و"حفل عيد الميلاد" و"الخيانة".كتب السيناريو لعدد من أهم الأفلام البريطانية والأمريكية مثل "الخادم" و"الحادث" و"الوسيط" لجوزيف لوزي، و"عشيقة الملازم الفرنسي" لكاريل رايز، و"التايكون الأخير" لإيليا كازان، و"المحاكمة" لديفيد جونز، و"سلوث" لكينيث برانا. وشارك كممثل في ثمانية أفلام منها "كسر الشفرة" و"حديقة مانسفيلد". وأخرج 3 أفلام.
كتب الناقد البريطاني مايكل بيلنجتون سيرة حياة هارولد بنتر وأصدرها في كتاب (حوالي 450 صفحة) تناول خلاله أعمال بنتر في كل المجالات، ومواقفه السياسية المميزة، وصراعه ضد "المؤسسة" مثله في ذلك مثل كل الكتاب والفنانين والمفكرين العظام في عصرنا.

«التبديل» لكلينت ايستوود.. خير مطلق وشر مطلق.. وبينهما فوضي




مقال أمير العمري في جريدة "البديل"

كلينت ايستوود ممثل عظيم، شكل جانبا كبيرا من خيالنا ونحن صغار من خلال أفلام "الويسترن سباجيتي"، التي قام ببطولتها وأخرج الفيلم الأول منها "من أجل حفنة دولارات" مخرج كنا نظنه أمريكيا، فقد كان يطلق علي نفسه اسم بوب روبرتسون ثم عرفنا بعد ذلك أنه إيطالي وأن اسمه هو سرجيو ليوني، أحد أعظم السينمائيين في عصرنا، رغم أنه لم يخرج طوال حياته سوي 10 أفلام فقط.
كان ايستوود في الحقيقة صنيعة ليوني، كما أن جانبا كبيرا من النجاح المدوي الذي حققته ثلاثية ليوني الشهيرة يعود أساسا إلي كلينت إيستوود.
هذا الممثل الذي اكتسب مع الزمن خبرة أكبر، وأصبحت له ملامح مميزة في الأداء البسيط غير المتكلف، أصبح أيضا مولعاً بالإخراج منذ وقت مبكر، وقد أخرج حتي الآن 29 فيلما إلا أنه لم يحقق في الإخراج ما حققه في التمثيل رغم تميز عدد لا بأس به من أفلامه كمخرج.
شاهدت منذ أيام فقط فيلمه الأحدث كمخرج "التبديل" Changeling وهو الفيلم الذي عرض في مسابقة مهرجان «كان» الماضية، وكانت له أصداء جيدة.
ولكن يمكنني القول إنه رغم الطموح الكبير من أجل تحقيق عمل ملحمي كلاسيكي كبير إلا أن ايستوود لم ينجح في رأيي في الوصول إلي ذلك بسبب تفكك السيناريو، واعتماده علي التداخل بين الزمان والمكان، خاصة في الثلث الأخير من الفيلم، وهو منهج يجب أن يتم بحذر شديد وبدقة بالغة، حتي يأتي الفيلم متوازنا وواضحا ومفهوما أيضا. أما هنا فالانتقال في الزمن بدا كما لو كان يحدث بدون ضرورة حقيقية، وفقط من أجل الشرح والمزيد من الشرح.

هذا فيلم موضوعه الأساسي عن أم وحيدة فقدت ابنها الوحيد وأعادت لها شرطة لوس أنجلوس الفاسدة (في أواخر العشرينيات من القرن العشرين) طفلا آخر وطالبتها بالاعتراف بأنه ابنها رغم انه ليس كذلك، وكان يتعين عليها أن تواجه مغبة رفضها الانصياع لمطلب الشرطة التي لا تريد أن يفتضح عجزها وفشلها في القيام بواجبها، في وقت كانت سمعتها فيه قد وصلت إلي الحضيض، وهو ما يؤدي بالسيدة (التي تلعب دورها أنجلينا جولي بماكياج وملابس مبالغ فيها كثيرا وبمبالغات شديدة في الأداء أيضا) أن تدفع الثمن، فتودع في مصحة للأمراض العقلية حيث تلقي من العذاب والتعذيب والهوان ما سبق أن شاهدناه في الكثير من الأفلام التي تصور أجواء مشابهة.
لكن الشرطي الشرير الذي يسوقها إلي العذاب يظهر في مقابله بعد ذلك كشرطي شريف يقرر إعادة فتح التحقيق بعد العثور علي صبي يعترف بقتل 20 طفلا مع رجل مضطرب عقليا في مزرعة دواجن بطريقة بشعة، ودفنهم تحت الأرض.
أيضا في مقابل مدير الشرطة الفاسد هناك القس المثالي (جون مالكوفيتش) الذي يقدم برنامجا إذاعيا يوميا يفضح فيه فساد الشرطة، بل يقوم بتصعيد موضوع السيدة كولينز التي تختفي داخل المصحة- السجن، ويقود أيضا المظاهرات التي تحاصر مبني الشرطة، وينجح في العثور علي محام شريف يتنبي قضية المرأة ويخرجها من المصحة ويواجه الشرطة في القضاء إلي أن ينجلي الأمر ويحصل ضابط الشرطة الفاسد ومديره علي ما يستحقانه من عقاب، ويقع قاتل الأطفال في قبضة العدالة وينتهي إلي حبل المشنقة.
إلا أن الفيلم يمتلئ بالاستطرادات الميلودرامية التي لا لزوم لها والتي كان يمكن ببساطة الاستغناء عنها، ويعاني بالتالي من الترهل في الإيقاع، وتكرار الفكرة الواحدة في عدد كبير من المشاهد التي لا تضيف جديدا، وتعدد النهايات بحيث يقع المتفرج في حيرة قبل نصف ساعة من نهاية الفيلم ويتساءل: متي وأين يمكن أن ينتهي الفيلم؟ وكان يمكن اختصار أكثر من عشرين دقيقة من الأحداث الزائدة التي يصورها ايستوود فربما ساهم هذا في اعتدال البناء، كما كان يمكن الاستغناء عن عدد من المشاهد الكاملة، بل الشخصيات التي لا تخدم الفيلم.
الغريب مثلا أن الفيلم يتضمن في ثلثه الأخير مشاهد كاملة للمحاكمتين: محاكمة الشرطة، وقاتل الأطفال. ويتحول بالتالي إلي أحد أفلام المحاكمات التي تعتمد علي المرافعات القانونية والاستجوابات الطويلة الأمر الذي لا يسبب فقط الشعور بالملل، بل يخرج المتفرج تماما بعيدا عن البؤرة الدرامية الأساسية التي يقوم عليها الفيلم، وهي: امرأة وحيدة في مواجهة مؤسسة فاسدة، تصمد وتدفع الثمن ثم تنتصر دون أن تحصل علي الابن المفقود، بل إنه يجعل الشخصية الرئيسية تتحول من المرأة إلي قاتل الأطفال، ويصر علي تصوير مشهد المواجهة بين القاتل المفترض والأم الضحية.
لكن حتي قبولنا كمشاهدين في سياق الفيلم، لما يكشف عنه من مقتل الطفل علي أيدي قاتل الأطفال السيكوباتي الذي لا يوجد تبرير لسلوكه، سرعان ما يخذلنا الفيلم عندما يتراجع أمام الرغبة في تحقيق نهاية سعيدة تمنح الأمل للسيدة كولينز.. في العثور علي ابنها حيا، وهنا تُختلق العديد من المشاهد الزائدة والساذجة أيضا لهروب طفلين أو ثلاثة من القاتل ونجاة أحدهما مع احتمال نجاة الابن المفقود!
كان يمكن أن يصبح فيلم "التبديل" تحفة حقيقية لو أن إيستوود سيطر أكثر علي أحداث وتفاصيل الفيلم منذ مرحلة السيناريو، فاستبعد منها كل ما هو زائد، وركز فقط علي مأساة المرأة الوحيدة مع استبعاد الشخصيات النمطية المكررة، والتخفيف من الحوار وحذف كل مشاهد المحاكمة. ولاشك أن هناك جهدا واضحا في هذا العمل في محاكاة كل تفاصيل الفترة (من 1928 إلي 1938) إبان الأزمة الاقتصادية الكبري (أو التي اعتبرت كذلك قبل أن نصل إلي أزمتنا الحالية!) والتعامل بدقة شديدة مع الديكورات والتفاصيل الخاصة بالمدينة والشوارع والسيارات والملابس وتصفيفات الشعر وتصوير مشاهد المظاهرات وغيرها، ولكن هكذا عودتنا أفلام هوليوود الكبيرة منذ سنوات طويلة.


وقد نجح ايستوود في وضع موسيقي الفيلم الشاعرية الحزينة التي تغلب عليها نغمات البيانو والتي تناسب تماما طابع الفيلم.
وكان من الممكن أن يصبح الفيلم أيضا أكثر إمتاعا وأقل تشتتا إذا ما عرف ايستوود أين يتوقف عند النهاية الطبيعية لمشاهد فيلمه، لا أن يترك العنان لممثليه للاستطراد وتكرار العبارات والصراخ والانهيار علي الأرض، وكأنه يعتصر الأداء اعتصارا من أجل الوصول إلي أقصي ذروة ميلودرامية يمكن أن تنتج عن الأداء.
ونتيجة لذلك يعاني الفيلم من الطول المفرط، ومن الفوضي والتداخل بين الشخصيات، والافتقاد لوجود دوافع حقيقية لدي الشخصيات والوقوع بالتالي في التبسيط والتجريد والنمطية. فالشخصيات تتمحور هنا بين "الأخيار" الأقرب إلي الملائكة مثل القس الذي يبدو عداؤه للشرطة وانسياقه في الدفاع عن قضية المرأة غير مفهوم تماما، وبين "الأشرار" مثل مدير المصحة الذي يبدو نذلا حتي النهاية الدموية، بل خصم عنيف للمرأة طوال الوقت دون مبرر مقبول، والشرطي الذي لا يتوقف لمراجعة نفسه مطلقا، حتي بعد أن اتضح أنه كان مخطئا. فالشخصيات كما قلنا، هي نماذج للخير المطلق والشر المطلق.
وربما ترجع "محدودية" تأثير أفلام ايستوود أيضا إلي أنها تركز، عادة، علي الجوانب الشديدة المحلية في الموضوع، وتأتي بالتالي مفتقدة للطابع الإنساني العام، الذي يغلف أفكاره ويضفي عليها رؤية فلسفية أشمل وأعم، وتخلو أفلامه رغم قوتها، من الأبعاد الإنسانية العامة التي تمس الناس في كل مكان. فالمشكلة أننا بعد نحو ساعتين ونصف الساعة من مشاهدة حكاية "مسز كولينز"، نتأثر حقا، وربما أيضا نبكي وننفعل ونغضب، لكننا نخرج إلي الحياة دون أن يبقي في أذهاننا وذاكرتنا شيء منها يصبح جزءا مؤثرا ينعكس علي تجربتنا الخاصة.

الأحد، 21 ديسمبر 2008

فيلم "بصرة" لأحمد رشوان: حيرة الشباب وحالة العصاب الاجتماعي



تبدو تجربة فيلم "بصرة".. الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج أحمد رشوان، كما لو كانت بحثا في "العصاب" الاجتماعي الذي يسيطر على جيل من الشباب المصري الحالي، أو رحلة بكاميرا دقيقة ملتوية داخل جهاز عصبي لشاب يوهم نفسه بأنه في قلب الأحداث، لكنه في الحقيقة عاجز عن فهمها أو استيعابها أو التعامل الواقعي معها.
إنه يرى كل شئ من خلال عين الكاميرا الفوتوغرافية التي اختارها أداة لمهنته، بينما هو في الحقيقة، يقف على الهامش، كلما أمعن في علاقاته الجنسية كلما ازداد إحساسه بالوحدة.
إن بطل الفيلم "طارق" (الذي يقوم بدوره باسم سمرة) هو المعادل السينمائي لكثير من الشباب الذي يشبهه، والذي يبرر لنفسه منذ بداية الفيلم قضاء ليلة أخيرة مع زوجته السابقة بعد طلاقه منها مباشرة طبقا لما يطلق عليه "قانون الطلاق". قوانين الوجود
وسرعان ما تتوالى "القوانين" التي يبرر من خلالها طارق لنفسه الهرب بعيدا عن الواقع. إنه يعمل بكاميراه في قلب الواقع، يصور المظاهرات المناهضة للحرب في العراق، وربما أيضا مظاهرات الغضب المصري على ما يحدث في الداخل، يبحث عن الوجوه التي يمكن أن تثير في نفسه إحساسا مختلفا بطعم الحياة، لكنه مندفع أيضا من الناحية الأخرى للهرب من الواقع وإحباطاته وسط شلة المخدرات واللهو والصخب والغرق في الجنس.
خلال هذه الرحلة الوجودية التي يقطعها بطل فيلم "بصرة" يحاول القفز فوق الواقع، ليس عن طريق رفضه العنيف له على طريقة بطل "على آخر نفس" لجان لوك جودار، بل عن طريق الاكتفاء بملامسته السطحية له مختبئا وراء العدسة دون أن يدرك أن ما يكمن وراء الصورة أعمق كثيرا مما يوجد أمامها أو على سطحها.

ويصبح بهذا المعنى أقرب إلى بطل انطونيوني في "تكبير" Blow Up لاشك أن هناك بعدا وجوديا في "بصرة" يدور حول مغزى الحياة والموت: الحياة الصاخبة التي لا نعرف لها هدفا، ربما سوى الهرب من الواقع المتأزم، والموت الذي قد يداهمنا فجأة عن غير ميعاد، موت الصديق الشاب "حمادة" تحت وطأة المخدرات بعد أن يؤدي الصلاة الأخيرة مع والده. الفرد والعالم
غير أن الفيلم يدور أساسا حول علاقة الفرد بالآخرين، وبالعالم. وعلاقته بالمرأة: هل يمكن أن تصبح كل امرأة هدفا للمتعة الجنسية، أم أن المرأة يمكن أن تصبح في النهاية صديقة مخلصة أقرب إلى روح الطفولة كما تفعل "هند" التي تريده أن يشارك بصوره ولقطاته في عرض مسرحي تستعد لتقديمه باستخدام العرائس.
هند هذه نموذج آخر مضاد لنموذج الفتاة الأخرى المشغولة أيضا بالجسد، والتي تريد الاستيلاء عليه من الفتاة الأخرى أو النموذج المختلف الذي عثر عليه في المصورة الفوتوغرافية "نهلة" التي لا تعيش اللحظة كما هي بل تحاول أن تكون لها "وجهة نظر" فيها، تريد أن تحافظ على استقلاليتها، وتبقي على ثقتها بنفسها في مواجهة الإلحاح الجنسي لدى "طارق" لقضاء ليلة من المتعة الجسدية قبل توفر الفهم الحقيقي المشترك والإحساس المتبادل بين الجسدين كما تقول له.
ما الذي يشد طارق المصور إلى نهلة؟
نموذج نهلة المتمردة على التقاليد حقا لكنها الحريصة على عدم خيانة الذات، يهزم نموذج "خالد" الذي يبحث عن لحظة "التجلي" الفني من خلال صور ربما لا يشعر تماما بها أو يريد أن يبعدها عنه طوال الوقت، و"لذة" عابرة لا يريد أن يفوت أي فرصة للحصول عليها.
أخيرا تأتي لحظة التوافق بعد أن يقتنع طارق بأنه يحب نهلة، وبعد أن تعود نهلة إليه، لتجده مع هند التي أصبحت بمثابة "ابنته" كما يقول. ولكن هذه اللحظة تأتي وهو يواجه أخيرا مشهد سقوط بغداد على شاشة التليفزيون، وهو المشهد الذي يريد أحمد رشوان أن يجسد من خلاله الشرخ الكبير الذي يعانيه هذا الجيل من الشباب الذي لم يعد شبابا.
هناك تحريك جيد للممثلين، وتصوير جيد لشخصيات متباينة تتجادل وتختلف وتتصارع، لكنه الصراع داخل الوحدة، صراع الأصدقاء الذي يجمعهم رغم تباينه، هم واحد. البعض يضل الطريق، والبعض الآخر يتخلى عن الصحبة لكي يحقق شيئا لنفسه، لكن لحظة وفاة "حمادة" تجمعهم معا.. ويصبح مشهد الجنازة نقيضا كاملا لمشهد اجتماعهم معا في ليلة صاخبة.
رشوان يقدم كل شخصيات فيلمه بحب كبير، فهو لا يدين أحدا، بل ولا يرغب حتى في تقديم تحليل اجتماعي ونفسي للدوافع والظروف والمبررات، بل يكتفي باقتناص الشخصيات من حيث وجدت نفسها أخيرا.. ويضعها في مواجهة نفسها، ومواجهة ما يقع على الصعيد العام.

ورغم توفيقه الكبير في العثور على مجموعة من الممثلين الذين أدوا أدوارهم بحب وحماس كبير للتجربة، ونجاحه في اقتناص الكثير من اللقطات المعبرة بمساعدة مصور موهوب، إلا أنه لم يوفق في فكرة المقابلة بين الأزمة الشخصية لبطله ومشهد سقوط بغداد أو بين حالة "العصاب" الفردي الذي يسيطر على شخصياته، والعصاب العام السياسي في المنطقة، فقد كان هذا التصوير يقتضي مدخلا دراميا شديد الاختلاف.
ولعل البعد السياسي في فيلم رشوان لهذا السبب، هو الأضعف والأقل أهمية. ولعل اختياره مشهد سقوط تمثال صدام حسين تحديدا رمزا لهذا السقوط وتصوير تأثيره على بطله لم يكن موفقا، وفيه هبط أداء باسم سمرة إلى أدنى مستوى له في الفيلم.
كان من الأفضل، في تصوري، أن يكتفي المخرج- المؤلف بالإطار الاجتماعي الذي يغلف حياة شخصيات فيلمه في مصر دون إحالة إلى موضوع العراق كمصدر للتمزق، خصوصا وأن ابطاله بطبيعة الحياة التي يعيشونها، حتى مع قبول أن بطله يقوم بتصوير المظاهرات المناهضة للحرب، بعيدين منطقيا ودراميا، عن التفاعل المباشر مع سقوط بغداد ومع موضوع العراق بشكل عام.
لكن يبدو أن هذه الفكرة تحديدا هي التي راقت للطرف الإنتاجي الذي تكفل تحويل الفيلم من شريط مصور بكاميرا الديجيتال إلى شريط سينمائي.
ولاشك أن أحمد رشوان الذي أخرج عددا من الأفلام القصيرة والتسجيلية الجيدة للسينما والتليفزيون، سيتمكن من الاستفادة من هذه التجربة، وتجاوز أي أخطاء في تجربته القادمة التي نتطلع إليها.

عن موقع بي بي سي العربي

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger