الأربعاء، 26 نوفمبر 2008

شخصيات وأحداث في مهرجان القاهرة السينمائي

درويش البرجاوي

المهرجان هو الناس والسينما والأفلام واللقاءات العديدة والحياة حولنا كما تسير وتمضي في إيقاع متجدد يوميا. واللهاث على الأفلام لم يعد لحسن الحظ قائما كما كان في الماضي، فالتشبع بالأفلام طوال العام يجعل المرء يعرف جيدا هدفه: الأفلام العربية والمصرية الجديدة أساسا التي لم أشاهدها، والتي يمكن أن توفر مادة نقدية جيدة وتثير حولها نقاشا طيلة أيام المهرجان.
كل الناس يبدو أنهم هنا فيما عدا قلة قليلة ممن اعتادوا على التواجد والذين يبدو أن المهرجان خذلهم أو أنهم انسحبوا من "المولد" بعد أن كثرت مهرجانات السينما في المنطقة وأصابت "البعض" بالتخمة، سواء التخمة الحرفية أي امتلاء المعدة باللحوم والطيور، أو التخمة من الأفلام الرديئة التي يمكن أن يسبب بعضها أيضا، نوعا من التلبك المعوي الحاد وقد يستدعي علاجا فوريا عاجلا!
من أكثر ما أدخل السعادة على نفسي على الصعيد الشخصي أن ألتقي الصحفي اللبناني والصديق الحقيقي الطيب القلب درويش البرجاوي الذي لم أقابله منذ سنوات طويلة، وكنت دائما ما ألتقيه في مهرجانات السينما العربية. وقد سبق أن نشرت صورته ضمن مجموعة من النقاد والصحفيين، وتساءلت في معرض تعليقي على صورته: ترى أين هو الآن وماذا يفعل!
ظهر درويش وقد ملأ الشيب رأسه، وقال لي إنه ابتعد عن المهرجانات بعد أن انكب على حياته الخاصة، وربما أيضا بعد وفاة زوجته منذ خمس سنوات، وروى لي قصة وفاتها سعيدة راضية عن حياتها وعما أنجبته من أبناء يفخر بهم درويش الذي اختار الاستقرار في مصر منذ نحو عشرين عاما.
تذكرنا أيام أن كنا نلتقي في مهرجان قرطاج، وكان درويش شعلة من النشاط، وإن كان لايزال يعمل لصحيفة القبس الكويتية في مكتبها الكبير بالقاهرة.
أما ما يضايق درويش كثيرا ويعذبه أيضا فكرة أنه لم يهتم كثيرا بترتيب وتبويب أرشيفه الشخصي، وقال لي إن لديه 13 ألف صورة فوتوغرافية من المهرجانات التي حضرها لكل النجوم والصحفيين والنقاد والبشر، لكنه لا يستطيع مثلا نشرها في كتاب أو أكثر لأنه لا يعرف على وجه اليقين تواريخ تلك المهرجانات وفي أي من دواتها التقطت الصور.
* التقيت أيضا بصديقنا القديم الصحفي والناقد السوري قصي صالح الدرويش الذي فقد الكثير من وزنه في محاولة للتغلب على مشاكله الصحية شفاه الله، وهو موجود يشاهد الأفلام ويتابع نشاط المهرجان بدأب، رغم أن مجلته "سينما" لم تعد تصدر لكن يبدو أنه يرتب لشئ جديد لم أتعرف عليه تماما بعد. قلت لقصي إنني كنت أبحث بالأمس فقط في أرشيفي المتكدس أكواما هائلة في منزلي بالقاهرة وعثرت بمحض المصادفة على مقال صاخب له منشور بجريدة الشرق الأوسط عام 1994، بعنوان "سقطات القراءة كيفما اتفق" يرد فيه ردا رادعا على ادعاءات صحفي من مدمني المزايدات على النقاد، ويكشف جهله ويسخر منه بل ويقول عنه إنه عرف في أوساط النقاد العرب بأنه يكتب كيفما اتفق، ويشاهد الأفلام كيفما اتفق، ولكن قصي لم يكن يعرف أنه يقرأ أيضا كيفما اتفق!
ضحكنا كثيرا طبعا وتذكرنا أيام مهرجان فينيسيا في أوائل التسعينيات عندما كانت تلك "النكتة" تكرر نفسها دائما أمامنا، فنضحك عليها وكأننا "نراها" للمرة الأولى!
* الصديق القديم الناقد الأردني ناجح حسن قال بسعادة كبيرة إنه يتابع هذه المدونة، مثل كل المذكورة أسماؤهم هنا، وإنه سعيد بما تحتويه. جلسنا معا ومع الصديق المهندس المعماري عبد الرحمن المنياوي جلسة طويلة في مقهى فندق شيراتون الجزيرة. اشتكى ناجح من عدم التنظيم في المهرجان، لكنه سعيد بالطبع من لقاء الأصدقاء. ناجح بالمناسبة ناقد يتابع ما يكتب في كل مكان بشكل جيد جدا منذ السبعينيات.


* شاهدنا أمس فيلم "حسيبة" لريمون بطرس (من سورية) ثم اليوم فيلمي "أيام الضجر" لعبد اللطيف عبد الحميد من سورية أيضا، و"بصرة" لأحمد رشوان من مصر وهو فيلمه الروائي الأول، ودار حوار طويل حول الفيلمين مع الصديقين الناقد حسين بيومي وأستاذ النقد السينمائي في أكاديمية الفنون الصديق ناجي فوزي. وناقشنا بصراحة كيف يمكن دفع وتطوير السينمائيين دون أن نغفل عن تناول أعمالهم بصراحة وجرأة وذكر حقيقي لنواحي النقص كنا نراها ولكن من دون أي رغبة في التدمير. كان هذا الشعور المؤرق كما رصده حسين بيومي بذكائه المعتاد، يعكس هما حقيقيا في الموازمة بين قيام الناقد بدوره الحقيقي دون إغفال أن من ضمن وظيفته أيضا تطوير السينما، أي تشجيع الجوانب الجيدة في التجارب السينمائية الأولى دون التنازل عن المعايير النقدية الصارمة.
* الصديق القديم التاريخي المخرج وأستاذ الإخراج بمعهد القاهرة للسينما محمد كامل القليوبي جاء لمشاهدة فيلم "أيام الضجر"، ودعوته للتوجه معي إلى قاعة العرض لكنه فاجأني بالقول إنه ليس لديه بطاقة للدخول. دهشت من الأمر وتبينت أنه رغم كونه عضوا في اللجنة العليا للمهرجان التي يرأسها وزير الثقافة لم تصدر له بطاقة لدخول القاعات، والأغلب أنه لم يهتم باستخراجها أساسا، وكان يتعين علي الاستعانة بالصديقين وليد سيف وعصام زكريا لإقناع المشرفين على الدخول بالسماح للقليوبي بالدخول دون إحراج وتم الأمر بهدوء وتفهم!
القليوبي قال لي إنه تابع باهتمام ما نشرته في هذه المدونة عن تجربتنا القديمة في جماعة السينما الثالثة، وحسين بيومي متحمس كثيرا لترجمة كتاب جدليات السينما الثالثة الذي سبق أن كتبت عرضا له واقترح أنت اقوم أنا بترجمته وتقديمه.
* عصام زكريا قال لي إنه يقدم برنامجا عن السينما في قناة تليفزيونية جديدة وطلب إجراء مقابلة تليفزيونية معي عن رأيي في مهرجان القاهرة بحرية تامة وبدون اي تحفظات، وقد كان، فقد قمت بالواجب وأكثر قليلا كما أتمنى!
* الصحفي المخضرم عبد النور خليل يجلس في مقهى المجلس الأعلى للثقافة في الأوبرا كالعادة ويجمع حوله الكثيرين من الصحفيين لكننا لا نشاهده في قاعات العرض.. هو حر طبعا.. قابلني اليوم وعاتبني قائلا: أنت تركتنا أمس لتذهب إلى فيلم حسيبة السوري، فقلت مداعبا إنه يمكن أحيانا مشاهدة الأفلام في المهرجانات.. أليس كذلك!
* صديقنا النشيط جدا الناقد والكاتب الصحفي محمود قاسم أصدر طبعة جديدة منقحة ومزيدة من موسوعة السينما العربية، وقال إنه يريدني أن أكتب عنها فداعبته قائلا: والله اترك لي نسخة وسأرى.. فرد قائلا: عليك أن تشتريها بمائة جنيه فقد أصدرتها على نفقتي بعد أن تقاعست الوزارة عن إصدارها، فقلت مداعبا أيضا: ماذا لو اشتريناها من دون أن نكتب عنها!

الثلاثاء، 25 نوفمبر 2008

بيان ضد الرقابة


البيان التالي وصلني من الصديق الناقد التونسي خميس الخياطي وأدعو السينمائيين والنقاد العرب وكل المثقفين الشرفاء إلى إضافة توقيعاتهم عليه عن طريق ارسال رسالة بالبريد الاليكتروني على العنوان التالي amarcord222@gmail.com((حلّ السينمائي التونسي جيلاني السعدي ضيفاً على بيروت، ليقدّم فيلمه «عرس الذيب» في اطار «أيّام بيروت السينمائيّة». ولشدّ ما كانت دهشته كبيرة حين علم، يوم العرض، أن نسخة الفيلم لم تخرج من «دائرة الرقابة» في الأمن العام اللبناني. بعد ذلك أطلق سراح النسخة، كما هو معروف، لكن السعدي كان قد عاد إلى تونس حيث تنتظره التزاماته ومهامه التعليميّة. لم يخضع الفيلم للرقابة إذاً، بل «صودر» أيّاما ً، من دون أي مبرر.ليس هدفنا هنا أن نكتفي بادانة هذا التمادي العشوائي في ممارسة السلطة، بل الدعوة إلى اعادة النظر بسلطة الرقابة نفسها. إننا نعيش في زمن الاقمار الصناعيّة وتقنيات التواصل الحديثة، ومجتمعنا، بكل مكوّناته، يجد في متناوله اليوم كل البرامج والأعمال الابداعيّة، من دون أيّة رقابة. فإلى متى يستمرّ هذا التعاطي الأبوي مع المجتمع، كأنّه قاصر عن تكوين نظرته النقدية الخاصة إلى الانتاج الثقافي، وعاجز عن التمييز والاختيار. هل تنظر الدولة إلى المواطنين بصفتهم قاصرين، كي يخضع الانتاج الثقافي والابداعي إلى وصاية الأمن العام؟ إذا كان لا بدّ من وجود هيئة رقابيّة ما، فلتكن بعيداً عن ضبّاط الأمن والعسكر، هيئة مدنيّة تتولّى تصنيف الاعمال الابداعيّة عند الضرورة، لا اجتثاثها أو منعها بحجة أنها تثير النعرات الطائفية وتهدد السلم الأهلي ! ليست الأعمال الفنية هي التي تؤجج الفتنة وتعمل على استمرارها، بل خطابات السياسيين والتعبئة الأعلامية والقوانين الأنتخابية والأحوال الشخصية... إن الفن هو الإستقرار الأهلي والثقافة هي المختبر الذي نفحص فيه ذاكرتنا الجماعية، المخدرة، المضللة، الممنوعة.إن مجتمعنا الغني والمتنوّع لا يمكنه أن يحقّق ارتقاءه في ظل المنع. اللهمّ إلا إذا كانت السلطة تعتبر تفتح المجتمع وازدهاره من المخاطر التي تتهدّد السلامة العامة. نحن لا نطالب بالكثير. ولكنننا نعتقد ان الوقت قد حان لاعادة التفكير في موضوع الرقابة ولفتح النقاش بين أهل المهنة السينمائية والمهتمين بها من جهة وبين الرقباء ومشرعي قوانين الرقابة من جهة ثانية لوضع حد للممارسات الرقابية الخاطئة والتعسفية وتقويم دورها اذا كان لا بد من أن يكون لها دور)).الموقعون:

أرزة خضراسد فولداكار (مخرج)أكرم زعتري (مخرج)اميل سليلاتي (مخرج)إميل شاهين (أستاذ جامعي في مادة السينما)اميل عواد (موسيقي)أنّا سميث (فنانة)إيمانويل بوتمانايمي بولس (رئيسة مؤسسة سينما لبنان)باسم بريش (مخرج)باسم فياض (مدير تصوير)باميله غنيمة (مخرجة)برهان علوية (مخرج)برونو اولمر (مخرج فرنسي)برونو طبال (مخرج)بشرى شاهين (الاتحاد الاوروبي)بهيج حجيج (مخرج)بيار ابي صعب (صحفي)بيار صراف (منتج)تينا الجميلجاد ابي خليل (مخرج)جاهدة وهبة (فنانة)جنى وهبة (مديرة إنتاج)جو بو عيد (مخرج)جوانا حاجي توما (مخرجة)جورج شقير (منتج)جولان عبد الخالقجوني الهبرجيم كويلتي (صحفي)حسام شبارو (مصور)حسام مشيمش (مصور)حسان الشوباصي (مخرج)حسين شميسانيحنان الحج علي (ممثلة)حنان الديراني (ممثلة)خالد مزنر (مؤلف موسيقي)خليل جريج (مخرج)خميس الخياطي (صحفي. تونس)ديالا قشم (ممثلة)ديما الجندي (منتجة)ديما شريف (صحفية)ديمتري خضر (مخرج / منتج)راغدة سكاف (مخرجة)رامي نيحاوي (مخرج)رانيا ماجد (منتجة)رانية اسطفان (مخرجة)ربيع الخوريربيع الشامي (منتج)ربيع مروة (ممتل / مخرج مسرحي)رشا سالطيرشاد طه (مخرج مسرحي)رشاد عربيرهام عاصي (مخرجة)رواد ضو (مخرج)روجيه غانم (فنان)روي سماحةريتا حايكريما ابراهيم (صحافة)ريما المسمار (صحفية)ريما خشيش (فنانة)زينا دكاشزيناردي حبيس (مخرج)زينة صفير (مخرجة)سابين شقير (ممثلة)سارة حاتم (ممثلة)ساري تادروسساسين كوزليساندي ناصيفسحر مندور (صحفية)سعاد عبدالله (باحثة)سليمان زرينسنتيا شقير (مخرجة)سندريلا ابي جرجسسيريل بسيل (مخرج)سيمون الهبر (مخرج)شادي روكز (فنان)شمعون ضاهرصوفيا عمارة (صحفية)طارق سعدطوني العيلية (موسيقي)طوني شكرعايدة صبرا (ممثلة)عبلة خوري (ممثلة)عدنان الامينعصام بو خالد (ممثل)علي شريعمار البيك (مخرج سوري)غريتا نوفل (فنانة تشكيلية)غسان سلهب (مخرج)فؤاد عليوان (مخرج)فادي أبو غليومفاليري نعمة (صحفية)فيروز سرحال (مخرجة)كاتيا جرجورة (مخرجة)كارلوس شاهين (مخرج)كارول عبودكارولين داغركارين غوش (منتجة)كايت سيلين (منتجة)كريستوف أونوديبيو (صحفي فرنسي)كريم صالح (ممثل)ليلى عساف (مخرجة)ليلى نحاسماريلين غصنماشا رفقاماهر ابي سمرا (مخرج)مايا الشاميمحمود حجيج (مخرج)مريان قطرا (منتجة)مصطفى يموتمنى سركيسميا بسولميرا الكوسا (مخرجة / منتجة)ميراس صادقميساء الحسينيميشال الرياشيناتاشا انطونلو الاشقر (ممثلة)نادين غرزالدين (منتجة)نادين لبكي (مخرجة)نجا الاشقرنديم اصفر (مصور)نديم جرجورة (صحفي)نرمين حداد (مخرجة)نصري حجاج (كاتب / مخرج)نصري صايغ (صحفي)نقولا معوض (ممثل)نيلغون غوكسيل (محلل مالي)هالة العبد الله (مخرجة سورية)هانية مروة (مديرة مهرجان أيام بيروت السينمائية)وائل الديب (مخرج)وسام سميرة (مخرج)اليان الراهب (مخرجة)اليسار غزال (مخرجة)أمير العمري (ناقد وكاتب)محمد خان (مخرج سينمائي)ابراهيم البطوط (مخرج سينمائي)حسين بيومي (ناقد)رمضان سليم (ناقد سينمائي)هالة لطفي (مخرجة سينمائية)نادية كامل (مخرجة سينمائية)صلاح هاشم (ناقد سينمائي)عمرو أسعد (استشاري تنمية بشرية)كمال بيومي (مهندس)محمود الغيطاني (ناقد سينمائي)ضياء حسني (ناقد سينمائي)محمد عبد الحكم دياب (صحفي)مصطفى المسناوي (ناقد سينمائي)عرب لطفي (مخرجة سينمائية)أحمد راشوان (مخرج سينمائي)بكر الشرقاوي (كاتب)سلوى بكر (كاتبة قصة)

الأحد، 23 نوفمبر 2008

المغزى الثقافي لموجة الحرائق في مصر




مصر تبدو وكأنها بأسرها تحترق تدريجيا، أو في طريقها إلي الاحتراق. أنباء تقول إن مصر شهدت خلال السنوات الخمس الأخيرة 30 ألف حريق.
الحكومة تقول عادة إن الحريق سببه "ماس" كهربائي، والناس لا يصدقون تبريرات الحكومة. والحرائق تستمر وتستمر معها التكهنات والتفسيرات.
هناك من يقولون إن طبقة رجال الأعمال، من كبار "الحيتان"، تريد أن تهدم المباني التاريخية القديمة التي تحتل مواقع هامة في القاهرة لكي تقيم مكانها أسواقا متعددة الطوابق (ما يعرف بالمولات) أو أبراجا إدارية. وهناك قسم من المعارضة يعتبر الحرائق التي تلتهم ما يعتبرونه أماكن للهو، مثل المسارح، "غضبا من الله وعقابا".
وهناك من يخشون أن تكون الحكومة نفسها مسئولة عن الحرائق لتبرير استمرار قوانين الطوارئ والقوانين القادمة التي ستكون أسوأ من الطوارئ والعياذ بالله!
ولكن بعيدا عن كل التفسيرات التآمرية، و"البوليسية" التي تهتم بالتساؤل عمن يقف وراء الحرائق، ما هو المغزي "الثقافي" أو الفكري الأعمق لموجة الحرائق الأخيرة وما تكشف عنه؟
إن الحرق في الثقافة الإنسانية عموما، ومن قديم الأزل، هو معادل للتطهير، والتطهير يستوجب أساسا وجود دنس يجب التطهر منه. كان قضاة محاكم التفتيش يعاقبون المفكرين بالحرق بدعوي أنهم من أتباع الشيطان. ومسلسل الحرائق منذ بداية اهتزاز الدولة الحديثة في مصر بدأ بحريق الأوبرا القديمة.
فهل هناك مغزي أخلاقي خاص لحرق صرح ثقافي وتنويري وفكري مثل المسرح القومي ومركز الإطفاء علي بعد خطوات منه تماما مثل الأوبرا القديمة؟!هل يمثل المسرح دنسا من نوع ما؟ أو رمزا من رموز الإثم والخطيئة في الثقافة الخرافية الجديدة السائدة في المجتمع؟ وهل كان احتراق مسرح الثقافة الجماهيرية في مدينة بني سويف واحتراق 32 مسرحيا ومثقفا داخله عملا آخر من أعمال "التطهير"؟
وإذا كان المسرح رمزا للوعي، فلعل محكمة الجيزة الابتدائية رمز لفكرة العدالة "الغائبة" ربما.. ولذا استوجب الأمر حرقها أيضا.
أما مبنيا مجلسي الشعب والشوري، فبغض النظر عما آل إليه المجلسان في الزمن الحالي، فقد كانا تاريخيا (مجلس النواب ومجلس الشيوخ) رمزا لإرادة الشعب في مواجهة الحاكم. فهل كان المطلوب أيضا القضاء علي هذا الرمز (العلماني، الوضعي، الوافد من النظم الحديثة)؟
كان حريق البرلمان الألماني (الريشستاغ) في بدايات صعود النازية في ألمانيا في ثلاثينيات القرن الماضي عملا تخريبيا مقصودا لإرهاب الشعب باستخدام فكرة الحرق. وكان مبررا لقيام هتلر بحل الأحزاب والانفراد بالسلطة.
وكان حريق القاهرة عملا أدي إلي إسقاط حكومة الوفد الشعبية وإنهاء للمقاومة الشعبية في القناة، وعودة حكومات الأقلية والقصر، أي أنه استخدم أساسا في التخويف، من الحريات ومن الديمقراطية، تماما كما حدث في ألمانيا.
يبدو أن مسلسل الحرائق يواكب (ولا نقول إنه ناتج عن) ثقافة ترفض وتناهض التراث وتزدريه، وتريد إلغاءه، وتعتبر بناء ناطحة سحاب أهم مائة مرة من الحفاظ علي الآثار والكنوز المعمارية القائمة في القاهرة مثل مبنيي مجلسي الشعب والشوري أو المسرح القومي أو محكمة الجيزة الابتدائية.
هناك أيضا من يبرر الحرق باسم التكنولوجيا، مثل ذلك المنتج والموزع السينمائي الذي قال، وقوله مسجل بالصوت والصورة، إنه لا يعير وزنا لما يسمي بتراث السينما المصرية من النيجاتيف الأصلي للأفلام القديمة، بعد اختراع التكنولوجيا الرقمية (الديجيتال)، وإنه لا يمانع في إشعال النار في النيجاتيف المتبقي لأنه لم تعد له قيمة!
إن الرموز الكامنة التي تكشف عنها موجة الحرائق الأخيرة تتلخص في التقابلات التالية:
* ثقافة المول والأبراج المصنوعة من الحديد والزجاج في مواجهة العمارة الكلاسيكية القديمة.

* العمارة الوظيفية أي تلك التي تؤدي وظيفة تجارية مباشرة تجلب المال، أهم من العمارة الجمالية التي تختزن التاريخ فالتاريخ "قيمة وهمية".

* الحريق أداة للتطهير في مواجة رموز التدهور والحداثة الغربية والديمقراطية والثقافة المعاصرة: المسرح، السينما، البرلمان، وغدا كما يحذر البعض قد يطال الحرق القلعة والمتحف المصري ومكتبة الاسكندرية وغير ذلك.

* الحرق أمر يذكر، ولو علي صعيد رمزي، بنار جهنم التي يعاقب بها الذين انصرفوا عن الله وغرقوا في المعصية.

* الحرق أيضا غامض، مجهول، يسهل إرجاعه إلي تماس في الأسلاك الكهربائية، لا نري فيه يدا مباشرة واضحة المعالم، ولا يبقي وراءه الكثير من الدلائل، فهو شئ أقرب إلي "القدر" الذي لا يملك المرء منه فكاكا. وهو أمر ينصهر تماما في ثقافة "قدرية" سائدة تحيل الغامض من الأمور أحيانا إلي الجان والشياطين. هل نسينا أحدهم وهو يقسم ويؤكد لنا أن النار التي كانت تندلع فجأة من داخل "دولاب" في حجرة النوم، وبعد ان انتقل وأسرته من الشقة بأسرها ظلت تلاحقه من داخل الدولاب أيضا في الشقة الجديدة!

وأخيرا ألا يدعو تركز الحرائق علي رموز الوعي والتراث والتاريخ والحرية الفكرية إلي التفكير في سبب جدي بعيد عن ذلك "الماس" الكهربائي الغامض الذي ينتشر من مصنع إلي آخر، ومن مبني إلي مبني، دون أن يمس في أي مرحلة حتي الآن، مبان معينة ذات مفهوم محدد في عمق الشعور المصري، اللهم ابعده عنها!

23 نوفمبر 2008

الجمعة، 21 نوفمبر 2008

تحفة شون بن "في البرية" في مهرجان القاهرة



لاشك أن فيلم "في البرية" Into The Wild جاء عند ظهوره في 2007 مفاجأة سارة لكل عشاق السينما في العالم، وعملا سيبقى طويلا في الذاكرة.
مفاجأة لأنه يأتي من شون بن Sean Penn الممثل والكاتب والمخرج الذي عُرف بمواقفه النقدية للإدارة الأمريكية، والذي قال في مقابلة حية مع لاري كنج (نجم محطة سي إن إن) إن الرئيس جورج بوش "يدمر ديمقراطيتنا... ويأتي بالفاشية إلى بلادنا"، وأنه " أصاب بلادنا والإنسانية بأضرار بالغة ".
هذا الموقف السياسي ربما يدفع إلى الاعتقاد بأن الفيلم الجديد "الرابع" الذي يخرجه شون بن، قد يكون فيلما سياسيا يمتلئ بالعبارات الكبيرة، وبالهجاء السياسي المباشر.
لكن شون بن فاجأنا حقا بأن قدم لنا واحدا من أكثر الأفلام شاعرية ورقة وعذوبة، وأثبت أنه ليس فقط فنانا مفكرا صاحب موقف، بل وأيضا سينمائي يمتلك "رؤية" فنية ونظرة فلسفية للحياة، وفضلا عن هذا كله، شاعر سينما يمتلك مقدرة عالية على التأمل والتعبير.
إن شون بن يستخدم الكاميرا كما يستخدم الرسام الريشة والألوان، ويتعامل مع نبضات الحياة بلغة الشعر المرئي، الذي يتكون من صور تولد الأحاسيس وتفجر المشاعر، مهما بدت متناقضة مع الواقع والحقيقة.

التعبير الذاتي
في الوقت نفسه يمكن القول إن فيلم "في البرية" أحد أكثر الأفلام تعبيرا عن الذات في السينما الأمريكية منذ زمن طويل.
إنه أكثر قربا بالتأكيد من أفلام مشابهة ظهرت في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، في زمن التمرد والقلق والرفض والهروب إلى الموسيقى والطبيعة والرقص والشعر الغاضب.
إلا أن شون بن يعبر فيه أيضا عن رفضه للمؤسسة الاجتماعية الأمريكية القائمة، وقيم الطبقة الوسطى السائدة، ويظهر بوضوح تعاطفه مع بطله المعذب الذي ينشد التحرر والسعادة بعيدا عن المجتمع بقيوده وتقاليده وجموده وقوالبه.
الطبيعة تلعب دورا اساسيا إلى جانب البطل في هذا الفيلم.
الفيلم مأخوذ عن كتاب بالعنوان نفسه من تأليف جون كراكاور، يروي فيه قصة حقيقية هي قصة شاب يدعى كريستوفر ماكندليس ينتمي لأسرة ثرية من علية القوم، تخرج من الجامعة بتفوق، لكنه يقرر أن يهجر كل شئ: الوظيفة المرموقة المنتظرة والأسرة والبيت والمجتمع والسيارة الجديدة الفارهة، ويهرب إلى الطبيعة، في رحلة فردية أوديسية تنتهي نهاية تراجيدية محتمة.
إنه يتبرع بمدخراته (24 ألف دولار لمؤسسة أوكسفام الخيرية)، ويحرق أوراق هويته وبطاقاته الخاصة، ويتخذ لنفسه اسما جديدا ساخرا هو "ألكسندر الصعلوك الكبير"، ويخوض مغامرته حتى النهاية، بروح ملؤها الأمل والرغبة في التحرر، قاطعا كل صلة له بأسرته وماضيه وعالمه.

رواية الأحداث
يتكون الفيلم من 5 فصول تحمل عناوين محددة بسيطة هي "مولدي" و"المراهقة" والبلوغ"، و"الأسرة"، "التخلي عن الحكمة"، ويستخدم المخرج الذي كتب بنفسه السيناريو، أسلوب رواية الأحداث من خلال التعليق الصوتي، تارة من وجهة نظر شقيقة البطل، وتارة أخرى من وجهة نظر البطل نفسه وهو يسجل مذكراته.
بطلنا الراغب في الهرب من المجتمع الاستهلاكي بقيمه الاجتماعية الزائفة يبدو مدفوعا إلى مغامرة أقرب إلى الحلم، بقوة رفض لعالمه المصنوع: والداه يتشاجران طيلة الوقت ويختلفان حول أسلوب تنشئته، يريدان تحديد مستقبله حسب المقاييس الاجتماعية للنجاح.
إلا أنه لا يبدو فقط مدفوعا بالنظر إلى الوراء في غضب، بل بالرغبة في قهر الطبيعة وتطويعها، وتحدي نفسه وإثبات أنه يستطيع تحقيق ما يصبو إليه، مهما كانت المخاطر الكامنة وهي كثيرة.
إنه يطوي الطرق ويقطع أرجاء الولايات المتحدة من أقصى الجنوب، من المكسيك، إلى الشمال، مرورا بنهر كولورادو الذي يصر على أن يقطعه على أداة خشبية للتزلج على الماء ومجداف، ثم يمر بمزارع ولاية داكوتا الجنوبية، ثم كاليفورنيا، هدفه الوصول إلى قمة أعلى جبال آلاسكا الجليدية.

نماذج بشرية
وخلال تلك الرحلة الأوديسية، يلتقي "كريس" بشخصيات ونماذج بشرية، يتعلم منها الكثير، عن الحياة، وعن الحكمة، والسعادة، ويبدو وكأنه يخرج من الطفولة إلى النضج.
القطيعة الكاملة مع المجتمع هي السمة المميزة لرحلة البطل
إنه يلتقي أولا بثنائي: رجل وامرأة، يعيشان حياة منطلقة تشبه حياة الهيبيز، في البرية، المرأة تجد فيه ما تفتقده في رفيق حياتها، الدفء والحوار، فتتخذه ابنا، تحاول أن تنصحه بتغليب العقل على العاطفة، وتمنحه دروسا في كيفية تحرير الروح دون فقدان الصلة بالأرض.
ويلتقي بعد ذلك بمزارع يشركه معه في حصد القمح، لكن الشرطة تقبض عليه فجأة بسبب جريمة سرقة ارتكبها في مكان آخر في الماضي، وكأن بطلنا يلتقي دوما بأب بديل أو أم بديلة.
ويتجه كريس غربا، عبر النهر والتسلل داخل قطار. ويلتقي في مخيم للغجر بمغنية حسناء، يشترك معها في الغناء، وتحاول هي أن تمنحه جسدها لكنه يعتذر ببساطة.
إنه يرفض الإغراء، ربما يريد أن يثبت لنفسه، أنه يستطيع أن يستغني عن "الآخر"، لا يود أن يترك شيئا يمنعه او يعطله عن تحقيق هدفه الوحيد: التوحد مع الطبيعة.

طبيعة الروح
وفي طريقه إلى آلاسكا، في الأحراش، يعثر على حافلة مهجورة، يتخذها بيتا له، وهناك يتعرف على رجل طاعن في السن، ذي ماض خشن، لم ينجب، يقرر على نحو ما، أن يتبنى كريس، يفهم طموحه وحلمه، يشترك معه في اكتشافاته، يحذره من عواقب تحدي الطبيعة، ويعطيه درسا في معرفة البشر "الفرق الحقيقي بين الناس يكمن في طبيعة الروح عندهم".

إن كريس هو النقيض الكامل لهذا الرجل، لكن هناك شيئا يوحد بينهما. ربما حاجة كريس في النهاية إلى أب يحتضنه ويعطيه ما عجز أبوه عن منحه إياه. يحاول الرجل أيضا أن يقنعه بضرورة العودة، الاتصال بأسرته، وهو ما يشرع كريس في القيام به بالفعل، لكنه يرغب أولا في الوصول إلى مبتغاه.
وقبل رحلته الأخيرة إلى قمة جبال آلاسكا، يصاب بنوبات من الإسهال والقيئ بسبب تناوله نباتات سامة، بعد أن عجز عن العثور على شئ يأكله، ويكون مصيره في النهاية أن يموت جوعا في مكانه داخل الحافلة المهجورة.
وكأن الفيلم يقول إن تحدي الطبيعة له حدوده وقوانينه، ولا ينبغي أن يترك الإنسان نفسه هكذا وسط الطبيعة قبل أن يتسلح بأسلحة كافية لمواجهتها.
في الولايات المتحدة، أحدث اكتشاف جثة كريس في أحراش آلاسكا، صدمة، وانقساما في الآراء، فهناك من اعتبر مغامرته نوعا من الحماقة، وهناك بين الشباب، من اعتبره، ولايزال، بطلا فذا ملهما.
السمة الواضحة في فيلم شون بن، أنه ينظر إلى بطله بتعاطف وحب وفهم، ويتعامل معه باعتباره متمردا على المجتمع، يسعى إلى لحظة استنارة خاصة يتحرر فيها ويحرر روحه.

أدوات المخرج
تقع أحداث الفيلم في أوائل التسعينيات، ويعتمد البناء في الفيلم على مشاهد العودة إلى الماضي (فلاش باك)، أي الانتقال بين الأزمنة والأماكن، ويمتلئ الفيلم باقتباسات أدبية من مشاهير الكتاب الذين كانوا مغرمين بالعودة إلى الطبيعة مثل جاك لندن، ويستخدم المخرج أحيانا أسلوب تقسيم الكادر السينمائي إلى أكثر من صورة.
غير أن أبرز أدوات شون بن التي يستخدمها إلى أقصى درجة في إخراجه للفيلم ومنحه مذاقه الخاص المتميز هي التصوير والموسيقى والأداء التمثيلي.
وهو يستخدم هذه الأدوات بحيث يضفي على الفيلم لمسة شاعرية، ويعبر ببلاغة عن العلاقة بين الإنسان والطبيعة.
هناك لقطات خلابة لكل تفاصيل الطبيعة: عند الشروق والغروب وفي الليل. ويساعد تدرج التصوير في مواقع مختلفة في اكتشاف سحر الطبيعة خارج المدن الأمريكية.
ولاشك أن خبرة المصور الفرنسي الموهوب إريك جوتييه، أضافت الكثير من الرونق والسحر والجمال على الصورة العامة للفيلم. هنا نحن أمام قصيدة شفافة بلغة الصورة، يلعب فيها ترتيب اللقطات وتوليفها معا دورا كبيرا في وصول شحنة المشاعر التي قصد توصيلها إلينا عبر البطل المدفوع بفكرة شديدة الرومانسية عن التوحد مع الطبيعة.
وتلعب المؤثرات الخاصة دورا بارزا في الفيلم، خاصة في تنفيذ المشهد الذي نرى فيه كريس داخل السيارة وهو يتعرض لطوفان من الماء المتدفق يضرب السيارة ويقذف بها لتصطدم بشجرة، قبل أن ينحسر.
ويستخدم المخرج الموسيقى التي كتبها مايكل بروك، وأغاني إيدي فيدر التي تشيع فيها روح التمرد التي سادت في أغاني السبعينيات، ويمزجها بالفيلم كمعلق على الأحداث، أو كغلاف روحي لمشاهد الفيلم ولقطاته وكأداة فنية خلابة لفهم الطبيعة.
ويؤدي الممثل إميل هيرش دور كريس، مضفيا على الشخصية ملامح الاقتحام والتحدي والرغبة في ولوج قلب العالم، مع الحلم والأمل بتحقيق المستحيل، ونظرة حزن خفي تنبئ بمصيره التراجيدي.
وقد بذل الممثل جهدا خارقا، وتعرض لمخاطر كبيرة أثناء تمثيل الفيلم، دون الاستعانة ببديل، في مشاهد التزلج على سطح نهر كلورادو، وغيرها من المشاهد الخطرة التي جعلته جزءا من مغامرة كريس.
إن "في البرية" فيلم مغامرة، لكنها ليست فقط مغامرة البطل الحقيقي الذي انتهت حياته قبل أن يصل إلى هدفه، بل مغامرة لشون بن المخرج نفسه، الذي يشق فيه طريقا يبتعد كثيرا عن المسار التقليدي للسينما الأمريكية، بقدر ما يقترب من السينما الأوروبية في إبداعاتها الشخصية المعبرة عن الرؤية الذاتية للعالم.
إنه يبدو قريب الشبه من روح أفلام أوروبية مثل "إلفيرا ماديجان" (1967 ) Elvira Madigan لبو فيدربرج السويدي، و"صرخة الصخر" (1991) Scream of Stone لفيرنر هيرتزوج الألماني.
وهو بهذا المعنى، مغامرة في السينما، تؤدي بالضرورة إلى مغامرة في المشاهدة (148 دقيقة)، ومغامرة في النقد، لأنه سباحة عكس التيار السائد في السينما، وفي الحياة. ولعل هذا هو أساسا، سبب سحره الخاص.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger