الجمعة، 24 أكتوبر 2008

لا جديد في فيلم أوليفر ستون الجديد



شهد مهرجان لندن السينمائي العرض الأول لفيلم "دبليو W" للمخرج الأمريكي الشهير أوليفر ستون خارج الولايات المتحدة تمهيدا لتوزيعه في الأسواق العالمية.
وأوليفر ستون معروف بمواقفه السياسية المتأرجحة، فقد بدأ حياته مؤيدا متشددا لليمين الأمريكي ولفكرة تطهير المجتمع بالعنف (يمكن مثلا مراجعة فيلم "عام التنين" لمايكل شيمينو الذي كتب له السيناريو) إلى أن فاجانا عام 1973 بفيلمه القوي "السلفادور" الذي يتجه بقوة ناحية اليسار ويدين السياسة الأمريكية في أمريكا الوسطى، ويوجه انتقادات حادة للادارة الامريكية ويتهمها بدعم الديكتاتوريات.
وقبل عامين قدم ستون فيلمه الخاص أو "رؤيته" المثيرة للجدل حول ما وقع في 11 سبتمبر في فيلم "مركز التجارة العالمي"، من زاوية للرؤية اعتبرت أولا غير كافية، لأنها كانت تحصر الحدث في حدود "الوطنية الأمريكية"، وهو ما انتهى ثانيا إلى تصريحات ستون الصادمة في مهرجان فينيسيا 2006 بأنه "يتفهم لجوء أمريكا لاستخدام القوة في أفغانستان، ويرى أنه أمر مبرر لأن الأمريكيين كانوا يطالبون بالانتقام. وكان لابد من الانتقام لما حدث في 11 سبتمبر".
واليوم يعود ستون فيتقلب مرة أخرى ناحية اليسار ليقدم رؤية لا تضيف أي جديد للرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش الذي يقضي أيامه الأخيرة في البيت الأبيض.
رؤية ستون لبوش رؤية ساخرة، قدمته كشخص يعاني من الاحساس بالدونية وسط عائلته، كان مدمنا للخمر قبل أن يتحول إلى الإيمان المسيحي ويتخيل نفسه صاحب رسالة، كما يصور علاقته التي يزعم الفيلم أنها كانت دائما متوترة، مع أمه ووالده الرئيس الأسبق جورج بوش الاب.
وينطلق الفيلم من الاجتماعات التي عقدها بوش في البيت البيض مع أعضاء حكومته وسبقت الحرب على العراق، ويعود في مشاهد من نوع الفلاش باك إلى الماضي، على فترة الدراسة الجامعية ويصور المشاكل التي واجهها جروج الإبن في الجامعة وادمانه على المخدرات وولعه الشديد بلعبة البيسبول، ويعقد قمارنات دائمة ومتكررة بين رغبة بوش الإبن في التمتع بالشعبية كلاغعب للبيسبول وحلمه الخاص في الصعود السياسي أولا كعضو كونجرس ثم كرئيس للبلاد.
ولا جديد في كل ما يقدمه ستون في فيلمه، فقد اصبحت تفاصيل قصة حياة بوش معروفة للجميع، وقد أكلت الصحافة الأمريكية عليها وشربت كثيرا، كما أن المشاهد المتخيلة التي يقدمها ستون لما يمكن ان يكون قد دار من مناوشات ومشاكسات داخل عائلة بوش، وتفضيل الأب والأم شقيق بوش الصغير عليه لاعتقادهما أنه الأفضل والأكثر قدرة على "تشريف الأسرة"، لا تضيف أي جديد ولا تبدو حتى "طريفة" او مسلية كما كان يامل ستون.
ويعاني الفيلم من فشل واضح في اختيار الممثلين ربما باستثناء الممثل الرئيسي جوش برولين، الذي لعب دور الرئيس بوش، في حين جاء أداء باقي الممثلين الذين يقومون بأدورا دونالد رامسفيلد وزير الدفاع وقت غزو العراق، وديك تشين نائب الرئيس، وكوندوليزا رايس مستشارة الأمن القومي، وكولين باول، باهتة ونسخا كاريكاتورية سطحية للشخصيات الرئيسية وبعيدة بشكل مثير للرثاء عن النسخ الأصلية في حين أن الهدف كان المحاكاة وليس تقمص الشخصية.
ولا يتوقع أن يحقق الفيلم أي نجاح يذكر بعد أن طرح في الأسواق قبيل الانتخابات الأمريكية القادمة (التي لا يشارك فيها بوش اصلا بسبب انتهاء فترتي ولايته) وانشغال الامريكيين بالمشاكل الاقتصادية.
الفيلم أساسا محاولة للسخرية من بوش وتصوير لعدم قدرته على اتخاذ القرارات، وعقدة والده، وتخبط قراراته خصوصا فيما يتعلق بالحرب على العراق. ويستخدم ستون مشاهد تسجيلية في الفيلم ويمزجها بالمشاهد الخيالية، كما يدخل الممثل الذي يؤدي الشخصية على بعض المشاهد التسجيلية الحقيقية ولكن دون نجاح وبطريقة مفتعلة لا تثير في المتفرج أي خيال كما لا تقدم أي جديد، بل يبدو الفيلم بأسره، خارج الزمن والتاريخ، فالاهتمام بحقبة بوش التي توشك على الغروب، تضاءل حاليا إلى حد التلاشي.

الخميس، 23 أكتوبر 2008

مهرجان قرطاج السينمائي الـ22

مع درة أبو شوشة في مهرجان فينيسيا الأخير


أرتبط بصداقة قديمة مع السيدة الفاضلة درة أبو شوشة مديرة مهرجان قرطاج السينمائي التي أعرفها منذ سنوات طويلة. وقد قبلت دعوة كريمة منها لحضور الدورة الثانية والعشرين من المهرجان الذي لم اشارك فيه منذ أكثر من عشر سنوات لأسباب مختلفة بعضها معلن.
ولمهرجان قرطاج عندي ذكرى خاصة، فقد كان أول مهرجان دولي على الإطلاق أشارك فيه. وكان هذا عام 1980. وكان الزمن غير الزمن، والعصر غير العصر، والناس غير الناس أيضا.
وهو أعرق المهرجانات التي تقام في العالم العربي، والمهرجان العربي الأول الذي قام على أسس واضحة: فكرية وجمالية، فقد ركز اهتمامه على السينما العربية والافريقية، وضرب عرض الحائط بشروط اتحاد المنتجين التي يفرضها على المهرجانات الدولية، فلم يهتم بعرض الأفلام الأمريكية التجارية، ولم يدخلها إلى مسابقته، كما لم يول اي اهتمام باستقدام نجوم هوليوود، والتقاتل مع غيره من أجل عيون نجم من الدرجة الثالثة في السينما الأمريكية. وبالتالي لم يحصل على الاعتراف الدولي، وفرضت عليه شركات هوليوود عبر اتحاد المنتجين، المقاطعة، فلم يبال أو يهتم، وقال لهم اشربوا من البحر، سنقيم مهرجانا له ملامحه الخاصة بنا وبثقافتنا، ولتذهبوا إلى الجحيم!
ومهرجان قرطاج السينمائي أو (أيام قرطاج السينمائية كما يطلق عليه منظموه) مهرجان أساسه الاهتمام بالثقافة السينمائية. وصحيح أن تونس لم تكن عند ولادة المهرجان قد عرفت الإنتاج السينمائي بشكل حقيقي، إلا أن ظهوره في 1966 كان محصلة حركة هائلة لنوادي السينما التونسية انتظمت في شبكة تغطي البلاد بطولها وعرضها، وكانت تضم أكثر من 35 ألف عضو، إلى جانب حركة فعالة لسينما الهواة. ومن هذه وتلك خرجت السينما التونسية بأفلامها التي نعرفها اليوم، وبنجومها في الإخراج.


المهرجان سيفتتح مساء السبت 25 أكتوبر بفيلم "هي فوضى" تحية إلى روح السينمائي الكبير الراحل يوسف شاهين، ويعرض 18 فيلما في مسابقته المخصصة للأفلام العربية والأفريقية. إلا أنه سيعرض أيضا عشرات الأفلام الأخرى في برامجه وأقسامه المختلفة ومن أهمها مسابقة لأفلام الفيديو أو الأفلام الطويلة المصورة بكاميرا الفيديو، ومسابقة للأفلام القصيرة وسيتضمن تكريما للسينما التركية والجزائرية، وقسما لأفلام العالم وبانوراما للسينما التونسية.
وسيكون لنا وقفات مع مهرجان قرطاج وأحداثه وفعالياته وأفلامه، هنا في هذه المدونة، وعلى موقع بي بي سي العربي.

الثلاثاء، 21 أكتوبر 2008

من مخزن الذاكرة



الصورة العلوية لي مع المخرج الراحل صلاح أبو سيف في مهرجان قرطاج السينمائي (1986) ومعنا على اليسار المخرج التونسي الطيب لوحيشي، والصورة المنشورة تحتها مع المخرج الصديق خيري بشارة في الدورة نفسها من المهرجان المذكور.
كان صلاح أبو سيف قد جاء إلى مهرجان قرطاج ضمن وفد مصري يضم خيرة السينمائيين، تصور في تلك السنة، أنه صنع عددا من أفضل الأفلام، وجاء بها للعرض داخل وخارج المسابقة.
كان هناك فيلم "البداية" لصلاح أبو سيف وكان يعرض خارج المسابقة ضمن تكريم خاص للمخرج الكبير، وكان هناك فيلم "الجوع" لعلي بدرخان داخل المسابقة، وهو بلاشك من افضل ما أخرجه بدرخان، وآخر أفضل فيلم لسعاد حسني.
وجاء خيري بشارة بتحفته السينمائية "الطوق والإسورة" عن رواية يحيي الطاهر عبد الله وسيناريو يحيى عزمي.
وربما أصبحت الأفلام الثلاثة حاليا من الأعمال الكلاسيكية في السينما المصرية والناطقة بالعربية بوجه عام. ولكن كان هناك أيضا إلى جانب هذه الأفلام الثلاثة فيلم "اليوم السادس" للمخرج الراحل يوسف شاهين، وقد عرض في افتتاح مهرجان قرطاج في تلك الدورة (أعود لحضور المهرجان هذا العام الذي يفتتح بفيلم "هي فوضى" ليوسف شاهين.. آخر أفلام الراحل الكبير).
وقد خرج الفيلمان المصريان من المسابقة دون الحصول على أي جوائز. وفاز بالطانيت الذهبي الفيلم التونسي "ريح السد" الذي اثار وقتها ضجة كبرى في العالم العربي، كما تعرض لحملة هجومية قاسية في الصحافة المصرية بدعوى أنه يفتح الباب للتطبيع مع اسرائيل، أو بسبب تصويره الشخصية اليهودية في صورة ايجابية، والعربية في صورة سلبية- كما قالوا وقتها.
وقد تحدثت في إذاعة بي بي سي وكتبت ونشرت وقتها أكثر من مقال دافعت فيها بشدة عن هذا الفيلم، أقصد فيلم نوري بوزيد واعتبرته عملا فنيا بديعا (المقالات موجودة طبعا في أرشيفي الشخصي)، كما عدت فأرسلت إلى مهرجان القاهرة السينمائي الذي عرض الفيلم في أواخر العام نص مقابلة طويلة أجريتها في مهرجان قرطاج (اكتوبر 1986) مع نوري بوزيد تحدث فيها بإسهاب عن فيلمه، وقدمته باعتباره عملا كبيرا في السينما العربية، وكان هذا رأيي ولايزال. ونشرت المقابلة في النشرة الرسمية للمهرجان باعتبارها حوار بين "الناقد والمخرج". ولعل أبو زيد لا يعرف أنني بسبب نشر هذه المقابلة في القاهرة، نالني هجوم شديد أو وجه بالأحرى، اتهام من ناقدة مصرية معروفة، بأنني صرت من "المدافعين عن اليهود" وبأنهم "خدعوا في"!
إلا أن هذا لم يمنع نوري بوزيد من شن هجوم مضاد على كل النقاد المصريين، واتهامهم بأنهم "يشعرون بالغيرة من كون الأفلام التونسية تحقق نجاحا". وتجاهل تماما وجود "ناقد مصري" (لم يكن وحده على اي حال) دافع عن فيلمه أينما عرض، حتى بعد ذلك حينما منع عرض الفيلم ضمن 5 أفلام تونسية أخرى من العرض في مهرجان دمشق عام 1991. وقد كتبت وانتقدت ما وقع من حظر، على الفيلم وغيره مثل "الحلفاوين" للمخرج فريد بوغدير.
غير أنني عندما عدت بعد سنوات لمشاهدة فيلم نوري بوزيد المسمى "بزناس" في مهرجان كان 1992 كان لي تحفظات كثيرة على مضمونه وطريقة معالجته، واستسلامه للأشكال والكليشيهات التي يغرم بها الممولون والموزعون الفرنسيون والغربيون عموما، وكان هذا رأي اتفق فيه مع معظم النقاد العرب الذين كتبوا عن هذا الفيلم. وكان أهم ماخذ عليه افراطه في استخدام القوالب التي يحبها الغرب أي أنه استسلم لمقتضيات التمويل الأجنبي. والغريب أن بوزيد نفسه عاد بعد سنوات طويلة لكي يعترف بما قدمه من تنازلات في هذا الفيلم بالذات.
إلا أن نوري بوزيد في ذلك الوقت من التسعينيات اعتبر ما نشرته (في نفس المطبوعات التي نشرت فيها من قبل عن ريح السد) "حقدا مصريا" و"رغبة في إخراجه من السينما ودفعه إلى التوقف عن الإخراج" وغير ذلك من الكلمات الكبيرة الصغيرة المضحكة.
وعندما التقيت به مصادفة أمام مدخل الفندق بينما كنت أحضر دورة 1996 من مهرجان قرطاج، استوقفني لكي يقول لي إنه "لايزال موجودا وإنه ماض رغم كل محاولات إخراجه من المجال السينمائي" أو شيئا ساذجا بهذا المعنى!
ولم أحاول أن أشرح له أو أن أبرر، بل شكرته وانصرفت، فليس من الممكن أن يتخيل أي إنسان في العالم أن هدف أي ناقد أن يجعل مخرجا ما يتوقف عن الإخراج السينمائي فهذا كلام لا يصدر إلا بدوافع أخرى. وأنا أفهم الحساسية المرضية عند بعض السينمائيين العرب لما يكتبه النقاد الذين لا حسابات لهم، فبعضهم عندما يفشل تماما في العثور على دوافع "خاصة" تتفق مع تصوراته عن النقاد، يذهب إلى إيهام نفسه بأنهم يكتبون انطلاقا من اعتبارات الجنسية والتعصب القومي. ولو كان هذا صحيحا، لكنت قد اشتركت مع من شاركوا في حملة هائلة ضد مهرجان قرطاج واتهموه بتجاهل السينما المصرية عمدا ومحاولة عزلها، وكان لهم فيما صدر عنهم بعض العذر وقتذاك بسبب ما حدث في المهرجان من خروج الأفلام المصرية الأفضل من أفلام كثيرة غيرها، من سباق الجوائز بل إن الممثلة فردوس عبد الحميد حرمت بشكل ظالم لاشك في ذلك، من جائزة أحسن ممثلة. وقد وقعت مهزلة هناك عندما نودي على فردوس لكي تصعد لاستلام الجائزة لكنها عندما صعدت أمام الجماهير التي حيتها بقوة (وكانت وقتها في عز مجدها) فوجئت بذهاب الجائزة إلى ممثلة أخرى لا أتذكرها الآن!
كان هناك صراع متخلف وقتذاك يغذيه البعض، بين ما اطلقوا عليه سينما المشرق وسينما المغرب، أو تحديدا بين السينما المصرية، والسينما في المغرب العربي. وقد كتبت في هذا الموضوع، وكنت أميل إلى معارضة كلا الطرفين، اللذين كانا يستندان إلى مفاهيم متخلفة، فلم تكن "التقسيمة" صحيحة أصلا، بل الصحيح القول إن السينما الفنية المتميزة في مصر وغير مصر تواجه الكثير من العقبات والمشاكل، وليس صحيحا أن الفيلم المصري مرادف للفيلم التجاري السائد على إطلاقه، وإلا كيف نصنف أفلام محمد خان وعاطف الطيب ويسري نصر الله ورأفت الميهي وخيري بشارة وابراهيم البطوط وأسامة فوزي (والخلط بين الأجيال مقصود تماما).. هل نضعها في نفس الخانة مع أفلام تعرفونها أنتم جيدا؟
في الوقت نفسه ليس صحيحا على إطلاقه أن كل فيلم ينتج في تونس أو سورية أو المغرب هو فيلم فني بالضرروة، بل هناك أفلام مصنوعة أيضا بغرض الوصول إلى الجمهور العريض، أي أفلام تغازل ذلك الجمهور وتتصور أنها تقدم له ما يريده، وليس ما يريده السينمائيون الطموحون أصحاب الرؤية والخيال!
الموضوع خرج قليلا عن إطار الذكريات التي تستدعيها صور من هذا النوع.. لكن ربما يكون من المهم أن أختم بالقول إنني توقفت تماما عن الكتابة عن أفلام نوري بوزيد منذ ذلك الحين، ما أعجبني منها وما لم يعجبني.. ولعل ذلك أفضل له.. وأكثر راحة لي طبعا!

الأحد، 19 أكتوبر 2008

لوي بونويل و"سحر البورجوازية الخفي"


عالم سينمائي لم يكشف كل أسراره بعد

لوي بونويل Luis Bunuel علم من أعلام السينما في العالم. عاش حياة مليئة بالتقلبات والتجارب. عمل في بلدان وظروف مختلفة: في المكسيك والولايات المتحدة واسبانيا وفرنسا، وعاصر كبار الفناني والسينمائيين والمفكرين والشعراء في عصرنا. كتب وأخرج خلال 50 سنة 35 فيلما.
من أهم أفلامه "تريستانا"، و"يوميات خادمة"، و"حسناء النهار" و"سحر البورجوازية الخفي"، و"شئ ما غامض عن الرغبة"، و"شبح الحرية".
صدرت مذكرات بونويل بعنوان "النفس الأخير Mon Dernier Soupir " عام 1983، بعد أشهر قليلة من وفاته، وتضم سيرته الذاتية وذكرياته الخاصة وعلاقاته والشخصيات المشهورة التي قابلها، ما كان يحبه وما كان يكرهه، تجربته في الحرب الأهلية الإسبانية وعلاقته بسلفادور دالي، وموقفه من الكنيسة والأسرة، في نوع من "أدب الاعترافات" الصريح والجرئ والممتع حقا. وقد ترجم المخرج والناقد السوري مروان حداد مذكرات بونويل عن الطبعة الإنجليزية التي حملت عنوان My Last Breath وصدرت عن منشورات مؤسسة السينما السورية عام 1991.

العلاقة بالسيريالية
التحق بونويل مبكرا بالحركة السيريالية التي ظهرت في الفن كرد فعل غاضب تجاه الواقع في أوائل العشرينيات من القرن الماضي أي بعد الحرب العالمية الأولى وما تركته من إحساس بسقوط القيم القديمة والمفاهيم الاجتماعية التي كان يعتقد أنها ثابتة، عن الحب والأسرة ومؤسسة الزواج وعلاقة الإنسان بالدولة..إلخ.
واشترك بونويل مع صديقه سلفادور دالي في كتابة سيناريو فيلم "كلب أندلسي" (1928) Un Chien Andalou وهو فيلم روائي قصير (26 دقيقة) يصور بشكل خارج كثيرا عن المألوف وصادم للعين، رؤية كابوسية للعلاقة بين الرجل والمرأة. ولا يتضمن الفيلم قصة أو سياقا سرديا واضحا ومحددا بل يقفز من مشهد إلى آخر ومن زمن إلى زمن أخر، دون أي شروح أو حتى تغير في شكل الشخصيات المحدودة التي تظهر فيه. وقد عرض الفيلم للمرة الأولى في باريس عام 1928.
ويقول بونويل في مذكراته إنه وسلفادور دالي كانا يخشيان من رد فعل الجمهور الغاضب إزاء الفيلم الذي كان يتضمن مشهدا يقطع فيه الرجل بالموسى عين المرأة فيخرج منها آلاف النمل.. غير أنهما فوجئا بإعجاب الجمهور بالفيلم.
من عالم الأحلام والهواجس والكوابيس والتحليل النفسي والرعب من المجهول، ومن تخيل ما يمكن أن يكون كامنا فيما وراء الطبيعة، صنع بونويل عالما خاصا يتبدى في معظم أفلامه، خاصة أفلامه الخمسة الأخيرة، التي تظل حتى يومنا هذا، شاهدة على عبقريته الفريدة.
وقد عاد الاهتمام بأفلام بونويل إلى الأوساط السينمائية الشابة في أوروبا خلال العقد الأخير، فأقبل الكثير من شباب نوادي السينما وجمعيات الأفلام وهواة جمع التحف السينمائية على اسطوانات رقمية dvd على الاهتمام بمشاهدة وتحليل أفلامه والاستمتاع بها، والتعلم مما يكمن فيها من أسرار: بصرية وذهنية وفلسفية، ومحاولة الكشف عن أسرارها الخافية التي تطويها اللغة السينمائية الخاصة التي ميزت أسلوبه.

مصادر الرؤية
وربما يمكن رصد المصادر الفنية والفكرية التي ساهمت في تشكيل عالم بونويل السينمائي في النقاط التالية:
1- البيئة الإسبانية بخلفيتها الثقافية: الأساطير، الأدب الخيالي، عالم سرفانتيس، رسوم جويا وفيلا كروز، وأشعار لوركا، وصولا إلى تجربة الثورة والتمرد العام والحرب الأهلية الإسبانية التي شارك فيها بونويل إلى جانب الجمهوريين الذين هزموا على أيدي قوات الجنرال فرانكو مما اضطر بونويل للهرب والعيش في المنفى.
2- الحركة السيريالية بكل تمردها وسخطها على ثوابت عالمنا وجموده، التمرد على الواقعية والكلاسيكية كمذهبين يحدان كثيرا من التعبير الفردي لدى الفنان عما يحس به دون أن يملك مفاتيح لتحليله بشكل منهجي.
3- الدين: المسيحية الكاثوليكية بتقاليدها الصارمة، والرغبة في التمرد عليها، مع إيمان دفين وعميق بالوجود، والرغبة الدائمة في طرح التساؤلات المقلقة حول مغزى الوجود، وعلاقة الإنسان بالله.

لوي بونويل بريشة سلفادور دالي

4- التحليل النفسي والعلاقة بين الكبت الاجتماعي والكبت الجنسي، وعلاقة الاثنين بعالم الأحلام، وما يؤدي إليه البحث في هذا الجانب بالضرورة، إلى البحث في مغزى اللذة وعلاقتها بالألم وبفكرة الإثم أيضا. هناك تأثر واضح عند بونويل بكتابات الماركيز دي صاد فيلسوف الحرية المطلقة الذي عرف بكتاباته عن الجنس والعنف واللذة والألم، ورفض كل القيود التي تحد من المتعة الخالصة المطلقة مثل الدين والقوانين والتقاليد. وقد أخرج بونويل فيلمه الروائي الطويل الأول "العصر الذهبي" عام 1930 (63 دقيقة) وكتبه مع سلفادور دالي عن رواية الماركيز دي صاد "120 يوما في حياة سادوم".
5- الطبقة الوسطى بتقاليدها الشكلية الزائفة ومؤسساتها: الزواج والعلاقات الجنسية وقيمة العمل، مع طرح فكرة الظلم الاجتماعي والتمرد على الانتماء الطبقي دون الوقوع في التبسيط الكلاسيكي. هناك أيضا تأثر بونويل بالماركسية (كان لفترة عضوا في الحزب الشيوعي الفرنسي ثم طرد منه) لكن مع مزجها بالتحليل النفسي- وليس بالفرودية فقط- وبالسيريالية. وهناك تناول فريد لفكرة أن الإنسان سجين لأحلامه وكوابيسه وهواجسه الشخصية، وهي رؤية شديدة الثراء عند التعبير عنها بصريا، غير أنها من زاوية التفسير الماركسي، مرفوضة تماما.
إن عالم بونويل محكوم بنسق دقيق من تناقض الثنائيات على نحو جدلي، مما يجعل قراءة أفلامه قراءة أخلاقية مبسطة أمرا مستحيلا. إننا نجد مثلا، أن بونويل يكرر في كل أفلامه اللعب على ثنائيات مثل الخيالي والواقعي، الفردي والاجتماعي، الرقة والخشونة، اللذة والألم، الحب والتمرد. هذه الثنائيات، تدور في مزيج من الفوضوية السياسية والاجتماعية، والسيريالية كمذهب فني، إلى جانب العناصر الرئيسية الثابتة في سينما بونويل، التي يبرز من خلالها هجومه الحاد وهجائيته الشديدة وسخريته من "الثالوث المقدس": الجنس والدين والسياسة.
أفلام بونويل التي أخرجها في المكسيك وفرنسا، منعت من العرض تماما في وطنه إسبانيا طوال عهد الجنرال فرانكو، فقد اعتبرتها الرقابة الإسبانية أفلاما "منافية للآداب"، و"هدامة اجتماعيا"، وهي المفاهيم التي يكررها كل الفاشيين والقمعيين في كل مكان عبر التاريخ.

ا لسحر الخفي
ويكفي أن نتناول فيلما واحدا من أفلام بونويل هو فيلم "سحر البورجوازية الخفي" لندرك لماذا يتحفظ البعض على أفلامه حتى يومنا هذا، ولماذا يعتبرها البعض مغرقة في الغموض، مستغلقة على الفهم، ولنعرف من ناحية أخرى، لماذا يعتبره الكثير من النقاد، ومنهم كاتب هذه السطور، رائدا لتيار الحداثة في السينما العالمية مع قطب آخر من أقطابها البارزين هو الفرنسي جان كوكتو رغم الفارق الكبير بينهما في الأسلوب.
أخرج بونويل "سحر البورجوازية الخفي"Le charm discret de la bourgeoisie عام 1972 وكتبه بالاشتراك مع الكاتب الفرنسي جان كلود كاريير الذي رافق رحلة إبداع بونويل واشترك معه في كتابة سيرته الذاتية بعد اعتزاله الإخراج عام 1977.
ويعتبر هذا الفيلم أكثر أفلام مخرجه كمالا وتعبيرا عن رؤيته الشاملة للعالم، كما أنه يحتوي على كل مفردات سينما بونويل. ومشاهدة الفيلم اليوم بعد أكثر من 35 عاما على ظهوره، تكشف لنا عبقرية صاحبه، وتؤكد قدرة أفلامه على الصمود في وجه الزمن، فمن يشاهد الفيلم يدرك أنه لايزال عملا أصيلا، متميزا، بجدته وجرأته، سواء في موضوعه أو في طريقة عرض موضوعه.
ما الموضوع إذن؟ ستة من أفراد الطبقة الوسطى (البورجوازية) هم ثلاثة من النساء وثلاثة من الرجال، يرغبون في قضاء أمسية يتناولون خلالها طعام العشاء معا، لكنهم يفشلون مرة تلو الأخرى، لأسباب مختلفة، ويربط بين مقاطع الفيلم المختلفة مشهد واحد يتكرر ظهوره طوال الوقت، لأفراد المجموعة وهم يذرعون طريقا ريفيا على غير هدي، ربما يسعون نحو تحقيق رغبة لا تتحقق أبدا ففي كل مرة يوشكون على تناول الطعام يحدث شئ أو يأتي أحد الأشخاص أو يستدعى شخص ما حلما من أحلامه يروها لهم، مما يحول دون تناول الطعام: المتعة الأساسية لدى البورجوازية (الفرنسية بشكل خاص) والتي يجري خلالها تبادل الحديث في شتى المواضيع.
من الخارج، ومن حيث المظهر العام، تبدو ثقتهم شديدة في أنفسهم. هناك سحر خاص غامض يجذبنا إليهم، لكن ما يزيح عنه بونويل الستار، يصيبنا بالفزع والنفور. إنه يعريهم ويهتك أسرارهم من خلال عالم الأحلام الذي يصوره بكل تفاصيله كما لم نره من قبل.
في البداية يحل أربعة منهم، بينهم فيليب، هو سفير لدولة "ميراندا"، وهي دولة خيالية بالطبع من دول أمريكا اللاتينية، ضيوفا على الثنائي الأول: رجل وزوجته (تقوم بدور الزوجة الممثلة ستيفان أودران التي عادت لكي تتألق في فيلم "وليمة بابيت" بعد 15 عاما).. لكن الزوجين يرغبان في ممارسة الحب في غرفة النوم. الخادمة تطرق عليهما باب الغرفة لكي تعلن وصول الضيوف الأربعة. يطلبان منها تقديم المشروبات إلى حين نزولهما لاستقبال الضيوف. لكن الأمر يصبح هزليا تماما عندما يقرر الرجل وزوجته، تحت إلحاح الرغبة، الهرب من الغرفة والتسلل مثل اللصوص عبر النافذة والنزول إلى حديقة المنزل، لاستكمال ما بدآه بين الأدغال.
الضيوف يشعرون بسأم من الانتظار الطويل. وعندما تخبرهم الخادمة أن مخدوميها هربا، يخشى السفير وزميله أن تكون الشرطة على وشك مداهمة المنزل فيهربان مع المرأتين، والسبب أن الرجال الثلاثة ضالعون في تجارة المخدرات، والسفير يقوم بتهريبها في الحقيبة الدبلوماسية.
الأحداث كلها تدور في إحدى ضواحي باريس الريفية. أجواء بداية السبعينيات واضحة في الفيلم: التمرد والحروب الشعبية المسلحة في غابات أمريكا اللاتينية انتقلت إلى شوارع باريس. هناك فتاة ثورية من "ميراندا" تطارد سفير بلادها، تريد أن تغتاله بسبب دوره القذر في تمويل العمليات العسكرية التي تشنها الحكومة ضد الثوار، لكنه يتمكن حسب "الأصول" البورجوازية، من إغوائها واصطيادها داخل بيته في باريس، حيث يجردها أولا من سلاحها، ثم يغازلها ويحدثها عن جمالها وتفتح جسدها، ثم يتركها ويهرب، ولكنه يشير بيده إشارة خاصة عبر النافذة يلتقطها حارسان مسلحان تابعان له، فيقبضان على الفتاة عند نزولها ويصطحبانها بطريقة وحشية لكي تلقى مصيرها.

حلم ودماء
في محاولة للاجتماع على مائدة العشاء في قصر أحد البورجوازيين الستة يحضر ضابط ومجموعة من الجنود. يعتذر الضابط للمجموعة بأن مناورات عسكرية على وشك أن تبدأ في المنطقة العسكرية القريبة من القصر. تلح عليه سيدة القصر لكي ينضم للمجموعة على العشاء. يقبل الضابط أن يتناول كأسا من الشراب فقط. يجلس مع جنوده الذين يدخنون الحشيش. يدور حوار حول الحشيش. يقول أحد البورجوازيين إن الجنود الأمريكيين أدمنوا تدخين الحشيش في فيتنام لذا كانوا يقصفون مواقع قواتهم بدلا من مواقع العدو. يحضر جندي شاب يحمل أمرا للضابط القائد بضرورة العودة إلى القيادة فورا. لكن الجندي يرغب في أن يقص على الحاضرين أولا حلما شاهده الليلة الماضية. يوافق الضابط. ودون تردد يقص الجندي الشاب عليهم كيف أنه رأى في المنام أمه المتوفية منذ مدة، وقد عادت لتشكو له خيانة والده لها. يتناول الشاب سكينا ويقتل والده. الدماء تغرق كل شئ، ثم ينتهي الحلم.
الداخل والخارج
الضابط يدعو المجموعة لتناول طعام العشاء في منزله الأسبوع القادم. وفي الموعد المحدد نراهم وقد التفوا حول مائدة الطعام. يقدم لهم جندي طعاما بلاستيكيا، وفجأة ينزاح ستار لكي نكتشف أنهم يجلسون فوق خشبة مسرح أمام جمهور يسخر منهم بسبب عدم حفظهم لأدوارهم!
يقوم ضابط شرطة باعتقال أفراد المجموعة في أمسية ثانية بتهمة حيازة المخدرات. في قسم الشرطة يروي ضابط لزميله قصة الضابط الذي كان يقوم بتعذيب ضحاياه بوحشية إلى أن بدأ يشعر بتأنيب الضمير فانتحر، لكن شبحه وهو ينزف دما يتبدى – كما نرى- كل عام ليلة الرابع عشر من يوليو (عيد سقوط الباستيل).
وفي مشهد سيريالي نرى الضابط المنتحر أمام بيانو، يفتح غطاءه، تظهر الأسلاك، يضع الجنود شابا من الفوضويين متهما بتفجير قنبلة في عمل من أعمال الإرهاب الثوري، فوق أسلاك البيانو البيضاوي. يدير الضابط ذراعيا آليا، تنتشر الكهرباء في الأسلاك ويرتفع الدخان، ويتلوى الشاب من شدة الألم ويصرخ.
في المشهد التالي نكتشف أن أحدهم كان يحلم مرة أخرى، وأن الضابط الدموي الذي يمارس التعذيب مازال يعمل في قسم الشرطة.
تأتي مكالمة هاتفية لمفتش الشرطة الذي اعتقل السفير وأفراد المجموعة. المتحدث على الطرف الآخر هو وزير الداخلية نفسه (يقوم بالدور الممثل ميشيل بيكولي). يأمر الوزير المفتش بإطلاق سراح الجميع فورا لما في اعتقالهم من إضرار بمصالح الدولة العليا. يحاول المفتش أن يتيقن مما يقوله الوزير، لكن صوت طائرة تعبر المجال فوق المنطقة تشوش على كلام الوزير.. ويتكرر السؤال، وفي كل مرة يتكرر صوت الطائرة، ولا يسمع المفتش ما يقوله الوزير على الطرف الآخر. وأخيرا يقول له المفتش إنه فهم دون أن يكون قد فهم شيئا بالطبع، ويأمر بإطلاق سراح المجموعة.
القس والانتقام
يحضر أسقف الضاحية إلى منزل الثنائي البورجوازي الأول بعد أن يرتدي ملابس منسق الزهور. يقول لهما إنه قس ولكنه يرغب في العمل لديهما في تنسيق وتنظيف حديقة قصرهما لكي يمر بتجربة روحية في التقشف والعمل اليدوي حتى يشعر بمعاناة الفقراء ويتقرب إلى الله. صاحب المنزل لا يبدو أنه يصدق هذه القصة فيطرده شر طردة.يعود القس بعد قليل وهو يرتدي ملابسه الرسمية فيلقى استقبالا مختلفا تماما. يستجيب صاحبا القصر لرغبته بعد تردد، ويسندان له مهمة تنسيق الزهور في الحديقة.
ذات يوم يمرض رجل مسن في القرية المجاورة ويصبح مشرفا على الموت. تأتي زوجة الرجل إلى القصر البورجوازي، تسأل عن القس الذي اختفى من الكنيسة. تقول لها سيدة القصر إن زوجها المريض في حاجة إلى طبيب وليس إلى قس، لكن المرأة تؤكد لها إنه في حاجة إلى قس بغرض الاعتراف، فهو يحتضر بالفعل. يقول القس (في زي منسق الزهور)، إنه يصلح للقيام بالمهمة. يقوم بتبديل ثيابه ويصحب المرأة إلى الخارج. يعترف له الرجل الفقير الموشك على الموت أنه قتل في شبابه مخدوميه السابقين لأنهما كانا يسيئان معاملته ويقومان بتعذيبه. يطلعه على صورة لمخدوميه السابقين وبينهما يقف ولدهما. يتعرف القس في الصورة على والديه. يكظم غيظه. يبارك الرجل قبل وفاته. وفي طريقه إلى الخارج يلمح بندقية معلقة على الجدار. يتناولها ويصوب ويطلق النار على الرجل فيقتله.
هذا المشهد ربما يكون أحد المشاهد القليلة في الفيلم الذي لا يتداخل فيه الواقع بعالم الأحلام، فهو مشهد واقعي تماما. لكن معظم مشاهد فيلمنا هذا تنطلق من الواقع لكي ترتد إلى عالم الحلم، والحلم من داخل الحلم أيضا، وإلى أشكال أقرب إلى الكوابيس السيريالية المرعبة.
غير أن أسلوب بونويل في السخرية يجعله يتمكن من تحويلها إلى مشاهد كوميدية تفجر ضحكاتنا من المفارقات المستحيلة التي نشاهدها، ومن التفاصيل العبثية التي يجيد التلاعب بها.
ويلعب الحوار الساخر العابث الذي كتبه جان كلود كاريير، دورا بارزا في تجسيد التناقضات. ولا يستخدم بونويل وسيلة للانتقال بين المشاهد واللقطات سوى "القطع" cut لأنه لا يريد أن يفصل بين عالمي الحلم والواقع، فهو يرى كلاهما امتدادا للآخر.
ويجسد المشهد الأخير خلاصة أسلوب بونويل العبقري: أثناء حفل العشاء يقتحم عدد من الثوريين من ميراندا القصر ويعتقلون البورجوازيين الخمسة بينما يختبئ السفير الأجنبي تحت المائدة. وفجأة تمتد يده من تحت المائدة يرغب في التقاط قطعة من اللحم يقبض عليها بيده، إن معدته تفضحه. وعلى الفور يطلق زعيم الثوريين النار عليه.
بونويل مع هيتشكوك في هوليوود

هجاء الطبقة
هناك لاشك علاقة واضحة في الفيلم بين السلطة السياسية والعسكرية والبوليسية (الوزير ورجل الشرطة وقائد الجيش) وبين السلطة الدينية (الأسقف) والسلطة الاجتماعية (الطبقة البورجوازية ورموزها). ويكشف الفيلم من خلال عالم الأحلام، عن عجز وسطحية وتفاهة الطبقة التي تتشبث بقيم ظاهرها الوفاء والاخلاص والتضحية: في محيط العمل والعلاقات الزوجية والصداقة وغيرها، في حين أنها تخون كل ذلك بانتظام: هناك خيانات زوجية، وقسوة وتعال بل وعنصرية في النظر إلى الآخر والتعامل معه، وتذبذب وسطحية في المفهوم الديني عن التسامح.
ويوجه بونويل كعادته، نقده الساخر إلى الكنيسة، وإلى السلطة الغاشمة التي تستخدم الدين ستارا، كما تستخدم أقصى درجات القمع ضد معارضيها، وتتستر على مخالفات "السادة" أعيان الطبقة.
وهو يجعل رموز البورجوازية تبدو عاجزة عن تناول الطعام ولو لمرة واحدة، إشارة إلى عدم التحقق، كما يستخدم مشهد الرغبة الملحة في ممارسة الجنس ولو في أدنى صوره، أي في زاوية مظلمة وسط أحراش الغابة، تعبيرا عن غياب الحب، وسخرية من ادعاءات الطبقة عن التمسك بـ"التقاليد" الرفيعة المتحضرة.
ويسبق هذا المشهد مباشرة مشهد الضيوف وهم يتناولون الشراب. ويقوم السفير باعداد كوكتيل خاص ويدعو سائقه إلى تناول كأس معهم قبل أن ينصرف. السائق يتناول المشروب على جرعة واحدة ثم يختفي. هنا ينتقد أحد أفراد المجموعة طريقة السائق (من طبقة أدنى بالطبع) في تناول المشروب. وبونويل بالطبع يريد أن يسخر من ازدواجية المعايير، لأننا نشاهد في الوقت نفسه الزوجين وهما يتسللان عبر النافذة لممارسة الجنس في الحديقة وهو ما يخالف تماما التقاليد البورجوازية!
ويرقى مستوى التمثيل في الفيلم إلى أعلى الدرجات، دون أي افتعال أو مبالغات لفظية أو حركات جسدية زائدة. هناك تلميحات واضحة إلى علاقة فرنسا ببلدان العالم الثالث، وإشارات إلى العنصرية الفرنسية تجاه ابناء الشعوب الأخرى من خلال الحوار الطريف الذي يدور بين الضابط وسفير دولة "ميراندا" الخيالية، التي يفترض أنها إحدى دول العالم الثالث.
ويكشف الحوار عن احتقار البورجوازية الفرنسية للسفير لكونه أجنبيا أو من دولة يعتبرونها "أدنى". لكنهم لا يمانعون من استخدامه لتحقيق مصالحهم، فهو يستخدمهم لتسهيل عملياته "القذرة" في تصفية المعارضة في بلادهم، ويستخدمون هم غطاءه الدبلوماسي لتهريب الكوكايين، وعلى مستوى ما يروى في الحلم يتحفظون على سجل بلاده السئ في حقوق الإنسان، أما على مستوى الواقع فيتعاملون معه وينافقونه كواحد منهم.
إن تعدد المستويات في "سحر البورجوازية الخفي" هو ما يجعل منه تحفة سينمائية من الطراز الأول، سواء على مستوى السرد وحيله المتعددة، أو على مستوى المخيلة البصرية والأداء التمثيلي المنسجم مع السيطرة المدهشة على كل خيوط وتفاصيل وشخصيات الفيلم.

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger