الاثنين، 6 أكتوبر 2008

كلاسيكيات حديثة: "سيكون هناك دم"


الواقعية والرمز ونظرة موحشة إلى أمريكا

عدم حصول الفيلم الأمريكي "سيكون هناك دم" There Will Be Blood إلا على جائزة أحسن ممثل، التي حصل عليها بطله الانجليزي دانييل داي لويس، وجائزة أحسن تصوير، لا يقلل من شأنه، بل على العكس، يقلل من مصداقية نتائج "الأوسكار"، فلاشك أن الفيلم كان يستحق عن جدارة جائزتي أحسن فيلم وأحسن إخراج.
غير أن جوائز مسابقة الأوسكار تحديدا ليست دائما معيارا للقيمة الفنية، فمن المعروف أنها تخضع لاعتبارات عديدة تدخل في حساب القائمين عليها خاصة وأنها تمنح من طرف ممثلي صناعة السينما وهم ستة آلاف عضو هم أعضاء "الأكاديمية الأمريكية للعلوم والفنون السينمائية"، وهي عبارة عن تجمع كبير لنقابات العاملين في هوليوود. ويتم التوصل لنتائج المسابقة من خلال نظام للاقتراع السري، دون عروض منظمة للأفلام، ودون مناقشات، علنية أو سرية، بل ودون مسوغات لمنح الجوائز.
"سيكون هناك دم" فيلم أمريكي ذو مذاق مختلف كثيرا عما هو سائد في أفلام أمريكية أخرى، فهو يتمرد على الكثير من طرقها واساليبها، ويعتبر على نحو ما، مغامرة فنية، تفضل شركات هوليوود التقليدية الكبيرة عادة الابتعاد عن خوضها، مفضلة ما هو "مضمون" من أفلام تروي قصصا مثيرة للخيال والمشاعر.
اما هذا الفيلم الذي أخرجه بول توماس أندرسون (38 عاما) فهو يتجه وجهة جديدة، تعتمد على التجريد والمزج بين الواقعية والرمزية، مع تجاهل التبريرات الدرامية سواء في ابعادها النفسية أو الاجتماعية، وهو ما يجعل الفيلم عملا مركبا ذا مستويات متعددة أيضا للفهم والاستقبال.

ظهور النفط
يعتمد الفيلم- وإن بتحرر- على رواية بعنوان "نفط" Oil للكاتب الأمريكي ابتون سنكلير صدرت في عام 1927، وتبدأ الأحداث في عام 1898 ونحن نرى رجلا بمفرده، هو بطلنا دانييل بلانفيو، وهو يقوم بالتنقيب عن الذهب في نفق في صحراء جنوب كاليفورنيا. وهو يعثر أولا على الفضة بدلا من الذهب، ثم وبمحض المصادفة، يعثر على الذهب الأسود أو النفط.
بعد ذلك تتسع أعمال الرجل فيستعين بمساعدين للعمل معه في البئر الأولى التي يمتلكها، ويتمكن من إقامة حفار للنفط بوسائل بدائية مما يؤدي أولا إلى وفاة أحد العاملين، وترك ابنه الطفل الذي يتبناه فلانفيو ويستخدمه بعد أن يصبح صبيا في التاسعة، يقدمه كشريك له حتى يستدر العطف ويضفي على نفسه مسحة من الاحترام.
ويسعى بلانفيو للتوسع ومد أعمال حفر الآبار إلى مناطق أخرى، ويأتيه ذات يوم شاب يدعى "بول صنداي" يعرض عليه شراء أراض تابعة لأسرته يؤكد له أنها ترقد على كميات هائلة من النفط. ويتجه بلانفيو مع ابنه بالتبني إلى منطقة "بوسطون الصغيرة" حيث توجد أراضي الأسرة، وهناك يلتقي برب الأسرة وابنها الثاني "إيلي صنداي" وشقيقته ماري.
وتوافق الأسرة على بيع الأراضي، لكن إيلي يطلب مزيدا من المال كدعم لكنيسة تابعة له يقوم من خلالها بأعمال التبشير لمذهبه الديني المتطرف، ولا يجد دانييل مفرا من الرضوخ على مضض.
مع تدفق النفط من البئر يشتعل حريق ويقع انفجار ضخم يؤدي إلى إصابة الطفل الذي لا نعرف اسمه ويطلق عليه بلانفيو "إتش دبليو" بالصمم بعد أن أدى الانفجار إلى اتلاف طبلتي أذنيه.
تكون هذه العقبة الأولى التي يواجهها بلانفيو ويتعين عليه التعامل معها بصرامة، فالصبي الذي يجد نفسه وحيدا عاجزا عن السمع، يتمرد بسبب المعاملة الخشنة التي يلقاها ويشعل النار ذات ليلة في المسكن المؤقت الذي يرقد فيه مع والده بالتبني.
ومع اتساع نطاق آبار النفط وزيادة ثروة دانييل بلانفيو وتطلعه للسيطرة على مزيد من الأراضي التي تكفل له الوصول بخط أنابيب يعتزم مده إلى ساحل البحر، سرعان ما يواجه العقبة الثانية مع وصول رجل يدعى "هنري" يقول إنه أخ له من أم أخرى، وإنه يرغب في الحصول على عمل يقيه شر الحاجة.
في البداية يلحقه بلانفيو بالعمل كمساعد له، ثم يبدأ في التشكك في صحة روايته، كما يضيق بالمتاعب التي يسببها له ابنه بالتبني، فتخلص من الفتى عنوة ويلحقه بمدرسة داخلية للصم. ثم ينفرد بهنري في الغابة ليلا ويهدده بالقتل إذا لم يعترف له بحقيقته، فيعترف الرجل بأنه اخترع القصة لحاجته للعمل، ويؤكد له إخلاصه، لكن بلانفيو، يقتله ثم يدفنه.
أما العقبة الثالثة التي يواجهها فهي تتمثل في "إيلي صنداي" الذي يواصل ابتزازه مقابل تسهيل حصوله على مزيد من الأراضي التي يمد فيها احتكاره النفطي. "إيلي" يريد أن يطوع بلانفيل ويدخله ضمن زمرة المنخرطين في مذهبه الديني ولو بتحريض الناس ضده بدعوى استغلاله لهم، أو ابتعاده عن الدين. والهدف بالطبع ليس دينيا، بل كنوع من الابتزاز للحصول على اكبر مكاسب ممكنة. وفي واحد من أهم مشاهد الفيلم، يوافق بلانفيل، خدمة لمآربه الخاصة، بالامتثال للقس الشاب الذي يعرف حقيقة أنه مزيف، وأنه لا يختلف عنه في جشعه وسعيه لتحقيق مآربه الخاصة، ويقوم بالاعتراف علانية أمام رواد الكنيسة بارتكاب الإثم والخطيئة وبأنه تخلص من ابنه بطريقة شريرة، ويتعهد باستعادته وبعدم التخلى عنه مستقبلا، والأهم بالطبع، أنه يوافق علىالتبرع بمزيد من الأموال للطائفة الدينية وبناء كنيسة كبيرة لأتباعها الذين تسحرهم قوة شخصية "إيلي" وقدرته على التمثيل والتقمص وادعاء القدرة على الإتيان بالمعجزات.
الصراع في الفيلم يمتد إلى النهاية، إلى حين يقضي بلانفيو على خصمه الدود ويتخلص منه إلى الأبد بعد أن يجعله يعترف بغشه وكذبه واحتياله. لكنه في الوقت نفسه يكون قد بلغ ذروة سقوطه.

فيلم خارج النوع
السينما الأمريكية عرفت بالتزامها بـ"وصفات" محددة للأفلام يطلق عليها النقاد ، أنواع الأفلام أو genres ويتبعها عادة المنتجون في تحديد طبيعة مواصفات موضوع الفيلم الذي يراد إنتاجه، فهناك أفلام الويسترن أو الغرب الأمريكي، كما أن هناك أفلام الرعب والكوميديا والمغامرات البوليسية والدراما التاريخية والدراما الاجتماعية.. وغيرها.
أما هذا الفيلم فلا يخضع لمواصفات "النوع"، فهو ينتقل بين الويسترن أو الغرب الأمريكي، والرعب والدراما النفسية ولكن بعيدا عن التحليل النفسي، فلا توجد هنا دوافع ولا مبررات. وربما يتمثل أسلوب أفلام "الويسترن" في أبعاده العامة: بطل فردي غامض مغامر يجرب حظه في اكتشاف الذهب فيكتشف الذهب الأسود ويتصارع عليه مع خصوم آخرين (الشركات المنافسة التي تحاول أن تشتري منه آباره المكتشفة وتزيحه عن الساحة)، أو مع خصم يريد أن يشاركه في الملكية، وإن كان هنا من نوع مختلف، فهو يعتمد على إثارة الناس ضده بوحي ادعاءات أخلاقية ودينية. لكن الفيلم لا يحتوي على مطاردات بالجياد ومبارزات وتبادل لإطلاق النار، كما لا يتضمن صراعا بين الأخيار من المكتشفين البيض والأشرار من الهنود الحمر.
وبدلا من المبارزات التقليدية المباشرة هناك مبارزة طويلة ممتدة تدور بين شريرين هما في الحقيقة وجهان لعملة واحدة: دانييل بلانفيو وإيلي صنداي. الأول يخدر الناس بزعم أنه سيحيل حياتهم من البؤس إلى الثراء إذا ما ساعدوه في المضي قدما في استخراج "الذهب الأسود" وتحقيق الثراء، تحت وهم فكرة "الثراء للجميع". والثاني يوهم الناس بقدرته على الشفاء وعمل المعجزات ويبتز الأول استنادا على قدرته على تحريض الناس للوقوف ضد مشاريعه التجارية.
تجريد متعمد
ورغبة في تحميل الفيلم طابعا رمزيا، يحيط السيناريو الشخصيتين الرئيسيتين بالكثير من التجريد: فدانييل بلانفيو رجل غامض، يبدو بلا ماض، مقطوع الصلة بالأسرة، بل إنه يرفض حتى قبول أي شئ يذكره بالماضي الذي تركه خلفه، يبدو مدفوعا بفكرة واحدة فقط هي جمع المال والملكية. وهو يخشى من المنافسة ولا يطيق أن ينافسه أحد حتى لو كان ولده بالتبني، ويجد أن الآخرين هم الجحيم بعينه، ولكن ليس على مستوى سارتر الوجودي الذي كان يعلي كثيرا من شأن الحرية الفردي، بل لتبرير أنانيته ورغبته في الاستحواذ بأي ثمن.
إن فيلم "سيكون هناك" دم، بتكوينه الدرامي من أكثر الأفلام تعبيرا عن الشخصية الأمريكية التقليدية، عن نشأة وتطور أمريكا: الشركة الكبيرة التي تحسب مصالحها ببرود، وتتطلع دوما إلى التفوق على غيرها بكل طريقة. إنه عمل فني بديع عن الجشع والرغبة المرضية في الاستحواذ عندما تصل إلى ذروتها، عن اغتيال الطبيعة وتلويثها دون حساب سوى للقيمة النفعية المباشرة، عن بيع وهم "الجنة الأرضية" للآخرين، والاتجاه إلى التحالف المشبوه مع أتباع المذاهب المتطرفة لضمان تحقيق السيطرة، وعدم التورع عن ارتكاب جرائم القتل في أبشع صورها، وتصفية الخصوم على طريقة عصابات المافيا حتى النهاية الدموية.

نقيض البطل
لا يقف أي شئ في طريق دانييل بلانفيو. وهو كما يقدمه الفيلم، نموذج لنقيض البطل anti-hero ، فهو رجل وحيد، حياته جافة مثل ملامح وجهه المتغضنة، يغيب الحب وتغيب العلاقة مع المرأة من حياته (لا وجود للمرأة في الفيلم بشكل عام، وهو بهذا المعنى فيلم ذكوري تماما إمعانا في تأكيد مستوه الرمزي)، كما يعاني بطلنا من القطيعة مع الماضي، وفقدان التاريخ، والتخلي عن الأخلاق، واستخدام التدين الظاهري ستارا لأعمال استغلالية، والاستعلاء بالمال والقناعة بأنه كفيل وحده بالاستغناء عن الآخرين.
خلال الحوار بين دانييل وأخيه المزيف هنري، يعترف دانييل بكراهيته للآخرين عندما يقول له: "لقد كنت دائما أجد ان الناس غير مثيرين للاهتمام. بل إنني لا أحبهم.. وهدفي في الحياة هو أكن أجمع من المال ما يمكنني من الاستغناء عنهم". وبعد الاعتراف يأتي القتل، كما لو كان بلانفيو لا يمكنه أن يتعايش مع شخص اعترف له بنقطة ضعفه.
أما إيلي صنداي، فهو أيضا شخصية فيها من التجريد الذي يجعلها رمزا أكثر مما فيها من الواقع، فهو الوجه الآخر للانتهازية والجشع والرغبة في الصعود والتملك والسيطرة والنفوذ بأي ثمن. إنه يستخدم ذكاءه وفطنته وسهولة الترويج للأسطورة، من أجل السيطرة على مشاعر الناس، وبالتالي استخدامهم لتحقيق مآربه في التملك والامتلاك: تملك الناس، وامتلاك المال والسلطة. والعلاقة المشوبة بالتوتر بين الاثنين هي العلاقة الأمريكية بين المال والسلطة والفكر المزيف.
ويستخدم الفيلم الممثل نفسه (بول دانو) لأداء دوري الشقيقين: بول الخير، وإيلي الشرير، بطريقة توحي بأنهما يمكن أن يكونا الشخص نفسه، ويجعل الأول يختفي بعد ظهور الثاني مباشرة، دلالة على فكرة حلول الشر مكان الخير.
أسلوب الفيلم
لا يعتمد أسلوب البناء في الفيلم على "حبكة" مشوقة تصعد إلى ذروة حتى تنفرج الأحداث بالتطهير أو بالنهاية السعيدة، بل تسير في خطوط متعرجة، أي على عكس البناء السائد في السينما الأمريكية التقليدية، مما يجعل الفيلم يقترب كثيرا من اعمال الفن الرفيع ذات النفس الملحمي، بلقطاته الطويلة وايقاعه البطئ الهادئ، وموسيقاه التي تستوحي قرقعات قطع الحديد واصطكاك تروس آلات الحفر، وصوت احتكاك العملات المعدنية.
يبدأ الفيلم تحت الأرض وبطلنا ينقب عن الذهب داخل نفق مظلم في منطقة معزولة في كاليفورنيا، ويستغرق الفيلم حوالي 15 دقيقة في سرد مشاهد صامتة، تركز على استماتة البطل (المناقض للبطل) في تحقيق حلمه. وتتناقض الصورة بعد ذلك بين الظلمة والنور، وبين باطن الأرض وسطحها، كما لو كانت تجسد الصراع بين الخير والشر، الجمال والقبح، براءة الطبيعة وجشع الإنسان. ويصور المخرج بطله، وهو يسقط في قاع الحفرة واصابته بعد ارتطامه بالأرض واصابته بعاهة تظل معه حتى النهاية. ويصوره الفيلم في المشاهده الأولى وقد غطي وجهه وجسده وملابسه بأوساخ النفط ونفايات الطبيعة.
وينتهي الفيلم في عام 1927، وبعد أن يكون بلانفيو قد اصبح من كبار الأثرياء في بلده وأصبح يعيش في قصر شيده كما كان يحلم، لكنه كالسجن، يعيش فيه وحيدا كما كان دوما، عاجزا عن الإحساس بالسعادة، ساعيا إلى الانتقام من خصمه الأبدي وإذلاله، ولا يهم كيف ينتهي الأمر بعد ذلك.
وفي واحد من أفضل مشاهد الفيلم قبل النهاية، يواجه دانييل ولده بالتبني بعد أن كبر وتزوج. هنا يعلن الشاب، من خلال لغة الإشارات، أنه يريد أن يرحل بعيدا لكي يكون شركته الخاصة، وإنه يرغب في التحرر من سيطرة دانييل والعيش كظل له.
ويستشيط دانييل غضبا، فما معنى أن يرغب الولد في الاستقلال وتكوين شركته الخاصة؟ معناها أنه سيصبح منافسا له، كما يقول، وهو لا يسمح بأي منافسة، بل سيسعى للقضاء على أي منافس محتمل له. ويأخذ في صب اللعنات عليه، ويعترف له بأنه ليس ابنه، بل مجرد ابن زنا عثروا عليه في كيس يتدلى من شجرة في الصحراء!

ولعل الجانب الأكثر بروزا في الفيلم يتمثل في ذلك الأداء العبقري الفذ للممثل الانجليزي دانييل داي لويس في الدور الرئيسي. ويمكن القول إنه لا يقوم فقط بدور البطولة في الفيلم أي دور دانييل بلانفيو، بل يحمل الفيلم بأكمله على كتفيه، موظفا كل خبرته وقدرته على الحركة والأداء والتعبير بالعينين وارتجافة الشارب ورمشة العين التي قد لا يلحظها أحد، يسير متثاقلا كأنه يخرج من الجحيم، ويبدو بصوته الأجش المتسلط كما لو كان نذيرا باجتياح الشر للعالم بعد أن فقد روحانياته.
إنه لا يتقمص فقط الشخصية ويؤديها بكل خشونتها وانعزاليتها وضراوتها في التعامل مع الآخرين من الخارج، بل ينجح في التسلل تحت جلد الشخصية، وتجسيد إحساسها الداخلي الميت بالناس وبالدنيا، كيف أصبحت هكذا، شخصية فاقدة للروح والجوهر. ومع فقدان الأخلاق العليا يفقد الإنسان إنسانيته مهما حقق من الثروة والجاه، ولعل هذا هو المفهوم الفلسفي الأكثر عمقا، الذي يسوقه إلينا هذا الفيلم البديع.
"سيكون هناك دم" عمل غير مسبوق في السينما الأمريكية سيبقى في الذاكرة، وسيكون هناك كثير من الأفلام قبل أن نرى عملا مشابها له في الروح والجوهر والرونق الفني.

السبت، 4 أكتوبر 2008

"قلوب في دوامة" وتأملات في السينما والحياة




الماضي في مواجهة الحاضر وثنائية الأب - الإبن، والحب - الكراهية

تحفة إيليا كازان وكيف ساهمت في تشكيل الوعي بالسينما والعالم


قبل فيلم "الترتيب" The Arrangement لم تكن السينما واردة في ذهني بوضوح كاف. كانت مجرد فكرة أو مجموعة أفكار نظرية وجمالية ترتبط بعدد قليل من الأفلام التي كانت تعرض بين وقت وآخر في دور العرض القاهرية أو كنا نقرأ عنها في مجلة "السينما والمسرح".
كانت دور العرض قد شهدت موجة من الأفلام الجديدة في عهد مدير الرقابة مصطفى درويش مثل "انفجار" Blow Up لأنطونيوني الايطالي، و"زوربا اليوناني"لكاكويانيس اليوناني، و"الحياة للحياة" لكلود ليلوش الفرنسي، و"الخريج" لمايك نيكولز الأمريكي، و"قابلت الغجر السعداء" لألكسندر بتروفيتش اليوغسلافي . وكان هناك انفتاح واضح على السينما الأوروبية في تجاربها الفنية الجيدة. وكان نادي القاهرة للسينما قد بدأ أيضا في عرض أفلام مختلفة تماما عما اعتدنا مشاهدته ونحن أطفال مثل أفلام رعاة البقر وأفلام المعارك الحربية والمغامرات مثل "معركة آلامو" و"ريو برافو" و"ثورة على السفينة باونتي".
كانت أفلام نادي السينما في بداياته تأتي في معظمها من بلدان أوروبا الشرقية مثل الاتحاد السوفيتي والمجر وبولندا وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا، بحكم النشاط المكثف لمراكزها الثقافية في القاهرة، والاتفاقيات الثقافية التي كانت مصر قد وقعتها مع تلك البلدان. وقد بهرنا جميعا في ذلك الوقت، على سبيل المثال، بالفيلم التشيكي "ماركيتا لازاروفا" Marketa Lazarova برؤيته البصرية المدهشة وطابعه الملحمي وجرأته في استخدام الجسد البشري في التعبير وغير ذلك من العناصر الفنية التي لم يكن من السهل بالنسبة لشاب في مقتبل العمر مثلي أن يجد لها تفسيرا شاملا.


جيل الغضب

كنت في ذلك الوقت في بدايات الدراسة الجامعية، وكنت مشغولا مع أبناء جيلي، بالقراءة والبحث والتمرد وبفكرة التغيير، تغيير العالم بالسينما، أو تغيير السينما نفسها كمقدمة لتغيير العالم. وكانت فكرة التغيير ملحة بعد صدمة هزيمة 1967 التي أفاقتنا من الحلم الوردي الجميل المخدر بمجتمع القوة ودولة التفوق التي أطاحت بدول كبرى في 1956 وجعلتها "دولا من الدرجة الثانية ومن الدرجة الثالثة" حسب تعبير الرئيس جمال عبد الناصر الشهير.
كنا نتاجا بشكل ما، لتيار الغضب والتمرد الذي أعلن عن نفسه بوضوح في 1968، وكان عاما شهد فيه العالم باسره أحداثا صاخبة، وشهدت فيه مصر للمرة الأولى منذ يوليو 52 مظاهرات عارمة تعلن غضب الشباب ثم العمال على ما حل بالبلد بعد أن انكشف الغطاء وانفضح ما كان يرقد تحت السطح من عفن وجمود وغش وانتهازية، لعل يوسف شاهين عبر عنها أفضل تعبير في فيلمه "العصفور" الذي كتبه لطفي الخولي. وكانت السينما المصرية أيضا تمر بفترة تحول، من القديم إلى الجديد، من التسلية المطلقة الفارغة إلى الحديث بجرأة وشجاعة عن الكثير من الظواهر السلبية في حياتنا بصراحة للمرة الأولى منذ أن وعينا عليها.

اكتشاف الفيلم
غير أن ظهور فيلم "الترتيب" كان له عندي تأثير آخر أكثر قوة من تأثير اكتشاف السينما نفسها في بدايات الطفولة، فقد كان الفيلم اكتشافا للعلاقة بين الذات والعالم، الحلم والواقع، التعبير الحميمي عن النفس، والتعبير القاسي عن رفض السائد. وكان قبل هذا كله، اكتشافا للغة جديدة للسينما، مدهشة ومبهرة ومثيرة للعقل والخيال إلى أقصى درجة. وقد جاء الفيلم الذي انتج عام 1969 إلى مصر وعرض للمرة الأولى عام 1970 تحت اسم "قلوب في دوامة". ولم يستمر عرضه طويلا في دار سينما راديو التي كانت تعرضه من توزيع شركة وورنر على ما أتذكر، فقد ذهبت فيما بعد إلى مقر الشركة لاستئجار الفيلم لكي أعرضه في نادي السينما بكلية الطب الذي أسسته وأدرته عام 1971.
كان "الترتيب" (أو ترتيب الأمور) من بطولة نجم أمريكي شهير هو كيرك دوجلاس الذي كان اسمه محفورا في الذاكرة منذ سنوات الطفولة، منذ أن شاهدناه في دور سبارتاكوس في الفيلم الشهير. وكان معه في الفيلم ديبرا كير وفاي دوناواي وريتشارد بون. ودوناواي كانت ممثلة جديدة وقتها، وكانت قد لفتت الأنظار بقوة في دور بوني في الفيلم الشهير "بوني وكلايد" عام 1967.

إيليا كازان
وكان المخرج إيليا كازان، وهو من أصل يوناني، هو مخرج هذا الفيلم، وكنت قد شاهدت له فيلما آخر وأنا طفل ولم أعرف قيمته وأهميته وأنه من اخراج ايليا كازان إلا بعد أن كبرت وأصبحت أقرأ وأطلع، وهو فيلم "أمريكا.. أمريكا" (أو ابتسامة الأناضول) من عام 1963. وكان مصورا بالأبيض والأسود في صورة بديعة. وقد بذلت قبل فترة جهدا كبيرا في البحث عن هذا الفيلم، إلى أن تمكنت من الحصول على نسخة رقمية نادرة منه (DVD) استوردتها من الولايات المتحدة ولا أظن أنها متوفرة حاليا، وشاهدته وكم دهشت من حيويته الشديدة ورونقه الخاص.
المهم أن كازان الذي هاجر من شرق تركيا (وهو كما ذكرت يوناني الأصل) كان يروي في فيلمه هذا جانبا من حياته. وقد تلطخت سمعة كازان خلال فترة معينة بعد أن تحول إلى شاهد على رفاقه في الحزب الشيوعي الأمريكي خلال حقبة التفتيش ومحاكمات الفكر التي عرفتها الولايات المتحدة وهوليوود بوجه خاص في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي وارتبطت بالسيناتور اليميني جوزيف مكارثي الذي قاد الحملة وقتها ضد اليساريين، ورأس ما عرف باسم "لجنة النشاط المعادي" او "غير الأمريكي" في زمن الحرب الباردة وعرفت بـ"المكارثية" نسبة إليه، وهي حملة انتقلت بشكل معدل، إلى مصر في زمن السادات في السبعينيات.

لقطة من فيلم "امريكا.. أمريكا"

نعود إلى فيلمنا هذا الذي شاهدته بعد ظهر يوم في قاعة سينما راديو بوسط القاهرة وقت أن كانت بحق قاعة يمكن التباهي بها ومقارنتها مع أرقى دور العرض في العالم، وقبل تقطيع أوصالها وتحويلها إلى مسرح لم ادخله في حياتي، ودار سينما صغيرة منكمشة تجعلك تخرج وأنت تعاني من تصلب في عضلات الساقين!
العقل والخيال
وقد غادرت سينما راديو الجميلة وأنا في حالة صدمة جميلة ، فقد اكتشفت السينما يومها.. السينما الحقيقية التي تثير العقل والخيال، وأخذت أتساءل: كيف أمكن لإيليا كازان ذلك المخرج الذي أتى أساسا من المسرح، أن يصنع هذا الفيلم الذي ينحت لغة سينمائية جديدة تماما على هوليود تحديدا، وعلى الفيلم الأمريكي عموما، ومن خلال امكانيات الإنتاج الكبير وليس في نطاق السينما التجريبية أو سينما "تحت الأرض" التي عرفتها مدينة نيويورك في ذلك الوقت. لكن كان هناك بالتأكيد تاثير سينما "الأندرجروند" كما كان هناك تأثير السينما الأوروبية التي سعت هوليوود وقتذاك لاستقطاب الكثير من مخرجيها مثل أنطونيوني وروسيلليني فيما كان قد غادرها بسبب الحملة المكارثية سينمائيون عظماء قضوا باقي حياتهم في أوروبا إلى حين وفاتهم مثل جوزيف لوزي وجول داسان وشارلي شابلن وغيرهم، وكانوا ضمن "القائمة السوداء".

حملت تساؤلاتي وعدت لمشاهدة الفيلم مرة ثانية في عرض السادسة مساء في اليوم نفسه، وخرجت بانطباعات وأفكار وتساؤلات أكثر وأكثر، فهل كان ما يشدني إلى هذا الفيلم أسلوبه الطليعي المتقدم والمختلف تماما مع السينما الأمريكية السائدة، أم أن فيه أيضا اشياء أخرى قريبة من نفسي ومن خيالي الشخصي؟

ملصق فيلم "امريكا.. أمريكا"

الفرد والمجتمع
يناقش الفيلم، وهو مستمد من رواية لإيليا كازان فيها قدر لا بأس به من "السيرة الذاتية"، العلاقة بين الفرد والمجتمع، بين الرجل والمرأة (الزوجة من ناحية، والعشيقة من ناحية أخرى)، كما يعود إلى طفولة البطل وعلاقته بوالده وأمه وعمه وشقيقته، خاصة وأنه ينتمي لأسرة من المهاجرين من الشرق (يونانيون من تركيا). ويجسد السيناريو أزمة بطله (إيدي أندرسون) الذي يقوم بدوره كيرك دوجلاس من المشهد الأول في الفيلم قبل نزول العناوين، حيث نرى إيدي وهو أمام عجلة القيادة يقود سيارته في طريق سريع يمتلئ بالسيارات المسرعة، وهو يبتسم في سخرية ولامبالاة ثم ينحرف فجأة بعجلة القيادة لكي يصطدم بالشاحنة الضخمة التي تسير إلى جواره. إنه يرغب بوضوح في الخلاص من حياته، والأسباب كثيرة ونعرفها على مدار الفيلم.

إنه مدير ناجح للدعاية في إحدى شركات السجائر الأمريكية الكبرى، لكنه غير سعيد في مهنته بل كان يود لو اتخذت حياته مسارا آخر، فهو يمارس الكذب يوميا في الدعاية لسلعة لا يرى أن لها أي قيمة حقيقية في حياة الانسان بل على العكس، ولكنه مضطر للتفنن في الترويج لها إلى أن أصبح في نظر رؤسائه رجلا لا يمكن الاستغناء عنه. لقد بلغ قمة النجاح بالمفوم الاستهلاكي الأمريكي: أصبح ثريا، لديه منزل كبير فخم وآخر ريفي، متزوج من امرأة ثرية من الطبقة الوسطى، هي "فلورنس" لكنه لا يشعر معها بالسعادة فهي جزء من "الديكور" الاجتماعي المطلوب. ولذلك يهرب باستمرار إلى "جوين" (فاي دوناواي) الشابة الممتلئة بالحيوية والحياة والحب والتي تفهمه أكثر وتشعر بعذابه الداخلي. إن كل ما يشغل الزوجة هو تحقيق الصعود المادي والحياة المترفة في مجتمع لا يعترف إلا بالأقوياء الذين يستندون إلى أسس مادية صلبة. أما جوين فهي لا تريد إلا الحب والاطمئنان والسعادة لكنها اضطرت لقطع علاقتها معه لأنه حائر لا يستطيع أن يحسم أمره، وأقامت علاقة مع رجل آخر لا تحبه بقدر ما تريده سترا لطفلها غير الشرعي الذي لا تعرف ما إذا كانت قد أنجبته من "إيدي" أم من الرجل الآخر!
لا ينجح إيدي في الهروب من حياته بالانتحار، وتقنعه جوين باستئناف عمله في الشركة، فيعود ولكن بعقلية أخرى، يسيطر عليها الرغبة في التدمير، مما يؤدي إلى أن تخسر الشركة بسبب لامبالاته الملايين. إنه يبدو كما لو كان يحقق انتقامه الشخصي من تلك الشركة التي تسيطر عليه وتأكل روحه. ربما كان في داخله شخص آخر يريد أن يتحرر وأن يحتضن العالم، فنان بوهيمي منطلق يعانق الطبيعة والبشر، ويبتعد عن أجواء النفاق والرسميات والمغالاة في إدعاء النجاح والتفوق بالمفهوم المادي. وربما كان الدافع يكمن في طفولته القاسية كإبن لأسرة مهاجرة، تعرض لضغوط كثيرة من اجل دفعه دفعا إلى النجاح، فالنجاح في المهجر ضرورة لمن يريد البقاء وسط مجتمع الأقوياء الذي لا يرحم الغرباء وخصوصا الفاشلين منهم.

حب- كراهية
تدريجيا يكشف لنا السيناريو المركب للفيلم، من خلال مشاهد العودة إلى الماضي، كيف كانت علاقة إيدي بوالده الذي كان يقسو عليه ويضربه دافعا اياه إلى النجاح: إنها علاقة حب وكراهية من أكثر من صورته السينما قوة.. حب طبيعي بين أب يرغب في رؤية ابنه إنسانا ناجحا يحقق ما عجز الأب في شبابه عن تحقيقه، وابن لا يمكنه بحكم كل التقاليد التي تربى عليها، أن يخالف أباه أو يعصيه، وكراهية لأن هذا الأب نفسه لا يريد أن يقترب أبدا من ابنه للتعرف على رغباته الحقيقية، ويرفض الاستجابة لما يحبه، بل يريد أن يخلق منه نموذجا للنجاح طبقا لمفهومه الشخصي: التعليم الراقي والعمل الناجح والوظيفة المرموقة والثروة.


الماضي والحاضر
لحظات المواجهة بين الإبن والأب يقدمها إيليا كازان في لقطات تجمع بين الماضي والحاضر، أي بين زمنين مختلفين في نفس اللقطة، فنحن نرى إيدي الكبير في الزمن المضارع وهو يواجه نفسه شابا يافعا يقف منكس الرأس أمام أبيه في الزمن الماضي في لقطة واحدة. وكان هذا الأسلوب جديدا تماما علينا في ذلك الوقت، وإن لم يكن جديدا على السينما الأوروبية مثلا كما اكتشفنا بعد ذلك في أفلام فيلليني وبرجمان وأنطونيوني وأدركنا أن لغة كازان هنا كانت متأثرة بلغة السينما الأوروبية أي أن ذلك كان "التأثير الأوروبي" على السينما الأمريكية في وقت كانت هوليوود تعاني من مضاعفات مرحلة ما بعد زوال عصر الاستديو أو نهاية الدور الحاسم لمديري الاستديوهات أو شركات الإنتاج الكبيرة في تحديد الشكل النهائي للفيلم، وكانت هوليوود بالتالي ترغب في تجديد شبابها. وقد عاد إيليا كازان نفسه إلى تناول مرحلة "سطوة" مديري الاستديوهات في فيلمه البديع "التايكون الأخير" The Last Tycoon الذي قام ببطولته روبرت دي نيرو عام 1974.

في اللقطات التي نرى فيها إيدي وهو يمارس الجنس مع زوجته كنوع من أداء الواجب، نراه يتخيل أنه يمارس الحب مع عشيقته ينطلق انطلاقا هائلا يجعله يبدو مثل طفل صغير، وأحيانا يتخيل اشياء شبيهة بما نراه في أفلام الرسوم المتحركة، ويستخدم كازان بالفعل لقطات مصورة بتقنية أفلام الرسوم مع وضع كلمات عابثة كالتي تظهر في مجلات الرسوم التي يقرأها الصغار مثل "بوووم... وطاااااااااخ".. وغير ذلك.

إيدي أندرسون يتمادى في تمرده، فيهجر البيت والعمل والأسرة ويذهب إلى والده في المصحة التي يرقد فيها بعد أن تقدم في العمر وأصبح يعاني من أمراض الشيخوخة، وهناك يكتشف أن والده مازال يعيش في وهم أنه يمكن أن يبدأ حياة جديدة، وان يشرع في بدء تجارة تجعله مليونيرا، ويحلم باستيراد السجاد من إيران وبيعه في أمريكا. يستجيب إيدي لأبيه في لحظات حب وصفاء ووفاء وعرفان بالجميل، فيصطحبه خارج تلك المصحة الكئيبة، ويأخذه للإقامة في بيت الأسرة الريفي في لونج أيلاند، وهناك تتداعى الذكريات المريرة من المواجهة بين الأب والإبن.. ونرى كيف كان الأب يعامل إيدي وهو صغير بخشونة وقسوة، وكيف كانت أمه تتستر عليه وتخفي عن الأب ما كان يفعله بعيدا عن الاستجابة لتعليمات والده. لكن الأب رغم ذلك، لايزال يعامل ابنه باعتياره طفلا، يصفعه صفعة مباشرة قوية تجعل الإبن في لحظة انهيار نفسي يعلن للأب في موقف يصرخ بالكثير من المشاعر المتضاربة: "إنني أشعر بالعار لكوني ابنك" وهو أقسي ما يمكن أن يقوله ابن لوالده. هنا تنهار كل مقاومة لدى الأب وتدمع عيناه ويستسلم في لقطة لا تنسى.

رحلة الهروب
يصطحبه إيدي إلى مبنى ناطحة السحاب المعروفة "إمباير ستايت" في نيويورك لكي يسحب أمواله من البنك آملا في بدء تجربته الجديدة، حتى لو كان على عتبات الموت. أما إيدي فإنه يواصل رحلة هروبه من عالمه القديم ولكن بلا جدوى، فسرعان ما تتآمر عليه زوجته وابنته بالتعاون مع محامي الأسرة، ويستصدرون حكما قضائيا بقضي بأنه "غير متوازن عقليا" وبالتالي يصبح مبررا وضعه تحت الوصاية والاستيلاء على ممتلكاته وأمواله. وفي لحظة إحساس بالغضب الشديد والرغبة في الانسلاخ من الماضي بأسره، يشعل إيدي النار في منزل الأسرة، ويتعين عليه بعد ذلك أن يدفع الثمن، فيقنعون السلطات بأنه فقد عقله واصبح خطرا عليهم وعلى المجتمع بأسره، يصدر حكم بوضعه في مصحة للأمراض العقلية حيث يستلقي لساعات طويلة، لا يتحدث إلى أحد، يتأمل فقط فيما يعرض على شاشة التليفزيون من أفلام تسجيلية عن الحيوانات المفترسة وهي تلتهم الحيوانات الوديعة.

الأب يموت.. وجوين تذهب لإقناع إيدي بضرورة الخروج من المصحة وحضور جنازة الأب. وفي الجنازة التي يصورها إيليا كازان في مقبرة تقع وسط تقاطع غابة من الطرق الاسفلتية الشيطانية المتداخلة في ضواحي لوس أنجليس، يدفن الأب، ويشعر إيدي، ربما للمرة الأولى في حياته، بأنه قد اصبح حرا، يمكنه أن يفعل ما يريد، لكننا لا نعرف ماذا سيفعل الآن. هل يعود لاستئناف حياته كما أراد له الآخرون، أم يعود إلى المصحة حيث الصمت الثقيل الأبدي والوحدة المخيفة!
فيلم المؤلف
كان هذا الفيلم بكل تركيبه الشكلي وتعقيداته في السرد، تحديا جديدا ومدهشا في تناول الدراما النفسية الاجتماعية، وايضا نموذجا "كبيرا" في الهجاء السياسي للمجتمع الأمريكي بقيمه الاستهلاكية وتأثيرها المدمر على الفرد. وفي الوقت نفسه كان فيلم "قلوب في دوامة" أو "الترتيب" فيلما نموذجيا في تعبيره عن الاتجاه الذي شاع في أوروبا وفي فرنسا تحديدا لما عرف بـ"سينما المؤلف" التي طرحت كبديل لسينما المخرج المنفذ (أو الصنايعي الحرفي الذي ينفذ سيناريوهات يكتبها آخرون بعيدة عنه وعن اهتماماته وأفكاره الشخصية ورؤيته الخاصة للدنيا من حوله). وكانت تهلمنا في ذلك الوقت كتابات صبحي شفيق وفتحي فرج في مجلة "السينما" في هذا المجال.
فقد كتب إيليا كازان سيناريو فيلمه بنفسه عن روايته، ولا شك أن جانبا أساسيا في الفيلم مستلهم من السيرة الذاتية لإيليا كازان نفسه. وكان هذا أهم كثيرا بالنسبة لي ولأبناء جيلي وقتها، من موقف كازان السياسي الذي شابه بعض الغبار بسبب موقفه أمام لجنة ماكارثي، فقد كنا نرغب في تغيير السينما وجعلها وسيلة للتعبير الذاتي والشخصي عن موقفنا من العالم، وكنا نود الانطلاق من السينما لتغيير العالم نفسه.

شاهد بالفيديو المشهد الأول من فيلم "الترتيب"

الجمعة، 3 أكتوبر 2008

كلام واضح جدا


قبل فترة أرسل إلي "قارئ" يسألني سؤالا مباشرا: لماذا لا تذكر أسماء النقاد الذين تشير إليهم أحيانا إشارات سلبية كما كنت شجاعا في التصدي لفاروق حسني وغيره؟ وسألني عن ذلك "الصحفي" الذي أشرت في مقال سابق إلى أنه كان ينشر مقابلات مع النجوم على أنها مقابلات حصل عليها من فم الأسد، بينما كان يترجمها وينشر معها صورا التقطت له مع نجم أو آخر. وسألني أيضا ما إذا كنت أقصد بكلامي هذا صديقي"فلان الفلاني" لأن "قارئا آخر" (وإن كنت لست متأكدا) أراد أن يدخل في روع "صديقي" هذا المعنى لكي يحرضه ضدي بالطبع وضد ما أكتبه.
قلت له في رسالة خاصة الحقيقة العارية وهي أن صديقي "فلان الفلاني" ليس المقصود بكلامي، بل إن كلانا، أنا وصديقي، نعرف الشخص المقصود.
أما لماذا لا أذكر أسماء الكتاب والنقاد الذين أشير أحيانا إلى بعضهم أحيانا اشارات سلبية، فقد قلت له إنني لا أعتبر نفسي في خصومة شخصية مع كاتب أو صحفي أو ناقد أو نصف ناقد. إنني اختلف حقا مع البعض، لكن لا اشغل نفسي كثيرا بالدخول في حروب مع هذا أو ذاك، وعندما أشير إلى ما يفعله بعضهم فإنني أذكر ذلك في سياق الحديث عن قضية عامة أو موضوع أكبر، وليس من أجل تعرية أو فضح ناقد معين أو التشهير به، أم الكشف عن تاريخ ناقد آخر وعن تقلباته، ونفاقه، ومداهناته، وشبكة مصالحه، وكيف يوظف كتاباته لخدمة مصالحه وغير ذلك.. فلو كان هذا هدفي لفعلت، وبشكل علمي وموضوعي تماما، ولجعلت دماء كثيرة تسيل في الأنهار، أو وجوها كثيرة تشحب وترتعش من فرط الإحساس بالعار، هذا إذا كان لدى أصحابها أصلا أي إحساس من أي نوع، ودون أي حاجة إلى فبركة أو ترتيب رسائل ملغومة من "قراء" وهميين.

وعندما كتبت عن صحافة النفط وخزعبلاتها أشرت بوضوح لا لبس فيه إلى الصحيفة المقصودة وإلى الكتاب الذين يعدون لها صفحة في أمور السينما أجدها من وجهة نظري، مسيئة للسينما وللثقافة السينمائية كما أفهمها، لكني لم أنشر أسماء لأن الأسماء هنا لا قيمة لها ولا معنى، وإلا لبدا الأمر كما لو كنت أرغب في التشهير بهم، وهو ليس هدفي ولن يكون. وأي كاتب يفسر كلامي على أنه موجه ضده شخصيا وبشكل قصدي وأنه هو الهدف وهو المستهدف، تصبح هذه مشكلته التي لا قبل لي بها. وهي مشكلة علاجها في المصحات المتخصصة وليس على صفحات المدونات.

بشكل عام أجد أن هؤلاء الكتاب لا يجب أن يشغلونا كثيرا لأنهم ليسوا إلا توابع صغيرة تدور في فلك مؤسسات الفساد التي نهاجمها ونكشفها. ومن الطبيعي ان يسارعوا إلى القيام بدور المدافع عن تلك المؤسسات التي يتعيشون منها وعليها.
إن الناقد المنحرف، أو الكاتب المزيف أو الذي يبيع الكلمات وهناك كثيرون، ليس هو الهدف أو القضية، فهو أصغر من أن يكون كذلك، بل المناخ العفن الذي أفرزه وجعله يصبح على ما هو عليه.
وإذا ما سمح المرء لنفسه أن يتوجه بشكل مباشر، بالإسم والهوية والتعريف لكشف وفضح هؤلاء، فسوف لن نستخدم لغة الشتائم والذم، بل سنفضحهم من خلال كتاباتهم ومقالاتهم وكلها لدينا موثقة بالتواريخ وأماكن النشر. ولن نزيد عليها شيئا فهي أكبر دليل على إدانة هؤلاء ووضعهم في المكان الذي يستحقونه. لكن مرة أخرى ليس هذا هو الهدف.
أما المسؤولون، وزيرا كان أم رقيبا أم بوقا إعلاميا لوزير، فقد أصبحوا من الشخصيات العامة بعد أن تقلدوا المناصب، ولذا نذكرهم بالأسماء لأنهم يملكون السلطة والنفوذ ويمارسون السلطة بالفعل والتحكم في حياتنا، ومن حقنا أن نبين مغبة أعمالهم وانحرافاتهم لكشفهم وفضحهم أمام الرأي العام. وهذه وظيفة النقد ودوره.

الرسائل المتبادلة مع هذا "القارئ" الذي أشرت إليه ولم أذكر اسمه احتراما للخصوصية، موجودة، ويمكن نشرها إذا أراد، بكل ما فيها.. وأرجو ألا يسرع هو مجددا بهذه الكلمة إلى صديقي "فلان الفلاني" بتفسيراته لما يراه كامنا وراء السطور، لكي تبدأ لعبة من جديد لعبة التخمينات والتوجسات والتحريضات.

ولا يجب أن يتوقع أحد من جانبي مزيدا من هدر الوقت فيما لا نفع فيه، لكني سأواصل، بكل تأكيد، كتاباتي ضد كل رموز الفساد في الصحافة وفي السينما وفي المؤسسات الثقافية في العالم العربي، نفطية كانت أم مائية، دون أدنى وجل أو تردد أو تراجع أمام أي إرهاب من أي جهة أو شخص، شاء كل أئمة النفط وأتباعهم أم أبوا.

الخميس، 2 أكتوبر 2008

النقد الإنجليزي وفيلم "عمارة يعقوبيان"


ترحيب بالجرأة السياسية وتحفظات فنية


شهدت دور العرض في العاصمة البريطانية في العام الجاري 2008 عرض فيلم "عمارة يعقوبيان" عروضا تجارية عامة للمرة الأولى لفيلم مصري منذ سنوات. وبعده مباشرة عرض فيلم "هي فوضى" آخر افلام الراحل يوسف شاهين.
ويحسب لمنتجي فيلم "عمارة يعقوبيان" نجاحهم في الترويج للفيلم في أوروبا وعثورهم على موزع له في بريطانيا، ولو أنه موزع صغير للأفلام الفنية عادة أو الأفلام الأجنبية القادمة من سينمات العالم الثالث، يتمثل في مؤسسة "أي سي إيه" أو مؤسسة الفن العالمي المعاصر التي تعرضه في دار العرض الخاصة بها الواقعة في الطريق المؤدي إلى قصر باكنجهام الملكي.
ومع عرض "عمارة يعقوبيان" كان من الطبيعي أن يتناوله النقاد في الصحافة البريطانية المتخصصة والعامة بالنقد أو حتى بالإشارة.
وأود أن أقدم هنا عرضا موجزا لما كتب عن الفيلم لكي نعرف كيف تستقبل أفلامنا من طرف النقاد في الغرب.
صحيفة "الجارديان" اليومية نشرت مرتين عن الفيلم بقلم اثنين من أهم نقاد السينما البريطانيين، أولهما بيتر برادشو الذي وصف الفيلم بأنه "حقيبة تمتلئ بالشخصيات التي تعيش في عمارة سكنية في القاهرة عام 1990، قبل حرب الخليج مباشرة: والقصة عبارة عن مادة مليئة بالثرثرة وغير موحية، أقرب إلى مسلسلات التليفزيون من نوع "اوبرا الصابون"، ويقدم لنا الفيلم "اسكتشا" عاما للعاصمة المصرية الكوزموبوليتانية المتأرجحة بين الماضي والحاضر، وبين الإسلام والغرب خاصة أوروبا الفرانكفونية. أما نظرة الفيلم إلى الجنسية المثلية بين الذكور فهي نظرة قديمة وسطحية، إلا أن الفيلم "يصلح للرؤية" watchable، ويبدو أقصر كثيرا من زمن عرضه البالغ 3 ساعات، كما أنه يتضمن أداء ممتازا من عادل إمام".
أما فيليب فرنش (وهو ناقد مخضرم) فقد خصص مقالا أكثر تفصيلا عن الفيلم قدم فيه عرضا للرواية والفيلم والشخصيات ودلالة استخدام العمارة، وخلص إلى القول إن "هذا الفيلم القوي المؤثر المفعم بالحيوية، والذي يمتلئ بالمرح في أحيان كثيرة، ويحتوي المجتمع بأسره، يتعامل مع موضوع يعتبر عادة من المحرمات، بكثير من الجرأة. ومن المشجع أن الفيلم أفلت من الرقابة المصرية المعروفة بالتزمت، وهاجم المتطرفين، وحقق نجاحا كبيرا في مصر".
أما الناقد سوكديف ساندو فقد كتب عن الفيلم في "الديلي تليجراف" يقول "رغم أن الرواية تعاملت مع مواضيع حساسة مثل قمع الشرطة والفساد السياسي والشذوذ الجنسي، إلا أنها تعاملت مع الشخصيات عادة بدرجة واحدة من الخفة والإطالة حتى أنها جاءت على شاكلة مسلسلات "أوبرا الصابون". ونفس الشئ يمكن قوله بالنسبة للمعالجة السينمائية التي رغم التصوير البارع لسميح سالم، لم تتمكن أبدا من التنسيق الكامل بين الحكايات المزدحمة للسكان المتنوعين في عمارة سكنية في القاهرة".


رؤية قاسية
وكتب الناقد أنطوني كوين ناقد صحيفة "الإندبندنت" اليومية فقال: "الفيلم يقدم رؤية قاسية جدا للمجتمع المصري، سواء فيما يتعلق بالظلم السياسي أو بازدواجية المعايير في النظرة إلى الجنس وفيروس الفساد الذي يغزو كل المستويات، والانقسام الاجتماعي الذي يجعل المجتمع أرضية صالحة للإرهاب. على مدى 3 ساعات تقريبا، كان مطلوبا بناء أكثر تماسكا، كما أن الانتقال بين الشخصيات يحمل تأثير مسلسلات "أوبرا الصابون"، غير أن هجومه الشديد على الفساد يذكرنا برواية "هكذا نعيش حاليا" لترولوب (أنطوني ترولوب كاتب انجليزي من القرن التاسع عشر امتلأت رواياته بالنقد السياسي والاجتماعي لعصره - أ. ع).
وكتب بول دال في مجلة "ذي ليست" مرحبا بقدوم فيلم من مصر إلى دور العرض اللندنية بعد سيطرة الأفلام الإيرانية لفترة طويلة، وعرض للرواية وأهميتها وشخصياتها ثم خلص إلى القول "يبني كاتب السيناريو وحيد حامد والمخرج مروان حامد من رواية الأسواني رؤية ساخرة وقاسية للواقع المصري اليوم، الذي يمتلئ بالمسالك البشعة وأنصاف الحقائق. ورغم طوله المفرط يعتبر "عمارة يعقوبيان" عملا ممتعا بالإضافة إلى تصويره الرائع. والمرء يود أن يتصور أن اثنين من المخرجين العظام في مصر هما عاطف الطيب وصلاح أبو سيف، اللذين توفيا في التسعينيات، كانا سيشعران بالسعادة لمشاهدة فيلم مصري على هذا المستوى يعرض على الساحة العالمية".

مقارنة مع "المواطن كين"
مجلة "إمباير" السينمائية الخفيفة منحت الفيلم 4 نجوم (من 5) وعلقت تعليقا سريعا فوصفته بأنه "مزيج ملحمي من القصص التي تدور في القاهرة المعاصرة. التمثيل رائع ويشدك للمشاهدة".
أما مجلة "سايت آند ساوند" أعرق المجلات السينمائية البريطانية فقد خصصت مساحة أكبر لتحليل الفيلم ورحب ناقدها علي جعفر (لبناني الأصل) كثيرا بالفيلم واعتبره "محاولة جرئية لتقديم صورة شاملة لمصر المعاصرة، والفيلم يتناول كل شئ، من الفساد إلى الأصولية الإسلامية والشذوذ الجنسي".
ويتوقف الناقد أمام المشهد الأول من الفيلم الذي يروي تاريخ عمارة يعقوبيان ويقارن بينه وبين مشهد الجريدة السنيمائية في فيلم "المواطن كين" التي تلخص حياة البطل، كما يشيد بالممثلين وخاصة أداء عادل إمام.
غير أنه يتوقف في النهاية عند عدد من الملاحظات السلبية مثل الطريقة التي تناول بها الفيلم موضوع الشذوذ الجنسي، والتبسيط في تصوير تحول طه الشاذلي من طالب مجتهد إلى إرهابي، والوقوع في الميلودراما ومحاكاة أسلوب مسلسلات التليفزيون. لكنه يعود فيقول إن صناع الفيلم "يستحقون التحية.. لشجاعتهم في الكشف عن النفاق الكامن في المجتمع المصري".
وبشكل عام يمكن القول إن الاهتمام النقدي في الصحافة البريطانية بفيلم "عمارة يعقوبيان" جاء أولا بسبب ما أثارته رواية علاء الأسواني من اهتمام سابق على ظهور الفيلم، وما اكتسبته من سمعة جيدة في الأوساط المثقفة خاصة بعد صدورها في ترجمة انجليزية.
ثانيا: تركز الاهتمام بالفيلم في معظمه، على الجانب السياسي والاجتماعي وبالتالي تعامل معه كظاهرة اجتماعية أو سيوسيولوجية وليس كعمل فني أساسا، وربما تتشابه هنا نظرة النقاد الانجليز مع نظرة النقاد المصريين للفيلم.
أما عند التعرض للجوانب الفنية فيتفق معظم النقاد على اعتبار الفيلم أقرب إلى المسلسلات المعروفة بـ "أوبرا الصابون" التي تقدم شخصيات متعددة وتركز عادة على الجوانب المثيرة والفضائحية في حياتها.
كذلك أشار معظم النقاد إلى الطول المفرط للفيلم، وإلى التكرار والاستطرادات، لكنهم أجمعوا على براعة الأداء التمثيلي.

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger