السبت، 4 أكتوبر 2008

"قلوب في دوامة" وتأملات في السينما والحياة




الماضي في مواجهة الحاضر وثنائية الأب - الإبن، والحب - الكراهية

تحفة إيليا كازان وكيف ساهمت في تشكيل الوعي بالسينما والعالم


قبل فيلم "الترتيب" The Arrangement لم تكن السينما واردة في ذهني بوضوح كاف. كانت مجرد فكرة أو مجموعة أفكار نظرية وجمالية ترتبط بعدد قليل من الأفلام التي كانت تعرض بين وقت وآخر في دور العرض القاهرية أو كنا نقرأ عنها في مجلة "السينما والمسرح".
كانت دور العرض قد شهدت موجة من الأفلام الجديدة في عهد مدير الرقابة مصطفى درويش مثل "انفجار" Blow Up لأنطونيوني الايطالي، و"زوربا اليوناني"لكاكويانيس اليوناني، و"الحياة للحياة" لكلود ليلوش الفرنسي، و"الخريج" لمايك نيكولز الأمريكي، و"قابلت الغجر السعداء" لألكسندر بتروفيتش اليوغسلافي . وكان هناك انفتاح واضح على السينما الأوروبية في تجاربها الفنية الجيدة. وكان نادي القاهرة للسينما قد بدأ أيضا في عرض أفلام مختلفة تماما عما اعتدنا مشاهدته ونحن أطفال مثل أفلام رعاة البقر وأفلام المعارك الحربية والمغامرات مثل "معركة آلامو" و"ريو برافو" و"ثورة على السفينة باونتي".
كانت أفلام نادي السينما في بداياته تأتي في معظمها من بلدان أوروبا الشرقية مثل الاتحاد السوفيتي والمجر وبولندا وتشيكوسلوفاكيا ويوغسلافيا، بحكم النشاط المكثف لمراكزها الثقافية في القاهرة، والاتفاقيات الثقافية التي كانت مصر قد وقعتها مع تلك البلدان. وقد بهرنا جميعا في ذلك الوقت، على سبيل المثال، بالفيلم التشيكي "ماركيتا لازاروفا" Marketa Lazarova برؤيته البصرية المدهشة وطابعه الملحمي وجرأته في استخدام الجسد البشري في التعبير وغير ذلك من العناصر الفنية التي لم يكن من السهل بالنسبة لشاب في مقتبل العمر مثلي أن يجد لها تفسيرا شاملا.


جيل الغضب

كنت في ذلك الوقت في بدايات الدراسة الجامعية، وكنت مشغولا مع أبناء جيلي، بالقراءة والبحث والتمرد وبفكرة التغيير، تغيير العالم بالسينما، أو تغيير السينما نفسها كمقدمة لتغيير العالم. وكانت فكرة التغيير ملحة بعد صدمة هزيمة 1967 التي أفاقتنا من الحلم الوردي الجميل المخدر بمجتمع القوة ودولة التفوق التي أطاحت بدول كبرى في 1956 وجعلتها "دولا من الدرجة الثانية ومن الدرجة الثالثة" حسب تعبير الرئيس جمال عبد الناصر الشهير.
كنا نتاجا بشكل ما، لتيار الغضب والتمرد الذي أعلن عن نفسه بوضوح في 1968، وكان عاما شهد فيه العالم باسره أحداثا صاخبة، وشهدت فيه مصر للمرة الأولى منذ يوليو 52 مظاهرات عارمة تعلن غضب الشباب ثم العمال على ما حل بالبلد بعد أن انكشف الغطاء وانفضح ما كان يرقد تحت السطح من عفن وجمود وغش وانتهازية، لعل يوسف شاهين عبر عنها أفضل تعبير في فيلمه "العصفور" الذي كتبه لطفي الخولي. وكانت السينما المصرية أيضا تمر بفترة تحول، من القديم إلى الجديد، من التسلية المطلقة الفارغة إلى الحديث بجرأة وشجاعة عن الكثير من الظواهر السلبية في حياتنا بصراحة للمرة الأولى منذ أن وعينا عليها.

اكتشاف الفيلم
غير أن ظهور فيلم "الترتيب" كان له عندي تأثير آخر أكثر قوة من تأثير اكتشاف السينما نفسها في بدايات الطفولة، فقد كان الفيلم اكتشافا للعلاقة بين الذات والعالم، الحلم والواقع، التعبير الحميمي عن النفس، والتعبير القاسي عن رفض السائد. وكان قبل هذا كله، اكتشافا للغة جديدة للسينما، مدهشة ومبهرة ومثيرة للعقل والخيال إلى أقصى درجة. وقد جاء الفيلم الذي انتج عام 1969 إلى مصر وعرض للمرة الأولى عام 1970 تحت اسم "قلوب في دوامة". ولم يستمر عرضه طويلا في دار سينما راديو التي كانت تعرضه من توزيع شركة وورنر على ما أتذكر، فقد ذهبت فيما بعد إلى مقر الشركة لاستئجار الفيلم لكي أعرضه في نادي السينما بكلية الطب الذي أسسته وأدرته عام 1971.
كان "الترتيب" (أو ترتيب الأمور) من بطولة نجم أمريكي شهير هو كيرك دوجلاس الذي كان اسمه محفورا في الذاكرة منذ سنوات الطفولة، منذ أن شاهدناه في دور سبارتاكوس في الفيلم الشهير. وكان معه في الفيلم ديبرا كير وفاي دوناواي وريتشارد بون. ودوناواي كانت ممثلة جديدة وقتها، وكانت قد لفتت الأنظار بقوة في دور بوني في الفيلم الشهير "بوني وكلايد" عام 1967.

إيليا كازان
وكان المخرج إيليا كازان، وهو من أصل يوناني، هو مخرج هذا الفيلم، وكنت قد شاهدت له فيلما آخر وأنا طفل ولم أعرف قيمته وأهميته وأنه من اخراج ايليا كازان إلا بعد أن كبرت وأصبحت أقرأ وأطلع، وهو فيلم "أمريكا.. أمريكا" (أو ابتسامة الأناضول) من عام 1963. وكان مصورا بالأبيض والأسود في صورة بديعة. وقد بذلت قبل فترة جهدا كبيرا في البحث عن هذا الفيلم، إلى أن تمكنت من الحصول على نسخة رقمية نادرة منه (DVD) استوردتها من الولايات المتحدة ولا أظن أنها متوفرة حاليا، وشاهدته وكم دهشت من حيويته الشديدة ورونقه الخاص.
المهم أن كازان الذي هاجر من شرق تركيا (وهو كما ذكرت يوناني الأصل) كان يروي في فيلمه هذا جانبا من حياته. وقد تلطخت سمعة كازان خلال فترة معينة بعد أن تحول إلى شاهد على رفاقه في الحزب الشيوعي الأمريكي خلال حقبة التفتيش ومحاكمات الفكر التي عرفتها الولايات المتحدة وهوليوود بوجه خاص في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي وارتبطت بالسيناتور اليميني جوزيف مكارثي الذي قاد الحملة وقتها ضد اليساريين، ورأس ما عرف باسم "لجنة النشاط المعادي" او "غير الأمريكي" في زمن الحرب الباردة وعرفت بـ"المكارثية" نسبة إليه، وهي حملة انتقلت بشكل معدل، إلى مصر في زمن السادات في السبعينيات.

لقطة من فيلم "امريكا.. أمريكا"

نعود إلى فيلمنا هذا الذي شاهدته بعد ظهر يوم في قاعة سينما راديو بوسط القاهرة وقت أن كانت بحق قاعة يمكن التباهي بها ومقارنتها مع أرقى دور العرض في العالم، وقبل تقطيع أوصالها وتحويلها إلى مسرح لم ادخله في حياتي، ودار سينما صغيرة منكمشة تجعلك تخرج وأنت تعاني من تصلب في عضلات الساقين!
العقل والخيال
وقد غادرت سينما راديو الجميلة وأنا في حالة صدمة جميلة ، فقد اكتشفت السينما يومها.. السينما الحقيقية التي تثير العقل والخيال، وأخذت أتساءل: كيف أمكن لإيليا كازان ذلك المخرج الذي أتى أساسا من المسرح، أن يصنع هذا الفيلم الذي ينحت لغة سينمائية جديدة تماما على هوليود تحديدا، وعلى الفيلم الأمريكي عموما، ومن خلال امكانيات الإنتاج الكبير وليس في نطاق السينما التجريبية أو سينما "تحت الأرض" التي عرفتها مدينة نيويورك في ذلك الوقت. لكن كان هناك بالتأكيد تاثير سينما "الأندرجروند" كما كان هناك تأثير السينما الأوروبية التي سعت هوليوود وقتذاك لاستقطاب الكثير من مخرجيها مثل أنطونيوني وروسيلليني فيما كان قد غادرها بسبب الحملة المكارثية سينمائيون عظماء قضوا باقي حياتهم في أوروبا إلى حين وفاتهم مثل جوزيف لوزي وجول داسان وشارلي شابلن وغيرهم، وكانوا ضمن "القائمة السوداء".

حملت تساؤلاتي وعدت لمشاهدة الفيلم مرة ثانية في عرض السادسة مساء في اليوم نفسه، وخرجت بانطباعات وأفكار وتساؤلات أكثر وأكثر، فهل كان ما يشدني إلى هذا الفيلم أسلوبه الطليعي المتقدم والمختلف تماما مع السينما الأمريكية السائدة، أم أن فيه أيضا اشياء أخرى قريبة من نفسي ومن خيالي الشخصي؟

ملصق فيلم "امريكا.. أمريكا"

الفرد والمجتمع
يناقش الفيلم، وهو مستمد من رواية لإيليا كازان فيها قدر لا بأس به من "السيرة الذاتية"، العلاقة بين الفرد والمجتمع، بين الرجل والمرأة (الزوجة من ناحية، والعشيقة من ناحية أخرى)، كما يعود إلى طفولة البطل وعلاقته بوالده وأمه وعمه وشقيقته، خاصة وأنه ينتمي لأسرة من المهاجرين من الشرق (يونانيون من تركيا). ويجسد السيناريو أزمة بطله (إيدي أندرسون) الذي يقوم بدوره كيرك دوجلاس من المشهد الأول في الفيلم قبل نزول العناوين، حيث نرى إيدي وهو أمام عجلة القيادة يقود سيارته في طريق سريع يمتلئ بالسيارات المسرعة، وهو يبتسم في سخرية ولامبالاة ثم ينحرف فجأة بعجلة القيادة لكي يصطدم بالشاحنة الضخمة التي تسير إلى جواره. إنه يرغب بوضوح في الخلاص من حياته، والأسباب كثيرة ونعرفها على مدار الفيلم.

إنه مدير ناجح للدعاية في إحدى شركات السجائر الأمريكية الكبرى، لكنه غير سعيد في مهنته بل كان يود لو اتخذت حياته مسارا آخر، فهو يمارس الكذب يوميا في الدعاية لسلعة لا يرى أن لها أي قيمة حقيقية في حياة الانسان بل على العكس، ولكنه مضطر للتفنن في الترويج لها إلى أن أصبح في نظر رؤسائه رجلا لا يمكن الاستغناء عنه. لقد بلغ قمة النجاح بالمفوم الاستهلاكي الأمريكي: أصبح ثريا، لديه منزل كبير فخم وآخر ريفي، متزوج من امرأة ثرية من الطبقة الوسطى، هي "فلورنس" لكنه لا يشعر معها بالسعادة فهي جزء من "الديكور" الاجتماعي المطلوب. ولذلك يهرب باستمرار إلى "جوين" (فاي دوناواي) الشابة الممتلئة بالحيوية والحياة والحب والتي تفهمه أكثر وتشعر بعذابه الداخلي. إن كل ما يشغل الزوجة هو تحقيق الصعود المادي والحياة المترفة في مجتمع لا يعترف إلا بالأقوياء الذين يستندون إلى أسس مادية صلبة. أما جوين فهي لا تريد إلا الحب والاطمئنان والسعادة لكنها اضطرت لقطع علاقتها معه لأنه حائر لا يستطيع أن يحسم أمره، وأقامت علاقة مع رجل آخر لا تحبه بقدر ما تريده سترا لطفلها غير الشرعي الذي لا تعرف ما إذا كانت قد أنجبته من "إيدي" أم من الرجل الآخر!
لا ينجح إيدي في الهروب من حياته بالانتحار، وتقنعه جوين باستئناف عمله في الشركة، فيعود ولكن بعقلية أخرى، يسيطر عليها الرغبة في التدمير، مما يؤدي إلى أن تخسر الشركة بسبب لامبالاته الملايين. إنه يبدو كما لو كان يحقق انتقامه الشخصي من تلك الشركة التي تسيطر عليه وتأكل روحه. ربما كان في داخله شخص آخر يريد أن يتحرر وأن يحتضن العالم، فنان بوهيمي منطلق يعانق الطبيعة والبشر، ويبتعد عن أجواء النفاق والرسميات والمغالاة في إدعاء النجاح والتفوق بالمفهوم المادي. وربما كان الدافع يكمن في طفولته القاسية كإبن لأسرة مهاجرة، تعرض لضغوط كثيرة من اجل دفعه دفعا إلى النجاح، فالنجاح في المهجر ضرورة لمن يريد البقاء وسط مجتمع الأقوياء الذي لا يرحم الغرباء وخصوصا الفاشلين منهم.

حب- كراهية
تدريجيا يكشف لنا السيناريو المركب للفيلم، من خلال مشاهد العودة إلى الماضي، كيف كانت علاقة إيدي بوالده الذي كان يقسو عليه ويضربه دافعا اياه إلى النجاح: إنها علاقة حب وكراهية من أكثر من صورته السينما قوة.. حب طبيعي بين أب يرغب في رؤية ابنه إنسانا ناجحا يحقق ما عجز الأب في شبابه عن تحقيقه، وابن لا يمكنه بحكم كل التقاليد التي تربى عليها، أن يخالف أباه أو يعصيه، وكراهية لأن هذا الأب نفسه لا يريد أن يقترب أبدا من ابنه للتعرف على رغباته الحقيقية، ويرفض الاستجابة لما يحبه، بل يريد أن يخلق منه نموذجا للنجاح طبقا لمفهومه الشخصي: التعليم الراقي والعمل الناجح والوظيفة المرموقة والثروة.


الماضي والحاضر
لحظات المواجهة بين الإبن والأب يقدمها إيليا كازان في لقطات تجمع بين الماضي والحاضر، أي بين زمنين مختلفين في نفس اللقطة، فنحن نرى إيدي الكبير في الزمن المضارع وهو يواجه نفسه شابا يافعا يقف منكس الرأس أمام أبيه في الزمن الماضي في لقطة واحدة. وكان هذا الأسلوب جديدا تماما علينا في ذلك الوقت، وإن لم يكن جديدا على السينما الأوروبية مثلا كما اكتشفنا بعد ذلك في أفلام فيلليني وبرجمان وأنطونيوني وأدركنا أن لغة كازان هنا كانت متأثرة بلغة السينما الأوروبية أي أن ذلك كان "التأثير الأوروبي" على السينما الأمريكية في وقت كانت هوليوود تعاني من مضاعفات مرحلة ما بعد زوال عصر الاستديو أو نهاية الدور الحاسم لمديري الاستديوهات أو شركات الإنتاج الكبيرة في تحديد الشكل النهائي للفيلم، وكانت هوليوود بالتالي ترغب في تجديد شبابها. وقد عاد إيليا كازان نفسه إلى تناول مرحلة "سطوة" مديري الاستديوهات في فيلمه البديع "التايكون الأخير" The Last Tycoon الذي قام ببطولته روبرت دي نيرو عام 1974.

في اللقطات التي نرى فيها إيدي وهو يمارس الجنس مع زوجته كنوع من أداء الواجب، نراه يتخيل أنه يمارس الحب مع عشيقته ينطلق انطلاقا هائلا يجعله يبدو مثل طفل صغير، وأحيانا يتخيل اشياء شبيهة بما نراه في أفلام الرسوم المتحركة، ويستخدم كازان بالفعل لقطات مصورة بتقنية أفلام الرسوم مع وضع كلمات عابثة كالتي تظهر في مجلات الرسوم التي يقرأها الصغار مثل "بوووم... وطاااااااااخ".. وغير ذلك.

إيدي أندرسون يتمادى في تمرده، فيهجر البيت والعمل والأسرة ويذهب إلى والده في المصحة التي يرقد فيها بعد أن تقدم في العمر وأصبح يعاني من أمراض الشيخوخة، وهناك يكتشف أن والده مازال يعيش في وهم أنه يمكن أن يبدأ حياة جديدة، وان يشرع في بدء تجارة تجعله مليونيرا، ويحلم باستيراد السجاد من إيران وبيعه في أمريكا. يستجيب إيدي لأبيه في لحظات حب وصفاء ووفاء وعرفان بالجميل، فيصطحبه خارج تلك المصحة الكئيبة، ويأخذه للإقامة في بيت الأسرة الريفي في لونج أيلاند، وهناك تتداعى الذكريات المريرة من المواجهة بين الأب والإبن.. ونرى كيف كان الأب يعامل إيدي وهو صغير بخشونة وقسوة، وكيف كانت أمه تتستر عليه وتخفي عن الأب ما كان يفعله بعيدا عن الاستجابة لتعليمات والده. لكن الأب رغم ذلك، لايزال يعامل ابنه باعتياره طفلا، يصفعه صفعة مباشرة قوية تجعل الإبن في لحظة انهيار نفسي يعلن للأب في موقف يصرخ بالكثير من المشاعر المتضاربة: "إنني أشعر بالعار لكوني ابنك" وهو أقسي ما يمكن أن يقوله ابن لوالده. هنا تنهار كل مقاومة لدى الأب وتدمع عيناه ويستسلم في لقطة لا تنسى.

رحلة الهروب
يصطحبه إيدي إلى مبنى ناطحة السحاب المعروفة "إمباير ستايت" في نيويورك لكي يسحب أمواله من البنك آملا في بدء تجربته الجديدة، حتى لو كان على عتبات الموت. أما إيدي فإنه يواصل رحلة هروبه من عالمه القديم ولكن بلا جدوى، فسرعان ما تتآمر عليه زوجته وابنته بالتعاون مع محامي الأسرة، ويستصدرون حكما قضائيا بقضي بأنه "غير متوازن عقليا" وبالتالي يصبح مبررا وضعه تحت الوصاية والاستيلاء على ممتلكاته وأمواله. وفي لحظة إحساس بالغضب الشديد والرغبة في الانسلاخ من الماضي بأسره، يشعل إيدي النار في منزل الأسرة، ويتعين عليه بعد ذلك أن يدفع الثمن، فيقنعون السلطات بأنه فقد عقله واصبح خطرا عليهم وعلى المجتمع بأسره، يصدر حكم بوضعه في مصحة للأمراض العقلية حيث يستلقي لساعات طويلة، لا يتحدث إلى أحد، يتأمل فقط فيما يعرض على شاشة التليفزيون من أفلام تسجيلية عن الحيوانات المفترسة وهي تلتهم الحيوانات الوديعة.

الأب يموت.. وجوين تذهب لإقناع إيدي بضرورة الخروج من المصحة وحضور جنازة الأب. وفي الجنازة التي يصورها إيليا كازان في مقبرة تقع وسط تقاطع غابة من الطرق الاسفلتية الشيطانية المتداخلة في ضواحي لوس أنجليس، يدفن الأب، ويشعر إيدي، ربما للمرة الأولى في حياته، بأنه قد اصبح حرا، يمكنه أن يفعل ما يريد، لكننا لا نعرف ماذا سيفعل الآن. هل يعود لاستئناف حياته كما أراد له الآخرون، أم يعود إلى المصحة حيث الصمت الثقيل الأبدي والوحدة المخيفة!
فيلم المؤلف
كان هذا الفيلم بكل تركيبه الشكلي وتعقيداته في السرد، تحديا جديدا ومدهشا في تناول الدراما النفسية الاجتماعية، وايضا نموذجا "كبيرا" في الهجاء السياسي للمجتمع الأمريكي بقيمه الاستهلاكية وتأثيرها المدمر على الفرد. وفي الوقت نفسه كان فيلم "قلوب في دوامة" أو "الترتيب" فيلما نموذجيا في تعبيره عن الاتجاه الذي شاع في أوروبا وفي فرنسا تحديدا لما عرف بـ"سينما المؤلف" التي طرحت كبديل لسينما المخرج المنفذ (أو الصنايعي الحرفي الذي ينفذ سيناريوهات يكتبها آخرون بعيدة عنه وعن اهتماماته وأفكاره الشخصية ورؤيته الخاصة للدنيا من حوله). وكانت تهلمنا في ذلك الوقت كتابات صبحي شفيق وفتحي فرج في مجلة "السينما" في هذا المجال.
فقد كتب إيليا كازان سيناريو فيلمه بنفسه عن روايته، ولا شك أن جانبا أساسيا في الفيلم مستلهم من السيرة الذاتية لإيليا كازان نفسه. وكان هذا أهم كثيرا بالنسبة لي ولأبناء جيلي وقتها، من موقف كازان السياسي الذي شابه بعض الغبار بسبب موقفه أمام لجنة ماكارثي، فقد كنا نرغب في تغيير السينما وجعلها وسيلة للتعبير الذاتي والشخصي عن موقفنا من العالم، وكنا نود الانطلاق من السينما لتغيير العالم نفسه.

شاهد بالفيديو المشهد الأول من فيلم "الترتيب"

الجمعة، 3 أكتوبر 2008

كلام واضح جدا


قبل فترة أرسل إلي "قارئ" يسألني سؤالا مباشرا: لماذا لا تذكر أسماء النقاد الذين تشير إليهم أحيانا إشارات سلبية كما كنت شجاعا في التصدي لفاروق حسني وغيره؟ وسألني عن ذلك "الصحفي" الذي أشرت في مقال سابق إلى أنه كان ينشر مقابلات مع النجوم على أنها مقابلات حصل عليها من فم الأسد، بينما كان يترجمها وينشر معها صورا التقطت له مع نجم أو آخر. وسألني أيضا ما إذا كنت أقصد بكلامي هذا صديقي"فلان الفلاني" لأن "قارئا آخر" (وإن كنت لست متأكدا) أراد أن يدخل في روع "صديقي" هذا المعنى لكي يحرضه ضدي بالطبع وضد ما أكتبه.
قلت له في رسالة خاصة الحقيقة العارية وهي أن صديقي "فلان الفلاني" ليس المقصود بكلامي، بل إن كلانا، أنا وصديقي، نعرف الشخص المقصود.
أما لماذا لا أذكر أسماء الكتاب والنقاد الذين أشير أحيانا إلى بعضهم أحيانا اشارات سلبية، فقد قلت له إنني لا أعتبر نفسي في خصومة شخصية مع كاتب أو صحفي أو ناقد أو نصف ناقد. إنني اختلف حقا مع البعض، لكن لا اشغل نفسي كثيرا بالدخول في حروب مع هذا أو ذاك، وعندما أشير إلى ما يفعله بعضهم فإنني أذكر ذلك في سياق الحديث عن قضية عامة أو موضوع أكبر، وليس من أجل تعرية أو فضح ناقد معين أو التشهير به، أم الكشف عن تاريخ ناقد آخر وعن تقلباته، ونفاقه، ومداهناته، وشبكة مصالحه، وكيف يوظف كتاباته لخدمة مصالحه وغير ذلك.. فلو كان هذا هدفي لفعلت، وبشكل علمي وموضوعي تماما، ولجعلت دماء كثيرة تسيل في الأنهار، أو وجوها كثيرة تشحب وترتعش من فرط الإحساس بالعار، هذا إذا كان لدى أصحابها أصلا أي إحساس من أي نوع، ودون أي حاجة إلى فبركة أو ترتيب رسائل ملغومة من "قراء" وهميين.

وعندما كتبت عن صحافة النفط وخزعبلاتها أشرت بوضوح لا لبس فيه إلى الصحيفة المقصودة وإلى الكتاب الذين يعدون لها صفحة في أمور السينما أجدها من وجهة نظري، مسيئة للسينما وللثقافة السينمائية كما أفهمها، لكني لم أنشر أسماء لأن الأسماء هنا لا قيمة لها ولا معنى، وإلا لبدا الأمر كما لو كنت أرغب في التشهير بهم، وهو ليس هدفي ولن يكون. وأي كاتب يفسر كلامي على أنه موجه ضده شخصيا وبشكل قصدي وأنه هو الهدف وهو المستهدف، تصبح هذه مشكلته التي لا قبل لي بها. وهي مشكلة علاجها في المصحات المتخصصة وليس على صفحات المدونات.

بشكل عام أجد أن هؤلاء الكتاب لا يجب أن يشغلونا كثيرا لأنهم ليسوا إلا توابع صغيرة تدور في فلك مؤسسات الفساد التي نهاجمها ونكشفها. ومن الطبيعي ان يسارعوا إلى القيام بدور المدافع عن تلك المؤسسات التي يتعيشون منها وعليها.
إن الناقد المنحرف، أو الكاتب المزيف أو الذي يبيع الكلمات وهناك كثيرون، ليس هو الهدف أو القضية، فهو أصغر من أن يكون كذلك، بل المناخ العفن الذي أفرزه وجعله يصبح على ما هو عليه.
وإذا ما سمح المرء لنفسه أن يتوجه بشكل مباشر، بالإسم والهوية والتعريف لكشف وفضح هؤلاء، فسوف لن نستخدم لغة الشتائم والذم، بل سنفضحهم من خلال كتاباتهم ومقالاتهم وكلها لدينا موثقة بالتواريخ وأماكن النشر. ولن نزيد عليها شيئا فهي أكبر دليل على إدانة هؤلاء ووضعهم في المكان الذي يستحقونه. لكن مرة أخرى ليس هذا هو الهدف.
أما المسؤولون، وزيرا كان أم رقيبا أم بوقا إعلاميا لوزير، فقد أصبحوا من الشخصيات العامة بعد أن تقلدوا المناصب، ولذا نذكرهم بالأسماء لأنهم يملكون السلطة والنفوذ ويمارسون السلطة بالفعل والتحكم في حياتنا، ومن حقنا أن نبين مغبة أعمالهم وانحرافاتهم لكشفهم وفضحهم أمام الرأي العام. وهذه وظيفة النقد ودوره.

الرسائل المتبادلة مع هذا "القارئ" الذي أشرت إليه ولم أذكر اسمه احتراما للخصوصية، موجودة، ويمكن نشرها إذا أراد، بكل ما فيها.. وأرجو ألا يسرع هو مجددا بهذه الكلمة إلى صديقي "فلان الفلاني" بتفسيراته لما يراه كامنا وراء السطور، لكي تبدأ لعبة من جديد لعبة التخمينات والتوجسات والتحريضات.

ولا يجب أن يتوقع أحد من جانبي مزيدا من هدر الوقت فيما لا نفع فيه، لكني سأواصل، بكل تأكيد، كتاباتي ضد كل رموز الفساد في الصحافة وفي السينما وفي المؤسسات الثقافية في العالم العربي، نفطية كانت أم مائية، دون أدنى وجل أو تردد أو تراجع أمام أي إرهاب من أي جهة أو شخص، شاء كل أئمة النفط وأتباعهم أم أبوا.

الخميس، 2 أكتوبر 2008

النقد الإنجليزي وفيلم "عمارة يعقوبيان"


ترحيب بالجرأة السياسية وتحفظات فنية


شهدت دور العرض في العاصمة البريطانية في العام الجاري 2008 عرض فيلم "عمارة يعقوبيان" عروضا تجارية عامة للمرة الأولى لفيلم مصري منذ سنوات. وبعده مباشرة عرض فيلم "هي فوضى" آخر افلام الراحل يوسف شاهين.
ويحسب لمنتجي فيلم "عمارة يعقوبيان" نجاحهم في الترويج للفيلم في أوروبا وعثورهم على موزع له في بريطانيا، ولو أنه موزع صغير للأفلام الفنية عادة أو الأفلام الأجنبية القادمة من سينمات العالم الثالث، يتمثل في مؤسسة "أي سي إيه" أو مؤسسة الفن العالمي المعاصر التي تعرضه في دار العرض الخاصة بها الواقعة في الطريق المؤدي إلى قصر باكنجهام الملكي.
ومع عرض "عمارة يعقوبيان" كان من الطبيعي أن يتناوله النقاد في الصحافة البريطانية المتخصصة والعامة بالنقد أو حتى بالإشارة.
وأود أن أقدم هنا عرضا موجزا لما كتب عن الفيلم لكي نعرف كيف تستقبل أفلامنا من طرف النقاد في الغرب.
صحيفة "الجارديان" اليومية نشرت مرتين عن الفيلم بقلم اثنين من أهم نقاد السينما البريطانيين، أولهما بيتر برادشو الذي وصف الفيلم بأنه "حقيبة تمتلئ بالشخصيات التي تعيش في عمارة سكنية في القاهرة عام 1990، قبل حرب الخليج مباشرة: والقصة عبارة عن مادة مليئة بالثرثرة وغير موحية، أقرب إلى مسلسلات التليفزيون من نوع "اوبرا الصابون"، ويقدم لنا الفيلم "اسكتشا" عاما للعاصمة المصرية الكوزموبوليتانية المتأرجحة بين الماضي والحاضر، وبين الإسلام والغرب خاصة أوروبا الفرانكفونية. أما نظرة الفيلم إلى الجنسية المثلية بين الذكور فهي نظرة قديمة وسطحية، إلا أن الفيلم "يصلح للرؤية" watchable، ويبدو أقصر كثيرا من زمن عرضه البالغ 3 ساعات، كما أنه يتضمن أداء ممتازا من عادل إمام".
أما فيليب فرنش (وهو ناقد مخضرم) فقد خصص مقالا أكثر تفصيلا عن الفيلم قدم فيه عرضا للرواية والفيلم والشخصيات ودلالة استخدام العمارة، وخلص إلى القول إن "هذا الفيلم القوي المؤثر المفعم بالحيوية، والذي يمتلئ بالمرح في أحيان كثيرة، ويحتوي المجتمع بأسره، يتعامل مع موضوع يعتبر عادة من المحرمات، بكثير من الجرأة. ومن المشجع أن الفيلم أفلت من الرقابة المصرية المعروفة بالتزمت، وهاجم المتطرفين، وحقق نجاحا كبيرا في مصر".
أما الناقد سوكديف ساندو فقد كتب عن الفيلم في "الديلي تليجراف" يقول "رغم أن الرواية تعاملت مع مواضيع حساسة مثل قمع الشرطة والفساد السياسي والشذوذ الجنسي، إلا أنها تعاملت مع الشخصيات عادة بدرجة واحدة من الخفة والإطالة حتى أنها جاءت على شاكلة مسلسلات "أوبرا الصابون". ونفس الشئ يمكن قوله بالنسبة للمعالجة السينمائية التي رغم التصوير البارع لسميح سالم، لم تتمكن أبدا من التنسيق الكامل بين الحكايات المزدحمة للسكان المتنوعين في عمارة سكنية في القاهرة".


رؤية قاسية
وكتب الناقد أنطوني كوين ناقد صحيفة "الإندبندنت" اليومية فقال: "الفيلم يقدم رؤية قاسية جدا للمجتمع المصري، سواء فيما يتعلق بالظلم السياسي أو بازدواجية المعايير في النظرة إلى الجنس وفيروس الفساد الذي يغزو كل المستويات، والانقسام الاجتماعي الذي يجعل المجتمع أرضية صالحة للإرهاب. على مدى 3 ساعات تقريبا، كان مطلوبا بناء أكثر تماسكا، كما أن الانتقال بين الشخصيات يحمل تأثير مسلسلات "أوبرا الصابون"، غير أن هجومه الشديد على الفساد يذكرنا برواية "هكذا نعيش حاليا" لترولوب (أنطوني ترولوب كاتب انجليزي من القرن التاسع عشر امتلأت رواياته بالنقد السياسي والاجتماعي لعصره - أ. ع).
وكتب بول دال في مجلة "ذي ليست" مرحبا بقدوم فيلم من مصر إلى دور العرض اللندنية بعد سيطرة الأفلام الإيرانية لفترة طويلة، وعرض للرواية وأهميتها وشخصياتها ثم خلص إلى القول "يبني كاتب السيناريو وحيد حامد والمخرج مروان حامد من رواية الأسواني رؤية ساخرة وقاسية للواقع المصري اليوم، الذي يمتلئ بالمسالك البشعة وأنصاف الحقائق. ورغم طوله المفرط يعتبر "عمارة يعقوبيان" عملا ممتعا بالإضافة إلى تصويره الرائع. والمرء يود أن يتصور أن اثنين من المخرجين العظام في مصر هما عاطف الطيب وصلاح أبو سيف، اللذين توفيا في التسعينيات، كانا سيشعران بالسعادة لمشاهدة فيلم مصري على هذا المستوى يعرض على الساحة العالمية".

مقارنة مع "المواطن كين"
مجلة "إمباير" السينمائية الخفيفة منحت الفيلم 4 نجوم (من 5) وعلقت تعليقا سريعا فوصفته بأنه "مزيج ملحمي من القصص التي تدور في القاهرة المعاصرة. التمثيل رائع ويشدك للمشاهدة".
أما مجلة "سايت آند ساوند" أعرق المجلات السينمائية البريطانية فقد خصصت مساحة أكبر لتحليل الفيلم ورحب ناقدها علي جعفر (لبناني الأصل) كثيرا بالفيلم واعتبره "محاولة جرئية لتقديم صورة شاملة لمصر المعاصرة، والفيلم يتناول كل شئ، من الفساد إلى الأصولية الإسلامية والشذوذ الجنسي".
ويتوقف الناقد أمام المشهد الأول من الفيلم الذي يروي تاريخ عمارة يعقوبيان ويقارن بينه وبين مشهد الجريدة السنيمائية في فيلم "المواطن كين" التي تلخص حياة البطل، كما يشيد بالممثلين وخاصة أداء عادل إمام.
غير أنه يتوقف في النهاية عند عدد من الملاحظات السلبية مثل الطريقة التي تناول بها الفيلم موضوع الشذوذ الجنسي، والتبسيط في تصوير تحول طه الشاذلي من طالب مجتهد إلى إرهابي، والوقوع في الميلودراما ومحاكاة أسلوب مسلسلات التليفزيون. لكنه يعود فيقول إن صناع الفيلم "يستحقون التحية.. لشجاعتهم في الكشف عن النفاق الكامن في المجتمع المصري".
وبشكل عام يمكن القول إن الاهتمام النقدي في الصحافة البريطانية بفيلم "عمارة يعقوبيان" جاء أولا بسبب ما أثارته رواية علاء الأسواني من اهتمام سابق على ظهور الفيلم، وما اكتسبته من سمعة جيدة في الأوساط المثقفة خاصة بعد صدورها في ترجمة انجليزية.
ثانيا: تركز الاهتمام بالفيلم في معظمه، على الجانب السياسي والاجتماعي وبالتالي تعامل معه كظاهرة اجتماعية أو سيوسيولوجية وليس كعمل فني أساسا، وربما تتشابه هنا نظرة النقاد الانجليز مع نظرة النقاد المصريين للفيلم.
أما عند التعرض للجوانب الفنية فيتفق معظم النقاد على اعتبار الفيلم أقرب إلى المسلسلات المعروفة بـ "أوبرا الصابون" التي تقدم شخصيات متعددة وتركز عادة على الجوانب المثيرة والفضائحية في حياتها.
كذلك أشار معظم النقاد إلى الطول المفرط للفيلم، وإلى التكرار والاستطرادات، لكنهم أجمعوا على براعة الأداء التمثيلي.

السينما الثالثة مازالت حية

أريد هنا أن أستطرد على صعيد نظري بعيدا عن استدعاء تجربتي الخاصة في فهم ومحاولة خلق كيان ما يتبنى الدعوة إلى "السينما الثالثة" في مصر في السبعينيات.
لقد ظهر قبل سنوات كتاب مهم حول السينما الثالثة بقلم مايك واين Mike Wayne وهو أكاديمي يقوم بالتدريس في جامعة برونل Brunel ورئيس تحرير مجلة "أصوات منشقة" أو Dissident Voices
يحمل الكتاب عنوان "السينما السياسية: جدليات السينما الثالثة". وقد صدر عن دار بلوتو للنشر في لندن. وهو كتاب صغير الحجم (165 صفحة)، عظيم الفائدة.
وفيه يعيد المؤلف تسليط الضوء بقوة على السينما الثالثة، ويبدأ برواية القصة التالية التي كانت حافزا له على كتابة هذا الكتاب. يقول المؤلف إنه في عام 1996 كان يشارك في مؤتمر نظمه مركز الفيلم البريطاني BFI حول "السينما الافريقية". وخلال المؤتمر أعلن السينمائي البريطاني جون أكومفره John Akomfrah أن السينما الثالثة ماتت. ويضيف المؤلف: "لم يكن هناك أي رد فعل من جانب جمهور الحاضرين. وهذا الكتاب يسعى إلى دحض هذا الزعم. ولكن من أجل تحقيق ذلك يجب أن تتحول السينما الثالثة إلى نظرية، أو إلى ممارسة نظرية نقدية، تستلهم، وتحاول أن توازي أفلام السينما الثالثة".
إنه يسعى من خلال كتابه إذن إلى التنظير للسينما الثالثة وفحص نماذج من أفلامها أيضا. ويقول بوضوح لا لبس فيه إن "السينما الثالثة تستطيع أن تعمل من خلال أشكال مختلفة، تسجيلية وروائية. إنها تتحدى كلا من الطريقة التقليدية لصناعة السينما (وهنا كانت رائدة في خلق طرق ديمقراطية للإنتاج) كما تناقض الطرق السائدة لاستهلاك الأفلام. إنها ترفض أن تكون مجرد وسيلة للتسلية. السينما الثالثة سينما عاطفية، غاضبة، ساخرة عادة، ومركبة دائما. أما على المستوى النظري فإن السينما الثالثة مفهوم في حاجة إلى تطوير وتوضيح في مواجهة ما هو سائد من تشوش وسوء فهم. إنها مفهوم في حاجة إلى الدفاع عنه في وجه النظريات والممارسات المعادية. ورغم ما يوجد من نماذج سابقة عليها تمثلت في السينما السوفيتية في العشرينيات، إلا أنها ظهرت في حقب تالية وتأثرت بالثورة الكوبية في 1959".
مؤلف هذا الكتاب الممتع يصول ويجول في المجال النظري، ثم يتناول بالتحليل أفلاما تحمل علامات من السينما الثالثة رغم انتمائها للسينما الأولى او الثانية مثل "معركة الجزائر" لبونتيكورفو.
وهو يعود إلى أيزنشتاين وفيرتوف لكي يصل إلى سولاناس وجتينو وأفلام السينما الثورية في أمريكا اللاتينية، والأفلام التسجيلية التي تصنع حسب مفهوم السينما الثالثة في أوروبا.
والكتاب أخيرا يتيح جولة فكرية دسمة وممتعة لمن يريد أن يعرف ويرى ويتأمل ويراجع المفاهيم السائدة عن السينما، وعن العلاقة بين السينما والحياة، ويطلع على شئ عن الحياة في السينما.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger