الخميس، 25 سبتمبر 2008

كلاسيكيات حديثة: "اسكندرية ليه؟"

هذا المقال كتب ونشر عام 1978 أي منذ ثلاثين عاما، بعد عرض فيلم يوسف شاهين تجاريا في مصر. وهو بالتالي يعبر عن وعي وفكر صاحبه في ذلك الوقت ومنهجه في النقد والتحليل، بدون أي اضافة أو حذف.
منذ فيلم"الأرض" (1969).. ظل يوسف شاهين يقدم أفضل إنجازات ذلك الإتجاه الآخر المتقدم داخل السينما المصرية، أو الإتجاه نحو سينما تفكر أو سينما تسعى لتقديم الفكر والمتعة الفنية في آن، وتطمح الى تغيير الأذواق السائدة للمشاهدين ولو عن طريق الصدمة البصرية.
وقد قطع يوسف شاهين، شوطاً رائعاً على طريق تحرير أداته السينمائية وتحويلها الى وسيلة لتناول الواقع الذي يعايشه، من خلال رؤيته الذاتية الخاصة لهذا الواقع.
في فيلم"الإختيار" ـ الذي أخرجه عام 1970 ـ قدم شاهين نقداً ذاتياً مريراً كونه أحد المثقفين المصريين الذين شاركوا بسلبيتهم وعجزهم وإنعزالهم عن الواقع، فيما حدث عام 67. ثم عاد في" عودة الإبن الضال" (1976) لكي يعكس إجتهاده الخاص في فهم طبيعة التحولات داخل البنية السياسية والفكرية للطبقة الوسطى المصرية خلال فترة صعودها وحتى مرحلة التردي والإنهيار التي أعقبت هزيمة 67. أما في "اسكندرية ..ليه" ـ الذي أنتجه بالإشتراك مع هيئة الإذاعة والتليفزيون في الجزائر عام 1978ـ فإنه يتناول ما يمكننا أن نطلق عليه بدايات تكون وعي الفرد داخل الطبقة.. في علاقته بذاته وطموحاته وأحلامه وفي علاقة طبقته بالطبقات الأخرى وبالمجتمع ككل. ومن خلال ذكرياته الخاصة وإنطباعاته عن بدايات تفتح وعيه، يتأمل يوسف شاهين في الجوانب السياسية والإقتصادية والثقافية التي ساهمت في صنع التكوين الفكري لأبناء الجيل الذي ينتمي اليه، بكل تناقضاته وصراعاته وآماله وإحباطاته وتشوشه الفكري، وسعيه في الوقت نفسه، الى تجاوز ذلك التشوش نحو رؤية أوضح للواقع والمجتمع. لكن" اسكندرية.. ليه" من الناحية الأخرى، ليس بحثاً منهجياً حول صراع الطبقات في مصر في الأربعينات، أو تحليلاً سياسياً متكاملاً لوضع جيل الاربعينات ـ أي الجيل الذي كان يجتاز مرحلة الشباب في تلك الفترة ـ في علاقته بالتغيرات التي أحدثتها الحرب العالمية الثانية والتي إنعكست بشدة على البنية الإقتصادية والسياسية. ان تناول "اسكندرية .. ليه" على هذا النحو، لن يؤدي فقط الى افساد مشاهدتنا له، وإنما سوف يصبح في نهاية الأمر، نوعاً من التعسف والقسر، الذي يلوي عنق الحقائق ويختزل العمل الفني الى معادلات ذهنية ساذجة.
الفيلم يمس كل هذه الجوانب بالطبع. ولكن "اسكندرية .. ليه"، على نحو ادق، يمكن إعتباره رؤية شاعرية لفنان.. أو "بورتريه" وضع خطوطه فنان يشعر بحب شديد واحساس دافق تجاه مدينته التي نشأ وتربى فيها، عاكساً من خلال خطوطه وألوانه، إنطباعاته الخاصة عنها في تلك الفترة، كمدينة للطموح والأحلام والحب والنضال والحرب والجشع والتمرد والثورة.
و"اسكندرية.. ليه" على هذا النحو اذن، يمكن اعتباره "رؤية ذاتية" .. ولكنها رؤية ذاتية تنبع من خيال موضوعي. أي أن الرؤية الذاتية هنا ليست مستمدة من مجرد إنطباعات عابرة أو مذكرات قديمة كتبت في فترة وقوع الأحداث، ولكنها رؤية تكونت خلال نمو الوعي لدى الفنان طوال أكثر من ثلاثين عاماً. وعندما أعاد هو صياغتها في أواخر السبعينات استعان بخبراته الفكرية التي ساعدته على هضم وإستيعاب كافة الجوانب الموضوعية التي أحاطت بواقعه وحكمت منطق حياته خلال تلك الفترة.
"اسكندرية .. ليه" هو أكثر أفلام يوسف شاهين نضجاً وتحقيقاً لفكرة المزاوجه بين الذات والواقع. وسوف يبقى هذا الفيلم باستمرار مفتاحاً لفهم مسيرة مخرجه حتى اليوم. و"اسكندرية .. ليه" أيضاً هو عودة الى الماضي على نحو ما، أو "فلاش باك" طويل يتأمل فيما وراء "الإختيار" و" الإبن الضال" . ولا تصدر العودة الى الماضي هنا عن رغبة في الهروب من مواجهة الحاضر، بقدر ما هي محاولة لفهم الحاضر وتفسيره في ضوء الماضي.
أحلام الهروب
داخل بورتريه " اسكندرية .. ليه" هناك "يحيى" الذي يعبر عن يوسف شاهين نفسه عندما كان شاباً في الثامنة عشرة من عمره، ينتمي الى أسرة من الطبقة التي تتملكها دائماً فكرة الترقي والصعود الى صفوف الشريحة العليا في المجتمع. ولكن لأن اسرة "يحيى" لم تكن تمتلك ذلك المشروع التجاري الحر الكبير الذي يكفل لها الصعود، كان يتعين عليها أن تواجه ظروفاً قاسية خلقتها الأوضاع المعقدة للحرب العالمية الثانية. ودفع تمسك الأسرة بالمظاهر الإجتماعية السائدة، الى التضحية بالكثير من أجل أن تلحق إبنها " يحيى" بكلية فيكتوريا.. حيث يدرس أبناء الباشوات والأرستقراطية المصرية. من أجل هذا، ترك والد يحيى المحاماة والتحق بوظيفة تضمن له دخلاً ثابتاً يقتطع اغلبه لدفع تكاليف الدراسة لإبنه.
لكن الأسرة لا تزال أيضاً تتمسك بالتقاليد المظهرية لحياة الطبقة الوسطى. افرادها مشغولون طوال الوقت باعداد الطعام واستقبال الزوار والثرثرة والتردد على محال البضائع الإستهلاكية ومحاولة نسيان الأزمة من خلال الإستغراق في لعب الورق. كما يسعون أيضاً الى العثور على بعض الحلول، فهم يدبرون لتزويج إبنتهم والتخلص من أعبائها، الأب "قدري" يسافر الى لبنان للبحث عن مخرج لأزمة الأسرة، وتؤجر الأسرة الشقة المطلة على البحر مقابل مبلغ من المال، ثم تنتقل الى مسكن متواضع في أحد الأحياء الشعبية. في نفس الوقت، تتمسك الأسرة بالقيم الوطنية التي تتمثل في رفض الإستفادة من الأوضاع الفاسدة الموجودة، حيث كان التعامل مع الإنكليز يمثل أحدى وسائل تحسين الوضع الخاص. فلا يزال عائلها ـ المحامي السابق ـ يستطيع الصمود في وجه الإغراءات، يتبنى الدفاع عن قضايا الرأي التي يعلم مقدما أنها خاسرة، فضلاً عن عدم تحقيقها أي مكسب مادي له!
وسط هذه "التركيبة" يهرب يحيى لتحقيق الذات عن طريق التمثيل والموسيقى، مثله الأعلى نجوم هوليوود في الأربعينات.. يتضح هذا في ادمانه على مشاهدة السينما الأمريكية الشائعة كما نزى في المشهد الأول.
الحلم الأمريكي
ويتميز " يحيى" عن زملائه وأصدقائه الأرستقراطيين من أبناء " كلية فيكتوريا" بحساسيته المفرطة التي تدفعه الى رفض ممارسة الجنس مع احدى العاهرات التي يلتقطها زملاؤه من الشارع ويمارسون معها الجنس في سيارتهم. كما يتفوق عليهم بذكائه الحاد وطموحاته.. ومحاولته التسامي على وضعيته عن طريق التعلق بحب المسرح والتمثيل والتصوير السينمائي أيضاً، كما نرى في مشهد أدائه لدور "هاملت" أمام زملائه في الفصل الدراسي، أو من خلال الفيلم السينمائي الذي يقوم بتصويره وعرضه على اصدقائه، وهو فيلم حقيقي من الأرشيف الخاص ليوسف شاهين، صوره عن فترة دراسته بكلية فيكتوريا وأدخله في الفيلم لكي يؤكد على عدم إنفصاله عن بطله الذي يمثل دوره.
وبينما يسعى والد يحيى لإعداده لتقبل فكرة دراسة الهندسة، كمهنة محترمة مضمونة النجاح، تستقر فكرة دراسة التمثيل داخل وعي يحيى الذي يرى أيضاً أنها مهنة لا تقل احتراماً.. ولم لا؟! وبالتدريج تكبر الفكرة عنده وتتحول الى حلم طاغ بالسفر الى أمريكا لدراسة التمثيل، فأمريكا هي القوة الجديدة الصاعدة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية ورمز الحرية بالنسبة لجيل يحيى.

وتتكشف مدى قوة ذلك الحلم، عند مقارنة تردد "يحيى" وخجله من حضور حفل بمنزل أحد أصدقائه الأرستقراطيين بسبب رداءة ملابسه، وبين جرأته التي تدفعه الى التوجه لمقابلة احدى أميرات العائلة المالكة في قصرها لكي يطلب منها مساعدته في تقديم حفل تمثيلي. في الحفل، وعند مواجهته الجمهور لأول مرة، يفشل بطلنا تماماً وتتهاوى مجهوداته. ولكن الفشل يدفعه الى التمسك أكثر، بفكرة السفر والدراسة. ويستقر الأمر أخيراً داخل أسرته، على احتضان فكرته.. تحقيقاً للحلم الذي يراود الأسرة أيضاً بأن يصبح يحيى " شيئاً كبيراً" .. كما تردد الأم.
من ناحية أخرى، هناك أسرة "محسن" .. صديق يحيى وأبن شاكر باشا (فريد شوقي) غني الحرب، الذي استطاع عن طريق عقد الصفقات مع الإنكليز، أن يحقق ثروة طائلة وان يمتلك شركة للنقل البحري يستغل عمالها الى أقصى حد. وهو ينظر باستعلاء الى أسرة يحيى، ويستنكر محاولتها تدبير المال اللازم لتغطية تكاليف رحلة يحيى الى أمريكا، حيث يعتبرها نوعاً من الجرأة والرغبة في مناطحته شخصياً. فهو يريد أن يرسل ابنه لدراسة الإقتصاد في انكلترا وينزعج كثيراً من تذكير ابنه له بأن ما يطلبه منه من مال للمدرسة لا يوازي جزءاً زهيداً مما يقتطعه "الباشا" من عمال شركته. ويعلق الرجل بقوله: " الولد بيتكلم زي الولاد الشيوعيين"!
شاكر "باشا" يشتري الباشوية بأمواله، ويسعى لحماية ثروته وحياته من انتقام الوطنيين الذين يهددون باغتيال كل من يتعاون مع المحتلين الإنكليز، فيشتري سيارة لا يخترق زجاجها الرصاص. ولكن كل ما حققه يصبح مهدداً بالضياع نتيجة للإنتصارات التي يحققها الألمان على سادته الإنكليز، واقترابهم من غزو مصر عن طريق الاسكندرية.
ويلعب التهديد النازي بالغزو، دوراً مصيرياً أيضاً في حياة أسرة اخرى، هي أسرة "دافيد" الصديق الثاني ليحيى وهي أسرة يهودية مثل كثير من الأسر اليهودية الثرية التي كانت تعيش في الاسكندرية ولكنها تبدو مختلفة على نحو ما. فوالد دافيد(الذي يلعب دوره يوسف وهبي) هو رجل يمتلك رؤية سياسية واعية، تجعله يربط بين ظهور البترول في السعودية وبين الدعم "الإمبريالي" الحتمي لقيام دولة اسرائيل في فلسطين. كما يتنبأ بأحداث عنيفة سوف تجتاح المنطقة بأسرها لسنوات طويلة قادمة. وهو احد اقطاب الحركة اليسارية المصرية في الأربعينات كما يتضح في مشهد الإجتماع السياسي الذي يعقده في منزله.
وترتبط "سارة" شقيقة دافيد، بعلاقة حب قوية مع ابراهيم (احمد زكي).. الشاب "المسلم" الذي يدرس الحقوق، وينتمي أيضاً لأحدى المنظمات الشيوعية التي تكونت في تلك الفترة كما يحضر الإجتماعات التي يعقدها والد سارة في منزله. وفي احد مشاهد الحب التي تجمع بين ابراهيم وسارة. يهمس لها معترفاً بأنها هي التي فتحت عينيه على الطريق الصحيح. والفيلم يشير هنا الى علاقة اليهود المصريين بنشأة التنظيمات الشيوعية في الأربعينات، وهي حقيقة تاريخية بلا شك ، لها أسبابها ومنطلقاتها وظروفها المعروفة.
ومع اقتراب الاختراق النازي من الحدود المصرية، تضطر أسرة دافيد الى الهجرة.. الى جنوب افريقيا أولاً، ثم الى حيفا في فلسطين بعد ذلك. وبينما يذهب دافيد الى امريكا للدراسة العسكرية لكي يصبح فيما بعد ـ في الغالب ـ جندياً في جيش الصهيونيين، تعود سارة الى الاسكندرية وتقوم بزيارة ابراهيم في السجن الذي يقضي فيه فترة عقوبة لمناهضة النظام، وتقص عليه ما شهدته في فلسطين من اعمال العنف والإرهاب التي يمارسها اصحاب "الجنسية الجديدة" كما تقول. ولا نعرف كثيراً عن نشاط ابراهيم ـ قبل دخوله السجن ـ سوى انه يناصر العمال في صراعهم الاقتصادي ضد شاكر باشا.
تخلف الطبقة العاملة
ينتقد الفيلم ايضاً تخلف الوعي عند الطبقة العاملة المصرية في تلك الفترة، عندما يجعل العمال بعد حصولهم على حقوقهم من الباشا، يذهبون لارتياد احدى الحانات حيث ينفقون النقود في احتساء الخمر والثرثرة ثم الغياب عن الوعي! ويشير كذلك، الى عزلة المثقفين الثوريين عن العمال، عندما يجعل احدهم يعبر عن عدم فهمه لما يقول له ابراهيم، ثم يعبر عن سخريته من طريقته في الحديث معه .. فيقول انه لا يجد اختلافاً بين طريقته وبين الطريقة المتعالية الجوفاء التي يتحدث بها شاكر باشا معهم!
يركز الفيلم على العلاقة الشاذة التي تنشأ بين عادل بك (شقيق زوجة شكار باشا)، وهو ارستقراطي عاطل بالوراثة يحيا على اموال شقيقته وزوجها، وبين جندي بريطاني من جنود الإحتلال الذين يترددون على صالات اللهو المنتشرة في الإسكندرية. يقول عادل بك عن نفسه انه "ارستقراطي شريف".. وطني يمارس الوطنية على طريقته الخاصة. فهو يشتري الضباط والجنود الانكليز السكارى، يقوم بتوريدهم له احد "البلطجية" المحترفين "مرسي" (عزت العلايلي) ويتولى عادل بك الفتك بهم، من اجل ان يصبح بامكانه ان ينام مطمئناً الى وطنيته!
ولكن عادل بك يرثى لحال جندي بريطاني شاب اتاه به "مرسي"، ويلتقطه، وتنشأ بينهما علاقة حب مبهمة، يحيطها يوسف شاهين بجو شاعري، ويقدمها برقة بالغة، للإشارة الى موقفه الإنساني الذي يتمثل في ضرورة التعايش بين البشر جميعاً، وعن حاجة البشرية الى الحب والسلام.
ويتدعم هذا الموقف ، في مشاهد أخرى يزدحم بها الثلث الأخير من الفيلم ، حيث نرى محاولة للربط بين حزن عادل بك على سقوط صديقه الإنكليزي قتيلاً في المعارك، والمشاهد التسجيلية للدمار الذي خلفته الحرب في المدن الأوروبية والألمانية، واللقطات الطويلة لمقابر العلمين وضحايا الحرب.. الخ.
ولا يخلو الفيلم ـ على أية حال ـ من وجود حس عام واضح، حول فكرة التعايش بين الأديان وبين البشر عموماً. وهي فكرة لا غبار عليها في حد ذاتها غير ان تناولها على نحو مجرد، يمكن ان يقود الى بعض المنزلقات الفكرية. فشاهين يتعامل مع اغلب شخصياته، بإعتبارها ضحايا يتعاطف معها، ويلتمس لها الأعذار كما يتحسس الجوانب الإنسانية والإيجابية الكامنة في ضحاياه، ويسعى لإبرازها.. ابتداء من الضباط الأرهابين وأسرة البطل والباشا والبلطجي، الى عادل بك والأسرة اليهودية والجندي البريطاني، وأيضاً ذلك النموذج الذي يقدمه بسرعة لأحد المتعاونين مع الفاشيين الإيطاليين حيث نرى جنود الحكومة يسحبونه في الشارع وسط صراخ زوجته!
"عادل بك" ـ رغم وطنيته ذات الطابع الفاشي، هو انسان يمتلك الإحساس الرقيق بالإنسان والحياة. ويدعم طموحات" يحيى" ويساعده في التدريب على الحفل الإستعراضي، وهو الذي يدافع عن حق أسرة يحيى في تحسين مستواها امام استنكار شاكر باشا. وعندما يتطلع صديقه الجندي البريطاني الى القصر الذي يعيش فيه ويعلق قائلاً ان هناك من يعيشون في رفاهية رغم التخلف الحضاري العام للبلد، يذكره "عادل بك" في وطنية نادرة، بأن أجداده المصريين كانوا يبنون الأهرامات في الوقت الذي كانت جدته تتناول افطارها بقضم ذراع جده!

الطابع الفردي

ويتمتع شاكر باشا نفسه بطيبة القلب التي تجعله يساعد ـ بطريقة غير مباشرة ـ ابنه وصديقه يحيى في اقامة حفلهما التمثيلي، عن طريق نقوده واتصالاته مع اصحاب الفرق الإستعراضية. وهناك ايضاً الأميرة الاستقراطية التي تدعم نشاط يحيى وزملائه.. وهكذا.
ويرصد الفيلم، منذ بدايته، تفجر النزعة الوطنية لدى الضباط المصريين، ومحاولتهم البحث عن طريق للخلاص في ذلك الوقت. ويتتبع الفيلم سلوكهم طريق الإرهاب وتنظيمهم الاغتيالات ضد المتعاونين مع الانكليز، ويدين رؤيتهم القاصرة التي صورت لهم مثلاً ان اغتيال تشرشل عند زيارته مصر، يمكن ان ينهى الحرب لصالح الالمان، ويفتح امامهم الطريق لتخليص البلاد من الانكليز، وهي النظرة التي انتقدها جمال عبد الناصر بشدة في كتابه "فلسفة الثورة" فيما بعد.
ينتقد الفيلم ذلك الطابع الفردي والمغامر والنظرة المراهقة في حل قضايا الواقع، التي كانت تسيطر على الضباط الوطنيين "الأحرار" من خلال المشهد الذي نرى فيه احدهم وهو يمسك بمسدسه ويشير تجاه قصر رأس التين بالإسكندرية حيث ينزل الملك فاروق، ويقول ان رصاصة واحدة كفيلة بالقضاء على الطغيان. كما يشير الفيلم الى افتقاد هؤلاء الضباط الى خلفية ثقافية وايديولوجية والى الطابع التجريبي الذي كان يحكم نظرتهم. يقول احدهم لزميله ان "حليف اليوم عدو الغد" .. وعندما يسأله زميله متعجباً عن المصدر الذي قرأ العبارة فيه، يقول انه لم يقرأها في اي مصدر بل فكر فيها لتوه.
ويشير الفيلم ايضاً الى اتصال الضباط بالاخوان المسلمين للحصول على تأييدهم واتصالهم بتنظيمات اليسار.. فأحدهم يقوم بتكليف والد يحيى المحامي بالدفاع عن "ابراهيم" الشيوعي بعد اعتقاله.
ومن الحقائق التاريخية التي يوليها الفيلم عنايته ويتتبعها، اتصال الضباط الوطنيين بالألمان النازيين قبل معركة العلمين، اشارة الى الاتجاه الذي كان يرى ان خلاص مصر من الاحتلال البريطاني يكمن في التعامل مع اعدائهم الالمان.
ويربط شاهين في الكثير من اجزاء فيلمه بين المشاهد التسجيلية لمعارك الحرب العالمية الثانية، كما يدخل مشهداً لاضطهاد اليهود ومطاردتهم في شوارع المدن التي يحتلها النازيون، لكي يخلق مقارنة بين وضع اليهود الأوروبيين واضطهادهم على ايدي النازي، وبين وضع يهود الاسكندرية الذين كانوا يعيشون في سلام ورفاهية، حيث يجيء رحيلهم ـ أسرة دافيد مثالاً ـ هرباً من اقتراب الخطر النازي وليس نتيجة لاضطهاد من اي نوع.
ويعتني الفيلم عناية خاصة بتقديم شخصياته من خلال مشاهد اللقاء والوداع. فالاسكندرية هي ايضاً مدينة اللقاءات والافتراقات. هناك اللقاء بين سارة وابراهيم في احد الاجتماعات السياسية، وهناك اللقاء الاول بين عادل بك والجندي البريطاني الشاب، وهناك مشهد الفراق بين ابراهيم وسارة بسبب رحيل الأسرة اليهودية، ثم لقاؤهما في السجن بعد عودة سارة. وهناك مشهد الوداع بين عادل بك وتومي بعد ذلك. وبينما كان محتماً ان تلتقي سارة وابراهيم وتستمر علاقتهما التي اثمرت طفلاً، تنتهي العلاقة الشاذة والمستحيلة بين عادل بك وتومي.. لانها علاقة بين مصري وجندي من جنود الإحتلال، رغم احتمال كونه ضحية اخرى من ضحايا الاحتلال نفسه. وفي هذا المشهد يقوم" تومي" بادانة وطنية عادل بك ورؤيته المريضة عندما يقول له ان قتل سكير ان سكيرين من جنود الانكليز لن يؤثر في وجود الاحتلال البريطاني.

شاعرية حزينة
وهناك ايضاً مشهد مغادرة العائلة اليهودية للاسكندرية، الذي صوره شاهين بشاعرية حزينة، ومشهد وداع يحيى صديقه محسن عند سفره الى انكلترا بعد انتهاء الحرب، ثم وداع اسرة يحيى له عند سفره الى امريكا في النهاية. ويستخدم شاهين اسلوب "الفلاش باك" مرتين خلال الفيلم. المرة الاولى عندما يتذكر " يحيى" طفولته وحادثة اسقاطه شمعة عيد الميلاد التي احرقت جزءاً من تمثال المسيح وصراخ جدته العجوز التي تتهمه بحرق المسيح، ثم وفاة شقيقه الأكبر، وتمنيات الجدة بوفاة الأصغر "يحيى" بدلاً من الأكبر.. وهو المشهد الذي يترك تأثيره الحزين على نفسية "يحيى" الشاب ويرسم احساسه المأسوي تجاه العالم. وقد صوره يوسف شاهين بكاميرا حرة مهتزة وباستخدام عدسة مشوهة للمنظور تأكيداً لإبراز طابعه الكابوسي.
المرة الثانية التي يستخدم فيها " الفلاس باك" عندما تحكي سارة لأبراهيم عن الإرهاب الصهيوني في فلسطين.. حيث نرى احد اعمال العنف الذي يمارسه اليهود ضد العرب، كسبب مباشر لفرارها وعودتها الى الاسكندرية. في نفس المشهد. الذي لم تكن هناك ضرورة له في رأينا. نرى الاب اليهودي جالساً في سيارته يعلن بصوت قوي وبنفس طريقة الاداء المسرحي الشهير ليوسف وهبي، ادانته للارهاب" تحت اي عذر ومهما كانت الدوافع" . لكن الفيلم مع ذلك يتركنا دون ان نعرف على وجه التحديد ما اذا كان الرجل عاد الى مصر ام فضل البقاء في اسرائيل.
ومن بين العناصر المثيرة والمتميزة في الفيلم، تحول النجوم الذين استعان بهم يوسف شاهين، الى ادوات في يد المخرج يستعين بهم في صياغة افكاره ورؤيته، دون ان ينفرد احدهم باحتلال مساحة كبيرة من الاداء التمثيلي باستثناء الممثل " محسن محيي الدين" الذي قام بدور "يحيى" .. وبذل في ادائه مجهوداً كبيراً لكن دون الارتفاع الى المستوى المطلوب في اداء شخصية بمثل هذه الخصوصية والتعقيد.. مما اسقط اداءه في الميلودرامية والمبالغة في لحظات كثيرة.
وعلى الرغم من كل التحفظات الممكنة حول البناء الفكري او المعالجة السينمائية، الا ان "اسكندرية .. ليه" يظل تجربة طموح لمخرج معطاء يتطور على نحو مدهش ممتلكاً القدرة على اثارة خواطر مشاهدية ، طارحاً نماذج جريئة لسينما الفكر.
المشهد الأخير الذي نرى فيه بطلنا يواجه تمثال الحرية الشهير القائم على مشارف نيويورك، وفي عينيه يبدو فزع غامض، ثم تتحول لقطة التمثال الى لقطة لامرأة عجوز قبيحة تدوي بضحكات هستيرية مجنونة وتغمز بعينيها في تهتك واضح، يشير الى سخرية يوسف شاهين من ذلك الحلم الزائف الذي راوده في شبابه وراود ابناء جيله جميعاً في الاتجاه غرباً.. الى رمز العالم الحر.

الأربعاء، 24 سبتمبر 2008

بدون رقابة: خزعبلات صحافة النفط

* بعض الذين يكتبون في السينما، ولا أقول نقاد السينما لأنهم ليسوا نقادا، لا يعرفون من السينما إلا السينما الأمريكية، بل ولا يعرفون من السينما الأمريكية إلا أكثرها تفاهة وأدناها مستوى، أي الأفلام الشائعة الرائجة، ولا يكلفون أنفسهم ولو مرة واحدة، بالكتابة عن الأفلام الأمريكية "المستقلة" مثلا، أو التي تطور شيئا حقيقيا في لغة السينما نفسها مثل أفلام ديفيد لينش مثلا.
الذين يكتبون لجمهور من قراء بعض صحافة النفط، لا يستطيعون ابتلاع أو هضم هذه الأفلام لأنها "ثقيلة" على المعدة التي اعتادت على أفلام "الأكشن" والمغامرات السطحية الفارغة، والتقنيات البهلوانية في تنفيذ المشاهد. فالسنيما عند هؤلاء لا تختلف عن عروض "الأراجوز".. أي مجرد حركات تدغدغ الحواس ثم ينساها المرء، تماما مثل الكتابة عنها، حيث يلوك كاتبها الكلمات، وينتهك الحروف، ويحاول إخفاء الجهل بالتفاصح، وعندما يلجأ إلى التفلسف يبدو مثل "كابوي" يتفلسف!
* كانت هناك في وقت ما صحيفة دولية تصدر في لندن وتعلن عن نفسها باعتبارها جريدة العرب الدولية، وكانت تخصص صفحة سينمائية اسبوعية يكتبها ناقد سينمائي، هو قصي صالح الدرويش، الذي مهما اختلفنا معه، يظل رجلا مثقفا يتعامل مع السينما ليس كصنعة مغلقة كالنجارة أو الحدادة مثلا، بل كفكر انساني مفتوح يمكنه أن يساهم فيه بقدر ما يستطيع. ولذا كان يمكن أن نقرأ ما يكتبه قصي وأن نتجادل ونختلف حوله.
أما ما انتهت إليه هذه الصحيفة فبئس المصير حقا. فهناك "كتابة" عن السينما تظهر أسبوعيا أيضا حتى الآن، لكنها لا تجد ما تكتب عنه إلا ألاعيب السينما التجارية "الأمريكانية" جدا، أي الاستهلاكية الشائعة، وتركز على نجومها، بلوعلى ترجمة بعض المقابلات السريعة من الانترنت، والمضحك أيضا أنها تهتم بما يسمى بـ"التوب تن" أي الأفلام العشرة على قمة الإيرادات في السوق الأمريكية، كما لو كان أهل شبه الجزيرة الذين يكتب لهم هؤلاء قد اصبحوا بقدرة قادر، من مرتادي دور السينما في منهاتن في حين أن شبه الجزيرة تحظر العروض السينمائية، وإذا سمحت بتوزيع بعض اسطوانات الديجيتال فيشترط أن يكون من النوع "المجفف"، أي بعد تجفيفه من المناظر "الطبيعية" التي خلقها الله، لكي يصبح مثل نبات الصبار أي أقرب إلى النبت الشيطاني، والعياذ بالله!

* هؤلاء يذكرونني بما قاله ذات مرة محمد حسنين هيكل في وصفه لتدهور ما يسميه بـ"ألأمة"، حين قال "إننا نتصور أننا نكتب بينما نحن نترجم، ونترجم بينما نعتقد أننا نكتب"!
"جماعة تدمير السينما في العالم العربي" أصبحت تكتفي الآن بترجمة المعلومات والتحقيقات السريعة الاستهلاكية المبتورة من أدنى مواقع الانترنت الأمريكية، بدعوى أن هذا هو النقد السينمائي، والثقافة السينمائية، ويسوقونها لقراء لم يعد يشغلهم في الحياة إلا مطالعة باب الحظ والنجوم، وممارسة ألعاب الكومبيوتر التي تصيب بالتخلف العقلي، ومشاهدة قنوات الفضاء المعلبة بالفضائح المتحركة في صورة مغنيات للفيديو كليب "الثوري جدا" المقصود منه شئ واحد فقط هو "استفزاز أسامة بن لادن"!

جريدة العرب الدولية عموما، أصبحت حاليا تصلح لشئ واحد فقط: مسح زجاج السيارة.

* دائما ما نتكلم فنقول "السينما العربية" في حين أن أربعة أخماس الدول العربية لا تعرف السينما أو بمعنى أصح، إنتاج الأفلام الروائية، التي تعد من وجهة نظري "الدالة" الثقافية الأساسية على وجود فكر وفن سينمائي، فهي مثل الرواية، تعبر أفضل تعبير عن ثقافة مجتمع وخياله وفكره وتاريخه، مع كل الاحترام والتقدير للفيلم التسجيلي أو الوثائقي، لكنه شئ آخر.
من ناحية أخرى: "سينما عربية" بأي معنى؟ فهل هناك مثلا تشابه في الظروف أو آليات الإنتاج أو حتى طرق التعبير باستخدام اللغة السينمائية، بل وهل تحمل هذه الأفلام نفس السمات الفكرية والجمالية التي تجعلها تختلف مثلا عن "السينما التركية" أو "السينما البرازيلية"ّ؟
انا شخصيا أصبحت أحاول تجنب استخدام هذا التعبير، وأفضل بدلا منه وصف "الأفلام الناطقة بالعربية" خصوصا وأن عددا كبيرا من تلك الأفلام ينتج ويمول بالكامل في أوروبا، وتحديدا في فرنسا. فكيف يمكن أن نصف فيلما فرنسيا يدور بالكامل في فرنسا باعتباره فيلما عربيا حتى ولو كان موضوعه وأبطاله من العرب ويتكلمون بعض العربية. وأمامنا الايطاليين الذين لا يطلقون على الأفلام التي يصنعها مخرجون من أصل إيطالي في أمريكا أفلاما إيطالية.

* الطريف أيضا أن الكثير من النقاد العرب الذين تحدثت معهم أخيرا أجمعوا على أن تعبير "السينما العربية" يضر كثيرا بتمثيل أفلام العرب في مهرجانات السينما العالمية، فالقائمين على المهرجانات – كما يقولون- يكتفون عادة بفيلم واحد، من هذه الدولة أو تلك، لاختزال تمثيل "السينما العربية" فيه، في حين أن إيران، وهي دولة واحدة، يمثلها عادة أكثر من فيلم واحد، وكذلك أمريكا اللاتينية، فيقال مثلا هناك فيلم برازيلي وآخر أرجنتيني، وليس فيلما لاتينيا.
وجهة نظر جديرة بالتفكير، لكنها ربما كانت تنسف من الأساس دعوى العروبيين.. فهي على نحو ما، دعوة إلى "تفكيك" العالم العربي إلى دول مختلفة، أي ثقافات تمثل كل منها نفسها.. ولكن هذا طبعا أمام الغرباء أصحاب المهرجانات الكبيرة فقط.. حتى نضحك عليهم.. أليس كذلك!

عيد سعيد ومسلسلات مديدة

كل عام وأنتم بألف خير.. والسينما في العالم، وليس فقط في العالم العربي، بخير. وأتمنى ألا تكون السينما في العام القادم قد "تحجبت"، أو احتجبت في بلادي التي تشهد تغيرات شديدة الوطأة، بفعل الرياح الصحراوية الجافة الغاشمة التي ظلت تهب عليها من الشرق طيلة عقود فأحالت خضرة الروح فيها إلى جفاف مر وواقع مرير.كثير من مسلسلات رمضان ستمتد غالبا خلال العيد وربما إلى ما بعده.
لكن هذا ليس هو الموضوع. فما أردت أن اكتب عنه بشكل مختصر اليوم يتعلق بجانب في المسلسلات التليفزيونية التاريخية التي تتناول حياة شخصيات بارزة مثل "ناصر"، ظل دائما يلفت نظري منذ سنوات طويلة.
ولاشك أن الملايين تابعت هذا المسلسل لكي يتعرفوا على شخصية الرئيس جمال عبد الناصر الذي لاشك أيضا في قيمته التاريخية وزعامته ودوره البارز في تاريخ بلاده والمنطقة.
وتحية خاصة للصديق القديم باسل الخطيب الذي أخرج المسلسل باجتهاد وجهد كبيرين، ونجح في جوانب كثيرة.إلا أن الموضوع له علاقة أكثر بطريقة كتابة السيناريو، فهو شأن كل المسلسلات من هذا النوع (مسلسل "أم كلثوم" مثالا)، ومن خلال ما أتيح لي أن أشاهده من حلقات، يتبع نفس الطريقة المتخلفة التي تتلخص في وضع أحداث التاريخ التي قرأ عنها كاتب السيناريو (في الصحف والكتب والشهادات) على لسان الشخصيات وهي تتحاور.
انت مثلا بدلا من أن ترى حوارا "حقيقيا" يدور بشكل طبيعي بين شخصين لكي يكشف لك عن تأثير ما أو مغزى لحدث أو لقرار أو لموقف، تجد الشخصيات تواجه بعضها بعضا، ولكن ليس لكي تتحاور في "ديالوج"، بل لكي تحاور نفسها في "مونولوج" يقصد من خلاله عادة، رواية جزء من الأحداث التاريخية التي قرأ عنها المؤلف وقام بتجميعها.
ويصبح الحوار بالتالي مضحكا جدا وغير مقنع بالمرة عندما ترى شخصية ما تقول لأخرى: هل تتذكر ما فعلناه سنة كذا وكذا.. عندما كان الانجليز يرفضون كذا وكذا.. وجاء الاخوان وفعلوا كذا وكذا..؟؟
فترد الشخصية الأخرى لكي تستكمل المحاضرة السخيفة المملة والحوار المونولوجي المفتعل على النحو التالي: نعم.. وأتذكر فعلا أنهم فعلوا كذا وكذا.. ثم عندما اتفقوا مع فلان ضد الثورة، وأرسلوا "الحلواني" (مثلا) في مهمة ثبت أنها كانت مؤامرة خطيرة!
مثل هذا الحوار بل وأكثر فداحة منه يسيطر بالكامل على شخصيات مسلسل "ناصر" وغيره من المسلسلات المشابهة.
وليس من الممكن مثلا تصور أن عبد الناصر يمكن أن يتحاور بهذا الشكل الذي رأيناه، مع حسن الهضيبي (المرشد العام للاخوان المسلمين) ورفاقه عندما استقبلهم في بيته.. أو يوجه حديثه بمثل هذه الحدة والخشونة لهم مذكرا إياهم بما فعلوه وما فعله هو في محاضرة طويلة مباشرة، ثم يهددهم بشكل مباشر ثم يتركهم ويدخل إلى داخل البيت.
لقد كان عبد الناصر اكثر قدرة بكثير على المناورة .. ولم يكن ليتحدث بكل ما يفكر فيه أمام الآخرين هكذا، وهو شئ معروف عنه تماما.. ولكن المشكلة الأكبر أن هناك نقصا في الخيال كما يبدو من السيناريو.. وآسف أن أقول هذا لصديق آخر أعتز به هو الكاتب المثقف يسري الجندي. لكن يسري يرتبط ايضا بتقاليد سوق ذي مواصفات محددة.وربما يتساءل البعض: وما المطلوب إذن لكي تكون الدراما حقيقية وليست مفتعلة ومصنوعة على هذا النحو؟
الإجابة ليست سهلة، فليست هناك وصفة محددة، لكن الافضل كثيرا هو أن يلجأ الكاتب إلى خياله الخاص، يستدعي منه ومن خبرته الإنسانية، لكي يتصور كيف يمكن مثلا أن يدور حوار بين عبد الناصر وزوجته على مائدة الطعام، أو كيف يمكن أن يتحاور ناصر وعامر دون أن يوجها حديثهما إلينا في "حكي" مستمد من الأحداث التاريخية التي وقعت وانتهت فعلا، يستدعيها كاتب الدراما استدعاء لكي يسمعها علينا!
إن تحرير الخيال، والابتكار في بناء المشاهد، و"أنسنة" الشخصية المحورية، أي ردها إلى صفاتها الإنسانية، بأخطائها ومشاكلها واشكالياتها والتباسات المواقف عليها أحيانا ايضا، هو ما يجعلها أكثر مصداقية وقربا من الناس ومن الحقيقة ومن التاريخ، بدلا من تبني رؤية أحادية مصمتة لا ترى من الشخصية التاريخية سوى انتصاراتها وقوتها وزعامتها و...
ليست هكذا تكتب الدراما التاريخية، بل وليست هكذا تبني الدراما من الأصل ومن الأساس.

رسائل الأصدقاء

رسائل الأصدقاء هي ما يجعل لما يفعله المرء قيمة ومعنى، وهي التي تدفع إلى الاستمرار في العمل رغم كل المعوقات والعقبات، ولذا أحب دائما أن أحتفي بها وأخصص لها مكانا في هذه المدونة كما يليق بها.وأشير إلى أن أول تلك العقبات التي تواجهني هي ضيق الوقت، علما بأن هذه "المدونة"، وأنا سعيد بأن أصفها باسمها الحقيقي، ولا أزعم أنها "مجلة" كما لا أطلق على نفسي "رئيس التحرير"، لا تنشر إلا كتاباتي الشخصية التزاما بما قطعته على نفسي، وبالعنوان الذي اخترته لها أي "كتابات شخصية حرة...إلخ" حتى لا ألزم أحدا بتحمل "وزر" آرائي وأفكاري، ولا أحرج أحدا إذا ما طلبت منه الكتابة معي، على أنني مع ذلك، أرحب دائما بأي أفكار أو مناقشات لما أنشره فيها من آراء.

لكن هذا الالتزام يرتب علي بذل جهد مضاعف، وكتابة الكثير مما يكتب خصيصا للنشر في هذه المدونة، وليس إعادة نشر ما سبق نشره في الصحف السيارة وغير السيارة.أما تحويل المدونة إلى موقع شامل يتجدد يوميا ولا يعتمد على جمع مقالات لنقاد سبق نشرها، أو الحصول على مقالات الآخرين بموافقتهم أو بدونها، فأمر تتم دراسته حاليا بشكل عملي، على أن يحترم النقد السينمائي ونقاد السينما ويدفع لهم مكافآت مالية جيدة مقابل مساهماتهم، تقديرا لقيمة النقد وليس استغلالا للنقاد واستهتارا بهم.


رسائل الأصدقاء اليوم تشمل التالي:


* الصديق المخرج ابراهيم البطوط بعث رسالة يقول فيها "رجاء أن تعرف أن ما تفعله وتعرضه في مدونتك هو شئ شديد الأهمية. إنها المرة الأولى في التاريخ التي يمكننا أن نقرأ مقالا ثم نشاهد مقطعا من فيلم بشكل سهل للغاية ووقتما نشاء. إذن فالأمر يشبه محاضرة مستمرة نستطيع أن نحضرها في أي وقت نشاء. إن ما تفعله مهم، وأرجو أن تواصله لأطول وقت ممكن، وكن مطمئنا أنه يصل إلى الناس وأنه مهم. مع أطيب تمنياتي".

كل الشكر لابراهيم وأعده أن أستمر طالما أمدني الله بالصحة والقدرة.


*تلقيت رسالة من الصديق القديم الدكتور محمد حسن خليل يقول فيها:"عزيزى أمير: سينما جيلنا هى وعينا ومرآتنا وخلاصنا، وأحس بحميمية شديدة عندما أقرأ نقدك للأفلام التى ساهمت فى صنع وعينا وإضاءة وجداننا وإحساسنا بالجمال وسنين شبابنا التى صارت الآن بعيدة، فهل هو الحنين إلى تلك الأيام أم الإعجاب بتحليلك أم التأمل الفكرى فى قصة تكون وجداننا الفكر- فنى؟ لا يهم، أيا ما كان أو لو كان خليطا من كل ذلك، أردت أن أعبر لك عن الأحاسيس المركبة التى تجتاحنى عند قراءة مقالك عن "الإسكندرية ليه" كما اجتاحتنى عند قراءتى لرثائك ليوسف شاهين".

الدكتور محمد حسن كان زميلا أساسيا في إدارة العمل معي في "نادي السينما" في كلية الطب بجامعة عين شمس في السبعينيات، وظل يتابع كتاباتي.


* الصديق الناقد والصحفي ضياء حسني بعث إلي بما كتبه عن هذه المدونة ونشره في عدد شهر أكتوبر من مجلة "لغة العصر" وجاء فيها ما يلي:"الكتابة عن السينما عبر النقد السينمائي العميق أصبحت نادرة، كما أصبح إصدار مجلة سينمائية جادة ضربا من الجنون حيث تحول اهتمام الجمهور نحو أخبار نجوم الفن سواء كان غناء أو تليفزيون أو سينما، وبالتالي تحولت الكتابة عن السينما إلى نوع من النميمة. وفي ظل هذا الجو من الموت المعلن للنقد الحقيقي، امتنع النقاد السينمائيون عن الكتابة أو انخرطوا فيما هو سائد. أما أمير العمري، أحد أفراد الرعيل الأول من نقاد السينما المصريين فوجد في الانترنت متنفسا لنشر النقد السينمائي الجاد والحقيقي، بل ورأى أن الانترنت هو الحل العبقري لمواجهة هذا الطوفان من الكتابات السينمائية الغثة، فأسس مدونة "حياة في السينما". وأهمية هذه المدونة أن أمير من الذين أسسوا لمفهوم النقد السينمائي في مصر والعالم العربي".

كل الشكر لضياء طبعا على الثناء والتنويه. فقط أود أن أصحح للعزيز ضياء أنني لا أنتمي إلى "الرعيل الأول" من نقاد السينما المصريين فقد بدأ النقد في مصر في العشرينيات، كما أنني لست أيضا من الرعيل الأول الذي أسس لنقد علمي جاد، فربما كان هذا فضل جيل الخمسينيات و الستينيات (أي جيل سعد الدين توفيق وصبحي شفيق وفتحي فرج وسامي السلاموني وسمير فريد)، لكنني أنتمي كما يعرف ضياء، إلى جيل السبعينيات الذي ربما يكون قد حاول أن يطور تجربة الجيل السابق، ويجعل الكتابة عن السينما "أدبا" خاصا قائما بذاته، ولا أعرف ما إذا كنت قد نجحت في هذا.


* لازلت أحتفظ وأفكر برسالة الصديق الناقد حسين بيومي التي يقول فيها:"مقالك عن فيلم "جنينة الاسماك" هو الرد العملى عن السؤال الذى وجهته لك ذات يوم فيما يتعلق بدور الناقد عموما، والناقد المصرى الذى يعيش فى الغرب خصوصا، فالمقال يوجد حالة من الجدل النقدى، وليس الجدال بالطبع، بين الجمالى والاجتماعي والسياسي والتاريخى وبين السينما فى مصر، لا كما يتصورها الجمهور فقط، بل كما يراها أغلب من يكتبون عنها من النقاد بين قوسين، إذ ينظرون اليها من منظور أخلاقى يختلط فيه الدينى بالاجتماعى، ولذا ينبذون الإيروتيكى الذى يشكل جانبا إنسانيا من الجمالى، ويتحدثون عن الفنى بمعزل عن تقدم وتطور الفن فى العالم. انهم باختصار تقليديون ومحافظون ومقالك بالطبع يمكن، إذا أرادوا، أن يتعلموا منه قراءة الأفلام من منظور أكثر رحابة وعمقا".

رسالة حسين بيومي وسام على صدري وربما تكون أكثر مما أستحق، لكنها رسالة تحيرني أيضا، فهل استطعت حقا الإجابة عن السؤال الذي طرحه علي منذ سنوات؟ أم أنني قدمت مجرد محاولة للسباحة عكس التيار عند تناولي لفيلم "جنينة الأسماك" الذي لا يعد عملا كلاسيكيا بأي مقياس، ولذا رأيت أنه لا يصلح معه بالتالي، تناوله من زاوية النقد الكلاسيكي، بل يتعين التحرر من الكتابة عن السينما عموما في تركيبها المنهجي المتسلسل، وجعلتها سباحة حرة تطرح أفكارا. هل نجحت؟ مرة أخرى لا أعرف.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger