الأربعاء، 27 أغسطس 2008

حان الآن وقت السينما في فينيسيا



تداعيات وذكريات وحكايات من الماضي

عن الحب والموت والسينما في فينيسيا


بقلم: أمير العمري
amarcord222@gmail.com

مهرجان فينيسيا السينمائي بات على الأبواب الآن (من 27 أغسطس إلى 5 سبتمبر)، وأصبح يتعين علي أن أستعد له، بدراسة البرنامج بدقة، والتأكد من عدم نسيان أي شئ ضروري في رحلة ستستغرق 11 يوما، وتنشيط الدورة الدموية استعدادا للـ "المارثون" اليومي الذي يبدأ عادة في الثامنة صباحا، لمتابعة الأفلام، ولقاء السينمائيين، وحضور المؤتمرات الصحفية، وإعداد رسالة يومية إذاعية أو تليفزيونية، والتعليق الاذاعي اليومي على أحداث المهرجان، وكتابة مقال يومي للموقع الذي أعمل له، وربما أيضا تزويد هذه المدونة بمفكرة يومية، واللهاث من أجل قضاء احتياجات الحياة اليومية وتوفيرها في مكان يصبح من أغلى الأماكن على سطح الأرض.
مهرجان فينيسيا هو الأقدم والأعرق بين المهرجانات السينمائية في العالم، وهو صاحب "الاكتشاف" لفكرة التسابق بين الأفلام من دول مختلفة، ومنح جوائز، وإقامة مؤتمرات لتبادل الأفكار رغم أن مؤسسيه في زمن الفاشية كانوا يرغبون أساسا في جعله قلعة لإبراز تفوق الفن السينمائي في ايطاليا.
هذا المهرجان له عندي مذاق خاص، فقد كان أول المهرجانات السينمائية "الكبيرة" التي ابدأ التردد عليها عام ،1986، وكنت شاهدا على الكثير من المتغيرات التي أحاطت بهذا المهرجان السنوي الذي اطلق عليه مؤسسوه (في عهد الزعيم الفاشيستي بنيتو موسوليني عام 1932) اسم "موسترا" Mostra أي المعرض، فقد عرفت إيطاليا معارض الفن التشكيلي منذ زمن أبعد كثيرا من ظهور السينما نفسها كفن وصناعة. وكان الموسترا ولايزال، جزءا من "البينالي" الدولي للفنون التشكيلية والعمارة الذي يقام كل عامين. وقد تأسس في نفس عام مولد السينما رسميا أي عام 1895.
وللمهرجان عندي أيضا ذكريات كثيرة حميمية، ففي فينيسيا السينما وقعت في الحب، وكدت أقع في إحدى قنواتها، وقضيت أياما أعيش حلما سينمائيا ممتدا حينما كانت فينيسيا حقا مدينة مفتوحة، أي قبل أن يتحول المهرجان إلى قلعة حصينة، فأنت تخضع للتفتيش عند الدخول وعند الخروج من مقر الصحافة، وقاعات العروض، وكل حركتك مراقبة ومحسوبة، ولكنك لا تستطيع أن تتذمر أو تحتج أو حتى تشعر بالضيق في قرارة نفسك، فأنت تعرف جيدا أن هذا كله طبعا بسبب سلوكيات محسوبة على عدد من أبناء جلدتنا بكل أسف والمتباهين بفكرة اختطاف الحقيقة المطلقة!

شئ من التاريخ
لا أعرف السبب الذي حدا بمؤسسي "الموسترا ديلا تشينما" أو معرض السينما، أو مهرجان فينيسيا السينمائي كما نعرفه نحن، إلى إقامته في جزيرة "ليدو" Lido الصغيرة، وليس في قلب الجزيرة الرئيسية قرب ساحة سان ماركو الشهيرة التي تستقطب يوميا آلافا مؤلفة من السياح والزوار.
تاريخ المهرجان يقول إن الدورة الأولى منه عام 1932 أقيمت في قاعة في فندق إكسلسيور في ليدو. والفندق لايزال قائما ويستقبل نجوم السنيما وكبار السينمائيين وكانت به قاعة مخصصة حتى أوائل التسعينيات للعروض والندوات الصحفية التي تعقب عرض الأفلام.
أما أول فيلم عرض في المهرجان وفي اي مهرجان سينمائي في عالمنا فكان فيلم"دكتور جيكل ومستر هايد" الأمريكي للمخرج روبين ماموليان. ولم تكن هناك جوائز رسمية في الدورة الأولى، بل جوائز للجمهور من خلال استفتاءات خاصة.
أما الدورة الثانية فأقيمت بعد عامين، أي عام 1934 ومنح المهرجان جوائز في تلك السنة ولكن الذي منحها كان رئيس البينالي بعد أن تشاور مع عدد من السينمائيين الإيطاليين، أي من دون وجود لجنة تحكيم دولية. وكانت هناك جائزتان فقط لأحسن فيلم أجنبي واحسن فيلم ايطالي.

مع صلاح أبو سيف
وربما يكون سبب اختيار جزيرة الليدو كونها المصيف التقليدي تاريخيا للأرستقراطية الإيطالية، ومكانا رفيع المستوى يتميز بوجود عدد كبير من قصور الأثرياء. وقد صور فيسكونتي العظيم جزءا من فيلمه الشهير "الموت في فينيسيا" Death in Venice (1971) على شاطئ الليدو، وفي ردهات وقاعات فندق دي بان Des Bains، وهو ايضا لايزال قائما على فخامته القديمة الكلاسيكية. وقد جلست في بهو هذا الفندق مع المخرج الكبير الراحل صلاح أبو سيف عام 1986 عندما جاء لعرض فيلمه "البداية"، وكان المهرجان أيضا قد أقام له تكريما خاصا تلك السنة. وقد أجريت مقابلة مسجلة مع أبو سيف عن فيلمه ومسيرته السينمائية عموما، لم ينشر منها سوى الجزء الخاص بفيلم "البداية".
وكان مهرجان فينيسيا في الثمانينيات أكثر انفتاحا على السينما المصرية ورموزها، ربما لأن الكثير من كبار رموز تلك السينما كانوا لايزالون على قيد الحياة، وكانوا يثرون السينما بأعمالهم، وربما لأن مديري المهرجان كانوا أقرب في اهتماماتهم إلينا وإلى السينما العربية عموما: كان هناك في نفس العام 1986 المخرج التونسي الطيب لوحيشي مشاركا بفيلمه "مجنون ليلى".


الموت في فينيسيا
تذكرت وأنا جالس مع أبو سيف فيلم "الموت في فينيسيا" ومشاهده الكلاسيكية وموسيقاه التي تتسلل تحت جلد الصور وتشكل معها سيمفونية بصرية سمعية فريدة ذات مذاق خاص. إنه فيلم من أفلام التأملات الرفيعة، في الحياة والفن والمعاناة من أجل الإبداع، بطله كاتب، ينشد الوصول إلى لحظة الاستنارة، لحظة التجلي التي يخلص فيها لأفكاره، كما يقدم بإخلاص عصارة موهبته وفنه لقارئه. لكن العالم أيضا تغير، لم يعد على ما كان عليه، فقد انتهى قرن وبدأ قرن جديد هو القرن العشرين، انتهى عصر، وبدأ عصر جديد. وعندما تتجلى للكاتب- الفنان لحظة الأمل في عالم أفضل، يكون الوقت قد تأخر، فقد امتدت أصابع الموت من داخل مدينة غارقة في الوباء، مدينة تموت، ويبحث من لم يدركه الوباء بعد ويتمكن منه عن طوق نجاة للخروج من مدينة الموت.
أعتقد أنني شاهدت "الموت في فينيسيا" ما يقرب من سبع عشرة مرة. وكنت في كل مرة أكتشف فيه مناطق جديدة للتأمل. وقد كان هذا الفيلم هو الذي افتتحت به عروض نادي السينما الذي أسسته عندما كنت طالبا في الجامعة في السبعينيات. ولا يستطيع أي عاشق للسينما الحقيقية (وليس لسينما التسالي الأمريكية السريعة الشبيهة بالوجبات السريعة) أن ينسى مشهد موت الكاتب البطل (ديريك بوجارد) على الشاطئ، والصبغة السوداء تسيل على خده بينما تغمض عيناه تدريجيا، وهو مسترخ على أحد مقاعد الشاطئ الطويلة الممددة للخلف.

المشهد يبدأ كالتالي: الصبي الغامض الذي يسحر بطلنا ويتمثل فيه الأخير الحياة بكل براءتها وشقاوتها وحيوتها وغموضها أيضان يسير متجها نحو البحر في صورة شبحية بينما نسمع موسيقى ناعمة حزينة شجية بأوتار آلات الكمان والشتيللو مع البيانو.
الكاتب يجلس على مقعد خشبي قماشي من مقاعد البحر بملابسه الكاملة البيضاء، يلهث شاحب الوجه.. يعاني من اشتداد نوبة المرض عليه.. لقد أصيب على ما يبدو بعدوى الكوليرا الذي انتشر في المدينة..
لقطة قريبة لوجه الكاتب.. العرق يتصبب على جبينه.. الحزن الشديد يكسو وجهه.. ثم ننتقل إلى الصبي وهو يتجه تدريجيا ويغوص في الماء بقدميه.. الموسيقى تصبح أكثر تراجيدية وعنفوانا.. آلات الكمان تطغى عليها..
الكاتب يشتد لهاثه وتقطع أنفاسه.. الصبغة السوداء تسيل على وجهه.. يتوقف الصبي، يتطلع إلى الوراء، إلى الرجل الذي يحتضر.. يشير بيده إلى الأمام. وكأنه ينادي الرجل أن يلحق به نحو الأفق المفتوح..
الكاتب في مقعده يحاول جاهدا النهوض بمشقة.. لكنه لا يقدر.
لقطة بعيدة من وجهة نظر الكاتب للفتى وهو يدخل أكثر في البحر ويتطلع خلفه.. الكاتب ينهار ويسقط ميتا على الشاطئ.
لقطة عامة بعيدة.. شاب يقترب من الكاتب وبمساعدة رجل آخر يحملاه ويتجهان به خارج الرمال، إلى الفندق. الموسيقى تصل إلى الكريشندو بآلات الكمان.. وينتهي الفيلم.

لماذا ليدو؟
انتقل المهرجان عدة مرات، إلى "فينيسيا سان ماركو" لكنه كان يعود دائما ليستقر على شاطئ جزيرة الليدو. ربما لأنها أكثر أمانا، وقدرة على توفير الحماية للضيوف الذين يؤمنون على حياتهم ومجوهراتهم بمئات الملايين من الدولارات. وربما لأن المكان أيضا مفتوح على البحر الكبير مع وجود قنوات صغيرة محدودة جدا، وأيضا لأن الليدو جزيرة فيها شوارع تستوعب السيارات والحافلات، وبالتالي فإن الحركة فيها يمكن أن تكون أسرع مما هي في أزقة وحواري فينيسيا الأخرى. وتظل هذه كلها بالطبع مجرد اجتهادات.
شخصيا أفضل مهرجان فينسيا كثيرا على مهرجان "كان"، رغم أن "كان" ربما يستقطب أفلاما أهم. لكن في فينيسيا أيضا كانت للمهرجان اكتشافاته لسينمائيين أصبحوا فيما بعد من العلامات الكبيرة في تاريخ السينما، فمن ينسى مثلا أن مهرجان فينيسيا هو الذي كشف عن الموهبة الهائلة عند أكيرا كيروساوا الياباني عام 1950 عند عرض فيلمه "راشومون" داخل المسابقة، وهو الفيلم الذي حصل على جائزة الاسد الذهبي، وكانت الجائزة مفتاحا لكيروساوا إلى أوروبا وأمريكا بل والعالم بأسره. وقد شهدت بنفسي بزوغ الموهبة الكبيرة للمخرج الصيني تشانج ييمو (يكتبه كثيرون زانج أو زانغ حسب موقع كل كاتب على خريطة العالم العربي) بفيلمه الكبير "ارفعوا المصابيح الحمراء" Raise the Red Lantern الذي عرض في دورة 1991، أو فيلم "اللعبة الباكية" (1992) The Crying Game للمخرج البريطاني نيل جوردان الذي عرض خارج المسابقة في تلك السنة إلا أنه ذهب بعد ذلك لكي يحصل على 18 جائزة عالمية بينها أوسكار أحسن سيناريو، وبافتا لأحسن فيلم.

بعيدا عن الزحام المجنون
في مهرجان فينيسيا، يتنفس المرء هواء نقيا حقا لأن الأحداث الرئيسية للمهرجان تتركز في بقعة شديدة الجمال تطل على البحر الادرياتيكي المفتوح، بعيدا عن زحام السياح في فينيسيا سان ماركو، وبعيدا عن الزحام المجنون على شاطئ الكروازيت في "كان". وهذا سبب آخر للتمسك بالليدو. وهناك يمكن لنقاد وهواة سينما مثلي، أن يتمكنوا من الدخول إلى قاعات العروض المخصصة للنقاد والصحفيين بدون كل ذلك الهوس والتزاحم والانتظار الطويل في الطوابير كما يحدث في "كان" حسب النظام الطبقي السخيف المطبق هناك. ففي "كان" يصنفون النقاد إلى طبقات، ويمنحون بطاقات ملونة تشير إلى الطبقة التي ينتمي إليها كل منهم (هناك بطاقات ملونة أيضا في فينيسيا لكن بدرجة اخف وأقل عددا ولأسباب منطقية وليست تكريمية فارغة)، فنقاد كان الذي يترددون بانتظام منذ عشرين عاما بدون انقطاع مثلا يحصلون على البطاقة البيضاء (كارت بلانش) التي تتيح لهم الدخول في كل القاعات وفي أي وقت، أما نقاد البطاقة الحمراء بنجمة صفراء فلهم تقريبا نفس الحق فيما عدا أن عليهم انتظار دخول السادة من الطبقة البيضاء أولا. ثم يأتي دور حاملي البطاقة الحمراء بدون نجمة للصحافة اليومية الذين يذهبون أحيانا وينقطعون أحيانا أخرى مثلما في حالتي أنا الذي لا ولاء أبديا عندي لكان خصوصا مع انتشار التقاليع والخزعبلات العربية، ثم يأتي دور البطاقة الزرقاء (للصحافة الأسبوعية والشهرية) ثم الصفراء التي لا أعرف لمن.. ربما لطلاب المعاهد السينمائية. زميل لنا قال ذات مرة مازحا: إنها مخصصة للذين يتعين عليهم الوقوف أمام بوابات الخروج في انتظار أن يروي لهم الخارجون قصة الفيلم.
في "كان" هناك هوس حقيقي يدفع الصحفيين، وهم بالآلاف، إلى المرابطة أمام قاعة عروض الصحافة المسماة دي بوسيي على إسم موسيقار فرنسي شهير (وهي قاعة صغيرة ورديئة ومتخلفة لم يدخلها تغيير منذ سنوات طويلة، ولم يعد يصلح لها أي تحديث بسبب تكوينها المعماري البشع، فعرضها أكبر من طولها، ولها زاوية منحنية بطريقة تجعل المشاهدة غير مريحة، فضلا عن سقفها المحلق فوق رأسك مباشرة والذي هو أرضية الطابق العلوي، مما يسبب لك الاختناق.
يتعين عليك الوقوف من 30 إلى 60 دقيقة قبل بدء العرض لكي تضمن لك مكانا في الداخل.. ويتعين عليك بالطبع أن تننتظر دورد في السلم الطبقي الذي لا أساس له في أحيان كثيرة إلا أن تكون من الكاتبين بالفرنسية، فلك بالطبع الأفضلية حتى ولو كانت علاقتك بالمهرجان قريبة لم تبدأ سوى منذ سنتين أو ثلاث.

فيلليني مع زوجته جوليتا مازيني عندما عرض "لاسترادا" في المهرجان
اللهاث وراء النجوم
عموما المناخ العام في فينسيا أفضل كثيرا.. البشر أهدأ.. الطابع الفني للمهرجان يغلب على الطابع التجاري والتسويق والاستعراضات التافهة وحفلات الكوكتيل البازخة التي أصبح حتى العرب من "محدثي السينما" ينفقون عليها الملايين، من أجل الدعاية لحلاوة وجمال مهرجاناتهم التي أصبحت حاليا "موضة" يتنافسون على اقتنائها، بعد أن كنا نكافح من أجل إقناع مطبوعاتهم العديدة بتخصيص مساحة ولو محدودة للكتابة الجادة في النقد السينمائي، وكانوا وربما مازالوا، يفضلون الكتابة عن أخبار النجوم والمقالات المسلوقة مع الممثلين والممثلات. وشخصيا أعرف صحفيا من أولئك الذين كانوا يترددون على المهرجانات السينمائية الدولية كثيرا، كان يترجم مقابلات مع النجوم وينتهز أي فرصة لالتقاط صورة له مع هذا النجم أم تلك النجمة، ثم ينشر المقابلة المترجمة على اعتبار أنه انتزعها انتزاعا من بين أنياب الأسد، ناسيا أننا نعرف أن كبارالنجوم يستقبلون الصحفيين عادة في افواج، أي كمجموعة مكونة من 9 أو 10 صحفيين، لا يسمح للواحد منهم بتوجيه أكثر من سؤال أو سؤالين على الأكثر!
سأتوقف الآن.. لن أتكلم عن الأفلام المعروضة في الدورة الخامسة والستين للمهرجان وهي كثيرة ومتنوعة، ولكن التغطية اليومية للمهرجان بأحداثه وأفلامه ستتبدأ في الظهور تباعا في موقع بي بي سي على الأقل اعتبارا من الأربعاء.

صورة شخصية في فينيسيا 1996

الأحد، 24 أغسطس 2008

كلاسيكيات معاصرة: "إمبراطورية الحواس"


الجنس كتعبير عن رفض الواقع


عندما عرض فيلم "إمبراطورية الحواس" للمخرج الياباني ناجيزا أوشيما Oshima للمرة الأولى في مهرجان كان السينمائي عام 1976، انقسمت الآراء حوله كما لم يحدث من قبل بالنسبة لأي فيلم. البعض اعتبره مجرد عمل مثير للغرائز وبالتالي للاشمئزاز والنفور والغضب، وفيلما من الأفلام الجنسية الإباحية أو ما يعرف بـ "الأفلام الزرقاء" (أو البورنوجرافيا) pornography. والبعض الآخر اعتبره تحفة سينمائية وقصيدة بصرية بليغة حول البحث المطلق في العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، والتأمل في جوهر وطبيعة العلاقة الحميمية الحسية كمعادل للوجود الإنساني نفسه أو ربما كتجسيد له.
منذ ذلك الحين برز اسم المخرج ناجيزا أوشيما على خريطة السينما العالمية، واعتبر أكثر السينمائيين اليابانيين تحررا في الفكر والصياغة الدرامية والقدرة على اقتحام المواضيع الصعبة وسبر أغوار الجوانب المسكوت عنها.
إلا أن "إمبراطورية الحواس" The Empire of Senses واجه مصاعب عدة مع الرقابة في الولايات المتحدة وبريطانيا رغم التصريح بعرضه دون مشاكل في فرنسا. وبمجرد وصول نسخة الفيلم إلى الولايات المتحدة، قام ضباط الجمارك بمصادرتها على الفور باعتبار أن الفيلم يتضمن تصويرا فاحشا اعتبر – على نحو ما- عملا منافيا للآداب العامة. وتكرر الأمر نفسه في بريطانيا.

في مملكة الحواس
هنا قام الطرف الفرنسي في الإنتاج بإعادة تصدير الفيلم إلى بريطانيا مرة أخرى بعد تغيير اسمه إلى "في مملكة الحواس" In the Realm of the Senses
ومنحت الرقابة البريطانية الفيلم تصريحا مقيدا يقضي بقصر عرض الفيلم على نوادي السينما ودور الفن والتجربة بعد أن حصل على علامة "إكس" المزدوجة التي لا تمنح عادة إلا لأفلام "البورنوجرافيا". ولم يعرض الفيلم بالتالي إلا في دارين لعروض الفن والتجربة في العاصمة البريطانية هما "سكالا" و"جيت نوتنج هيل". وكلاهما اليوم لم يعد له وجود مع زحف قيم أخرى ومفاهيم أخرى في السينما.
وبعد نحو خمسة عشر عاما من ظهوره سمحت الرقابة البريطانية (أي عام 1991) بعرض الفيلم عروضا عامة في دور العرض التجارية على نطاق واسع، ولكن نسخة الفيديو من هذا الفيلم ثم الدي في دي أو الاسطوانات الرقمية كان عليها أن تنتظر إلى ما بعد بداية األفية الثالثة لكي تصل إلى البيوت.
شاهدت هذا الفيلم للمرة الأولى في العاصمة الفرنسية عام 1981، وبهرني الفيلم، ليس فقط بجرأته الشديدة واقتحامه لخفايا وأسرار عالم قائم بذاته هو عالم الجسد، بل أيضا لأسباب تعود إلى التقنية العالية لمخرجه، وللأداء التمثيلي المقنع بشكل مدهش لبطليه، وكأنهما ارتبطا معا بالفعل بعلاقة عاطفية مشبوبة، خاصة أن الفيلم يعتمد اعتمادا رئيسيا على أداء البطلين ومناجاتهما الحارة وظهورهما معا في لقطات حب طويلة وتفصيلية.
وعدت لمشاهدة الفيلم مرة أخرى في عرض خاص نظمته الشركة البريطانية التي اشترت حقوق توزيعه في بريطانيا وهي معهد الفيلم البريطاني أو مؤسسة السينما البريطانية British Film Institute المدعومة من مجلس الفنون أي من المؤسسة الرسمية التي تعنى بشؤون التنشيط السينمائي من الناحية الثقافية. إذن فقد حصل الفيلم على اعتراف مؤكد من قبل أرقى هيئة سينمائية بريطانية، واعتبر عملا فنيا ذا قيمة طليعية وتجريبية.. ثم عدت لمشاهدته بعد ان صدر قبل سنوات في اسطوانة رقمية. ولكن ما الذي حدث أصلا وسبب كل ما سببه من متاعب للفيلم وصاحبه؟

عودة إلى الماضي
ربما يكون مناسبا العودة إلى الفترة التي شهدت ظهور الفيلم للمرة الأولى لكي نضعه في السياق التاريخي الصحيح لتطور التعبير السينمائي البصري في حينه.

كانت فترة منتصف السبعينيات فترة حافلة بأعمال فنية قطعت شوطا طويلا في استخدام الجنس صراحة، فقد اعتبرته محورا رئيسيا للعمل الفني، وصورته بجرأة تجاوزت كل ما كان مسموحا به من قبل. وكان هذا بالطبع محصلة للطفرة التي تحققت بفضل ما عرف في الستينيات بـ"الثورة الجنسية".
ولازلت أذكر الدراسة التي نشرها د. لويس عوض في صحيفة "الأهرام" وتحديدا في ملحقها الأدبي، عن مسرحية "هير" أي الشعر، وقت أن كانت للملاحق الأدبية سمعة محترمة، وقبل انهيار الأهرام نفسه مع انهيار الفكر السياسي على صعيد النخبة المستاثرة على الساحة وليس على صعيد النخب المهمشة التي تحتفظ بحيويتها طيلة الوقت.
وكانت تلك المسرحية تعتمد على ما يطلق عليه البعض الآن "مسرح الكباريه السياسي". وكانت تعبر – على نحو ما – عن غضب واحتجاج الشباب الأمريكي وإحساسه بالاغتراب، على خلفية الحرب التي كانت لا تزال مشتعلة في فيتنام. وكان التحرر قد وصل إلى أقصاه في تلك المسرحية: ممثلون يؤدون لأول مرة ربما في تاريخ المسرح- رقصات وهم عراة تماما، ويتخذون أوضاعا جنسية مباشرة. بعدها ظهرت مسرحية أخرى على خشبة المسرح الإنجليزي يمارس فيها البطلان – الممثل والممثلة – وهما هنا يلعبان دوري زوج وزوجة- الجنس صراحة كل ليلة على خشبة المسرح أمام الجمهور مباشرة.
ثم كان ظهور فيلم "التانجو الأخير في باريس" Last Tango in Paris للمخرج الإيطالي برناردو برتولوتشي عام 1973 بمثابة صدمة كبرى للأوساط الرقابية والسينمائية. وقد ثارت حول هذا الفيلم ضجة هائلة، وأثار عروضه أصداء واسعة وقضايا متشابكة، فقد منع لفترة في معظم العواصم الأوروبية، بل ووصل الأمر إلى حد صدور حكم قضائي في روما بسجن مخرجه بتهمة المشاركة في صنع عمل يدعو إلى الانحلال.
وعادت الضجة مرة أخرى عندما قدم الإيطالي بيير باولو بازوليني فيلم "سالو" Salo (أو 120 يوما في حياة سادوم) الذي كان بالمناسبة آخر ما يخرجه من أفلام. وجاء "سالو" متجاوزا كل الحدود المعروفة والمألوفة، فقد كان بازوليني يصور فيه بجرأة وبأسلوب فني متميز وخلاق، العلاقة بين العنف الفاشي المجنون والشذوذ الجنسي، ليس بمعناه المثلي البسيط، بل بمعنى الإغراق في أكثر أنواع الجنس سادية ودموية عنيفة تصل إلى الحيوانية والبدائية المطلقة التي تذكرنا بفترة الانحطاط الأخيرة في عصر الإمبراطورية الرومانية. كان هناك بالطبع ربط مباشر وواضح – لمن يريد أن يقرأ بصريا ويدرك- بين دموية المنهج السياسي المعادي للإنسان، وبين الممارسات السلوكية الفردية التي يتحول خلالها الفرد إلى عضة في قطيع همجي يمارس كل ما يمكن تخيله من جرائم وبشاعات: من اغتصاب وقتل وقطع للأثداء وتمثيل بالأعضاء الجنسية وإرغام الآخرين الضحايا على أكل البراز وغير ذلك.
الفاشيون في إيطاليا – وهم ما زالوا موجودين حتى يومنا هذا – فهموا الرسالة بالطبع. ولم يكن غريبا أن يتربصوا بالفيلم ومخرجه، يقيمون الدنيا من حوله حتى قبل أن ينتهي مخرجه من إخراجه. وعلى إثر ذلك فقد بازوليني حياته في حادث بشع لا يزال البعض يرى من وراءه أصابع الفاشية.
كان "سالو" يعتمد على إعادة تجسيد أحداث حقيقية وقعت في الشمال الإيطالي قبيل اكتمال عملية تحرير البلاد في نهاية الحرب العالمية الثانية، في آخر معاقل الفاشية الإيطالية المهزومة.
ناجيزا أزشيما ومساعده وبطلا فيلمه "جوباتو"

أجواء الفاشية
أجواء الحرب وصعود الفاشية في اليابان ربما كان أيضا وراء ظهور فيلم "إمبراطورية الحواس" الذي يعتمد – شأن "سالو" – على حادثة حقيقية وقعت في طوكيو عام 1936 قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية مباشرة.
تبدأ تلك الحادثة بقيام رجال الشرطة بالقبض على بائعة هوى قتلت عشيقها بطريقة وحشية عن طريق تجريده بقسوة من عضوه التناسلي، ثم هامت على وجهها في الشوارع وهي تحمل عضو الرجل الذكري. ووراء المرأة قصة هي التي يرويها أوشيما في فيلمه برصانة كبيرة، ويجعل عشرات المشاعر والتساؤلات تجول بخاطرك وأنت تشاهد فصولها المتعاقبة.
يبدأ الفيلم بامرأة شابة من بائعات الهوى تدعى "سادا" تهجر مهنتها وتلتحق بالخدمة في أحد منازل السادة في طوكيو. المنزل يملكه رجل متزوج حديثا، والخادمة واحدة من خادمات مثيرات غيرها يسهرن على شؤون المنزل وخدمة سيده الذي يعشق فيما يبدو، حياة اللهو الاسترخاء والكسل.
تقوم زوجته كل صباح بمساعدته على الاستحمام، ويمارس الإثنان الحب معا، برغم النظرات المتلصصة للخادمات الفضوليات من فرجة الباب ومعهن "سادا" التي تتفتح شهيتها الجنسية تجاه سيدها الشاب القوي، إلا أنه لا يبدو مدركا لوجودها. وذات يوم تقع مشاجرة عنيفة في المطبخ بين ربة البيت وسادا التي تصل في تهورها وحنقها إلى حد تهديد سيدتها بالسكين. ف يتلك اللحظة يصل الزوج وتلفت سادا نظره، بتوحشها وجمالها الفائق وفورانها الطبيعي، وسرعان ما تبدأ بين الاثنين علاقة حسية أو علاقة عشق ملتهب لا يعرف قيودا، تصبح علاقة شبه معلنة يعرف بها كل سكان المنزل.
الرجل – ويدعى "كيشي" – يكاد يصبح متفرغا لشؤون الحب والهوى، والمرأة من ناحيتها ترغب في الاستيلاء عليه استيلاء تاما كاملا غير منقوص، فهي تحظر عليه أن يقرب زوجته، تريد أن يكون معها ليلا ونهارا.

مفهوم الحب
ويستمر الإثنان في ممارسة الحب الحسي الجارف بكل صنوفه وأشكاله الممكنة وغير الممكنة. وأثناء ذلك يدور حوار طويل ممتد عبر الفيلم بأكمله، عن مغزى الرغبة وعن مفهوم الحب، عن معنى الألم وعلاقته باللذة، وعن الجاذبية الطبيعية بين الرجل والمرأة. تتفنن المرأة في ابتكار صور وأشكال الحب والجنس، وتكتشف باستمتاع خاص العلاقة بين اللذة والألم، وبين الجنس والسيطرة القدرة على تحطيم الحاجز القائم تاريخيا بين الطبقات.
يقضي العشيقان ليلة معا في أحد بيوت المتعة حيث تلحق بهما إحدى فتيات الجيشا، ثم تحضر مغنية عجوز تجلس أمام العشيقين، تغني وتعزف على آلة وترية شبيهة بالعود فيما العشيقان يمارسان الجنس أمامها، ثم يدور حوار غريب بين سادا والمغنية:
- كيف ترين هذا الرجل؟
- أجده جذابا شابا وسيما.
- كم عمرك؟
- ثمانية وستون عاما.
- هل تشعرين بالرغبة وأنت في هذه السن؟
- مشاهدة الشباب تغوي المرء!
- هل تريدين مضاجعته؟
- نعم.. ولكن...

من المشهد الأخير في "امبراطورية الحواس"

تتردد المرأة برهة، تتطلع بنوع من الاشتهاء إلى جسد الرجل العاري، وعلى الفور ينهض الرجل يجذبها ويمارس معها الجنس أمام سادا التي تراقب بانبهار ما يحدث، تكتشف على ما يبدو ألغازا كانت خافية عليها من خفايا عالم الجسد.تبتكر سادا فيما بعد طريقة شاذة للحصول على أقصى إحساس بالمتعة عن طريق المزج بين الجنس والألم، فهي تستخدم حبلا رقيقا تخنق به رقبة حبيبها أثناء ممارسة الجنس. يقول الرجل لها إنه لا يمانع طالما أن هذا يدخل السعادة على نفسها، لكنها تغضب وتلح عليه أن يغمض عينيه ويندمج مع الفكرة ومع الإحساس بها وأن يشعر بما تشعر به من لذة. يوافقها الرجل الذي يشعر بالانجذاب الشديد إليها ولا يمانع في إرضائها بأي شكل.
تدريجيا تتسلل إلى نفس سادا رغبة واضحة في الامتلاك.. امتلاك الرجل والسيطرة المطلقة عليه. إنها تغار من مجرد أنه يفكر في الرغبة في الحصول على قسط من الراحة بين أشواط المطارحات الجسدية التي لا تنتهي ولا تتوقف إلا لكي تبدأ مجددا. يريد هو أن يذهب لقضاء حاجته، لكنها لا تريد أن تمكنه من ذلك، فقد سيطرت عليها الرغبة سيطرة كاملة وأصبحت أسيرة لفكرة الانتحار في الآخر ومع الآخر، تريده أن يمتلكها كما تريد امتلاكه، ليس تحقيقا لتطلعات مادية أو شخصية بل فقط من أجل استمرار اللذة حتى النهاية.. نهاية الحياة المرتبطة بنهاية اللذة!
يسقط الرجل في النهاية فريسة للإرهاق الطبيعي. يسترخي يحاول أن ينال قسطا من الراحة. إلا أن سادا تواصل خنقه بالحبل لعلها توقظ فيه الرغبة مرة أخرى. تكاد تخنقه وهي تشدد من ضغطها على الحبل في إلحاح لإعادة الرغبة إليه. إلا أن الرجل يصل إلى ذروة الإجهاد فيستغرق في النوم. ينتهي الأمر بقيامها بتنفيذ رغبتها الراسخة المبيتة في امتلاكه إلى الأبد، فتقوم بطريقة وحشية بإخصائه باستخدام سكين، في مشهد صادم للعين.

الخوف من الموت
الموضوع الذي يطرحه أوشيما في "إمبراطورية الحواس" هو موضوع الجنس، ليس في حد ذاته، بل في ارتباط الحب بالجنس، اللذة بالألم، الألم بالسيطرة وبشهوة تحقيق التسيد إخفاء لضعف طبيعي يرتبط بالخوف من المستقبل، من النهاية أي من لحظة تنتهي فيها اللذة إلى الأبد ولا يمكن استعادتها كمعادل الموت. إنه الخوف من الموت، هو الموضوع الذي يشغل مخرجنا هنا. إنه نوع من البحث الصوفي المعذب عن الخلود، عن تخليد اللحظة، وعن مغزى الوجود من خلال العلاقة الحميمية اللصيقة مع الآخر.
أما على المستوى الأكثر شمولية يتعامل الفيلم مع الشخصية اليابانية لكي يجسد من خلالها حالة الفراغ المطلق والخوف من المجهول التي كانت تسيطر عليها قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية، أي خلال فترة القلق فيما بين الحربين، وهي نفسها فترة قمع: اجتماعي ونفسي وجسدي مع صعود الفاشية التي تلغي الفرد لحساب الكتلة الصماء للمجموع.
إنه يعكس بوضوح رغبة عارمة في إغماض العين عما يحدث في الخارج (نحن مثلا لا نعرف اي شئ عما يجري خارج المنزل)، في الهروب من الواقع الكئيب الذي يتجه حثيثا نحو الحرب، ويجعلنا نتساءل: كيف يمكن لتلك التركيبة الرقيقة المعذبة بفكرة البحث عن اللذة أن تتجه إلى انكار الفرد تماما ودفعه دفعا إلى الذوبان وسط المجموع حسب الأفكار الفاشية التي لا ترى إلا أن الفرد ترس صغير في آلة الدولة، ولا تبالي بالتضحية به في سبيل بقاء الدولة.
إن الجنس في "امبراطورية الحواس" معادل موضوعي للتمرد، لرفض القيم السائدة الجامدة المتشنجة، والعاوى القومية الفاشية التي تطالب المرء بل ترغمه، على الذوبان في المجموع، أي ان يتحول إلى جزء من "قطيع" مدفوع بهاجس واحد فقط: خدمة الامبراطور الذي يعتبر إلها في اليابان، والامبراطور رمز لا يراه أحد، أماالمقصود فهو خدمة مؤسسة الدولة: التي ترغب في السيطرة والقهر والتوسع والتمدد الخارجي وإعادة صياغة إنسان جديد يتخلص من المشاعر الفردية، ويذوب في "الخف" الأكبر من جسده كثيرا، أي في جسد الأمة.
ولعل هذه النغمة حول العلاقة المعقدة بين الفرد وتطلعاته الذاتية ومشاعره من ناحية، وبين كونه جزءا من قطيع يمارس وظيفة "مبرمجة" هو الموضوع الذي مده أوشيما على استقامته في فيلمه المهم "عيد ميلاد سعيد يامستر لورنس" (1982).
ورغم الصدمة والقسوة إلا أن الفيلم يبدو عملا شاعريا يذوب فيه المجازي مع الواقعي، المتخيل مع المعاد تجسيده من الخيال، في بناء شديد التركيب رغم بساطته الظاهرية، وهذه هي عظمة العمل الفني الأصيل.

الهرب إلى الطبيعة
الهرب إلى الجسد هو ما يميز "إمبراطورية الحواس"، والاعتداء القاسي على العين، أي صدم المشاهدين بمشاهد لم يكن يمكن تخيل أن توجد في فيلم "جاد" من قبل ربما يذكرنا بفيلم آخر مثير للشجن كان أيضا نتاجا لثقافة الستينيات هو الفيلم السويدي الجميل "إلفيرا ماديغان" Elvira Madigan (1967) للمخرج بو فيدربرغ الذي يصور كيف يهجر ضابط في زوجته وأبناءه والخدمة العسكرية ويهرب مع فتاة سيرك، يتركان العالم الحديث في المدينة بأسره ويندمجان وسط الطبيعة في الريف، يمارسان الحب ويأكلان ما تجود به الطبيعة احتجاجا على القيم المتزمتة التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر.

من فيلم "عيد ميلاد سعيد يامستر لورنس"

"موضوع "إمبراطورية الحواس" حاول أوشيما أن يمده على استقامته فيما بعد في فيلمه التالي "إمبراطورية العواطف" (1978) إلا أنه لم ينجح تماما شأن كل صناع "الاستكمالات الفنية"، ثم اتجه إلى محاولة سبر أغوار العلاقة المستحيلة المستغلقة بين التكوين النفسي الياباني، بعنفه الكامن وهواجسه الجنسية الخفية التي قد تتحول إلى طاقة مدمرة وولعه بالعمل وسط المجموع، والتكوين الغربي بحساسيته الخاصة: برودته وفرديته واعتزازه بنفسه، وذلك في فيلمه الأهم "كريسماس سعيد يا مستر لورنس" Merry Christmas Mr Lawrance.
والجنس في "امبراطورية الحواس" ايضا معادل للهروب من مواجهة ما يحدث في الخارج: خارج المنزل، وخارج الحي، بل وخارج اليابان. ففيلم أوشيما الجرئ هو نتاج مباشر أيضا – على الصعيد الياباني – لثقافة وفكر الستينيات، ثقافة التمرد على المجتمع بشتى أشكاله وصوره. هذا التمرد يتمثل هنا في الهرب والعزلة عن المجتمع، الإثنان يغلقان الباب عليهما بعيدا عن الخارج الذي لا نراه كثيرا، ويندمجان في لعبة اللذة والبحث عن مغزى لوجودهما الفردي من خلال إغماض العين عما يقع في العالم. إنه التمرد في أجلى معانيه.
"إمبراطورية الحواس" أخيرا فيلم قد يصدم الكثيرين من الذين لم يعتادوا ذلك النوع من التصوير الصريح الظاهر مع رسالة باطنية تحت جلد الصورة، من خلال خطاب بصري شديد الاقتحام والجرأة، إلا أنه يظل أحد الأفلام الأساسية التي يتعين على كل عشاق السينما مشاهدتها لمعرفة كيف تطور هذا الفن واكتسب لنفسه مساحة حيث يستطيع أن يجترئ على المحظور!

السبت، 23 أغسطس 2008

السينمائيون الشباب يكشفون الوجه القبيح للرقابة


الرقيب علي أبو شادي كما يظهر على ملصق الفيلم


من يخاف من السيد الرقيب؟

(شاهد الفيلم بالفيديو في نهاية هذا الموضوع)

محمد مخلوف صحفي ومخرج وناشط سينمائي ليبي مقيم في لندن، لكنه لا يهدأ له بال، ينتقل من مكان إلى آخر،ومن بلد إلى بلد، يبحث وينقب عن مواضيع ساخنة، ينفق من ماله الخاص على إنتاج أفلامه القصيرة التي يخرجها، ويبحث بعد ذلك عن جهة يمكن ان تعرضها.
إنه عاشق حقيقي لثقافة الصورة إذا جاز التعبير، فأفلام مخلوف وتجاربه البصرية العديدة تأتي أساسا نتاجا لكاميرا الديجيتال الصغيرة. وهو يعتبر نفسه على نحو ما، ابن السينما المستقلة، ويرتبط بعلاقات عديدة مع السينمائيين المصريين ابناء هذه الحركة الجديدة التي لم تنل حقها بعد من الدراسة والفحص. ومخلوف هو أيضا مؤسس ومدير أول مهرجان للسينما المستقلة، في لندن ثم في الدوحة.
أحدث أفلام مخلوف التسجيلية فيلم (10 دقائق) يحمل عنوانا مثيرا هو "من يخاف من الرقيب" متمثلا عنوان مسرحية إدوارد ألبي "من يخاف من فيرجينيا وولف"؟

صراع ممتد
هذا الفيلم يصور الصراع القائم والممتد بين السينمائيين من جهة، والرقابة على السينما من جهة أخرى. هذه المرة يتركز الموضوع على جيل جديد من السينمائيين الشبان المستقلين عن المؤسسات الكبيرة وعن التليفزيون المصري الرسمي، يحاولون تلمس طريقهم بوحي من المساحة الواسعة للحرية التي أصبحت متوفرة اليوم، ليس فقط مع ظهور وانتشار كاميرا الديجيتال، بل من خلال الانترنت وأفلام الموبيل وغير ذلك من الوسائل التي يسعى الشباب من خلالها إلى التعبير عن رؤاهم ومواقفهم، وهي ظاهرة لو كانت في أي مجتمع راشد عاقل، لاعتبرها ظاهرة شديدة الصحية والإيجابية لأن هؤلاء الشباب هم الذين سيتولون المسؤولية في المستقبل، وكونهم مهمومون بقضايا الواقع ومشاكله والتعبير عنها، فهذا يثبت انتماءهم ورغبتهم في رؤية الواقع يتطور وينضج ويتجه نحو آفاق اكثر رحابة في الحريات.
لكن هناك ذلك البطل اللابطل، واقف لهم بالمرصاد.. إنه الرقيب الذي يجعله محمد مخلوف بطلا لفيلمه، ربما على سبيل المحاكمة. فالفيلم يضع الرقيب علي أبو شادي في مواجهة هؤلاء الشباب، ويعتمد على الشهادات المباشرة المنطلقة من قلب الحدث والواقع والصورة تشهد تماما على ذلك. المخرج أحمد رشوان يتكلم عن المشاكل الأمنية التي يتعرض لها بينما نراه لحظة تصويره فيلمه الروائي الطويل الأول "البصرة" في الشوارع، ورجال الشرطة حوله ووراءه.

المخرج محمد مخلوف

الرقيب الناقد
اما السيد الرقيب الذي لا يكف ليلا أو نهارا عن تذكيرنا بأنه "الناقد، المثقف، صديق الفنانين، والذي لولاه لأصبحت الرقابة أشد وأعنف وربما انتهت السينما في مصر"، فإنه يبدو في الفيلم وهو يدافع بشراسة عن دوره، ويبرره بشتى الوسائل ويستخدم لهجة سلطوية و"تهديدية" في حديثه عما ينبغي أن يلتزم به السينمائيون الشباب وإلا.. ويبدو بشكل عام مستفزا من أسئلة المخرج، متشنجا في ردوده عليها، دون أن يظهر على وجهه شبح ابتسامة واحدة طوال الوقت.
ويبدو هذا الفيلم متوازنا في معالجته لموضوعه، بين الأطراف المختلفة، وفيه يظهر المخرج محمد خان لكي يبدي رأيه فيما يتعلق بمشكلة الرقابة، لكنه لا يدينها ولا يؤيدها إلا أنه يقر بوجودها وبضرورة التعامل معها.
ويفتتح المخرج الفيلم بلقطة لمدير الرقابة وهو يجلس على مكتبه يطالع جهاز كومبيوتر محمول لكنه يخفي وجهه وراء شاشة الجهاز الصغير، ونحن نسمع صوته فقط دون أن نراه، وكأنه شبح يحتبئ في الظلام.
وفي اللقطة الأخيرة من الفيلم يصوره من زاوية منخفضة وهو يقف أمام مبنى "المجلس الأعلى للثقافة" (وهو كيان يتناقض بالكامل حتى من الناحية الشكلية البحت، مع فكرة الرقابة). وكأن مخلوف يريد ان يظهر لنا أبو شادي ككيان مهيمن مسيطر او كرجل سلطة يصفه هو في تعليقه المصاحب للصورة بأنه "أقوى رقيب في العالم العربي"!

** هنا يمكنك أن تشاهد الفيلم كاملا عن طريق وصلة الفيديو هذه.

الخميس، 21 أغسطس 2008

عودة المخرج الأسطوري خودوروفسكي



عبقري السينما السيريالية المجنون يعود إلى الشاشة
شاهد مقابلة معه بالفيديو (في نهاية هذا الموضوع)
كان أهم واجمل خبر بلغني أخيرا هو إعلان المخرج والمنتج الأمريكي الكبير ديفيد لينش ("الرجل الفيل" و"القطيفة الزرقاء" و"توين بيكس" و"مولاهولاند درايف") توقع عقد مع المخرج الأسطوري أليخاندرو خودوروفسكي Alejandro Jodorowsky لإخراج فيلم جديد بعنوان "كنج شوت" king Shot سيحفر عودة مخرجه العظيم إلى الإخراج بعد توقف دام نحو 18 عاما.
وخودوروفسكي لمن لا يعرفه، هو أحد رواد السينما السيريالية في العالم، وإن كان لم يخرج طوال 40 عاما سوى 6 افلام كان يكفي واحد منها هو "الطوبو" (El Topo (1970 لكي يجعل منه نبيا للسينما الجديدة في عصره. وهو يتجاوز كثيرا سيريالية بونويل "العقلاني"، لكي يحلق فيما وراء العقل والمنطق والطبيعة، صانعا لغة خاصة لها إشاراتها وجزيئاتها وسحرها الخاص.
خودوروفسكي مخرج من مواليد تشيلي عام 1929 لأبوين مهاجرين من روسيا، اخرج افلامه في المكسيك، ويعيش في فرنسا. وهو الآن في التاسعة والسبعين من عمره لكنه يقول إنه سيعيش حتى الـ 150 سنة. وهو في مقابلاته يبدو أكثر شبابا منا جميعا.
فيلمه الأول كان بعنوان "فاندو وليز" Fando y Lis عام 1978 (يعرف أيضا باسم أطفال الزفت) وهو عبارة عن رحلة سيريالية يقوم بها رجل وامرأة بحثا عن مدينة خيالية لا يمكن الوصول إليها. ويقول المخرج العبقري المجنون إن الفيلم عرض للمرة الأولى في مهرجان أكابولكو بالمكسيك، وإن الجمهور من شدة حماسه تحول إلى الشغب في نهاية العرض بل أراد قتله بشكل فعلي وليس مجازي، وإنه اضطر إلى مغادرة قاعة العرض من الباب الخلفي والهرب في سيارة قبل أن يفتكوا به!
من فيلم "الطوبو"
وقد أدى هذا إلى منع عرض هذا الفيلم لمدة 32 عاما، وإلى إلغاء المهرجان، ويضيف إنه شاهد نسخة من الفيلم في نيويورك عام 2002 ورأى أنه مازال صالحا للمشاهدة. وقد اتاح له هذا النجاح إخراج "الطوبو" الذي ظل يعرض في مسرح Elgin في نيويورك لمدة ستة أشهر في قاعة تمتلئ كل ليلة بنحو الف متفرج، وتحول بذلك إلى إحدى ايقونات السنما الجديدة التي تتمرد على كل الاشكال القديمة.
وكان "الطوبو" فيلما لا يمكن تصنيفه بسهولة، فهو يجمع ما بين نغمة أفلام الويسترن بلمسات سيريالية واضحة مشبعة بالميثولوجيا الدينية والأساطير القديمة. وقد رحب الجمهور به بجنون، لأن جمهور نيويورك في ذلك الوقت بعد ثورة الشباب في الستينيات كان مؤهلا لاستقبال عمل بصري خالص يعتدي بقسوة على الـ genre التقليدي لأفلام الغرب الأمريكي.
شاهد الفيلم في عروض منتصف الليل نجم فرقة البيتلز الراحل جون لينون فأقنع ألان كلاين بشراء حقوق توزيعه وسحبه لتوزيعه خارج عروض منتصف الليل، ونظم عروضا خاصة لنقاد نيويورك أذهلتهم واقنعتهم أنهم أمام موهبة صاعدة خارقة. وقد أنتج كلاين فيلم خودوروفسكي التالي "الجبل السحري" (1973) وذهب لعرضه في مهرجان "كان" في تلك السنة.
فشل لاحق وتوقف
أخرج خودوروفسكي بعد ذلك فيلمين ثلاثة أفلام هم "توسك" Tusk عام 1980، ثم "الدماء المقدسة" Santa Sangre عام 1989(سنعود لاحقا لتقديم نقد تفصيلي له)، ثم "لص قوس قزح" Rainbow Thief مع عمر الشريف وبيتر أوتول وكريستوفر لي، ويقول خودوروفسكي إنه لم يكن حرا وهو يعمل في فيلمه الأخير، وإن المنتج كان يرغب في تقديمه كهدية لزوجته!
أما فيلم "توسك" فقد وقد تبرأ تماما منه وتخلى عنه قبل عمل المونتاج بسبب مشاكل إنتاجية.
أما أطرف ما حدث لهذا المخرج الغريب أنه اختلف مع المنتج والموزع الن كلاين (الذي يملك حقوق اوزيع أفلامه الثلاثة الأولى) بسبب رفضه إخراج فيلم على مزاج كلاين فما كان من الأخير إلا أن عاقبه بمنع عرض أفلامه طوال 30 عاما، إلى أن اصطلحا أخيرا وأصبحت الأفلام متوفرة حاليا على اسطوانات رقمية في طبعة ممتازة.
فنان شامل
غير أن خودوروفسكي ليس فقط مخرجا سينمائيا بل مؤسس حركة مسرحية في الستينيات هي حركة مسرح البانيك Panic نسبة إلى إله إغريقي يدعى "بان" Pan. وهو أيضا محاضر يمارس العلاج الجماعي عن طريق التحليل النفسي، ورسام ومؤلف لمجلات الرسوم المصورة المضحكة، ومخرج مسرحي وممثل. وجدير بالذكر أيضا انه قام ببطولة فيلم "الطوبو" وأخرجه والفه وكتب موسيقاه وعمل له المونتاج.
** هنا مقابلة نادرة بالانجليزية مع العبقري خوردروفسكي، يتحدث فيها عن أفلامه التي نشاهد مقاطع منها.. تكشف لنا حجم الخيال الجامح، ومفردات لغة الشعر التي يعبر من خلالها خودوروفسكي عن رؤيته للعالم كأحد الفوضويين العظماء في عصرنا.
شاهد واسمع:

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger