يتصور بعض من
يقيمون المهرجانات في العالم العربي أنه كلما زاد عدد الأفلام التي يعرضونها في
مهرجاناتهم كلما أصبح المهرجان "دوليا" وارتفعت قيمته وأهميته بين
المهرجانات. ولكن الحقيقة ومن واقع ما نراه عاما بعد عام في مهرجان كان السينمائي،
أكبر وأهم هذه المهرجانات، أن عدد الأفلام ليس هو المعيار بل اختيار الأفلام التي
تعرض هو الأساس.
وقد يقول قائل:
وهل مستوى الأفلام التي عرضت أو تعرض في مهرجان كان مثلا مستوى جيدا دائما، أليست
هناك أفلام سيئة أو محدودة القيمة؟
الاجابة: كلا
بالطبع ليس كل ما يعرض هو دائما جيد، بل الأهم أن معظم ما يعرض من أفلام أو
الغالبية العظمى منها هي أفلام جديدة أي لم يسبق عرضها في أي مكان في العالم وهي
لذلك تكون مفاجئة سواء سارة أو غير سارة بالنسبة للناقد والمشاهد والسينمائي المهتم
أصلا بمشاهدة الأفلام وليس لعب القمار في كازينو كان الشهير!!
لم يعرضالمهرجان
في برامجه كلها أكثر من 85 فيلما. وعرض في السوق عدد كبير يتجاوز ثلاثة ىلاف فيلم
لكن الأسواق التي تتيح للموزعين الحصول على الافلام لا علاقة لها بالمهرجان الرسمي
وافلامهما لا تخضع للاختيار بل لمنطق شركات التوزيع.
إن أي مهرجان
يتفوق على غيره من مهرجانات، بما يستطيع أن يأتي به من أفلام تعرض للمرة الأولى
عالميا، وبنجاحه في إقناع صناع الفيلم بالحضور ومناقشة أفلامهم مع النقاد
والصحفيين وأحيانا أيضا، مع الجمهور. وكلما نجح المهرجا في استقطاب أفلام جديدة
جيدة كان ناجحا ولكن لا يتوقف النجاح قط على استقطاب الأسماء الكبيرة في عالم
الاخراج السينمائي فقط، فليس بالضرورة أن تكون هذه الأسماء قد حافظت على مستواها
السابق. وقد شاهدنا على سبيل المثال، عددا من أفلام المخرج البريطاني كن لوتش
(ثلاثة على الاقل) خلال السنوات الأخيرة، تعرض في مسابقة مهرجان كان دون أن ترتفع
إلى مستوى المشاركة ولا حتى الى مستوى ما حققه كن لوتش نفسه من قبل في تحفته التي
حصلت على السعفة الذهبية عام 2006 أي فيلم "الريح التي تهز الشعير".
وكان من الغريب
والمهرجان الرسمي يحرص على استقطاب الأسماء الكبيرة أن يذهب الفيلم الجديد
"الملكة والدولة" Queen and Country للمخرج
البريطاني الكبير جدا قيمة وتجربة وعمرا، أي جون بورمان (83 سنة)، إلى تظاهرة
"نصف شهر المخرجين: وليس للمسابقة
الرسمية أو حتى للعرض خارج المسابقة على نحو ما حدث مع فيلم المخرج الصيني المرموق
جانج ييمو "العودة للدار" الذي عرض خارج المسابقة وإن كان رأيي أنه لا
يليق بالمخرج الكبير ولم يأت حسب التوقعات بعد كل هذا الغياب عن التعاون بين ييمو
وبطلته التي صنع معها مجده أي الممثلة جونج لي. وقد بالغ البعض في قيمة هذا الفيلم
بل وفي قيمة تمثيل جونج لي الذي أراه مبالغا في الأداء وعلى وتيرة واحدة لا تتغير.
ولنا مع الفيلم وقفة خاصة فيما بعد لتحليله تحليلا نقديا من داخله بعيدا عن هذه
الانطباعات العابرة التي أسوقها هنا الآن.
لم تتجاوز أفلام
المسابقة عدد 18 فيلما كما لو كان المهرجان المخضرم قد عجز عن الحصول على العدد
المعتاد أي 20 أو 21 فيلما من العالم كله. أيضا لم يكن كل ما في هذه الأفلام جيدا
بل كان هناك ما لا يصلح للاشتراك ـأصلا في أي مسابقة لمهرجان كبير محترم مثل
الفيلم الايطالي الألماني "الرائعون" أو "الأعاجيب" أو سمه
كما تشاء فاسمه نفسه يبدو ملتبسا فلا عرف الى أي شيء يشير. وهو بالانجليزية The
Wonders
والفيلم عبارة عن كوميديا سطحية اجتماعية وراءها فكرة نظرية قد تبدو جيدة عن تقديم
أسرة من الطبقة الدنيا تخوض تجربة جديدة في العمل مع أطفالها في الريف. ولكن
الفيلم يفتقر الى سينارية متماسك والى اخراج يعف هدفه، فيظل يدور في دوائر مغلقة،
دون أي قدر من خفة الظل بل على العكس. ومسار الحكي نفسه يبدو ممطوطا ومفتعلا يبعث
على النعاس ومع ذلك فاز الفيلم بجائزة مهمة في المهرجان هي جائزة لجنة التحكيم
الكبرى التي تأتي في المرتبة التالي للسعفة الذهبية. هذه بلاشك جائزة مجاملة فقط
لمخرجة الفيلم كونها امرأة، ولاشك أن جين كامبيون رئيسة لجنة التحكيم وهي معروفة
بانتمائها الى معسكر "الفيمينزم" أو الحركة النسوانية التي تتحيز للمرأة
على حساب الرجل أيا كان ، بدعوى أن المرأة مضطهدة ومظلومة وأن الرجل يستبعدها عادة
من الصورة، كانت وراء منح تلك الجائزة لهذا الفيلم الضعيف شكلا ومضمونا
المضحك في الأمر
كله أن الكثير من الذين يكتبون وينشرون الأخبار والتقارير في الصحف العربية
اعتبروا- كما قلت من قبل أن يبدأ المهرجان في أكثر من مقال- أن الفيلم الفرنسي
"تمبكتو" فيلم عربي، غالبا لإقناع القائمين على الصحف التي يكتبون لها
بأن هناك ما يستحق التغطية والحصول على بدل سفر وتكاليف اقامة في أغلى مهرجان في
العالم تكلفة، أليس عبد الرحمن سيساكو مخرج الفيلم موريتاني الأصل؟ وأليست
موريتانيا عضوا في الجامعة العربية؟ وأليس الفيلم يدور في موريتانيا ويتناول مشكلة
تتعلق بالتطرف الاسلامي أو بجماعات العنف باسم الاسلام؟ نعم طبعا، لكن موريتانيا
لا تنتج الأفلام، ولا سيساكو نفسه ادعى أنه ذهب الى كان ممثلا لموريتانيا، بل هو
الإبن الروحي للثقافة الفرنسية، وفيلمه وهو من الانتاج الفرنسي بالكامل، يدين
العرب، بقدر ما يتجاهل دور الغرب في صنع ظاهرة التطرف الاسلامي والجهاد الكاذبة،
هذا بالاضافة طبعا الى ضعف الفيلم نفسه كفيلم من حيث السيناريو والاخراج والسيطرة
على المشهد والأداء والتكرار والافتعال..إلخ، لكن هذا لا يهم فالمهم أن الفيلم
"انتصر" وذهب للعرض في المسابقة.
والطريف أنني بعد
أن نشرت في موقع "عين على السينما" مقالي النقدي عن الفيلم عقب عرضه
مباشرة في اليوم الثاني للمهرجان مع ملاحظاتي السلبية على الفيلم من الناحية
الفنية، علق قاريء من موريتانيا بالقول إنني "حسود" وغن الفيلم لقي
ترحيبا واشادة من "جميع" النقاد العرب والأجانب، أي أنني رجل حاقد على
المنجز السينمائي الوطني "الموريتاني"، و"خارج عن الإجماع"
بين نقاد العالم. وهي نزعة عنصرية استعلائية موجودة بين كثير من المشاهدين والقراء
في العالم العربي خصوصا، فالجزائري يعتبر نقدنا السلبي لفيلم مثل "الخارجون
عن القانون" لرشاد بوشارب مثلا، نقدا ينم عن "غيرة" لأن أفلام من
بلادي لم تصل الى مسابقة كان بينما وصل الفيلم (الجزائري- افتراضا). وقد حدث هذا
حرفيا معي، فالعرب يعتبرون المشاركة في "كان" ليست مشاركة تعبر عن
المبدع الفرد أي مخرج الفيلم، بل تمثيلا للدولة وللسطة الرسمية أيضا، ويعتبرون
مشاركة أفلام من بلادهم في مسابقة كان مثل دخول منتخبات بلادهم مسابقة كأس العالم
لكرة القدم، أي يعتبرونه انتصارا قوميا يستحق الاشادة والاعتزاز والتمجيد، حتى لو
خرج هذا المنتخب من الدور الأول مجللا بالفضائح فاشلا من جميع الجوانب الفنية،
عاجزا عن تحقيق أي فوز امام منتخبات أخرى من بلدان ليست لديها عقدة الاضطهاد
وكراهية الآخر، العربي تحديدا، وبغض النظر عن مستوى الفيلم وقيمته الفنية، فمن
الممنوع أن ينتقده أحد بل يجب الاحتفاء به والتهليل بوصفه نصرا قوميا ووطنيا.
شخصيا لم يسبق لي
أبدا- على سبيل المثال- أن سمعت أو قرأت أن مشاهدا من بريطانيا هاجم ناقدا فرنسيا
لأانه لم يعجب بالفيلم البريطاني الذي عرض في مهرجان ما، واتهمه بكراهية بريطانيا
وثقافتها والحقد عليه. ولم أسمع مطلقا أن أمريكيا اتهم ناقدا من ألمانيا بكراهية
السينما الأامريكية والثقافة الأمريكية بسبب ما كتبه عن فيلم أمريكي. إنها عقدة
النقص العربية المخيفة التي تفترض أن الناقد العربي يكتب انطلاقا من مواقف شوفينية
ضيقة وليس استنادا الى ذوقه الشخصي ورؤيته وتكوينه وانفتاحه على الدنيا باسرها
ثقافيا. لكن هذه قضية معقدة!