يٌطرح في الكثير من الأحيان، ومنذ سنوات بعيدة، سؤال حول دور الناقد السينمائي، أي الشخص الذي يتصدى بقلمه لتحليل الأفلام والتوقف أمام نقاط القوة والضعف فيها والتوصل إلى استنتاج جمالي وفكري عليها.
هذا السؤال يتلخص في التالي: هل للناقد دور أساسي في صناعة السينما، أي كضلع أخير من اضلاعها، يتمثل في لفت الأنظار إلى الفيلم السينمائي، يروج له بطريقة او باخرى، خصوصا وأنه يجب أن يدافع عن حق صناع الأفلام (من مخرجين ومنتجين وموزعين وفنانين وتقنيين) في التعبير وفي مواصلة العمل مهما كان رأي السيد الناقد في أفلامهم، وبالتالي يقع على عاتقه القيام بدور مباشر في حماية "الصناعة السينمائية الوطنية"، بغض النظر كما قلت، عن مستوى الأفلام؟
هذا السؤال يحمل في طياته الكثير من الأسئلة الأخرى بالطبع مثل: ما هو دور الناقد السينمائي ، وهل له دور أصلا؟ وهل دوره ينحصر في الكتابة والحديث عن الأفلام فقط؟ أم عن القضايا الأكبر التي تتعلق بالسينما عموما كصناعة وتجارة وفن وحرفة..إلخ، وهل النقد جزء مكمل من العمل السينمائي ككل، أم أن عمل "طفيلي" أي يمكن ببساطة الاستغناء عنه، بدعوى أن السينمائي لا يصنع فيلمه للنقاد، بل للجمهور، وان نجاح أي فيلم جماهيريا هو أبلغ رد على النقاد، خصوصا إذا كان الفيلم من النوع الذي يتهمه النقاد بالسوقية والابتذال وضعف المستوى!
وهناك أسئلة أخرى أيضا مثل: كيف نتحدث عن النقد في غياب ثقافة فنية، بل وفي غياب منظومة تعليمية في العالم العربي تعطي للفنون أهميتها، بل ومع شيوع الأمية بمعناها المباشر أو المجازي أي الأمية "الثقافية" التي نلمسها جميعا يوميا خاصة مع الانتشار المخيف للقنوات الفضائية، وظهور عشرات المبدعين والمذيعات اللاتي لا يفقهن شيئا في أوليات الفن السينمائي لكن "المهنة" تفرض عليهم الحديث عن الافلام واجراء المقابلات مع صناعها، ولكن بطريقة الترويج المباشر، والدعاية التي تصل إلى أدنى مستوياتها أحيانا لدرجة تدفع الى التشكك والشك!
بداية لاشك أن للناقد دورا في الدفاع عن وجود السينما كفن وثقافة وفكر، وأرى أيضا أن له دورا في الدفاع عن وجود السينما كفن بغض النظر عن مستوى ما تنتجه من أفلام، لأن المستوى يتأرجح صعودا وهبوطا حسب موجات المد والجزر الاجتماعية، فالسينما حالها من حال المنتج الفني والثقافي في بلادنا، فإذا كانت دار الأوبرا التي هي كعبة الفن الرفيع، فن الموسيقى الذي يعد أكثر الفنون تجريدية، وسموا بالإنسان، قد هبطت الى أن وصل بها الحال اليوم لأن تغني فيها مغنيات الزمن الرديء، بأصوات لا قيمة لها، ومن خلال أغنيات شائعة مبتذلة تتردد كلماتها الفارغة على ايقاعات راقصة بدائية، وتخلو تماما مما يعرف في الموسيقى العربية بفن "الطرب" أو التطريب، وهو جوهر فن الغناء العربي، إذا كان هذا هو الحال اليوم، فكيف يمكن أن تكون السينما؟
لكن هناك في الوقت نفسه مهمة أساسية للناقد تتعلق بالدفاع عن الفن الرفيع، والانحياز فكريا للفن الانتقادي أو الذي يشتبك في جدل مع القيم السائدة المتخلفة في المجتمع، ويسعى للارتقاء بالذوق العام وبالسلوك الإنساني، وفتح أعين المشاهدين على وجود قيم بصرية أخرى، تستند إلى الموروث في الفن التشكيلي وفن التصوير. أي أننا عندما ندافع عن وجود السينما كفن وثقافة، لا ننسى أبدا التفرقة بين الفن الرفيع والفن الهابط المبتذل الذي يميل الى دغدغة الحواس واثارة الغرائز وابتزاز المتفرج باللعب على عواطفه ومشاعره البدائية المباشرة، بدلا من اشراكه في عملية التأمل التي يتيحها الفن الرفيع بالضرورة.
على الناقد القيام بمهمته دون أدنى مراعاة للظروف التي ينتج فيها فيلم ما يتعامل معه برؤية نقدية، فالسينما لم تولد أمس، بل منذ أكثر من مائة عام، وعندما يظهر فيلم جديد (أي مولود جديد) فهو يأتي حاملا تراث أكثر من قرن وخبرة طويلة متراكمة يبني السينمائي فوقها ليكمل على من سبقوه، ولا يصنع شيئا جديدا تماما من العدم.
بالتالي تنتفي هنا مهمة "الترويج" بدعوى "التشجيع" أي الأخذ بأيدي السينما المبتدئة، فلا توجد سينما مبتدئة تماما، خاصة عندما تتاح لها كل الإمكانيات التقنية والانتاجية، وطالما أن حجم المطلوب مناسب لمستوى الطموح الفني الذي يمكن الحكم عليه من مرحلة النص السينمائي أي السيناريو. فإذا قلنا مثلا إن مخرجا سينمائيا معينا أتيحت له كل الإمكانيات لانتاج فيلمه ثم فشل في تحقيق الطموح الفني الذي كان يصبو إليه، فكيف يمكن أن نقول إنه يستحق التشجيع!
من ناحية أخرى حتى لو لم تتوفر كل الامكانيات المطلوبة لعمل فيلم يحتوي على الحد الأدنى من الصور التي تقنع المتفرج بأنه أمام عمل فني حقيقي، تكون النتيجة النهائية مسؤولية المخرج، وليست مهمة الناقد هنا أن يلتمس له الأعذار ويبحث له عن المبررات بدعوى تشجيعه والأخذ بيده.
صحيح أن الناقد يكتب أساسا للمتفرج- القاريء، أي المتفرج الذي يفترض أنه يقرأ النقد أو يبحث عنه ويتاثر بما يقرأه إذا قامت بينه وبين الناقد علاقة ثقة وهي علاقة تولد من مصداقية الناقد وقدرته على الإفادة والإقناع، ومن جدية المتفرج- الباحث عن المعرفة والتذوق، في فهم ما بين الصور وما يكمن تحت جلدها والتعرف في النقد على مفاتيح لفهم الفيلم، دون أن يقدم له الناقد بالضرورة "وصفة" سحرية كاملة شاملة تفسر ما خفي وما غمض، وتضع امامه كل ما يحتويه الفيلم من إشارات ومعان ومضامين وأفكار، فالنقد في نهاية المطاف ما هو سوى "رؤية" شخصية تتعلق بثقافة كل ناقد ومستوى علاقته بالسينما وفهمه لتاريخها واطلاعه على نظرياتها، ومشاهداته الواسعة لاهم ما ينتج من أفلام في العالم بما في ذلك كلاسيكيات السينما القديمة والأعمال الراسخة التي تعلمت منها اجيال السينمائيين واالهواة.
لكن من الصحيح أيضا ان الناقد يكتب لكي يستفيد السينمائي سواء صانع الفيلم او غيره، من افكار الناقد ورؤيته ومنهجه التحليلي (إذا كان لديه منهج بالطبع) أو حتى من انطباعاته التي قد تفيد في معرفة انطباعات شريحة معينة من الجمهور عن الفيلم محل النقاش والنقد.
لكن هل يجب أن يتداخل الناقد مع الجانب الاقتصادي في السينما؟ أي يلعب دورا مباشرا في الترويج؟
لاشك أن هناك فرقا كبيرا بين "النقد" وبين "الترويج"، ومهمة الناقد تختلف كلية عن مهمة المروج أو مندوب الدعاية او المسؤول الاعلامي لفيلم ما، مهمته الترويج له في المهرجانات الدولية، والخلط بين المهمتين لا يؤدي سوى الى تمييع النقد، وربما لا يفيد الترويج التجاري كما ثبت في عشرات الحالات التي تولى فيها من يكتبون النقد مسوؤلية الترويج.
نعم معرفة اقتصاديات السوق السينمائية ومتغيراتها وما قد تصادفه من أزمات، والأرقام الخاصة بالانتاج ودور العرض والتوزيع والايرادات، كلها من المهم أن يتابعها الناقد وان يستوعبها ويكون قادرا على استخلاص الدروس والفوائد منها، بما يصب في وظيفته ويرفع من قدرته على التحليل والتعمق، لكن دون أن تطغى هذه الجوانب على دوره في تحليل الفيلم وتقريبه من المشاهدين، وربما أيضا التأثير على مستوى الإنتاج وتطوير الصناعة بشكل غير مباشر وفي الحدود المعروفة لدور النقد حتى في أرقى المجتمعات اهتماما به.
لاشك أن هناك من يخلطون بين النقد والترويج، وبين التداخل في الصناعة وعملية الإنتاج من خلال العمل كمستشارين انتاجيين أو حتى فنيين لبعض الأفلام، وبين مهمتهم كنقاد يتعاملون مع الزاوية الثقافية التي ترتبط بالفكر وليس بالتجارة. وأمامنا الكثير من النماذج، سواء في العالم العربي أو في أوروبا والولايات المتحدة وآسيا. لكن هذا الخلط لا يحدث عادة لصالح الفن السينمائي والارتقاء به وترشيده، بل لصالح الناقد نفسه، كشخص، ينتفع من مهنة أخرى يعثر عليها، وليس تدعيما لدوره الثقافي والفكري، فالناقد مثقف، والمثقف له موقف فكري وجمالي من السينما، ومن العالم، فإذا سمح بأن تتضاءل المسافة وتتلاشى بين مهمته في توصيل الفيلم الى المتفرج وتقريبه منه وتحفيزه على مشاهدته والاستفادة مما يطرحه أو الاستمتاع البصري الجميل به في حد ذاته (وهو هدف مشروع في الفن ايضا طالما أن هناك قيمة إنسانية كبرى تكمن بين طيات العمل السينمائي)، وبين دوره كمروج ومدير دعاية للفيلم، هنا فإن الناقد يخون نفسه، ويتنكر لدوره الحقيقي بل ويصبح على نحو ما، ضالعا في الفيلم نفسه كمنتج تجاري وليس كناتج ثقافي، يحصل على نصيبه من المال مقابل الترويج للسلعة. ومن يروج لسلعة ما لا يمكنه أن يرى فيها عيوبا.
الناقد جزء من صناعة السينما ليس بالغاء المسافات بينه وبين الموزع والمنتج ومدير الدعاية، بل عن طريق القيام بدوره الثقافي والجمالي، بالبحث عن مناطق الجمال في الفيلم، وبمعرفة لماذا لم يحقق فيلم ما هدفه، ولماذا فشل في الوصول برؤيته إلى مستوى أن يكون "عملا فنيا" والفارق كبير بين عمل فني ينتمي لتاريخ الفنون في بلده والعالم، وبين نتاج اجتماعي أو "إفراز" طبيعي لحقبة من التردي الاقتصادي والاجتماعي، أي أنه في هذه الحالة ليس من الممكن فهمه إلا في ضوء تحليله ضمن الظاهرة الاجتماعية (في ترديها وانحدارها). هنا لا يصبح الفيلم عملا قائما في حد ذاته، بل نتاجا مباشرا لحالة اجتماعية متغيرة.
والموضوع بالطبع، ممتد ومتشعب، وله مزالقه ايضا ومنحنياته.
2 comments:
تحياتي أستاذ أمير..
بالطبع أتفق مع ما ذكرته هنا عن دور الناقد السينمائي، ولكن لعلي أطمح إلى نوع من التطرف في إعادة صياغة مفهوم الناقد السينمائي عندنا، فدوره كعنصر رئيسي في تشكيل الذائقة الجمالية للجمهور ومساعدته على الإرتقاء بثقافته الفنية.. إلا أننا يمكن أن نقول أن (رفاهية) القيام بهذا الدور أولى بها المجتمعات المتقدمة التي جاوزت فيها علاقة الفن بالجمهور كمية الترهات التي نواجهها في مجتمعاتنا يوميا. فقد عدنا في مفهومنا عن السينما إلى عشرات السنين للوراء، إلى عصر ما قبل اختراع الواقي الذكري، واعتذر عن التشبيه، لكن ما وصلنا إليه جعل على النقاد - والمثقفين بالطبع - مسئولية أكبر في مواجهة كل من يتصدى بفهمه العشوائي للفن ويحاول تعميمه على الجميع، بوصف المخالفين لتلك المفاهيم بـ (الأقلية البروجوازية العاجية البعيدة عن نبض الجماهير وقلبهم وفشتهم وطحالم أيضا !! )، بل وصل الأمر ليتسائل مذيع مثل خيري رمضان عن إذا كان من الممكن تطبيق (ضوابط) معينة على الأفلام المشاركة في مهرجان القاهرة لجعلها تناسب مجتمعنا وثقافتنا..
- وتوضيحا لما أحاول الوصول إليه سأذكر مثالا من واقعة شخصية..
منذ حوالي الشهر كنت أعرض أول عرض مسرحي أقوم بإخراجه على مسرح كلية الحقوق بجامعة القاهرة، وهو عن نص للكاتب السوري سعد الله ونّوس بعنوان (يوم من زماننا)، وقد فوجئنا باعتراض لجنة التحكيم المكونة بالأصل (من أساتذة بالمعهد العالي للفنون المسرحية).. على بعض (ماكيتات الديكور) التي هي عبارة عن أوجه خشبيه ملساء لفتيات عاريات - دون تفاصيل بالطبع مراعاة لقواعد الجامعة - لكن مع ذلك أتى اعتراضهم باعتبار هذا الشكل يعد خروجا على تعاليم الدين، وأنه بحيب تعبير أحد أعضاء اللجنة : لو كان سعد الله ونوس ده حتى راجل شيوعي، مينفعش نمشي وراه في سكته الغلط دي.. والغريب في الأمر أنهم قرروا اعطاء العرض جوائز رئيسية في (الإخراج - والسينوغرافيا - والآداء الحركي - و التمثيل) .. لكن مع استبعاد العرض نهائيا من التقييم في مراكز (أحسن عرض) ، وأعود هنا لتعبير عضو اللجنة الموقر : اديناله جايزة اخراج عشان يعرف انه ولد كويس بس كان لازم نقرص ودنه عشان منبقاش بنشجعه على السكة الغلط اللي هو ماشي فيها، بل وصلت به الصفاقة لأن يصرح علنا : الحمد لله انه مكانش فيه اخوان في المسرح، كانوا ولعوا فيكوا وفينا!!!
ما أحاول الوصول إليه من هذه الاستطرادات هو، أنه اذا كانت مهمة الناقد الرئيسية هي تشكيل وعي الجمهور من خلال تحليل الأفلام وبيان جوانبها الفنية والتعريف بتاريخ السينما ونظرياتها.. فمهمته في عصر العقم الفكري الذي وصلنا إليه أن يصطدم مباشرة بالمجتمع ويعمل على خلخلة أفكاره والتصدي لأصحاب الفكر المنغلق مباشرة ودون وسيط، والخروج من دائرة الجدل بين النقاد والفنانين إلى دائرة أوسع تشمل السياسين والمشرعين وشرائح المجتمع كافة..قبل أن يصبح الطريق ممهدا أمام الحديث حول التذوق والجمال..
- أعود إلى الإشارة بأن ما أعرضه قد يعد رؤية متطرفة لدور الناقد السينمائي.. ولكن أملي هو أن يلتزم كل مثقف مخلص وكل ناقد سينمائي يعرف قيمة عمله بأن يشارك تسجيل موقفا، قد يظل صداه في نفس من يؤمن من الأجيال القادمة، وربما حتى قد يصمد حديثنا عن السينما بعد اختفاء السينما نفسها..
- خالص تحياتي أستاذ أمير ، أعتذر عن إطالتي.. وعن يأسي.
عمر منجونة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته جزاكم الله خيرا على هذا الموضوع الجميل ** بجد موضوع جميل ومشوق... بارك الله فيكم يا شباب
إرسال تعليق