الثلاثاء، 19 مايو 2009

يوميات مهرجان كان 6


لايزال فيلم "نبي" A Prophet الفرنسي للمخرج جاك أوديار يتربع على قمة الترشيحات التي يمنحها النقاد الدوليون الذين تستفتيهم يوميا مجلة "سكرين انترناشيونال"، والنقاد الفرنسيون في مجلة "الفيلم الفرنسي" التي تصدر أيضا يوميا خلال انعقاد المهرجان. وتفصل بينه وبين باقي الأفلام مسافة طويلة باستثناء فيلم "نجمة ساطعة" في حالة المجلة الأولى فقط، أما النقاد الفرنسيون فلم يمنحوا الفيلم سوى ثلاثة مجوم على الأكثر وسعفة واحدة (15 ناقدا).
أنا شخصيا لا أميل أصلا إلى حكاية تقييم الأفلام عن طريق منحها نجوما لكن البعض يجدها مثيرة وتغني عن أي كلام يمكن أن يقال عن الأفلام، بل ربما تغني أحيانا أيضا عن تناول الفيلم بالنقد، فيكفي أن تقول ببساطة: أنا أمنحه نجمتين.. ثم تمضي إلى حال سبيلك.
* فيلم بيدرو ألمودوفار "عناقات مهشمة" مدهش كعادته، مثير للتأمل لأنه نموذج حي على أصالة السينما وبراءتها الأولى التي تتلخص في رواية قصة بطريقة تثير الاهتمام وتحقق المتعة.
* فيلم المخرج الفرنسي الكبير آلان رينيه "العشب البري" يجسد ببراعة عبقرية مخرجه، وخلاصة خبرته في الحياة وفي السينما. إنه درس أصيل في البلاغة في التعبير، وكالعادة، فاللغة هنا ليست تلك اللغة الجافة التي تدور في الواقع، بل لغة شعرية لها ايقاع ورونق خاص جدا.
* الأفلام الإسرائيلية الثلاثة المشاركة في المهرجان تستحق وقفة خاصة بعد أن ينتهي المولد لمعرفة ماذا تعني هذه المشاركة الكبيرة غير المسبوقة لهذه السينما. شاهدت حتى الآن فيلما واحدا منها هو "يافا"، الباقي سيعرض خلال الأيام القادمة.

"نقيض المسيح": اعتداء فظ على الذائقة البصرية


فضيحة مهرجان كان السينمائي


لكل دورة من دورات مهرجان كان السينمائي فيلمها الصادم أو "فضيحة المهرجان" حسب التسمية التي تطلقها الصحافة الشعبية عادة. هكذا اعتدنا منذ نحو عشرين عاما. كان الفيلم- الفضيحة ذات مرة، هو فيلم "غريزة أساسية" Basic Instnct بطولة شارون ستون صاحبة اللقطة الشهيرة التي تكشف فيها عما بين فخذيها، ثم فيلم "اصطدام" Crash للمخرج ديفيد كروننبرج عام 1995 بمشاهده الغريبة التي تجسد العلاقة بين اللذة الجنسية والألم. ثم جاءت فضيحة أخرى تمثلت في فيلم "غير قابل للعودة" Irreversible بعد ذلك بخمس سنوات.
أما هذا العام ففي رأيي أن لقب الفيلم الفضائحي عن حق يجب أن يذهب إلى فيلم "نقيض المسيح" Antichrist (أو المسيخ الدجال أو ضد المسيح أو الشيطان)، وكل هذه التعبيرات صحيحة تماما، وإن لم تكن هناك في الفيلم شخصية يتجسد فيها هذا المعنى بل إن المعنى عام يشمل "الرؤية" نفسها التي يقدمها هذا السينمائي المتطرف في خياله في فيلمه هذا الذي شاء أن يكتم أي معلومات عنه قبل وأثناء وبعد الانتهاء من تصويره، إلى أن عرض أخيرا ضمن مسابقة المهرجان في عرضه العالمي الأول.
جاء المخرج الدنماركي لارس فون ترايير إلى مهرجان كان للمرة الأولى عام 1991 بفيلم "أوروبا" Europa وكان وقتها في الخامسة والثلاثين من عمره، وراءه تجربة جماعة "دوغما 95" Dogma 95 التي تزعمها وأسس لها نظريا وعمليا والتي سرعان ما انتهت إلى الإفلاس،بالاضافة إلى عدد من الأفلام التي صورها.
أما "أوروبا" فكان مفاجأة مدهشة لعشاق سينما الفن، تجربة جديدة في استخدام لغة السينما: أبعاد الصورة وأعماقها، حركة الكاميرا الطويلة المعقدة التي تعبر كل الحواجز وتخترق المحظورات، العين التي تراقب دون أن نراها، شريط الصوت القادم مما وراء المحيط الأرضي وكأنه صوت القدر، والبطل- اللابطل الذي يسير كالمنوم إلى مصيره في "ألمانيا العام صفر"
أي في الأشهر الأولى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
كانت موهبة فون ترايير تعلن عن نفسها بوضوح في هذا الفيلم الذي توقع كثيرون حصوله على السعفة الذهبية في تلك السنة، لكنه خرج من سباق كان في بجائزة لجنة التحكيم الخاصة. وقد أفصح فون ترايير وقتها عن "أسلوبه الخاص في التعبير" المخالف للأعراف البورجوازية المستقرة (وربما كان سببا إضافيا وقتها لإعجابي الشخصي به!) عندما صعد إلى المنصة لاستلام الجائزة فعلق قائلا "إنها جائزة صغيرة منحها أصغر رئيس لجنة تحكيم في أي مهرجان" وكانت تلك إشارة واضحة إلى المخرج البولندي الشهير رومان بولانسكي التي رأس اللجنة في ذلك العام والمعروف بقصره!
عاد فون ترايير إلى مهرجان كان عام 1996 بفيلم بديع آخر هو "تحطيم الأمواج" Breaking the Waves، وكان يعبر فيه عن فلسفة إنسانية محبة للخير وللدنيا وللحياة، يسبح في الميتافيزيقي، ويناقش مغزى الحياة والموت وفكرة البحث المعذب عن الله، من خلال لغة فنية رفيعة يستخدم فيها الموسيقى وتقسيم الفيلم إلى فصول تحمل عناوين مختلفة، ويرتكن على الممثلين وفي مقدمتهم البريطانية إميلي ووطسون التي ولدت فنيا في هذا الفيلم.
أخرج ترايير عدة أعمال للتليفزيون بعد ذلك منها فيلم عرض في نحو 6 ساعات هو فيلم "المملكة"، وكتب فيلم "البلهاء" The Idiots في إطار التشبث بفكر "دوغما 95".
ومنذ فيلمه المتحذلق الغريب "راقصة في الظلام" Dancer in the Dark الذي وجدته عملا لا فكر وراءه ولا فنا عظيما، بل محاولة لتسخيف الدراما الموسيقية بالاعتداء على تقاليدها باستخدام أبشع ممثلة يمكن أن تقف أمام الكاميرا هي المغنية بورك، وكانت تلك المرة الأولى والأخيرة لظهورها في السينما لحسن الحظ، وإن وجد هذا الفيلم بعض الذين أحبوه ومنحوه تعاطفهم، وقد كانت مهزلة حصوله على السعفة الذهبية في كان، ثم مضى لكي يرشح أيضا للأوسكار!
منذ ذلك الفيلم لم أعد شخصيا أتعامل مع فون ترايير على محمل الجد، فها هو يعود إلى كان في 2003 بفيلم "دوجفيل" Dogville وهو فيلم مصطنع يمارس فيه هوايته في الاعتداء على "النوع" الذي هو هنا الفيلم- نوار الأمريكي، من خلال قصة رمزية عن أمريكا "السيئة" التي لا يحبها فون ترايير، ويجد أنها مليئة بالقسوة والتوحش واللا إنسانية، هكذا من الخارج وبدون أي تعمق أو إحساس بالسخرية التي تولد الشعور بالمرح، بل من خلال تجسيد متجهم سخيف يفتضر أن يعتقلك ويرغمك لى الجلوس في مقعدك لنحو ثلاث ساعات.
لم يكن هذا على أي حال سبب عدم إعجابي بالفيلم، بل كان الأسلوب السينمائي المصطنع المتحذلق الذي يمتليء بالحوار الذي لا ينقطع ويدور في ديكور واحد كأنه منصة مسرح، وعليك أن تتخيل أن هنا دكان الحلاق، وهناك البنك، وهنا مركز الشرطة .. إلخ. وهو ما اعتبرته تراجعا عن لغة السينما وما قطعته من تقدم، وارتداد إلى أفلمة المسرح.
تجربة جديدة
اليوم نحن أمام تجربة مجنونة جديدة لفون ترايير، أتى بها إلى كان وفي ذهنه أن يصفع الجمهور، ويثير جنون القطاع المتيم بأفلامه حتى من قبل أن يراها!
هنا، في هذا الفيلم، لا يحدث شيء على الإطلاق. هناك فقط شخصيتان: رجل (وليم دافوي)، وامرأة (شارلوت جينسبرج). الإثنان منعزلان في بيئة برية متوحشة نائية، داخل كوخ خشبي محاط بالأدغال التي تختبيء فيها ذئاب متوحشة.
المرأة تبدو مدمرة نفسيا بسبب عجزها عن قبول فكرة الموت، والرجل يحاول مساعدتها عن طريق التحليل النفسي، على الخروج من أزمتها. لقد فقد الاثنان ابنهما بعد أن سقط من شرفة المسكن بينما هما مشغولان بممارسة الجنس. وهما يتركان المدينة ويرحلان إلى الريف حيث ينعزلان في ذلك الكوخ الخشبي بحثا عن علاج نفسي للزوجة من قبل زوجها الطبيب النسفاني كما نعرف لاحقا.
غير أن الوسيلة العلاجية الأساسية التي تستخدم هنا هي الجنس، أي ممارس الجنس في كل مكان وفي أوضاع مختلفة، وبصورة وحشية خاصة من جانب المرأة الشابة التي لا يبدو أنها تشبع، فالجنس هنا ليس وسيلة للتشبث بالحياة بل ربما وسيلة للتعجيل بالنهاية.
وعندما تشك في لحظة في أن صديقها أو زوجها، (لا يهم) على وشك أن يتخلى عنها والهرب، تستخدم أقسى درجات الوحشية معه.
إنها تقوم أولا بالقاء حجر كبير يشبه ما نعرفه بـ"حجر الرحاية" على قضيبه بعد الانتهاء من ممارسة الجنس مباشرة، وبالتالي تصيبه بالإغماء من شدة الصدمة.
وعندما يستفيق ويبدأ في التحرك، تأتي بحفار عتيق كبير وتغرز سنه المدبب في ساقه ثم تدير الحفار فيخترق السن ساق الرجل ويخرج من الجهة الأخرى مع ألم شديد لا يطاق. لكنها لا تكتفي بذلك بل تأتي بعجلة ضخمة من الحديد مصممة لكي تغلق تماما على المسمار الكبير المنغرز في ساق الرجل بقطعة حديدية تتحرك على زنبرك، وذلك لمنعه من الحركة تماما.
وفي مشهد يثير القشعريرة تتناول عضوه الذكري في يدها وتبدأ في تدليكه فيندفع الدم منه يغرق ملابسها.
وينتهز هو فرصة انشغالها ويزحف متسللا إلى الأحراش، ويختبيء في حفرة. الذئبة الجريحة تتطلع إليه وتقول له بصوت بشري أجش: الفوضى تسود!
الفتاة تصرخ في البرية وتهتاج: أين أنت؟ وتتصاعد هستيرية صراخها أكثر فأكثر كلما صمت صاحبنا في مكمنه فزعا مما يمكن أن يحدث له.
لكنها تعثر عليه وتجذبه إلى الداخل، حيث تستأنف الملحمة الدموية السادية المتوحشة: إنها ترغب في ممارسة الجنس مجددا. وعندما تعجز تمارس العادة السرية أمام الكاميرا مباشرة، ومع شعورها بالإحباط تتناول مقصا ضخما وتقطع أعضاءها الجنسية الخارجية، فيتفجر الدم.
هذه المشاهد التي تطرقت إليها نراها بشكل مباشر وبدون أي نوع من التمويه أوالإيحاء أوالإحالة إلى الخيال، أو استخدام زوايا تصوير جانبية، بل من خلال كاميرا مواجهة للممثل والممثل تتوقف وترصد تفاصيل الحدث بكل وضوح لتحقيق أكبر قدر من الصدمة.
ما المقصود من هذا العمل، ولماذا، وهل هذه الرؤية صادقة أم مفتعلة، ولماذا؟

الأفلام الغريبة
لابد أولا من توضيح أن كاتب هذا المقال مدرب منذ سنوات بعيدة على مشاهدة أكثر الأفلام إغراقا في الغرائبية والمشاهد الصادمة.
لقد كنت من القلائل الذين أحبوا فيلم "اصطدام" Crash مثلا، لأصالته الفكرية، وتعبيره المشوب بنزعة بحث فلسفي معذب، في العلاقة بين الألم واللذة، بشكل يحمل أيضا تعليقا ساخرا من الحضارة الأمريكية الحديثة، حضارة السيارات والسباق المجنون نحو الموت يوميا. وكان ما نشاهده رغم كل غرابته، في إطار المقبول والمفهوم والممكن تخيله أيضا لأانه كان يقدم أيضا في اطار رؤية مستقبلية للعالم.
وكنت ولازلت، من المعجبين بسينما العبقري السيريالي لويس بونويل صاحب "الكلب الأندلسي" An Andalucian Dog مثلا الذي يظهر فيه البطل وهو يشق عين امرأة بسكين فيتدفق منها النمل.
وأعجبت كثيرا بأفلام السيريالي الآخر المتطرف في تعبيره الفني، اليخاندرو خودوروفسكي. كما استمتعت بفيلم "امبراطورية الحواس" Empire of the Senses للياباني ناجيزا أوشيما. ولعل كتاباتي عن هؤلاء جميعا وأعمالهم وهي متوفرة في هذه المدونة، تبرر إعجابي بهم، وتثبت أنني لا أنطلق هنا في تقييمي لفيلم لارس فون ترايير الجديد "نقيض المسيح" من مفاهيم أخلاقية ساذجة، ترفض تصوير العنف على الشاشة أو استخدام العري والجنس في التعبير في الفن عموما، وفي السينما خصوصا.
غير أنني لابد أن أعترف بأنني لم أجد في فيلم فون ترايير أي عمق فني أو لمسات فنية خاصة وجديدة، يستخدم في إطارها الجنس والعنف للتعبير عن رؤية فلسفية حقيقية تشغله، بل شعرت بالفور وبالاعتداء على ذوقي ومحاولة فرض رؤية معينة بكل أشكال القسوة والقسر وتكرارها عشرات المرات والاستمراء في هذا دون أي قدر من الجمال، فللعنف أيضا جمالياته، فليقل لنا المفتونين بهذا الفيلم مثلا ما هي جماليات العنف التي يستخدمها فون ترايير هنا.
فما الذي يريده هو إذن من وراء كل هذه المشاهد المرعبة التي قد تدفع الكثيرين إلى كراهية السينما؟
إنه يريد تحقيق الصدمة أولا، والصدمة ثانيا، والصدمة أخيرا. أما من حيث الأسلوب فهو يكرر استخدامه للكاميرا المتحركة الحرة المهتزة التي تنتقل كثيرا في حركات بان افقية بين الشخصيتين كما اعتاد أن يفعل، ويستخدم العدسة سكوب أي الشاشة العريضة كما فعل في كل أفلامه الشهيرة دون أن تضيف شيئا هنا، وينتل من الأبيض والأسود إلى الألوان، ويستخدم طريقة كتابة العناوين على الشاشة: هناك أربعة فصول وخاتمة. هو بالطبع يحاول أن يوحي لنا بأنه يتفلسف عن الحياة، وعن ما بعد الحياة ربما، ويذكر في سياق أحاديثه الطويلة "نيتشه" وكتابه عن "المسيخ الدجال" أو "نقيض المسيح" وكيف أنه كان دائما إلى جوار فراشه، كما يتحدث عن تأثير فيلم "يوميات الحياة الزوجية" لبرجمان عليه، كل هذا في رأيي بلا جدوى.
فون ترايير لم تعد تشغله أي أفكار عن الحياة وما يحدث فيها، بل أصبح أساسا، مشغول بنفسه، ومنهمك بالدوران حولها، يريد أن يصعد فوق آهات الدهشة والرعب، ويحقق مزيدا من الشهرة والمجد الزائفين من خلال الصدمة، طالما أن هناك في أوساط "المعجبين بالصرعات الفنية" من يعجبون بهذا الاعتداء الفظ على الذائقة البصرية، بل وعلى الذوق الفني والخيال.
رفض الجمهورفون ترايير لا يهمه الجمهور كما قال خلال المؤتمر الصحفي الذي أعقب عرض فيلمه في مهرجان كان حين أكد أنه يصنع الأفلام لشخص واحد فقط، هو لارس فون ترايير نفسه!
وهو أيضا سعيد بوجود "محيط" خاص من المعجبين بأفلامه الصادمة، أي سعيد بانتماء فنه هذا إلى صنف الفن الفئوي القاصر على "قبيلة" معينة، وليس فنا للإنسانية كلها، كما يعترف بنفسه في حوار منشور في مجلة "فيلم" الدنماركية (العدد 66).
ما معنى ما تقوله الذئبة في الفيلم لبطلنا السادي الذي ينتهي بقتل المرأة خنقا، للخلاص منها والنجاة بنفسه، وهو ما يعكس رؤية ترايير للعلاقة بين الرجل والمرأة، كما يعكس الفيلم، على نحو ما، رؤيته لإحساس المرأة بالجنس، ولشكل احتياجها "الأساسي" من الرجل، ورغبتها المرضية في التملك والاستيلاء، وعدم الوصول أبدا إلى الإشباع.. فهل هذه تصلح بعد ذلك أن تكون، بأي مقياس، رؤية "إنسانية"؟
شخصيا وجدت من الغريب بل والمستهجن، أن يضحك البعض على ما يشاهدونه من مشاهد قطع الأعضاء الجنسية أو إزالتها بالمقص في واحد من أفظع مشاهد السينما، أو على اعتصار العضو الذكري للرجل بعد طحنه بحجر ضخم مما يفجر الدم أنهارا!
ما معنى هذا، ما هذه الثقافة "الأخرى" التي أصبحت تتلذذ بهذا النوع من المشاهد وتجد فيها أيضا نوعا من "الفكاهة" أو الـ fun؟
الفوضى والعالمأخيرا فيلم "نقيض المسيح" الذي يقول لنا شيئا ربما نعرفه جميعا على لسان الذئبة المتوحشة، أي أن الفوضى تسود العالم، لا يقدم جديدا على صعيد الفكر بل ولا على صعيد الفن، سوى الإغراق في تجريب أقصى درجات الصدمة. ولعل الناقد الذي قال إن فون ترايير لا يوظف العنف في الفيلم، بل يستخدمه ضد الجمهور" كان على حق تماما!
ولاشك أن فون ترايير عندما يفاجئنا في النهاية بإهداء فيلمه هذا إلى السينمائي الروسي الراحل أندريه تاركوفسكي، فإنه يسخر من عشاق سينما تاركوفسكي، بل ومن سينما العقل.

الاثنين، 18 مايو 2009

يوميات مهرجان كان 5

* مجلة "سكرين انترناشيونال" التي تصدر يوميا طوال أيام المهرجان لاتزال تعتبر عبرالاستفتاء الذي تجريه بين عدد من النقاد الموجودين في المهرجان الفيلم الفرنسي "نبي" هو أفضل الأفلام بعد أن نال أكثر الترشيحات للفوز بالسعفة الذهبية. وأشاركهم الرأي في هذا الفيلم.
يليه في قائمة المجلة الفيلم البريطاني "نجمة ساطعة" الذي لا أشاركهم الرأي بشأنه فهو ليس أفضل أفلام مخرجته على الإطلاق بل أقلها شأنا.
أنا على ثقة من انهم سيختارون غدا فيلم "البحث عن إريك" لكن لوتش،وهو فيلم جيد، لكنه ليس من "العيار الثقيل" مثل "الريح التي تهز الشعير" الحائز على السعفة الذهبية في 2006، بل كوميديا اجتماعية خفيفة ستحقق نجاحا شبعبيا يستحق أن يتذوقه لوتش أخيرا في بلاده، بسبب استخدامه اللاعب الشهير في نادي مانشستر يونايتد سابقا توني كانتونا. وربما يفوز الفيلم بجائزة أحسن ممثل لبطله الممثل الانجليزي الكبير ستيف إيفتس، ساعي البريد الذي يعاني بسبب الوحدة والتقدم في العمر، والانفصال المزمن عن زوجته، ويسرح في الخيال مع نجمه المفضل مونتانا.
* شاهدت فيلما فرنسيا رقيقا وجميلا (من اخراج امرأة) بعنوان "والد أبنائي" ضمن قسم "نظرة خاصة". موضوع غريب وجديد عن مأساة منتج سينمائي ينتحر ويترك أسرته التي كان سعيدا معها ولكنه كان يخفي معاناته بسبب فشله في العثور على التمويل اللازم لاستمرار عجلة انتاج الأفلام المتميزة فنيا. لا نعرف هل يعكس الفيلم أي تحية خاصة للمنتج الفرنسي أمبير بلزان الذي انتحر قبل ثلاث سنوات، وكان أيضا منتجا للأفلام الفنية وهو منتج أفلام يوسف شاهين ويسري نصر الله وغيرهما.
* فيلم العملاق الإيطالي ماركو بيللوكيو "الانتصار" فرض الأجندة السياسية بقوة على أفلام المسابقة والمهرجان. دراما سياسية نفسية هائلة عن الزوجة الخفية الأولى للديكتاتور موسوليني التي أنجب منها ابنا ورفض الاعتراف بهما، وتم التنكيل بهما وأودعا في مستشفى للأمراض اعقلية وتوفيا قبل نهاية دكتاتورية موسوليني في ايطاليا.

فيلمان من بريطانيا: "نجمة ساطعة" و"حوض الأسماك"


حتى الآن عرضت ستة أفلام في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة في الدورة 62 لمهرجان كان السينمائي هي فيلم يمثل الصين هو "حمى الربيع"، وفيلمان من بريطانيا هما "حوض الأسماك" Fish Tank و"نجمة ساطعة" Bright Star، وفيلم "عطش" Thirst من كوريا الجنوبية والفيلم الأمريكي "الاستيلاء على وودستوك" Taking Woodstock، والفيلم الفرنسي "نبي" A Prophet.
فيلم "نجمة ساطعة" للمخرجة النيوزيلاندية المتميزة جين كامبيون التي حصلت على السعفة الذهبية في 1993 عن "البيانو" The Piano، جاء في نظر الكثير من النقاد هنا، مخيبا لآمال.

نجمة ساطعة
التساؤل الأولي الذي يخطر على البال بعد مشاهدة هذا الفيلم الذي كتبته مخرجته بنفسها هو: ما هي الحدود الفاصلة بين عالمي الأدب والسينما؟ أو بالأحرى، هل يكفل الارتكان في السيناريو على شخصية مرموقة في عالم الشعر مثل بطل فيلمنا هذا الشاعر الانجليزي من القرن التاسع عشر جون كيتس، التوصل إلى فيلم جيد، ممتع، معاصر، يشبع أغوار الشخصية كما يمتع جمهور سينما اليوم؟
والسؤال التالي المنطقي هو: هل من الممكن أن تعتمد معالجة فيلم من هذا النوع على ترجمة الشعر الذي يكتبه جون جيتس أو التعبير عنه بالكلمات أو الحديث عنه كما في الحوارات الطويلة المرهقة بين بطلي الفيلم؟
الرأي السائد أن السينما لها عالمها الخاص الذي ينسج أساسا من الصور، ومن اللقطات، ويعتمد على التكثيف أكثر من الإسهاب والشرح، كما أن المخرج- المؤلف عادة ما يسعى لتقديم "رؤية" شخصية معاصرة لوقائع وأحداث أصبحت الآن في ذمة التاريخ، وهي مدونة في كتب التاريخ الأدبي بتفاصيلها، ولا يوجد مبرر لتقديمها في السينما سوى من خلال "رؤية" جديدة أو سباحة سينمائية حرة داخل عالم الشخصية الرئيسية المراد الحديث عنها، وليس من خلال "ترجمة" الشعر أو تلخيصه أو تقديمه للمشاهدين عبر علاقة الحب التي ربطت الشاعر بجارته المقدامة الجريئة "فاني بروان" التي كانت تصمم ملابسها بنفسها.
مشكلة هذا الفيلم أنه يكتفي بالالتزام الحرفي بالمنهج القديم في معالجة هذا النوع من الأفلام، أي منهج الدراما التاريخية التي تهتم كثيرا جدا بالأزياء، وبمطابقة الديكورات والاكسسوارات، نمط الإضاء، وطريقة الحركة والأداء، أي باختصار، مراعاة المقاييس "الكلاسيكية" حرفيا.
هذا الجانب لاشك أن مخرجة الفيلم نجحت فيه، ولكن السؤال الذي لا يفتأ يطرح نفسه عليك: وماذا بعد، وأين رؤيتك الخاصة للموضوع ومغزاه؟ وما الجديد الذي يمكن اضافته إلى أفلام أخرى بريطانية كلاسيكية اكتسبت سمعة عالمية كبيرة لعل أشهرها من هذا النوع نفسه "حجرة تطل على منظر طبيعي" لجيمس إيفوري (1985).
الفيلم لا ينجح في تجاوز قصة الحب الجميلة المأساوية بين الشاعر كيتس وجارته فاني التي تبدأ أولا على استحياء شديد في ظل التقاليد المتزمتة في الريف الانجليزي ومع رفض وتهكم بل ومحاولة تمييع من جانب رفيق كيتس وراعيه على نحو ما، الاسكتلندي الساخر المتهكم دائما الذي يتورط هو نفسه في اقامة علاقة مع خادمة في منزل براون تحمل منه وتنجب له ولدا يضطر للاعتراف به.
علاقة الحب بين كيتس وفاني يتم التعبير عنها من خلال لمسات اليد والتهامس والأحضان المتباعدة وليس من خلال العلاقاة المكشوفة الملتهبة التي قد يتوقعها مشاهدو اليوم.
أما المشكلة الرئيسية هنا فهي أن الفيلم نفسه، بايقاعه البطيء وخلو حبكته من أي مفاجآت أو مشاهد خاصة تثير الخيال، تجعل من قصته التي تنتهي بموت الشاعر وتألم الحبيبة، قصة معروف سلفا ما ستنتهي إليه.
وأخيرا "نجمة ساطعة" هو بالمناسبة عنوان قصيدة شهيرة كتبها جون كيتس لحبيبته في اطار تغزله فيها، وقد كانت لها أيض اهتماماتها بالشعر ورغبة عميقة في فهم عالم الشعر والاقتراب الحسي منه. وقد حاول هو أن يصف لها إحساسه بالشعر على صعيد يختلف تماما عن "الحسي" ويقرب من "الروحاني".

حوض الأسماك
أما فيلم "حوض الأسماك" للمخرجة الانجليزية أندريا أرنولد فهو شديد الاختلاف في موضوعه ومعالجته عن "نجمة لامعة" فهو يدور في بريطانيا المعاصرة، في أوساط الأسر المهمشة المنبوذة اجتماعيا التي تقطن مساكن الدولة التي تدنت وبلغت حالة من التدهور تعبر عما وصل إليه المجتمع نفسه حاليا.
بطلة الفيلم فتاة مراهقة في الخامسة عشرة من عمرها: مقتحمة، جريئة، تمتليء في داخلها بكل ذلك التوتر الذي يشوب فترة المراهقة والبحث عن الذات، كما يملؤها أيضا غضب على الواقع، ورفضا عنيفا لمحيطها الخالي.
إنها "ميا" التي تعيش مع أمها المنفصلة منذ زمن عن والدها، وشقيقتها الصغيرة "تيلر". لكن أمها لا تبدي أي اهتمام حقيقي بالاقتراب من ابنتها، بل تعيش أسيرة رغبة مستمرة في الاستمتاع بالحياة، بالشراب، بالحفلات، بالصحبة، وبالجنس مع رفيقها الجديد "كونور" الذي يعمل حارسا في شركة للنقل.
"ميا" تبدو وقد سئمت الحياة نفسها حتى قبل أن تبدأ النفاذ إليها بشكل جدي. إنها ترفض امها، ومحيط علاقاتها، كما ترفض الاختلاط بغيرها من الفتيات اللاتي تجد أنهن فارغات لا يصلحن لشيء، وترفض المدرسة التي انقطعت عنها وتقاون بكل السبل العودة إليها تحت كل الضغوط.
وهي تذهب بنفسها، تقتحم شقة خالية في إحدى البنيايات المجاورة، لكي ترقص على أنغام الموسقى التي تحبها. ويصبح رقصها الانفرادي هنا مرادفا للرغبة في التحرر والانطلاق بعيدا عن كل القيود.
لكن حياة ميا تنقلب عندما تجد لدى كونور، صديق أمها، كل تفهم ولطف، فهو يعاملها برقة، يتحاور معها، يبدي اهتماما بأمرها ويناقشها فيما تريد أن تفعل مستقبلا دون أي محاولة للقيام بدور الأب.
في البداية تقاوم ميا الاقتراب منه، لكنها تجد نفسها تدريجيا مشدودة إليه، ليس فقط كنموذج للأب البديل، بل وتبدأ في الإحساس نحوه بمشاعر أخرى أقوى وأكثر حسية.
وذات يوم، يقع المحظور بين الاثنين، وصاحبنا تحت تأثير الخمر، وتكون النتيجة أن يختفي كونور تماما خشية من عواقب تلك العلاقة "الخطيرة" مع فتاة في الخامسة عشرة من عمرها.
تطارده ميا، وتذهب إلى منزله، وتتسلل أثنياء غيابه لتكتشف أنه متزوج ومنفصل وإن لديه ابنة صغيرة، بل وتشاهد الأسرة الصغيرة التي تعود فجأة إلى المنزل أثناء وجود ميا فيه، فتهرب الفتاة وتكمن ثم تستدرج ابنته الصغيرة، وتحاول الانتقام من أبيها في شخصها وتكاد تقتلها غرقا في النهر القريب.

المخرجة اندريا ارنولد

هذا فيلم ينتمي حرفيا للمدرسة الواقعية البريطانية الأصيلة، إلى أفلام عالم أفلام المخرج مايك لي: دقة السيناريو، تلقائية الأداء التمثيلي، السيطرة المدهشة على الإيقاع العام، التحرر في استخدام الكاميرا (المحمولة المتحركة المهتزة في الكثير من المشاهد)، والاختيار العبقري لمواقع التصوير بحيث تكون العلاقة حاضرة دوما بين الشخصية والمكان.
إنه على نحو ما، دراسة بالكاميرا في نمو وعي "فتاة تحت السن" بالعالم والدنيا، وبموقعها الذي ترفضه داخل الهامش: هامش المعزولين اجتماعيا، والمهمشين اقتصاديا في بريطانيا المعاصرة: البطالة، الفراغ، تشرد الشباب، المخدرات، التكدس في مجمعات سكنية عتيقة بنيت بفلسفة ورؤية أخرى فيما بعد الحرب العالمية الثانية ، أصبحت اليوم مرتعا لكل الأدران الاجتماعية دون حسيب أو رقيب.
وتتعمد المخرجة تجنب تصوير وجه الأم كثيرا بل تتجنب مواجهتها بالكاميرا، فهي شخصية تعيش في عالمها المغلق الحزين بسبب الوحدة رغم جمالها الذي يوشك على الزوال وخشيتها بالتالي من الزمن. الأم موجودة في الصورة وغير موجودة في الفيلم إلا للتعبير عن ضعف تأثيرها الإيجابي القوي على الابنة -البطلة- المتمدة، التي تبحث عن عالم أكثر رحابة ربما لن تتمكن من الوصول إليه إلا بعد أن تترك تلك الضواحي الصغيرة وترحل مع صديقها المتشرد الحائر مثلها وإن كان لا يتمتع بنفس قوة الشخصية.
اهتزاز الكاميرا يعكس الاهتزاز القائم في الواقع، والاستخدام المتميز للاضاءة غير المباشرة طوال الفيلم يخلق ظلالا قاتمة حول الوجوه أحيانا، أو يجعل الصورة ضبابية كما هي أمام بطلتنا الصغيرة "ميا".
أما ميا نفسها فلعل أبرز عنصر في الفيلم هو تمثيل الممثلة الجديدة كاتي جارفيس التي اكتشفتها المخرجة من خارج عالم التمثيل الاحترافي- التي تناسب الشخصية تماما، تبتعد عن الافتعال والمبالغة، وتمزج السخرية والتهكم، بالرقة المفاجئة، قبل أن ترتد إلى توحشها الذي يخفي قلقها وخوفها من الدنيا كثر مما يظهر رغبة في الامتثال للعنف.
المخرجة أندريا أرنولد التي حققت مفاجأة بفوزها بجائزة لجنة التحكيم عن فيلمها الأول "الطريق الأحمر" في كان 2006، ربما تعود هذا العام فتحصل على جائزة رئيسية في كان 2009.. فمن يدري!
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger