الاثنين، 29 ديسمبر 2008

فيلمان من سورية: "حسيبة" و "أيام الضجر"



الأسطورة والرمز والواقع السياسي

عرض في 2008 فيلمان من سورية طافا على عدد من المهرجانات السينمائية الدولية في العالم العربي مثل دمشق والقاهرة ودبي. الفيلمان هما "حسيبة" للمخرج ريمون بطرس، و"أيام الضجر" للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد.
السمة السائدة في الفيلمين أنهما من أفلام الماضي، أي أن أحداثهما لا تدور في الزمن المضارع بل في الماضي الذي كان، سواء في عشرينيات القرن العشرين كما في الفيلم الأول، أو في زمن الوحدة المصرية- السورية كما في الثاني.
واختيار "الزمن"، رغم مشروعيته، يعكس مع تكراره كثيرا جدا، نوعا من "الهروب" من مناقشة المشاكل الحالية في الواقع السوري التي يعرفها المشاهد السوري جيدا ويمكنه التعرف على نفسه فيها. وهذه "الماضوية" إذا جاز التعبير، سمة سائدة في معظم أعمال "الدراما السورية".. أي في الأعمال السينمائية والتليفزيونية السورية على نحو لافت للنظر.
السمة الثانية أن المحور الرئيسي للفيلمين يدور حول المرأة، وهي في الفيلمين، ضحية للرجل: تارة كنوع من اللعنة التي تطاردها بسبب اختيارها أن تسلك مسلك الرجال كما في "حسيبة"، وتارة أخرى كضحية مباشرة لما يفعله الرجال. ولكن في الفيلمين أيضا يبدو "القدر" الذي لا يستطيع الابطال منه فكاكا، هو القوة العاتية التي تسوق الشخصيات إلى نهاياتها الحتمية المأساوية.
"حسيبة"
فيلم "حسيبة" مقتبس عن رواية لخيري الذهبي. وهذا ليس عيبا بل يمكن أن يكون ميزة إذا عرف كاتب السيناريو والمخرج (وهما شخص واحد هنا) كيف يتوصل إلى معادل سينمائي يجعل شخصيات الرواية تنبض، والأهم، أن يوصل المغزى الاجتماعي والسياسي ويجيد استخدام الجانب الأسطوري في الرواية، لكي يمنح المتفرج المتعة ولو من خلال تصوير أقصى درجات المأساة.
لكن ما حدث أن مخرج هذا الفيلم ريمون بطرس، يقع في كل الأخطاء التي كان يتعين عليه أن يتلافاها وهو ينقل عملا أدبيا إلى لغة السينما.
ولعل الخطأ الأول في رأيي يعود إلى الرغبة في "الإخلاص" الشديد للعمل الأدبي، وهو هاجس يسيطر على كثير من المخرجين وكتاب السيناريو، ويتسبب في إفساد الكثير من الأفلام التي يتيح نسيجها أن تخرج بمستوى فني متميز، بينما المطلوب لتحقيق النجاح استلهام روح العمل الأدبي وجوهره والابتعاد تماما عن أسلوبه ومفرداته واستطراداته واعتماده الأساسي على الوصف المسهب.
ريمون بطرس، الذي لاشك في موهبته السينمائية ورؤيته البصرية المتميزة، يرتكب هذا الخطأ، رغبة منه في تجسيد ما لن ينجح في تجسيده على الشاشة، لسببين أساسيين:
الأول: أسلوب رواية الأحداث ذو الطابع الأدبي الذي يمتلئ بالثرثرة والتفاصيل، وتعدد الشخصيات على نحو محير أحيانا، والاعتماد الأساسي على الحوار الطويل الذي يبدو أحيانا أقرب إلى "المونولوج" منه إلى "الديالوج" أي على طريقة المسلسلات، وغياب تبرير تصرف الشخصيات، ورغم تصويره حرمان المرأة من الرجل عموما إلا أنه يبتعد عن التصوير الحسي المباشر خوفا من الرقابة بل تغيب عن الفيلم حتى الايحاءات الجنسية.
أما السبب الثاني فيعود إلى عدم توفيق المخرج في العثور على لغة سينمائية تتناسب مع موضوعه، فنراه يلجأ إلى التداخل في الأزمنة أحيانا لا لكي يسلط الضوء على نقاط محددة يريد أن يبرزها من أجل أن يعطينا صورة محددة عن الموضوع الذي يتناوله ويريده أن يصل إلينا بل لكي يروي كل شيء عن كل شيء، وينتهي بالتالي إلى فقدان السيطرة على الإيقاع واستطالة الفيلم وانفراط شخصياته دون أن يكون هناك اي تطور في الحدث بل دوران مكرر حول الفكرة نفسها.
الفيلم ببساطة واختصار شديد، يصور واقع الحياة في دمشق في عشرينيات القرن العشرين وتحديدا واقع المرأة من خلال شخصية "حسيبة" التي تذهب مع الرجال إلى الجبال للكفاح ضد الاستعمار الفرنسي، وتعود لكي تتزوج لكنها لا تنجب ذكورا بل تنجب فتاة وحيدة.

يموت زوجها فتكافح من أجل الاستمرار في الحياة وتلجأ إلى صناعة الجوارب وبيعها وتحقق تجارتها رواجا، لكن عندما يأتي صحفي مناضل للسكنى في بيتها تقع في حبه بينما يقع هو في حب ابنتها.
وينتهي الأمر بأن يتزوج الصحفي الإبنة وينجب الاثنان ولدا هو الذي سيموت فيما بعد لكي تكتمل المأساة. وستموت أيضا كل شخصيات الفيلم من النساء بعد حياة جافة، ومعاناة لافتقاد الرجال، كما ستفقد الإبنة عقلها تماما بعد أن يغادر زوجها إلى فلسطين ثم يعود إلى دمشق كما نعرف، لكنه لا يعود إلى البيت.
اللعنة التي تحل على حسيبة سببها قد يعود إلى أنها تشبهت بالرجال واختارت طريق الكفاح وحمل السلاح، رغم أن سلاف فواخرجي الجميلة لا تبدو عليها أي آثار للكفاح المسلح ولا حتى للتمرد.. في الفيلم طبعا!
إلا أن الفيلم في الحقيقة يقتبس من الجانب الميتافيزيقي الكائن في الرواية ولكن بطريقة مباشرة لا تتناسب أصلا مع الأجواء التي تدور فيها الأحداث.
ويتمثل هذا الجانب في الاعتقاد بوجود شؤم ناجم عن روح شريرة ترقد داخل النافورة التي تتوسط المنزل الدمشقي الذي تقيم فيه حسيبة مع ابنتها ومع شقيقة زوجها الراحل "خالدية" (التي تقوم بدورها ببراعة الممثلة جيانا عيد).
هذا الجانب الأسطوري كان ينبغي أن تدور حوله الأحداث أو أن يجعل الشخصيات تلقي مساحة أكبر من الاهتمام به، أو أن يصبح محورا لبعض الأحداث المتعاقبة وكلها أحداث سيئة في الحقيقة، لكنه يُهمل إلى حد بعيد، إلى أن يتم تذكره قبل النهاية.
الأسطورة والواقع
فيلم "حسيبة" لا يبدو أن له مغزى ما يلقى اهتمام المخرج- المؤلف، بل إن غرابة أجواء الرواية تبدو هي الأساس الذي استند عليه صانع الفيلم ولكنه عجز عن التوصل إلى لغة سينمائية تلعب في المساحة الرمادية الغامضة بين الأسطورة والواقع، وانشغل بدلا من ذلك، باستعراض دروس من التاريخ، وما استتبعه ذلك من بعض الحوارات التي تمتلئ بالخطابة والمباشرة وكأنه يتباكى على أحوال الأمة، أو بالأحرى، وكأنه يضع على ألسنة الشخصيات رسالة سياسية مؤداها التباكي على ما آلت إليه أحوال الأمة وهو خطاب يشوب الكثير من المسلسلات والأفلام السورية التي تدور في التاريخ وتعشق الاستغراق في الماضي، لكي تلعب من خلاله على الرمز الذي لا يتجاوز عادة "غمز الواقع" من بعيد وعلى استحياء.
والنتيجة أننا في حالة "حسيبة"، أمام عمل مثقل بالمشاهد الطويلة، والحوارات الزائدة عن الحاجة، بل والشخصيات التي لا تقدم ولا تؤخر، والتي تظهر وتختفي، أو تموت فجأة بطريقة تجعل الجمهور الذي لم تنجح الدراما السينمائية التي يشاهدها في استيعابه والاستيلاء على مشاعره وذهنه، يضج من الملل، خاصة وأن إيقاع الفيلم يهبط كثيرا بعد نصف الساعة الأولى، وخاصة وأن الأداء التمثيلي، رغم براعته، لا يتخلص من الطريقة المسرحية التي تعتمد على المبالغة.
لا عيب على الإطلاق في اختيار موضوع "مأساوي" أو تراجيدي، لكن التراجيديا أيضا لها شروطها وحدودها، التي إذا أفلتت أصبحت أقرب إلى السخرية بدلا من التعاطف.


"أيام الضجر"
أما فيلم "أيام الضجر" فيبدو بعد مشاهدته أن المخرج الموهوب عبد اللطيف عبد الحميد تعجل اختيار موضوعه دون دراسة كافية، ودون تطوير كاف لفكرته. تدور أحداث الفيلم في زمن الوحدة المصرية السورية، أي في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات.
ولاشك أن جانبا كبيرا مما يرويه الفيلم مستمد من التجربة الشخصية لمخرجه ومؤلفه، ومن ذكريات طفولته. ولكن ليس كل ما يمر به المرء يصلح لتقديمه في السينما وعرضه على الجمهور العريض. وفيلم عن الضجر يجب ألا يسقط في الضجر بل يجب أن يتمتع بالقدرة على إثارة اهتمام المتفرج.. الأمر الذي يفتقده "أيام الضجر" بوضوح.
هنا أيضا امرأة تنعكس عليها كل سلبيات المرحلة هي وأولادها الأربعة وزوجها "مصطفى" الجندي في الجيش.
الأسرة تعيش في هضبة الجولان، والأولاد يبتكرون شتى أنواع الألعاب والحيل للتغلب على الملل الذي يعيشونه.
والأب "مصطفى يستدعى في مهمة داخل إسرائيل لا يبدو أنها تحقق أي شئ يذكر، ويغيب عن المنزل فترة طويلة تتكفل فيها الأم برعاية الأولاد.
وتضطر الأم إلى الانتقال مع الأولاد لفترة بعيدا عن الجولان مع تفجر الأزمة اللبنانية في أواخر الخمسينيات واحتمالات اندلاع عمليات عسكرية بعد تدخل الأسطول السادس الأمريكي إلى جانب حكومة كميل شمعون، وبعد سقوط نظام نوري السعيد في بغداد.
أما الجانب الذي يحظى كثيرا باهتمام الفيلم فهو صورة الوحدة كما يراها المخرج- المؤلف، ويجسدها أولا في ضابط مصري مسؤول عن المنطقة كل ما يشغله إقامة مسابقات للجري بين تلاميذ المدارس وتوزيع هدايا بسيطة على المتفوقين منهم، ودعوتهم إلى ترديد الهتافات بحياة الرئيس جمال عبد الناصر، ووجود دبابة معطوبة ضخمة قرب منزل أسرة الجندي مصطفى، لا يتم إزالتها إلا في النهاية (على سبيل الرمز للوحدة المعطلة!)، وتحركات عسكرية تبدو هزلية، ومهمة يقوم بها عدد من الجنود والضباط داخل إسرائيل لا يبدو أنها تحقق أي شئ، وفي النهاية عودة مصطفى إلى أسرته بعد طول غياب وقد فقد عينيه وذراعه بعد أن انفجار لغم أرضي في جسده.

ويقوم بدور الضابط المصري ممثل سوري يفشل في اتقان اللهجة المصرية، بل يبدو كما لو كان يسخر منها من خلال كلماته الطفولية الساذجة وتعبيرات وجهه التي تكشف عن غباء واضح، وربما يكون هذا نفسه مقصودا فلا نتصور أن عبد اللطيف يعجز عن العثور على ممثل مصري يقوم بالدور.
ومن الواقع إلى الرمز، يصور الفيلم عجز الزوجة عن الحصول على ابنة لمصطفى بعد أن أنجبت 4 أولاد وعندما تحمل أخيرا في البنت المنتظرة تتعرض للإجهاض وتفقدها.. والبنت رمز الخصوبة.. فهل السبب في الإجهاض هو أيضا الوحدة!
إطالة واستطرادات
يعاني الفيلم من الإطالة والاستطرادات ومن ضعف الإخراج في بعض المشاهد مثل مشهد الحافلة التي تنقل المهاجرين التي يبدو واضحا أنها لا تتحرك. ويعاني مشهد الأطفال وهم يحاولون الامساك بالدجاج من الترهل الواضح، وهناك إطالة لا معنى لها أيضا في مشهد ولادة الزوجة الذي ينتهي بنزول جنين ميت.
ولم يكن هناك أي معنى لتخصيص مشهد طويل آخر لدفن الجنين في بكائية حزينة لا معنى لها.
ويعاني مشهد الجد وهو يعزف على الناي والأولاد حوله يتراقصون ويقفزون من الإطالة بلا معنى، ويبدو رقص الخال قبل مشهد النهاية في حركات بلهاء مشهدا لا يضيف شيئا، بل يبدو غليظا، ونرى بعده مباشرة عودة مصطفى عاجزا معوقا. لكن مصطفى نفسه، كما يريد أن يقول لنا الفيلم، لم يفقد الأمل رغم إصابته، لذا فهو يغني ويطلب من أبنائه الاستمرار في المرح والغناء والرقص، وهو اصطناع يتوقعه المتفرج في السياق فيبدو مفتعلا أيضا.
ولا ينجح موضوع الفيلم في تكثيف "رؤية" معينة ذات دلالات إنسانية عميقة عن معاناة أسرة في زمن "الضجر" أي زمن الوحدة، التي يحملها الفيلم كل خطايا الواقع في تلك الفترة. ولا تكفي هنا تصريحات المخرج عن رغبته في الحديث عن عدم تغير ما يعيشه الناس خلال خمسين سنة، فهو لا يروي قصة خمسين سنة ولا يقول لنا ما الذي حدث بعد انهيارالوحدة، ولا كيف يرى الناس الوضع الحالي في سورية المعاصرة بعد أن انقضى زمن الشعارات الكبيرة.
الأولاد يصابون في البداية بالتخدر بعد أن أكلوا ثمرة مسمومة كادت تودي بحياتهم، والأم فقدت الأمل في إنجاب بنت، والأب ينتهي معاقا بعد أن يفقد عينيه وذراعه، تراجيديا قدرية مكتملة.. كان يمكن أن تصنع فيلما تجريديا رائعا إذا ابتعد مخرجها ومؤلفها عن الإفراط في الرمز السياسي المباشر، والركون إلى الغمز الذي لا جدوى منه ولم يعد الجمهور في حاجة إليه بل في حاجة إلى النقد السياسي المباشر الموجع والحديث عما يجري اليوم.
كان حري بعبد اللطيف عبد الحميد أن يطلق على فيلمه "أيام الكوارث" بدلا من "أيام الضجر"!

الجمعة، 26 ديسمبر 2008

أفلام أجنبية يحتفى بها باعتبارها مغربية

يسعد محرر مدونة "حياة في السينما" أن يستضيف هنا الصديق الناقد المغربي الكبير مصطفى المسناوي الذي ننشر مقاله الجديد المثير للجدل حول الوضع الراهن للسينما في المغرب، نظرا لأنه يكشف لنا ما لا نعرفه من جوانب متعددة تتعلق بالنشاط السينمائي الحالي هناك وما يكتنفه من صعوبات وإشكاليات تجلت أخيرا، كما يوضح، في مسابقة الأفلام المغربية السنوية التي أقيمت في طنجة.
هل هي نهاية "السينما المغربية"؟
بقلم: مصطفى المسناوي

من فيلم "كل ما تريده لولا"

رغم الخطابات "التهليلية" التي تروج لها جهات و منابر معينة بخصوص "النهضة" التي تعرفها السينما المغربية في الوقت الحالي، ينبغي الاعتراف بأن وضعية هذه الأخيرة صارت تبعث على القلق فعلا؛ وذلك عبر العديد من العلامات والتجليات التي لا تخطؤها العين، والتي تواترت في الآونة الأخيرة بشكل بلغت معه حد الاستهتار: الاستهتار بالحدود الدنيا لقيم دافعنا ومازلنا ندافع عنها في المشهد الثقافي – الفني المغربي، والاستهتار بالحقائق الملموسة وبعقل المشاهد – القارىء – المتابع المغربي المغلوب على أمره.
وبصرف النظر عن "العلامات" اليومية التي تشي بدخول السينما بالمغرب مرحلة الاحتضار (من قبيل الإغلاق المتزايد للقاعات السينمائية في غياب إرادة فعلية لإنقاذها، وتحوّل "صندوق الدعم" إلى عرقلة تحول دون "مغامرة" الرأسمال الخاص بالدخول إلى مجال الصناعة السينمائية)، كان اختيار فيلم "قنديشة" لتمثيل المغرب في الدورة الأخيرة لمهرجان مراكش السينمائي الدولي "علامة" كاشفة نبهت من تبقّى من الغافلين إلى أن خطاب "كولو العام زين" في السينما ليس سوى محاولة للتغطية على إخفاق كبير يهم تدبير المجال بأكمله مثلما يعبر عن غياب رؤية استراتيجية للسينما ببلادنا ودورها المفترض في بناء "المغرب الحداثي" كما يطيب للبعض أن يسميه.
إن هذا الفيلم، ولنقل ذلك دون تردد، فيلم فرنسي الجنسية من إنتاج شركة فرنسية وليس فيلما مغربيا أبدا، لا يشفع له في ذلك اختياره لموضوع اعتبره "مغربيا" ولا استعانته بممثلين "مغاربة". ولعل خير شهادة على "فرنسيته" قول مخرجه السيد جيروم كوهين أوليفار بلسانه – أثناء تقديم الفيلم بمهرجان مراكش- إنه "يشكر المغرب الذي ساعده على إخراج فيلمه إلى حيز الوجود"؛ وهو أمر لا يمكن أن يفعله مخرج مغربي الجنسية فعلا (مصطفى الدرقاوي أو أحمد البوعناني أو الجيلالي فرحاتي أو عبد القادر لقطع أو محمد العسلي أو محمد عبد الرحمن التازي، على سبيل العد لا الحصر) لأنه سيعتبر، حتما، أن دعم بلاده له – إن هي دعمته - لا يدخل في باب الفضل والصدقة الذي تستحق الشكر عليه وإنما هو حق من حقوقه عليها يندرج مباشرة في باب تشجيع الدولة، كل دولة، للمبدعين من مواطنيها الذين لا يملكون جنسية غير جنسيتها، ولا يقفون لنشيد وطني غير نشيدها، ولا يربطون الانتماء إليها بالحصول على مصلحة أو على منفعة من المنافع المادية الخاصة.
يضاف إلى ذلك أن اختيار فيلم فرنسي لتمثيل المغرب في مهرجان مراكش هو عبارة عن إدانة لمجمل الإنتاج السينمائي المغربي لهذا العام: فإما أن المخرجين المغاربة لم يخرجوا أي فيلم هذه السنة (وهذا يناقض تصريحات بعض القائمين على أمر القطاع بأن إنتاجنا السينمائي وصل إلى معدل 15 فيلما في السنة)، وإما أن كل ما أنجزه هؤلاء المخرجين لا يرقى – في نظر الإدارة الفنية للمهرجان- إلى مستوى الاختيار للتباري مع غيره من الأفلام.
وقبل أن تغيب هذه "العلامة" عن أذهاننا وأعيننا، ها هي ذي "علامة" أو "علامات" أخرى تأتينا من طنجة، على رأسها حصول فيلم "كل ما تريده لولا" لصاحبه نبيل عيوش على الجائزة الكبرى للمهرجان الوطني للسينما في دورته العاشرة.
ومرة أخرى، بصرف النظر عن أن الفيلم لا يستحق المشاركة في دورة هذا العام لأنه من إنتاج عام 2007 وكان مفروضا أن يشارك في الدورة التاسعة للمهرجان قبل عام لولا أن صاحبه رفض ذلك، فإن "كل ما تريده لولا" فيلم فرنسي – كندي من جهة إنتاجه، وموضوعه بعيد كل البعد عن المغرب (الذي جعل المخرج ممثليه يتحدثون بعامية مصرية رديئة ويلعبون أدوارا ثانوية هامشية)، كما أن مخرجه مزدوج الجنسية (فرنسي- مغربي).
معنى هاتين "العلامتين" – كي نتوقف عندهما دون غيرهما – هو أن كل الخطاب الرسمي الذي تم تداوله في وقت من الأوقات عن "دعم السينما المغربية" ( بأموال دافعي الضرائب) قد انتهى عمليا إلى دعم وتشجيع شركات الإنتاج الأجنبية وخاصة منها الفرنسية؛ بل إن الأمر أخطر من ذلك حين يتم، مثلا، إعطاء "جائزة المونتاج" في مهرجان طنجة الأخير (الخاص بالسينما المغربية) لتقني فرنسي الجنسية هو جوليان فور (عن فيلم "قنديشة")؛ حيث إن المعنى الوحيد لذلك هو أن السينما المغربية التي يحتفل البعض هذا العام بالذكرى الخمسين لظهورها (وهو تاريخ غير صحيح) لم تنجح طيلة نصف قرن من الزمان في إعطائنا ولو تقنيا (أو فنيا) واحدا مختصا بالمونتاج (من مراجعة الأفلام الطويلة المشاركة في مهرجان طنجة ويبلغ عددها 14 فيلما نجد أن 10 من بينها أنجز عملية "مونتاجها" أجانب).
لقد انشغل المسؤولون عن الشأن السينمائي ببلادنا، وطيلة ما يزيد على عقدين من الزمن، بالتركيز على "الإنجازات اللحظية البرّاقة" التي من شأنها أن تدغدغ مشاعر العاملين بالميدان وتثير ضجة إعلامية حولها (في الخارج بالخصوص) لكن دون أن يكون لها تأثير يذكر على تطوير الفن السابع والصناعة السينمائية ببلادنا: هكذا، وبدل إنشاء معهد عال للسينما وتطوير شبكة القاعات السينمائية (مع إعادة النظر في النظام الضريبي المفروض علىالتوزيع والاستغلال)، تم الذهاب باتجاه "دعم" إنتاج الأفلام فحسب، والرفع من قيمة "الدعم" من حين لآخر إلى أن بلغ اليوم ستة مليارات سنتيم سنويا.

وكانت النتيجة هي ما انتهينا إليه اليوم:
- ندرة، بل غياب مختصين مغاربة في مهن السينما (من مدراء التصوير إلى مهندسي الصوت مرورا بفنيي المونتاج...)؛
- إغلاق متزايد لقاعات السينما واختفاؤها من الأحياء وتحول الجديد منها إلى "غيتوهات" معزولة وبعيدة عن الأحياء السكنية؛
- تزايد عدد "المنتجين" المعتمدين على "الدعم العمومي" وغياب تام للمنتجين الخواص المغامرين بأموالهم في مجال السينما؛
- تحويل دعم الدولة (المقتطع من أموال دافعي الضرائب المغاربة) من المخرجين والأفلام وشركات الإنتاج المحلية إلى المخرجين والأفلام و شركات الإنتاج الأجنبية؛
وهاهي ذي، في نهاية المطاف، "مهرجانات" محلية ودولية منظمة ببلادنا تختار أفلاما أجنبية لتمثيلنا وتوزع جوائزها عليها وعلى التقنيين العاملين فيها؛ وكل المطلوب منا هو أن نلعب دور المتفرج المصفق على مأساة عبثية تتخذ شكل ملهاة.
لن نستغرب، والحالة هذه، إذا سمعنا غدا أن السلطات الإسبانية ضبطت على شواطئها قاربا للهجرة السرية مليئا بسينمائيين مغاربة هاربين من "نهضة" سينمائية مفترضة لم يعد للفن السابع ولهم فيها مكان.

الخميس، 25 ديسمبر 2008

هارولد بنتر العظيم يغادر عالمنا


توفي في لندن في وقت متأخر من الرابع والعشرين من ديسمبر عن 78 عاما.. البريطاني العظيم هارولد بنتر الحائز على جائزة نوبل في الآداب عام 2005. كان بنتر كاتبا مسرحيا كبيرا، وكاتبا للسيناريو كما عمل ممثلا ومخرجا مسرحيا، وكتب الشعر كما عرف كناشط سياسي يدافع عن حقوق الإنسان، ويناهض التعذيب كما كان له موقف مناهض للحرب في العراق. وقد رفض الحصول على لقب "سير" أو فارس من ملكة بريطانيا.
كتب 29 مسرحية بارزة من أهمها "الحارس" و"الحجرة" و"حفل عيد الميلاد" و"الخيانة".كتب السيناريو لعدد من أهم الأفلام البريطانية والأمريكية مثل "الخادم" و"الحادث" و"الوسيط" لجوزيف لوزي، و"عشيقة الملازم الفرنسي" لكاريل رايز، و"التايكون الأخير" لإيليا كازان، و"المحاكمة" لديفيد جونز، و"سلوث" لكينيث برانا. وشارك كممثل في ثمانية أفلام منها "كسر الشفرة" و"حديقة مانسفيلد". وأخرج 3 أفلام.
كتب الناقد البريطاني مايكل بيلنجتون سيرة حياة هارولد بنتر وأصدرها في كتاب (حوالي 450 صفحة) تناول خلاله أعمال بنتر في كل المجالات، ومواقفه السياسية المميزة، وصراعه ضد "المؤسسة" مثله في ذلك مثل كل الكتاب والفنانين والمفكرين العظام في عصرنا.

«التبديل» لكلينت ايستوود.. خير مطلق وشر مطلق.. وبينهما فوضي




مقال أمير العمري في جريدة "البديل"

كلينت ايستوود ممثل عظيم، شكل جانبا كبيرا من خيالنا ونحن صغار من خلال أفلام "الويسترن سباجيتي"، التي قام ببطولتها وأخرج الفيلم الأول منها "من أجل حفنة دولارات" مخرج كنا نظنه أمريكيا، فقد كان يطلق علي نفسه اسم بوب روبرتسون ثم عرفنا بعد ذلك أنه إيطالي وأن اسمه هو سرجيو ليوني، أحد أعظم السينمائيين في عصرنا، رغم أنه لم يخرج طوال حياته سوي 10 أفلام فقط.
كان ايستوود في الحقيقة صنيعة ليوني، كما أن جانبا كبيرا من النجاح المدوي الذي حققته ثلاثية ليوني الشهيرة يعود أساسا إلي كلينت إيستوود.
هذا الممثل الذي اكتسب مع الزمن خبرة أكبر، وأصبحت له ملامح مميزة في الأداء البسيط غير المتكلف، أصبح أيضا مولعاً بالإخراج منذ وقت مبكر، وقد أخرج حتي الآن 29 فيلما إلا أنه لم يحقق في الإخراج ما حققه في التمثيل رغم تميز عدد لا بأس به من أفلامه كمخرج.
شاهدت منذ أيام فقط فيلمه الأحدث كمخرج "التبديل" Changeling وهو الفيلم الذي عرض في مسابقة مهرجان «كان» الماضية، وكانت له أصداء جيدة.
ولكن يمكنني القول إنه رغم الطموح الكبير من أجل تحقيق عمل ملحمي كلاسيكي كبير إلا أن ايستوود لم ينجح في رأيي في الوصول إلي ذلك بسبب تفكك السيناريو، واعتماده علي التداخل بين الزمان والمكان، خاصة في الثلث الأخير من الفيلم، وهو منهج يجب أن يتم بحذر شديد وبدقة بالغة، حتي يأتي الفيلم متوازنا وواضحا ومفهوما أيضا. أما هنا فالانتقال في الزمن بدا كما لو كان يحدث بدون ضرورة حقيقية، وفقط من أجل الشرح والمزيد من الشرح.

هذا فيلم موضوعه الأساسي عن أم وحيدة فقدت ابنها الوحيد وأعادت لها شرطة لوس أنجلوس الفاسدة (في أواخر العشرينيات من القرن العشرين) طفلا آخر وطالبتها بالاعتراف بأنه ابنها رغم انه ليس كذلك، وكان يتعين عليها أن تواجه مغبة رفضها الانصياع لمطلب الشرطة التي لا تريد أن يفتضح عجزها وفشلها في القيام بواجبها، في وقت كانت سمعتها فيه قد وصلت إلي الحضيض، وهو ما يؤدي بالسيدة (التي تلعب دورها أنجلينا جولي بماكياج وملابس مبالغ فيها كثيرا وبمبالغات شديدة في الأداء أيضا) أن تدفع الثمن، فتودع في مصحة للأمراض العقلية حيث تلقي من العذاب والتعذيب والهوان ما سبق أن شاهدناه في الكثير من الأفلام التي تصور أجواء مشابهة.
لكن الشرطي الشرير الذي يسوقها إلي العذاب يظهر في مقابله بعد ذلك كشرطي شريف يقرر إعادة فتح التحقيق بعد العثور علي صبي يعترف بقتل 20 طفلا مع رجل مضطرب عقليا في مزرعة دواجن بطريقة بشعة، ودفنهم تحت الأرض.
أيضا في مقابل مدير الشرطة الفاسد هناك القس المثالي (جون مالكوفيتش) الذي يقدم برنامجا إذاعيا يوميا يفضح فيه فساد الشرطة، بل يقوم بتصعيد موضوع السيدة كولينز التي تختفي داخل المصحة- السجن، ويقود أيضا المظاهرات التي تحاصر مبني الشرطة، وينجح في العثور علي محام شريف يتنبي قضية المرأة ويخرجها من المصحة ويواجه الشرطة في القضاء إلي أن ينجلي الأمر ويحصل ضابط الشرطة الفاسد ومديره علي ما يستحقانه من عقاب، ويقع قاتل الأطفال في قبضة العدالة وينتهي إلي حبل المشنقة.
إلا أن الفيلم يمتلئ بالاستطرادات الميلودرامية التي لا لزوم لها والتي كان يمكن ببساطة الاستغناء عنها، ويعاني بالتالي من الترهل في الإيقاع، وتكرار الفكرة الواحدة في عدد كبير من المشاهد التي لا تضيف جديدا، وتعدد النهايات بحيث يقع المتفرج في حيرة قبل نصف ساعة من نهاية الفيلم ويتساءل: متي وأين يمكن أن ينتهي الفيلم؟ وكان يمكن اختصار أكثر من عشرين دقيقة من الأحداث الزائدة التي يصورها ايستوود فربما ساهم هذا في اعتدال البناء، كما كان يمكن الاستغناء عن عدد من المشاهد الكاملة، بل الشخصيات التي لا تخدم الفيلم.
الغريب مثلا أن الفيلم يتضمن في ثلثه الأخير مشاهد كاملة للمحاكمتين: محاكمة الشرطة، وقاتل الأطفال. ويتحول بالتالي إلي أحد أفلام المحاكمات التي تعتمد علي المرافعات القانونية والاستجوابات الطويلة الأمر الذي لا يسبب فقط الشعور بالملل، بل يخرج المتفرج تماما بعيدا عن البؤرة الدرامية الأساسية التي يقوم عليها الفيلم، وهي: امرأة وحيدة في مواجهة مؤسسة فاسدة، تصمد وتدفع الثمن ثم تنتصر دون أن تحصل علي الابن المفقود، بل إنه يجعل الشخصية الرئيسية تتحول من المرأة إلي قاتل الأطفال، ويصر علي تصوير مشهد المواجهة بين القاتل المفترض والأم الضحية.
لكن حتي قبولنا كمشاهدين في سياق الفيلم، لما يكشف عنه من مقتل الطفل علي أيدي قاتل الأطفال السيكوباتي الذي لا يوجد تبرير لسلوكه، سرعان ما يخذلنا الفيلم عندما يتراجع أمام الرغبة في تحقيق نهاية سعيدة تمنح الأمل للسيدة كولينز.. في العثور علي ابنها حيا، وهنا تُختلق العديد من المشاهد الزائدة والساذجة أيضا لهروب طفلين أو ثلاثة من القاتل ونجاة أحدهما مع احتمال نجاة الابن المفقود!
كان يمكن أن يصبح فيلم "التبديل" تحفة حقيقية لو أن إيستوود سيطر أكثر علي أحداث وتفاصيل الفيلم منذ مرحلة السيناريو، فاستبعد منها كل ما هو زائد، وركز فقط علي مأساة المرأة الوحيدة مع استبعاد الشخصيات النمطية المكررة، والتخفيف من الحوار وحذف كل مشاهد المحاكمة. ولاشك أن هناك جهدا واضحا في هذا العمل في محاكاة كل تفاصيل الفترة (من 1928 إلي 1938) إبان الأزمة الاقتصادية الكبري (أو التي اعتبرت كذلك قبل أن نصل إلي أزمتنا الحالية!) والتعامل بدقة شديدة مع الديكورات والتفاصيل الخاصة بالمدينة والشوارع والسيارات والملابس وتصفيفات الشعر وتصوير مشاهد المظاهرات وغيرها، ولكن هكذا عودتنا أفلام هوليوود الكبيرة منذ سنوات طويلة.


وقد نجح ايستوود في وضع موسيقي الفيلم الشاعرية الحزينة التي تغلب عليها نغمات البيانو والتي تناسب تماما طابع الفيلم.
وكان من الممكن أن يصبح الفيلم أيضا أكثر إمتاعا وأقل تشتتا إذا ما عرف ايستوود أين يتوقف عند النهاية الطبيعية لمشاهد فيلمه، لا أن يترك العنان لممثليه للاستطراد وتكرار العبارات والصراخ والانهيار علي الأرض، وكأنه يعتصر الأداء اعتصارا من أجل الوصول إلي أقصي ذروة ميلودرامية يمكن أن تنتج عن الأداء.
ونتيجة لذلك يعاني الفيلم من الطول المفرط، ومن الفوضي والتداخل بين الشخصيات، والافتقاد لوجود دوافع حقيقية لدي الشخصيات والوقوع بالتالي في التبسيط والتجريد والنمطية. فالشخصيات تتمحور هنا بين "الأخيار" الأقرب إلي الملائكة مثل القس الذي يبدو عداؤه للشرطة وانسياقه في الدفاع عن قضية المرأة غير مفهوم تماما، وبين "الأشرار" مثل مدير المصحة الذي يبدو نذلا حتي النهاية الدموية، بل خصم عنيف للمرأة طوال الوقت دون مبرر مقبول، والشرطي الذي لا يتوقف لمراجعة نفسه مطلقا، حتي بعد أن اتضح أنه كان مخطئا. فالشخصيات كما قلنا، هي نماذج للخير المطلق والشر المطلق.
وربما ترجع "محدودية" تأثير أفلام ايستوود أيضا إلي أنها تركز، عادة، علي الجوانب الشديدة المحلية في الموضوع، وتأتي بالتالي مفتقدة للطابع الإنساني العام، الذي يغلف أفكاره ويضفي عليها رؤية فلسفية أشمل وأعم، وتخلو أفلامه رغم قوتها، من الأبعاد الإنسانية العامة التي تمس الناس في كل مكان. فالمشكلة أننا بعد نحو ساعتين ونصف الساعة من مشاهدة حكاية "مسز كولينز"، نتأثر حقا، وربما أيضا نبكي وننفعل ونغضب، لكننا نخرج إلي الحياة دون أن يبقي في أذهاننا وذاكرتنا شيء منها يصبح جزءا مؤثرا ينعكس علي تجربتنا الخاصة.

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger