الخميس، 20 أغسطس 2015

عن نور الشريف الذي فقدناه




لم يكن نور الشريف الذي رحل عن عالمنا مؤخرا، مجرد ممثل عبر حياتنا رغم تألقه الكبير في السينما والمسرح والتلفزيون على مدار ما يقرب من خمسين عاما، فقد كان نموذجا لأحد نجوم -الطبقة الوسطى المصرية- التي كانت، أي قبل أن تتهاوى بفعل ما تعرضت له من ضربات قاسية، أدّت إلى هجرة الملايين من أبنائها للعمل في الخارج، وانعكاسات تلك “الهجرة”على الحالة الاجتماعية.
وكما استطاع نور الشريف أن يعبر عن طموح شباب الطبقة الوسطى في مسلسل “القاهرة والناس″ (1967)، استطاع في ما بعد أن يعبر أيضا عن سقوط تلك الطبقة واغترابها في أكثر من فيلم لعل أشهرها “سواق الأتوبيس″ لعاطف الطيب، ثم “سكة سفر” لبشير الديك.
نور الشريف الذي تألق في المسرح والسينما والتلفزيون، لم يكن مجرد ممثل محترف، يجيد الصنعة، بل كان أساسا، هاويا عظيما لفن التمثيل، وعندما كان يتحدث عن أدواره، كان يبدو مثل العاشق المتيم الذي يتطلع إلى أن يبذل أقصى ما لديه لكي يجيد ويتألق.
وكانت روح الهواية هي التي جعلته يصعد ويصل إلى أعلى مراحل النجومية، لكنه ظل نموذجا للممثل- النجم، فنجومية نور الشريف نبعت من علاقته المباشرة بالناس، بقدرته على تجسيد كل الشخصيات “الشعبية” التي تجسد معاناة البسطاء.
وكما نجح في أداء شخصية الطالب، نجح في تجسيد شخصيات الصعيدي والفلاح والسائق والموظف والتاجر، الحالم والمتمرد والرجعي والمتطلع. وليس من الممكن مثلا أن ننسى دوره في فيلم “قلب الليل” عن رواية نجيب محفوظ، الذي جسد فيه شخصية ابن الطبقة الوسطى في طور السقوط، الذي يضل في متاهات الفكر الأيديولوجي، يخرج من مأزق لكي يسقط في مأزق آخر.
لعب نور الشريف أيضا دورا بارزا في حركة السينما الجديدة في مصر التي ظهرت في أواخر الستينات، فهو بطل فيلمين من أهم أفلام السينما الجديدة هما “زوجتي والكلب” (1970) و”الخوف” (1972) للمخرج الراحل سعيد مرزوق، كما قام ببطولة فيلم “ضربة شمس” أول أفلام محمد خان، ثم “الصعاليك” أول أفلام داود عبدالسيد، و”أهل القمة” لعلي بدرخان، و”العار” لعلي عبدالخالق.
وكان القاسم المشترك في الكثير من أفلام السينمائيين الشباب الذين كانوا يتطلعون إلى تأسيس سينما جديدة مختلفة، وكان يواصل أيضا العمل في الأفلام الشعبية أمام العمالقة مثل دوره في “قطة على نار” أمام فريد شوقي، و”الكرنك” أمام كمال الشناوي، و”السكرية” أمام يحيى شاهين.
لم تكن أهم أفلام نور الشريف هي أفلام الاحتجاج السياسي الاجتماعي الميلودرامية المباشرة، بل تلك التي تتعامل مع البعد الفلسفي، والتي تخفي أكثر مما تكشف، وتحمل أبعادا مركبة وتلقي بظلال أبعد من الواقعي، طارحة تساؤلات وجودية كما في “الشيطان يعظ” و”قلب الليل” و”البحث عن سيد مرزوق”.
وكان نور الشريف يجد نفسه أكثر في مثل هذه الأفلام، فقد كان نموذجا للممثل المثقف الذي يضفي على الدور من ذاته، يتماهى معه ويمنحه من ثقافته ومن فهمه الخاص له، ولذلك برز أكثر في الأدوار المركبة.
وقد ترك وراءه تراثا هائلا من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية التي أثارت الكثير من الجدل في الشارع العربي.
لقد امتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بعبارات تفيض بالحب وتطفر بمشاعر الحزن والأسى لوفاة نور الشريف، على نحو لم يسبق أن رأيناه من قبل، وهو ما يعني أن صورة ذلك الإنسان النبيل والفنان العظيم، استقرت في قلوب الملايين وستبقى ما بقيت أعماله الفنية التي تركها لنا.
ولا شك أن نور الشريف سيبقى في ذاكرة عشاق السينما في العالم العربي طويلا، تماما كما ظلت ذاكرة عبدالحليم حافظ باقية في عالم الغناء.. ليرحمه الله رحمة واسعة ويغفر له ويتولاه.

الثلاثاء، 18 أغسطس 2015

هذه البارانويا السينمائية!






يصيني كثير مما ينشر في الصحف العربية عن السينما وقضاياها، وخصوصا السينما الأجنبية، بالكثير من الدهشة وأحيانا، الصدمة، من حجم ما يمكن وصفه يقينا، بـ "التلفيق" و"الفبركة" سواء من أجل مغازلة النزعات الشوفونية الضيقة لدى بعض القراء، فكثيرا ما اخترع الصحفيون، جوائز وهمية للأفلام "العربية"، يزعمون أنها حصلت عليها في المهرجانات السينمائية الدولية.
وكثيرا أيضا تتردد أنباء مبالغ فيها كثيرا، عن "الوجود العربي" في المهرجانات الكبرى، في حين أن ذلك الوجود المزعوم يكون عادة بأفلام لا علاقة للعرب بها، لا من قريب ولا من بعيد، فهي ليست من الإنتاج العربي ، كما أنها لا تنطق بالعربية، ولا تدور أحداثها في واقع عربي محدد، بل يتم نسبتها إلى "العرب" لمجرد أن يكون مخرجها "من أصول عربية" حتى لو كان قد ولد ونشأ وتعلم وانتمى إلى ثقافة أخرى مختلفة تماما، وأصبح يعتبر نفسه إبنا شرعيا لتلك الثقافة، يعبر عن مشاكلها وقضاياها، يتحدث لغتها، ويعمل بانسجام مع نظامها السينمائي.
غير أن دهشتي إتسعت عندما قرأت أخيرا تقريرا تفصيليا طويلا نشرته صحيفة عربية تصدر في لندن تحت عنوان مثير هو "خطة هوليوود للسيطرة على العقل العربي"، يوجه كاتبه نقدا شديدا لما يطلق عليه "الإدارة العامة للسينما في وزارة الثقافة" (المقصود المصرية) التي يأخذ على برنامجها السينمائي أنه يتضمن أفلاما أمريكية يرى أنها أنتجت بغرض "تخريب المجتمعات العربية بالتسلل الخفي لعقل ووجدان الجماهير، وبث الأفكار المسمومة لإحداث تغييرات نفسية وإنسانية وأيديولوجية عبر أزمان طويلة لضمان الانقياد والسير في اتجاه الهدف".
ودون الإشارة إلى أي مصادر حقيقية، يتوصل الكاتب إلى أن "الإدارة الأمريكية هددت بفرض عقوبات على الشركات الإنتاجية التي لم تلتزم بالنظام السينمائي العالمي الجديد، وأوعزت بعدم توزيع أفلامها المنتجة حديثا داخل الولايات المتحدة، وبالفعل خشيت بعض الدول من إنزال العقوبات وتوقفت عن إنتاج أفلام العنف لفترة تجاوزت الثلاث سنوات"!
نعم.. هناك مكاتب لوكالات الاستخبارات الأمريكية داخل هوليوود، يمكنها أن تقترح وتساعد أحيانا في تطوير بعض الأفكار، أو تقدم بعض المساعدات خصوصا الأفلام التي تدور حول أعمال الاستخبارات مثل فيلم "30 دقيقة بعد منتصف الليل" عن عملية قتل بن لادن،  أو "لارغو" عن تهريب رهينتين من إيران، لكن الأمر لا يصل قط إلى حد تدخل الحكومة الأمريكية بشكل مباشر في عملية الانتاج، أو أن تحدد للشركات داخل وخارج أمريكا أيضا ، خطا معينا يتعين عليها الالتزام به بدعوى أن هذا هو "النظام العالمي السينمائي الجديد"- حسب تعبير الكاتب، فهذا مجرد هراء من بارانويا الستينات. لكن المشكلة أنه أصبحت للهراء جاذبيته هذه الأيام!





الجمعة، 31 يوليو 2015

هولوكوست... إتجاه واحد!





عرفت السينما العالمية مئات الأفلام السينمائية، الروائية والتسجيلية، عن موضوع "الهولوكوست" أو ما يعرف بـ "الإبادة الجماعية" لليهود على أيدي النازيين خلال الحرب العالمية الثانية، من خلال ما عرف بـ "غرف الغاز"، والمقصود الخنق الجماعي باستخدام الغازات السامة في غرف خاصة أنشأها الألمان داخل معسكرات الاعتقال الشهيرة في أوشفتز وبيركناو وتريبلنكا وغيرها.
لكن التاريخ السينمائي لم يعرف أفلاما مضادة لنظرية "الإبادة"، رغم ظهور أفلام أخرى تناقض وتفضح الكثير من الجوانب الخفية وراء وقوع بعض الأحداث التاريخية الكبرى مثل قصف اليابان بالقنابل الذرية، فقد ظهرت أفلام عديدة تؤكد غياب أي مبرر عسكري لمثل هذا القصف الوحشي، بينما ظل من المحظور- سينمائيا - التشكيك في الدوافع المعلنة وراء قصف الحفاء مدينة دريسدن في ألمانيا في نهاية الحرب، بالقنابل الحارقة ومقتل 90 ألف ألماني من المدنيين الأبرياء.
لماذا؟ لأنه غير مسموح التشكيك في عدد يهود أوروبا الذين هلكوا في "الهولوكوست". والغريب أن البروفيسور الفرنسي روبير فوريسون، أثبت بالأدلة العلمية قبل 35 سنة، أن غرفة الغاز الموجودة حتى يومنا هذا في معسكر "أوشفتز"، أنشئت عام 1948 أي بعد ثلاث سنوات من نهاية الحرب، لكي يشاهدها السياح دون أن تقول لهم سلطات "متحف أوشفتز" أنها (من وحي الخيال)!
يندر أن يخلو فيلم من أفلام الحرب العالمية الثانية من موضوع "الهولوكوست" وهلاك اليهود في "غرف الغاز"، أو حتى في "أفران الغاز" التي توحي بالقاء اليهود أحياء داخل المحارق أو الأفران.
فيلم واحد فقط حاول ذات مرة، أن يعرض وجهة النظر الأخرى ولو على استحياء، هو الفيلم التسجيلي "مستر موت: صعود وسقوط فريد لوشتر" الذي أخرجه المخرج الأمريكي (اليهودي) "إيرول موريس". وفيه يسلط الضوء على أفكار "المراجعة التاريخية" المناهضة لنظرية الإبادة الجماعية. وقد أثار عرض الفيلم على طلاب جامعة هارفارد في الولايات المتحدة مناقشات صاخبة وجدلا حادا بين الطلاب. وعقب ذلك تعرض مخرجه لهجوم عنيف من قبل اللوبي اليهودي، بلغ حد اتهامه بالنازية رغم كونه يهوديا، مما اضطره لإحداث تغييرات كثيرة في الفيلم فأدخل حوارات جديدة صورها مع مؤرخين مؤيدين لنظرية الإبادة في غرف الغاز.
يصور الفيلم قصة فريد لوشتر المهندس المتخصص في  تكنولوجيا الإعدام في أميركا، الذي ذهب بتكليف من فوريسون عام 1988 الى بولندا وتسلل سرا داخل الغرفة المدمرة التي يقال إنها كانت غرفة الغاز في معسكر أوشفتز، وتمكن من أخذ عينات سرا وعاد لكي يوكل الى معمل في كاليفورنيا اختبار نسبة غاز السيانور السام فيها.  وجاءت النتيجة تثبت خلو العينات المأخوذة من غرفة الغاز من أي أثر للغاز السام. وقد نشر "تقرير لوشتر" في كتاب أصبح شهيرا في العالم كله وترجم إلى لغات عدة.
ومنذ تلك اللحظة بدأت رحلة سقوط لوشتر، أو إسقاطه، فضغطت الجماعات والمنظمات اليهودية على زوجته الى ان تخلت عنه وطلقته، وقاموا باثبات أنه غير حاصل على شهادة في الهندسة، فألغيت العقود التي كانت موقعة معه لحساب سجون امريكية، وتعرض للاعتداء بالضرب، وشوهت سمعته في أجهزة الاعلام، وقبض عليه خلال زيارة له الى لندن لإلقاء محاضرة وتم ترحيله بشكل مهين، وظهر مدير معمل التحاليل لكي ينكر ما سبق ان أدلى به من نتائج. والنتيجة أن لوشتر أصبح "شهيد" التجرؤ على قول الحقيقة. فهل يجرؤ أحد بعد ذلك على التصدي للإباديين!

الخميس، 23 يوليو 2015

عن السينماتيك الغائبة



"السينماتيك" هي دار المحفوظات السينمائية، وهي توازي دار الكتب والمخطوطات، أي أنها تشمل حفظ الأفلام التي تنتج في الدولة التي تقام فيها إلى جانب روائع الأفلام العالمية التي يمكن الحصول عليها، سواء في نسخ أصلية (نيغاتيف) أو موجبة.
والآن أصبح أيضا من الممكن تحويل النسخ السلبية التقليدية المصورة بتقنية الـ35 مم إلى نسخ رقمية تقاوم الزمن، كما أن معظم الأفلام أصبحت تصور بتقنية الديجيتال الرقمية المتقدمة، وتحفظ بالتالي في أرشيف إليكتروني، حيث تصبح غير قابلة للاحتراق كما كان يحدث للأفلام المصورة على شرائط السليولويد المصنوعة من نترات الفضة في الماضي.
أي قبل أن يتطور السيليولويد ويصبح أكثر مقاومة للاشتعال، وإن كان يمكن أن تتحلل شرائط السيلولويد إن لم تحفظ في ظروف سليمة وفي درجة برودة محددة.
السينماتيك ليست فقط أرشيفا للأفلام، بل هي مكان أيضا لحفظ كل ما يتعلق بتاريخ السينما من صور وسيناريوهات ومخطوطات وغير ذلك، وليس من الممكن الحديث عن “تاريخ” للسينما في بلد ما، دون وجود سينماتيك حقيقية.
والسينماتيك تنظم أيضا عروضا لروائع السينما العالمية، أي أنها “مدرسة” يتعلم فيها الشباب من عشاق الفن السينمائي، كيف تطور هذا الفن من عصر الأفلام الصامتة إلى عصر الأبعاد الثلاثة.
والملاحظ أن معظم الدول العربية التي تنتج الأفلام، تغيب فيها السينماتيك، باستثناء الجزائر، لكن السينماتيك الجزائرية التي تأسست بعد استقلال الجزائر عام 1964 بالتعاون مع هنري لانغلوا مؤسس السينماتيك الفرنسية التي تعدّ الأكبر في العالم، فقدت ما يقرب من 50 في المئة من أفلامها التي بلغ عددها في وقت ما، عشرة آلاف فيلم.
وقد كثر الحديث خلال السنوات الأخيرة حول وجود خطة لإنشاء سينماتيك في القاهرة بالتعاون مع فرنسا. وكان وزير الثقافة المصري الأسبق فاروق حسني قد أعلن عن قرار بإنشاء سينماتيك في القاهرة. ومع ذلك أبديت وقتها تشككي في هذا القرار الذي هلّل له كثيرون في الصحافة المصرية باعتباره فتحا مبينا.
قد توارث رؤساء “المركز القومي للسينما” في مصر الذين تعاقبوا على رئاسته خلال الخمسة عشر عاما الأخيرة، خطة نظرية لإنشاء سينماتيك مصرية بمساعدة فرنسية، وكان كل هؤلاء المسؤولين يترددون كثيرا على العاصمة الفرنسية بحجة بحث تفاصيل إنشاء السينماتيك مع المسؤولين الفرنسيين، وقد تركوا انطباعا عاما بأن فرنسا ستبني لنا السينماتيك على أن تقدم لها الحكومة المصرية الأرض فقط.
ولم يكن هذا صحيحا، كما لم يكن فاروق حسني أو من خلفوه، جادين في اهتمامهم بالسينماتيك، فالسينما عندهم ليست سوى “صناعة وتجارة”، أي أنها لا ترقى إلى مرتبة الفنون التشكيلية والمسرح والشعر والأدب والعمارة.
والإيمان بإنشاء سينماتيك يرتبط بنظرة أخرى إلى السينما وإلى الفيلم باعتباره عالما بأسره، فهو يحفظ تاريخ الفترة التي ظهر فيها، بغض النظر عن المستوى الفني للفيلم نفسه، من أزياء وطرز سيارات ومبان وتصفيفات شعر وأغاني، بل وأسلوب في الحديث أيضا.
وفي المقابل كيف يمكن أن تتجه مثل تلك النظرة السائدة المتدنية إلى السينما، وهي نظرة لا تقيم أيّ تقدير لتاريخ السينما واعتبار الفيلم وثيقة دالة على عصره، إلى إنشاء “متحف للسينما” و”دار للمحفوظات السينمائية”.
فإذا كانوا يعتبرون السينما نشاطا يمارسه التجار والمغامرون، وليست جزءا من الضمير الثقافي العام، فلا بدّ أن يظل تاريخ السينما المصرية والعربية في مهب الريح!

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger