الخميس، 5 سبتمبر 2013

الدخول إلى الحظيرة !


الوزير صابر عرب



بقلم: محدي الطيب

نقلا عن جريدة الجريدة الكويتية عدد 2 سبتمبر 2013

  لم ينس د.محمد صابر عرب وزير الثقافة المصري أن بينه والناقد السينمائي المصري أمير العمري ثأراً دفيناً، بعدما قال الأخير إن "الوزير" جاء للثقافة من باب تدريس التاريخ في جامعة الأزهر،وليس من باب الإبداع الفني والأدبي والفكري، كما اتهمه بإهدار المال العام،بعد اتخاذ قرار إسناد إدارة مهرجان القاهرة السينمائي إلى ما أصطلح على تسميته "الحرس القديم"، تجاهل الجهود التي بذلتها المؤسسة التي يترأسها الناقد يوسف شريف رزق الله في إقامة المهرجان، وحذر من خطوة إعادة الإدارة القديمة حتى لا يفهم منها أنها تمثل عودة إلى الوراء، ونكوص عن التعهدات المنادية بالتغيير، وهو الخلاف الذي تجدد واحتدم، عقب امتناع الوزير عن اتخاذ قرار التجديد ل "العمري" مديراً لدورة تالية لمهرجان الإسماعيلية السينمائي، بعد الدورة الخامسة عشر التي افتتحت في 23 يونيو من العام 2012. 
  تذكر الوزير تلك الاتهامات، التي سجلها "العمري" في بيان بتاريخ  17 فبراير 2013، اختتمه بقوله :"ها أنا أرحل مع انتصار الثورة المضادة في مصر"،ومع أول خطوة للوزير داخل مكتبه،بعد عودته إلى منصبه كوزير للثقافة،عمد إلى إلغاء قرار د.علاء عبد العزيز وزير الثقافة السابق، في 13 مايو من العام 2013، بتعيين الناقد أمير العمري رئيساً للدورة السادسة والثلاثين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، المقرر عقدها في نوفمبر القادم، وفي تصعيد جديد للمعركة شكك في الذمة المالية للناقد "العمريواتهمه بارتكاب تجاوزات خطيرة، والاستيلاء على أصول تخص المهرجان خلال فترة رئاسته للمهرجان، من دون أن يقدم أي دليل على ادعاءاته ! 
  من قبيل تصفية الحسابات نجح د. صابر عرب في الإطاحة بالناقد أمير العمري لكنه عجز عن اختيار البديل؛ حيث اعتذرت النجمة يسرا، وقوبل قرار إعادة "الحرس القديم" برفض قاطع، ومن ثم صدر القرار بتعيين مجلس إدارة للمهرجان، برئاسة الناقد سمير فريد، لكن المجلس صدم الجميع، في أول اجتماع له،بحضور د. محمد صابر عرب وزير الثقافة،عندما قرر،بالإجماع، إلغاء دورة هذا العام المزمع انطلاقها في نوفمبر القادم، وتأجيلها إلى سبتمبر من العام 2014 ! 
  حدث هذا، على رغم أن الناقد أمير العمري وافق، عقب توليه منصبه كرئيس للمهرجان مطلع يوليو الماضي، على تحمل المسؤولية كاملة، وبدأ التجهيز لإقامة الدورة المقبلة، من خلال تأسيس منظومة عمل تراعي المعاييرالعملية والفنية، ولا تعرف الطريق إلى العشوائية، وأعلن عن نجاحه في اختيار الفيلم الفرنسي "الماضي" ليكون فيلم الافتتاح، بعد حصوله على موافقة شخصية من المخرج الايراني أصغر فرهادي، كما أصر على المُضي قدماً في إقامة الدورة في ظل ظروف بالغة السوء !   
  لم يهرب "العمري" أو يتنصل، مثلما لم يجرؤ على إلغاء الدورة أو تأجيلها، ومع هذا لاقى جزاء سنمار،في حين أقدم ما سمي بمجلس إدارة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي على اتخاذ قرار إلغاء دورة هذا العام، ولم يكتف بهذا القرار الصادم لكنه بشرنا، وهو الذي فشل في أول مهامه، بأنه سيدير دورة 2014، وأعلن عن "خارطة طريق" الدورة الجديدة، وكأنه "مجلس أبدي"، بينما كانت مشكلة "العمري" لحظة تكليفه بإدارة مهرجان الإسماعيلية بأن العقد لا ينبغي أن يزيد عن سنة مالية واحدة،حسبما قالت الشؤون القانونية، وزعمت أنه شرط وزير المالية،وبالفعل تم تحرير العقد معه لمدة خمسة أشهر فقط ! 
  وافق "العمري" على رئاسة مهرجان القاهرة السينمائي ليقينه بأنه مهرجان المصريين،وليس مهرجان وزارة الثقافة، التي لم تتردد في عهد د.محمد صابر عرب نفسه في التضييق على المهرجانات السينمائية،كما فعلت مع مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية،ولم يشغل "العمري" باله بقضية حماية مهرجان القاهرة السينمائي من زوال الصفة الدولية،في حال إلغاء الدورة؛كونها أكذوبة يروج لها البعض في الوقت الذي يختار؛بدليل أن أحداً لم يُشر إلى هذه القضية رغم قيام "مجلس الوزير" بإلغاء الدورة المقبلة ! 
  أدافع عن "العمري" لأنه أعلن الحرب على الفوضى والفساد في مهرجان القاهرة السينمائي،واستمات في تحريره من قبضة الفاشلين، والدفاع عن استمراره،والحفاظ على استقلاليته،ولأنه آمن أنه مهرجان السينمائيين والمثقفين، وليس الموظفين في وزارة الثقافة، وكنت أتصور أنها عوامل كافية لكي تؤهله للامساك بزمام المهرجان، وتدفع الحماعة السينمائية والثقافية لدعمه في مهمته، والشد من أزره، بدلاً من التشكيك في نواياه، واتهامه بالخيانة، والسعي إلى إقصائه،وهي المهمة التي نجحوا فيها بعد ما أثبتوا أن الشوق يقتلهم لدخول "الحظيرة" ! 

السبت، 24 أغسطس 2013

تصفية الحسابات بالثقافة تدفع "القاهرة السينمائي للمحاكم




بقلم: محمد شكر

عن جريدة (الوفد) القاهرية

يبدو أن مهرجان القاهرة السينمائي أصبح لا يقوي علي عقد دوراته إلا بعد الخروج من قاعات المحاكم فبعد تأجيل دورة 2011 لظروف ثورة 25 يناير وإسناد المهرجان لمؤسسة يوسف شريف رزق الله دخل المهرجان لقاعات المحاكم.

ليتم وقفه علي يد ممدوح الليثي ثم يعاد فتح باب التقدم ويسند لنفس المؤسسة مرة أخري قبل أن يعيده الوزير الأسبق والحالي في الوقت نفسه محمد صابر عرب لنفس إدارته القديمة التي طالما أفشلته علي مدار سنوات ليقيم عزت أبوعوف وسهير عبدالقادر دورة هزيلة اصطبغت سجادتها الحمراء بدماء المعتصمين الرافضين لاستحواذ الإخوان علي مصر بمساعدة مندوب مكتب الإرشاد في الرئاسة المعزول محمد مرسي.

ويبدو أن سيناريو تخريب مهرجان القاهرة السينمائي يتكرر للمرة الثانية مع وزير الثقافة الجديد القديم الذي هدم الدورة الماضية وخربها وعاد للوزارة مرة أخري ليكرر نفس الجريمة في حق المهرجان بتفكيك ما تم بناؤه والبدء من جديد بعد إقالة الناقد أمير العمري وتكليف الناقد سمير فريد برئاسة المهرجان ليلجأ الأول للقضاء مطالبا بحقه المادي والأدبي الناتج عن تعاقد الوزير السابق علاء عبدالعزيز معه وهو الأمر نفسه الذي قام به النقاد رامي عبدالرازق وأسامة عبدالفتاح وأحمد شوقي بعد التعاقد معهم لرئاسة أفرع المهرجان ومسابقاته المختلفة ومنعهم من قبل شرطة السياحة من ممارسة عملهم ليعود المهرجان لقاعات المحاكم مرة أخري ويضيع الوقت في نزاعات وهجوم يؤدي لهجوم مضاد بين الأطراف المتنازعة وكأن أهواء الوزير أهم من مصلحة المهرجان التي لا يمثلها أمير العمري في حد ذاته ولكن تمثلها التحضيرات التي أجراها طوال الشهرين الماضيين وإذا كان عرب لا يصفي حسابات قديمة مع العمري فلماذا لم يقم بإقالة فتوح أحمد الذي عينه الوزير السابق رئيسا للبيت الفني المسرح أو يلغي اتخاذ الدكتور أحمد سخسوخ خبيرا وطنيا للمسرح أو تعيين الدكتورة ناهد رستم لرئاسة قطاع الفنون.

ناهيك عن إهدار المال العام الذي تسبب فيه قرار الوزير الحالي بعد المصروفات التي تمت في التحضير لدورة السادسة والثلاثين بالإضافة للرواتب والتعاقدات التي ستدفعها الوزارة رغما عنها لأن العقد شريعة المتعاقدين وهو الإهدار نفسه الذي قام به صابر عرب في الدورة الماضية بعد أن صرفت مؤسسة مهرجان القاهرة السينمائي 600 ألف جنيه كدفعة تمويل أولي لم ترد لخزينة الدولة بعد إنفاقها في التجهيز للدورة وتجاهل ما تم تحضيره ويبدأ عزت أبوعوف وسهير عبدالقادر من جديد لتخرج الدورة في أسوأ صورها.

وبغض النظر عن تهم إهدار المال العام التي يجب أن يواجهها وزير الثقافة وتحال قراراته للنائب العام للتحقيق فيها بدلا من إحالة ملف مهرجان القاهرة للتحقيق مع أمير العمري لحصوله علي 15 ألف جنيه باعتباره مبلغا فلكيا بالنسبة للوزير فهناك إهدار لمئات الآلاف التي تسبب فيها صابر عرب بقراراته غير المدروسة والتي تأتي دائما في الوقت الخطأ يجب أن نلتفت الي الدورة السادسة والثلاثين لإنقاذ ما يمكن إنقاذه خاصة بعد ترشيح سمير فريد لرئاسة المهرجان وقبوله المنصب وتأكيده علي حسم موقف الدورة بعد دراسة موقف المهرجان للتأكيد علي استمرار الإعداد للدورة أو تأجيلها للعام القادم.

ويواجه سمير فريد بعيدا عن إدارته لمهرجان القاهرة السينمائي في عام 1985 واقعا جديدا يتمثل في إحجام شركات الإنتاج والتوزيع السينمائي عن مساندة مهرجان القاهرة سواء بعدم مده بأفلام لتحقيق التمثيل المصري وتفضيل المهرجانات العربية الوليدة عليه لما تمنحه لهم من دولارات أو برفض الموزعين منح المهرجان دور عرض سينمائي تستوعب عروضه وهي الأزمة التي عصفت بدوراته الثلاث الماضية مع بطالة دور العرض وضعف الإنتاج والإقبال علي المنتج السينمائي الذي يقدمه المهرجان وهذا يقودنا الي الأزمة الثالثة وهي أننا أمام مهرجان دولي كبير بلا جمهور حقيقي باستثناء بعض المعنيين بالشأن السينمائي من صغار السينمائيين فحتي الكبار يختزلون المهرجان في حفلى الافتتاح والختام.

ومع ما يحمله سمير فريد من خبرة طويلة في عالم المهرجانات السينمائية التي يعرفها عن ظهر قلب لن يخفي عليه انعدام الثقافة السينمائية في مصر وهو السبب الذي قد يكون وراء كافة أزمات المهرجان بداية من غياب الجمهور وانتهاء بضعف إقبال الرعاة الذين لا يمنحون المهرجان ما يوازي حجم إعلاناتهم في يوم واحد علي شاشة التليفزيون لأنهم ببساطة يبحثون عن جمهور يروجون له سلعتهم وهو ما يفتقده المهرجان وفي حالة تحققه قد نخرج من أزمة سوء التنظيم التي تضربه دورة تلو الأخري من خلال الاستعانة بشركة خاصة لتنظيم فعالياته ليبقي لرئيس المهرجان الجوانب الفنية التي كثيرا ما يهملها القائمون عليه لانشغالهم بالبحث عن تذاكر طيران أو تسول ضيوف أجانب بدون مقابل أو بمقابل مادي زهيد أو تنظيم الإقامة والتنقلات وكلها أشياء مهمة ولكن ليس علي خبراء السينما أن يقوموا بها.

وتبقي أزمة المهرجان الكبري في سوء التنظيم الذي قد يختفي بإقامة قصر للمهرجانات علي غرار كثير من المهرجانات العالمية خاصة أن تجربة إقامة المهرجان في دار الأوبرا أثبتت فشلها لعدم جهوزيتها من حيث آلات العرض السينمائي وأنظمة الصوت وأعتقد أن هذا يتوافق مع الرؤية التي طرحها فريد بوضع خطة لتحويل المهرجان الي مؤسسة من مؤسسات وزارة الثقافة ولن يتأتي هذا إلا بتجاوز هذه الدورة والبناء علي ما سبق لا هدمه كعادة وزير الثقافة الحالي الذي يتفنن في إهدار المال العام ونتمني أن يستعيد سمير فريد ذاكرة 1985 أثناء إدارته للمهرجان مع سعد الدين وهبة الذي أضاف الي تاريخه الكثير قبل أن تضربه مصالح منتفعي فاروق حسني.

الأحد، 18 أغسطس 2013

فيلم "دراكيلا": بيرلسكوني بطلا أمام نفسه!






جاء هذا الفيلم نموذجا على التطور الكبير الذي حققه صناع السينما الوثائقية، فهو لم يعد مجرد "بيان" لما يجري في الواقع، بل رؤية تحليلية ساخرة، وبناء يتجاوز جفاف المادة الوثائقية، لكي يضفي نوعا من الإثارة والمتعة على المشاهدة، بقدر لا يقل عما يمكن أن يحققه الفيلم الدرامي الروائي. هنا يزول الفرق بين الوثائقي والروائي، ويصبح الفيلم فيلما شاملا بكل معنى الكلمة، يقدم عرضا للفرجة والمتعة والفهم، بل والكشف الصارم عن بواطن الفساد بما يمثل على نحو ما، دعوة إلى تغيير الواقع أيضا.
عنوان الفيلم "دراكيلا" هو مزيج ساخر من كلمتين هما "لاكيلا" l’aquila وهي مدينة إيطالية تاريخية معروفة بآثارها القديمة، تعرضت في أبريل/ نيسان 2009 لزلزال مدمر. و"دراكولا".. الشخصية الأسطورية لمصاص الدماء الشهير في الأدب والخيال المصور.
أما الشق الثاني من عنوان الفيلم أي "إيطاليا تهتز" فهو تنويع على عنوان الفيلم الإيطالي الكلاسيكي الشهير "الأرض تهتز" (1948) للمخرج الراحل لوتشينو فيسكونتي، ويعد من العلامات الكبرى في مدرسة الواقعية الجديدة فيما بعد الحرب العالمية الثانية.
مخرجة الفيلم سابينا جوزانتي Sabina Guzzanti، جاءت إلى السينما من عالم التمثيل والبرامج التليفزيونية الساخرة. كان والدها عضوا في البرلمان الإيطالي عن حزب بيرلسكوني لكنه اختلف معه كثيرا واستقال بعد أن وجه انتقادات قاسية للحزب وزعيمه.
ذهبت سابينا بعد وقوع الزلزال إلى المدينة المتضررة، وبدأت تجري التحقيقات والأبحاث حتى اتضحت في ذهنها المادة التي ستعتمد عليها في بناء فيلمها، بطريقة مشوقة وممتعة.
يبدأ الفيلم بلقطة لقارب من القوارب الإيطالية الشهيرة (جندولا) يسير في إحدى قنوات البندقية، ثم تتراجع الكاميرا إلى الوراء لكي نرى صورة مرسومة لبيرلسكوني، يجلس وقد أسند ذقنه على يده، يتطلع نحو جهاز للتليفزيون عبارة عن صورة مرسومة أيضا لكن الصور التي يعرضها حقيقية تماما، ويأتي التعليق الصوتي بصوت المخرجة، يقول لنا إن "اليوم كان بداية الربيع في شبه الجزيرة (أي إيطاليا) لكنه كان يوما سيئا آخر لبيرلسكوني، فقد أمسك القضاء بخناقه". ونرى لقطات لبيرلسكوني أمام المحكمة عندما اضطر للمثول أمامها للإدلاء بشهادته فيما يتعلق بتهم فساد. وسرعان ما يظهر بيرلسكوني نفسه وهو يقول: "لقد كنت محظوظا أن تمكنت من دفع 200 مليون يورو (حوالي 250 مليون دولار) للمستشارين و"القضاة"..". وعندما يدرك خطأه يتوقف ويستدرك قائلا :أقصد للمحامين".  
هذا الأسلوب سيطبع الفيلم بكامله، فنحن نتلقى الصور كما لو كنا نشاهد فيلما مسلياً من أفلام الأطفال، تروى لنا المخرجة أحداثه وتفاصيله، تلتقط من الصور (الحقيقية تماما) ما يدعم رؤيتها للموضوع. ولكنها لا تتوقف فقط أمام الصور، بل تستخدم الرسوم البيانية التي تحتوي على إحصائيات ومعلومات، كما تستخدم الرسوم الكاريكاتورية وأشكال التحريك المختلفة، واللقطات المأخوذة من البرامج التليفزيونية ونشرات الأخبار، وتمزجها مع المقابلات التي تجريها من وراء الكاميرا، والتي تظهر هي فيها أحيانا كطرف مباشر أمام الكاميرا، تناقش وتجادل وتسأل.
الرسم البياني الذي يعقب ذلك يقول لنا إن شعبية بيرلسكوني كانت قد تدهورت كثيرا في تلك الفترة، ولكن التعليق يخبرنا أنه "في الساعة الثالثة و33 دقيقة من صباح 6 أبريل 2009، وقع زلزال لاكيلا الذي أيقظ حتى سكان منزل الأخ الأكبر" (كما نرى في لقطات بالأبيض والأسود مأخوذة بكاميرا الفيديو السرية)، في إشارة إلى البرنامج التليفزيوني الشهير لما يسمى بـ"تليفزيون الواقع" الذي تسخر منه المخرجة بالطبع، حين تعرض لقطة سريعة لشاب يستيقظ من الفراش مذعورا.
وتمضي الصور يصاحبها التعليق. رسم لبيرلسكوني عاريا تماما سوى من ربطة عنق وورقة من ذات الخمسمائة يورو تستر عورته، وهو يمد يده مبتسما.. في حين يقول التعليق إنه "على حين دمرت بلدة بأسرها، فقد كان الأمر بالنسبة لبيرلسكوني كما لو أن العناية الإلهية مدت إليه يدها مجددا".
على هذا التعليق الطريف نشاهد إحدى لوحات عصر النهضة التي تصور العالم الآخر، ويد تمتد تلمس يد بريلسكوني في رقة قبل أن تمتليء السماء بالبرق والرعد!
 هذا هو الأسلوب، يتشكل ويتحدد منذ اللقطات الأولى من الفيلم: اللقطات المتناقضة، والتعليق الساخر، والحقيقة ممزوجة بالرسوم، والبيانات والمعلومات ممتزجة بالتعليقات المباشرة من قلب الواقع وعلى ألسنة الشخصيات المختلفة القريبة من الحكاية.
تروي المخرجة (وهي حاضرة طوال الوقت في الفيلم تستخدم ضمير المتكلم) كيف سارع بيرلسكوني، رجل الدعاية البارع، إلى استغلال الزلزال المدمر الذي أدى إلى مقتل 300 شخص وتشريد 70 ألف آخرين، من أجل استعادة شعبيته المتراجعة. وكيف يتوجه مباشرة إلى موقع الزلزال، ويتعهد بأن يوفر مسكنا بديلا لكل أسرة بحلول الخريف، ويشرح أمام كاميرات التليفزيون كيف ستكون كل شقة مفروشة بالكامل بما في ذلك التفاصيل الصغيرة، بل ومع "كعكة كبيرة وزجاجة شمبانيا في الثلاجة" أيضا!
لكننا نرى في الوقت نفسه، كيف أرغم في السكان على مغادرة المدينة، وأرسلت السلطات 30 ألفا منهم للإقامة في فنادق على الشاطئ البعيد بشكل مؤقت، حتى أولئك الذين لم تتضرر منازلهم، كما أرسلت باقي السكان للإقامة داخل خيام في منطقة معزولة، تحاصرها قوات الجيش التي تحظر على السكان الاتصال بالصحافة والإعلام، كما تحظر تماما دخول الصحافة كما نرى بالفعل عندما يتصدورن لفريق الفيلم ويدفعونه بعيدا. ونرى كيف ينظم سكان المخيم تظاهرات يومية للاحتجاج على الأوضاع المزرية التي يعيشونها.
والطريف أيضا أن السلطات تحظر عليهم تناول الكوكاكولا والقهوة، كما تخبرنا اللافتات المعلقة في أرجاء المخيم ، فالسلطات المسؤولة تعتبر هذه المواد من "المنبهات" التي يمكن أن تثير السكان وتدفعهم إلى الخروج من عقالهم!
وتكشف جوزانتي كيف أسندت الحكومة تصميم مساكن جديدة في الضواحي، إلى نفس المهندس الذي كان يطمئن السكان قبل فترة وجيزة من وقوع الزلزال، بأن مكروها لن يقع لمدينتهم التاريخية.
مخرجة الفيلم


بعد ستة أشهر من وقوع الزلزال يتم بناء 30 في المائة فقط من المساكن الموعودة يتسلمها المحظوظون، لكنهم يقزلزن لنا إنهم ليسوا محظوظين تماما، فقد اشترطوا عليهم ضرورة تلسيم تلك المساكن في النهاية، بعد أن تنتهي عملية ترميم المدينة، على الحالة التي كانت عليها عند استلامهم لها، أي أن المطلوب أن يعيدوا كل شيء إلى أصله، ويحظر عليهم دق أي مسامير في الجدران، وضرورة المحافظة على صناديق القمامة لتسليمها، وعدم العبث بالستائر.. إلخ
على الجانب الآخر، في لاكيلا نفسها يحتل الجيش وسط المدينة ويرفض السماح لأي مخلوق بدخول المنطقة، في حين أن الآثار التاريخية القديمة المتداعية تركت لكي تتداعى.
ويتهم الفيلم بيرلسكوني بالتخريب المتعمد بعد أن أسند مسؤولية التعامل مع الأزمة إلى ما يعرف بـ"وكالة الحماية المدنية" التي يرأسها رجل يعد من أخلص حلفائه هو جويدو برتولاسو، الذي وجهت إليه اتهامات بالتحرش الجنسي والفساد، مما دفعه إلى أن يعرض تقديم استقالته إلا أن بيرلسكوني رفض وألح عليه أن يبقى في منصبه.
هذه الوكالة كما يكشف الفيلم، يفترض أن تتعامل مع الأوضاع المدنية في حالة الطواريء فقط، إلا أن حكومة بيرلسكوني كما تكشف لنا المخرجة، أضافت بندا آخر تحت مسمى "الأحداث الكبيرة" وهو تعبير عمومي، يمنح تلك المؤسسة سلطة كاملة، ويبيح لها تجاوز القانون بل والدستور أيضا، فالدستور الإيطالي يسمح بالتجمعات والمظاهرات في حين أن سلطة الحماية المدنية تفرض على السكان المقيمين في المخيم المؤقت، عدم التجمع أو التظاهر. وهذه النقطة هي ما تجعل المخرجة جوزانتي تتهم حكومة بيرلسكوني بانتهاج سياسية شمولية تتنافى تماما مع الديمقراطية.
ويصور الفيلم كيف استغل بيرلسكوني المأساة لكي ينقل مؤتمر مجموعة الدول الصناعية الثماني الكبرى، من صقلية إلى لاكيلا، وسط إجراءات أمنية غير مسبوقة، وبتكاليف باهظة من أموال دافعي الضرائب، فقط من أجل التباهي بأنه مهتم بأحوال المدينة وسكانها الذين هجروها، أي باستخدام المؤتمر للدعاية الشخصية لنفسه.
ثم نرى كيف يقوم بيرلسكوني بزيارة يتفقد خلالها بعض أعمال البناء في ضواحي المدينة، حيث يلتقي بمجموعة من العمال، ولكنه يلاحظ غياب النساء فيتساءل في بساطة: أين النساء؟ ثم يتعهد بأنه عندما يأتي في المرة القادمة "سأصطحب معي مجموعة من فتيات الاستعراض"!
وفي مرة أخرى يصر على التقاط صورة مع مجموعة من العمال ومسؤولي البلدية، وبينهم امراة واحدة تتمتع بقسط من الجاذبية، فيقول وهو يقترب منها أريد أن أشعر بالمرأة أكثر!
هذا التصوير الكاريكاتوري هو جزء أساسي من الطابع الهجائي للفيلم، وهو يقربه من المشاهدين، على نحو ما يفعل المخرج الأمريكي الشهير مايكل مور في أفلامه الوثائقية، كما يساهم في تأكيد فكرة اللامبالاة إزاء الكارثة التي حلت بعشرات الآلاف من البشر في الوقت، فنحن نرى كيف يلهو بيرلسكوني بالمأساة، ويصور الأمر أمام كاميرات التليفزيون في معرض تعليقه على السكان الذين انزلتهم السلطات في فنادق مؤقتة على الشاطئ بقوله: "إنهم سعداء هناك كما لو كانوا يقضون عطلة"!
ويصور الفيلم كيف يحتفل بيرلسكوني علانية، وبشكل مبالغ فيه، بعيد ميلاده في الوقت الذي يعلن فيه توزيع المساكن على قطاع من سكان المدينة المنكوبة، في شكل احتفالي غير لائق، وكيف يستخدم الدعاية التي توفرها له امبراطوريته الإعلامية من أجل كسب الأصوات، وهو ما تظهره جيدا سابينا جوزانتي من خلال المقابلات العديدة التي تجريها من نساء ورجال خاصة من المسنين، وكيف يبدون إعجابهم ببيرلسكوني وجاذبيته وكرمه وأريحيته، ويقولون إنه لولاه ما كان شيئا ليتحقق، كما لو كان الرجل يعطي الشعب من أمواله، وهي فكرة يروج لها عادة الكثير من رجال الأعمال عندما يتولون السلطة السياسية.
فيلم "دراكيلا" أخيرا، أحد الأفلام الشجاعة الجريئة، التي تكشف وتعري، ورغم أنه ليس فيلما "محايدا" حسب المفهوم التقليدي في السينما الوثائقية، إلا أنه متوازن إلى حد كبير، وهو يعتمد على الحقائق، كما يعتمد على الوثائق والشهادات الإنسانية المباشرة، ويكشف أيضا تقاعس المعارضة السياسية والصحافة عن القيام بدورها كما ينبغي، بعد أن أحكمت سلطة، تراها المخرجة "شمولية"، قبضتها على الإعلام، وقلصت من دور المعارضة على نحو مثير للأسى والأسف!
تقول سابينا جوزانتي: "إن تصوير هذا الفيلم ثم مشاهدة لقطاته وانا أقوم بالمونتاج وأربط بين الصور والأحداث، هزني كثيرا. سيستغرق الأمر زمنا طويلا قبل أن يعاد بناء لاكيلا: المدينة التي بدأ تشييدها في عصر فريدريك الثاني كقلعة حصينة ضد روما الفاسدة، واستكمل بناؤها في القرن الثالث عشر على يدي ابنه، مدينة تعرضت للكثير من الزلازل العنيفة، واليوم أصبحت تواجه بشيء اشد وأخطر. سيستغرق الامر على الأقلن وقتا مشابها إلى أن يعاد بناؤها".


جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger