الخميس، 5 يناير 2012

السينما الثورية التي لم توجد بعد







أمير العمري

 



المقصود هنا هي السينما الثورية في مصر والعالم العربي، فالملاحظ أنه رغم الثورات التي اندلعت في عدد من البلدان المؤثرة في المنطقة العربية أن السينما أو الأفلام التي تظهر هنا وهناك لاتزال تعتمد على نفس الأساليب القديمة البالية، باستثناء حفنة من الأفلام الوثائقية والتسجيلية التي ظهرت عن الثورات أو سعى صناعها لتسجيل وتوثيق الأحداث أو تقديم رؤية فنية لها.

السينما الثورية هي تلك التي تسعى إلى هدم أسس السينما السائدة التقليدية العتيقة أي سينما التسلية الفارغة من المعنى التي تسعى إلى إشغال المشاهد بمجموعة من المواقف والأحداث الملفقة التي تدور حول نفس القوالب المتهالكة القديمة: مثلث الخيانة الزوجية الشهير، مشاكل الزوجين، تشابك العلاقات وظهور أنماط من الشخصيات التي تسخر مما يحدث في الواقع، البطل الذكوري الذي يقوم بالتعليق على ما يجري حوله من أحداث وتغيرات سواء من وجهة نظر عدمية أو ساخرة أو في أفضل الأحوال رؤية نقدية، دون طرح رؤية بديلة.

السينما الثورية تطرح عادة رؤى بديلة، لا تكتفي بالوقوف على السطح الخارجي للأشياء، لا تدور في اطار تناقضات طبقة واحدة بل تنزل الى الشارع، تصور الحدث وتمزجه بالخيال، تبتكر طرقا جديدة في السرد تحطم القوالب الدرامية المألوفة، تنحو إلى الحداثة بالضرورة، تنحاز إلى قضية الثورة، التغيير، الإحلال، أي إحلال منظومة فكرية محل المنظومة القديمة، في اتجاه تقدمي بالضرورة، يقود الى التنوير، إلى تغليب العقل على الخرافة، ورفض التعامل مع الحياة والواقع كما لو كانا محكومين بقدرية غاشمة لا فكاك منها، مطلوب منا أن نخضع لها دون تردد أو تساؤل محير.

في قلب السينما الثورية يوجد الفنان- الفرد، العقل والعاطفة، الرؤية والموهبة والقدرة على التعبير، والفرد لا ينفصل هنا عن المجتمع، عن المحيط بل وعن العالم كله بما يجري فيه، بل يربط بين واقعه وبين الواقع الثوري المتغير في أرجاء العالم المختلفة.

السينما الثورية ليست سينما الدعوة إلى الفضيلة أو الأخلاق الرفيعة فهذه الدعوة مكانها الطبيعي المسجد والكنيسة، بل عرض رؤى فنية عن الواقع من خلال أشكال قد تصل الى أقصى درجات الهجائية والرفض والفضح والتعرية، تعرية مظاهر التخلف في الفكر والسلوك والممارسات والفعل السياسي والاجتماعي ولكن دون أن يتحول المفكر السينمائي أي المبدع، إلى "داعية" يعرف كل شيء ويملك المنطق النهائي الحاسم.

السينما الثورية لا تخلط النسبي بالمطلق، ولا تتحدث عن القيم المطلقة بل عن نسبية الحقيقة، وتغير الثوابت بفعل تطور التاريخ.

لا توجد خطوط فاصلة في السينما الثورية بين التسجيلي والروائي، بين الخيالي وغير الخيالي، وبين التمثيلي والتخيلي والرمزي، وبين التوثيقي والمعاد تجسيده. إنها تجمع بين كل هذه الأساليب والرؤى ولكن من خلال وحدة فنية خلابة. فالسينما الثورية لم تعد بالضرورة سينما غير مسواة، صورها خشنة، مونتاجها بدائي بالآلات والأجهزة الحديثة أصبحت متوفرة مثل لعب الأطفال في أيدي كل من يريد أن يصور ويولف الأفلام، وليس كما كانت في الستينيات، زمن السينما الثورية في أمريكا اللاتينية التي كانت تصور سرا، وتعرض سرا، ويواجه صناعها الموت قتلا والنفي والهرب والتعب والمطاردة.

السينما الثورية المطلوبة اليوم يجب أن تبحث أيضا عن جمهور جديد خارج دائرة جمهور "المول" التجاري، والمنتديات النخبوية الثقافية في العواصم، بل تسعى للوصول الى الريف والساحات الشعبية في المدن الداخلية والمدارس والمقاهي.. وغير ذلك.

السينما الثورية أخيرا، هي سينما جديدة، يجب أن تبحث أيضا عن جمهور جديد.

الجمعة، 23 ديسمبر 2011

مدرسة السينما

الجمعة، 11 نوفمبر 2011

حول فيلم "في الوقت المحدد": بيع الأعمار!


استمتعت أخيرا بمشاهدة الفيلم الأمريكي In Time للمخرج أندرو نيكول، في إحدى دور العرض اللندنية، وهو يروي قصة موحية رمزية تدور في المستقبل عن كيفية تحكم المؤسسات الرأسمالية والأثرياء الكبار في الولايات المتحدة في أرواح البشر، وكيف يشترون الأعمار، يطيلون فيها أو يقصرونها حسب ما يرون وطبقا لمصالحهم، وكيف أصبح كل شيء للبيع، بيع الوقت أي الزمن، أي قسط زمني من العمر مقابل أي شيء يريد المرء شراؤه.

إنها رؤية مخيفة للمستقبل، ولكنها بطبيعة الحال، رؤية لها في الواقع الكثير من الشواهد عليها، إذا ما اخذنا في الاعتبار ما يجري في العالم من كوارث اقتصادية اليوم بعد انهيار النظام المالي والكشف عن الاستغلال الرهيب من جانب البنوك والاحتكارات المالية للإنسان العادي البسيط.

نحن أمام فيلم "ثوري" بكل معنى الكلمة، أي فيلم يدعو بشكل واضح إلى رفض المؤسسة القائمة، ويكشفها ويعري طرائقها وأساليبها ويدينها بانعدام الإنسانية، لكنه في الوقت نفسه، يفعل هذا بالكثير جدا من البراعة الفنية، سواء من ناحية الخيال البديع الذي يكفل لكاتب السيناريو نسج الكثير من الشخصيات والأحداث والتفاصيل الفرعية المكملة للحبكة والتي تخدم الموضوع وتتطور به، بحيث لا يمكنك العثور على ثغرات فنية كثيرة في هذا الفيلم البديع المؤثر. وهذا درس لكل الراغبين في صنع أفلام تحمل "رسالة" ولا يقيمون عادة وزنا كبيرا للاهتمام بالجانب الفني، بالخيال، بالابتكار، بالشكل، بطريقة المعالجة الفنية، بل يلجاون الى الخطابة والصراخ والهستيريا وحشد عشر شخصيات أمام الكاميرا في لقطة واحدة، والكل صرخ ويتجادل!

هنا نحن أمام إيقاع متدفق صاعد، مواقف منسوجة ببراعة لكي ترسخ الفكرة وتكشف عن الجوانب المختلفة للموضوع، وتنفيذ قوي للكثير من المشاهد، وقدرة فنية رفيعة في خلق الجو العام للفيلم، والارتباط بين شريطي الصوت والصورة، وتحكم كبير في الأداء التمثيلي.

فيلم "في الوقت المحدد" عمل فيه الكثير من الابتكار الفني، والكثير من الأصالة، لكنه أساسا، عمل إنساني يعبر عن رفض الإنسان للإنسان، ويحذرنا من السقوط في المستنقع نحو تلك النهاية التي لا تجعل هناك أي فرق بين أن نحيا وأن ننتحر!

الأربعاء، 9 نوفمبر 2011

"الهافر".. أو العالم كما هو وكما ينبغي أن يكون!

من أجمل واقرب الأفلام إلى قلوب المشاهدين في دورة مهرجان كان السينمائي الـ64 فيلم "الهافر" Le Havre للمخرج الفنلندي الشهير أكي كوريسماكي Kaurismaki..
هذا المخرج الذي يواصل تقديم الأفلام المثيرة للإعجاب، كونه يجمع بين طابع سينما المؤلف، أي السينمائي الذي يملك رؤية خاصة للعالم وهي سينما "نخبوية" عادة، وبين طابع الفيلم الشعبي، الذي يتميز ببساطته، بوضوح رؤيته، بحميميته، وبموضوعه الإنساني القريب من القلوب.
هنا في هذا الفيلم الجديد، يخرج كوريسماكي عن حدود هلسنكي، عالمه الأثير، ليقدم عملا من الإنتاج المشترك مع فرنسا، يصوره في الميناء الفرنسي الشهير الذي يحمل الفيلم اسمه، ولكن دون أن يتنازل، أو يتقاعس عن تقديم رؤيته الخاصة، مجسدا من خلالها عالمه الخاص الأثير إلى نفسه، عالم الشخصيات الهامشية الوحيدة التي تشعر بغربتها في العالم، وحاجتها الى التعاضد الانساني، قدرتها رغم ذلك على السخرية، وعلى التحلي بروح متفائلة.
هذا العالم الخاص هنا يتمحور بين الواقع والخيال، ما يحدث فعلا وما يمكن أن يحدث، وما نتمنى أن يحدث، تعقيدات الواقع التي تتبدل تدريجيا مع اكتشاف أن البشر في معظمهم أنقياء وأوفياء وعلى استعداد لتقديم ما ينتظر منهم وقت الضرورة، كبشر يتضامنون معا بغض النظر عن حواجز الدين والجنس والهوية القومية، وقسوة الواقع الذي يمكن ان يفقد فيه الانسان حياته لأي سبب، أو يصبح ضحية للحواجز المفروضة بقسوة، والسجون الكبيرة التي تقام لكي تحد من حرية البشر في الانتقال والعمل رغم كل ما يقال عكس ذلك.

سيناريو متقن
فيلم كوريسماكي يعتمد كعادته، على سيناريو متقن، يجسد أزمة الفرد في المجتمع، ولكن عندما يكتشف أن تحققه يمكن ان يأتي من خلال توحده مع الآخرين، وعلى أداء تمثيلي محكوم، وعلى أسلوب إخراج، صحيح أنه يعكس طريقة صاحبه في التعبير، لكنه يبدو أيضا في هذا الفيلم تحديدا، متأثرا بأسلوب بعض المخرجين الفرنسيين الذين يهيم هو بهم وباعمالهم من فترة الواقعية الشعرية مثل مارسيل كارنيه على وجه الخصوص.
بطل الفيلم "ماكس"، رجل في خريف العمر، مهاجر فنلندي متجنس بالجنسية الفرنسية يعيش مع زوجته المعتلة صحيا "أرليتي"، فهي مصابة بمرض خطير، لكنها تخفي الأمر على زوجها وتتشبث بمعجزة الشفاء التي قد تأتي في نهاية الأمر.. من يدري!
وماكس فنان كان ذات يوم في الماضي، مرموقا ثم تدهور به الحال واضطر الى العمل كماسح للأحذية على أرصفة ميناء الهافر وأمام مقاهيه.
يسوق القدر إليه ذات يوم طفلا افريقيا من المهاجرين غير الشرعيين الذين تقبض عليهم السلطات وتضعهم في معسكر كبير للمهاجرين تمهيدا لترحيلهم. هذا المعسكر المعروف الذي ذاع صيته عبر نشرات الأخبار خلال الفترة الأخيرة، ويعرف باسم "الغابة" وتمت تصفيته بقسوة وفظاظة من قبل السلطات الفرنسية.



دور الكلبة
الطفل "إدريسا" يتمكن من الهرب من الشرطة، ويلجأ الى منزل ماكس الذي يأويه ويمده بالرعاية ويخفيه عن عيون الشرطة، في غياب زوجته المريضة في المستشفى، وبمعاونة كلبته الأليفة الذكية "لايكا"، وهي في الحقيقة الكلبة التي يصفها بعض النقاد بـ"الكلبة الأكثر شهرة في السينما الأوروبية"، فهي تظهر في معظم أفلام كوريسماكي وترتبط به.
لكن ضابط الشرطة المخضرم المفتش مونيه يشك في وجود الصبي في منزل ماكس، ويحاول استدراجه للاعتراف. ولكن هذا الضابط القاسي الملامح، الجامد من الخارج سنكتشف قرب النهاية أنه يخفي قلبا شديد الطيبة لا يقل في طيبته عن جيران ماكس جميعا واصدقائه الذين يساعدونه بتوفير احتياجاته من المواد الغذائية بمن فيهم البقال الجزائري الأصل المتزوج من فرنسية، وعامل القمامة الصيني الأصل، وجارته الفرنسية الطيبة صاحبة المخبز التي تزوده بالخبز يوميا.
يبدأ الجميع في جمع التبرعات من أجل دفع تكاليف تهريب الصبي "إدريسا" على متن سفينة تعبر الى الساحل البريطاني لكي يلتحق الصبي بأمه التي سبقته في التسلل الى بلاد الانجليز وتقيم في لندن.
وفي اللحظة التي توشك الخطة التي يشترك فيها الجميع على النجاح، يظهر المفتش مونيه، ولكن لكي يحمي تهريب الصبي من مطاردة رجال شرطة الهجرة، ويقدم يد المساعدة للآخرين.
مزيج من الواقعية والحلم، تسيطر على أجواء الفيلم بحيث أننا أحيانا نتخيل اننا نشاهد فيلما من الأفلام الفرنسية في الأربعينيات تلك التي تميزت بما يعرف بـ"الفيلم- نوار".. أي بأجواء الغموض، والسرية، والتوتر، والظلال القاتمة، وفي أحيان أخرى، نشعر أننا نشاهد "كوميديا" من تلك التي تعتمد على المفارقات المشهدية لا على المبالغة في الأداء أو المفارقات المصطنعة.
وبين الطابعين تتلون المشهدية، من الاضاءة الناعمة ذات الألوان الواضحة: الأزرق والأحمر بوجه خاص، وينتقل التصوير من الداخل الى الخارج، وبالعكس، دون أن يفقد التتابع حيويته وهدوئه مع المحافظة على إيقاع رصين لا يخرج عن المسار باستثناء ربما في المشهد الذي يستعين فيه ماكس بمغني معتزل لأغاني البوب من جيل الستينيات، ويقنعه باقامة حفل محلي لجمع لصالح تمويل رحلة "إدريسا" إلى لندن.

عن الأداء
الأداء كالعادة في أفلام كوريسماكي، محسوب بدقة، والحوار قصير ومختصر ولكنه يعبر عن كل شخصية بأقل الكلمات، كما يعبر حوار بطلنا "ماكس" عن خلفيته المثقفة مع لمسة فلسفية أيضا، ولاشك أن "ماكس" الذي يحمل فلسفة كوريسماكي نفسه، هو شخصية "مخترعة" أي سينمائية أساسا، وكذلك معظم الشخصيات التي تأتي كما أشرت في السابق، متآلفة، إيجابية، تسعى للخير، رغم ما يكمن في الواقع من قسوة شديدة نلمحها في المشهد الأول عندما يقتل أحد زبائن ماكس في تصفيات بين عصابات الأشقياء فيما يبدو، وأيضا في المشهد شبه التسجيلي الذي صوره كوريسماكي داخل معسكر ايواء اللاجئين المعروف بـ"الغابة"، أثناء بحث البطل عن أحد يمكنه أن يرشده الى مكان والدة ادريسا.
وينهي كوريسماكي الفيلم بخروج زوجة ماكس تخرج من المستشفى بعد ان شفيت من مرضها العضال فعلا، لكي تكون بمثابة المكافأة له على موقفه النبيل.
"الهافر" في النهاية، رغم عدم حصوله على جوائز في مهرجان كان بينما كان كثيرون يتوقعون له "السعفة الذهبية" لا أقل، يمثل خطوة الى الأمام في مسيرة مخرجه الطويلة، ونقلة تتجاوز كثيرا ما حققه في فيلمه السابق "أضواء في الغسق" الذي عرض في مسابقة كان عام 2006.جدير بالذكر أن كوريسماكي من مواليد 1957، وقد أخرج حتى الآن 28 فيلما، ما بين طويل وقصير وتسجيلي. وفيلمه السابق مباشرة هو فيلم تسجيلي صوره في الشيشان ويحمل عنوان "برزخ" Barzakh.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger