الاثنين، 28 مارس 2011

من مخزن الذاكرة: عصر مضى

صورة تاريخية تجمع (من اليمين الى اليسار) الناقد سمير فريد، والطاهر الشريعة مؤسس مهرجان قرطاج السينمائي (توفي أخيرا في نوفمبر 2010) ثم المخرج صلاح ابو سيف في حوار نادر مع المخرج يوسف شاهين، ثم المخرج توفيق صالح في أقصى اليسار. وقد التقطت بنفسي الصورة في مهرجان القاهرة السينمائي عام 1986

في 1986 أدرت ندوة لمناقشة فيلم "الطاحونة" (أو طاحونة السيد فابر) في مهرحان القاهرة السينمائي في عهد رئيسه الراحل سعد الدين وهبة، وذلك بناء على طلب بل والحاح من صديقي المخرج والناقد الكبير هاشم النحاس، بحضور مخرج الفيلم الجزائري احمد راشدي وبطله سيد علي عجومي وكان حاضرا أيضا الممثل الكبير عزت العلايلي بطل الفيلم، لكنه يظهر في لقطة أخرى تعقب هذه من زاوية أخرى... وكنا جميعا لا نكف عن التدخين في زمن التدخين!


على هامش مهرجان القاهرة عام 1993 الذي حضرته ليس بدعوة من المهرجان بل من سمير فريد الذي كان مسؤولا عن تنظيم ندوة حلقة بحث عن السينما العربية على هامش المهرجان. وقد شاركت فيها. وهنا المرحوم سعد الدين وهبة رئيس المهرجان يحتفي بالحضور من الضيوف العرب. ونرى من اليمين الى اليسار: المخرج الجزائري محمد شويخ، والناقد السورية ديانا جبور التي أصبحت مديرة الرقابة ثم مديرة للتليفزيون في سورية، وأمير العمري، ثم مديرة قسم السينما السابقة في معهد العالم العربي بباريس ماجدة واصف، وسعد وهبة، والناقد عرفان رشيد.

الاثنين، 14 مارس 2011

"جوقة رجل واحد": إعادة اكتشاف أورسون ويلز



بقلم: أمير العمري


الفيلم الوثائقي الذي اسلط الضوء عليه اليوم، يعود إلى ما قبل خمسة عشر عاما، لكني عدت لمشاهدته أخيرا، ليس فقط لأهميته وأهمية الاكتشافات التي تمكن مخرجه من تقديمها عن شخصية المخرج السينمائي الأمريكي الرائد أورسون ويلز، صاحب فيم "المواطن كين" أحد اهم الأفلام في تاريخ السينما، بل لأنه منذ ظهوره في 1995، لم يستطع أي فيلم وثائقي آخر، أن يتجاوزه، أي أن يضيف جديدا إلى ما أضافه هذا الفيلم، بل إنه يُعد أيضا، دراسة بالصورة والصوت، لواحدة من أكثر الشخصيات السينمائية غرابة وتفردا وتقلبا وسوء حظ أيضا، في عالمنا، ومنذ اختراع السينما حتى اليوم.

هذا الفيلم هو "جوقة رجل واحد" One Man’s Band وهو يقع في 90 دقيقة، اشترك في إخراجه المخرج اليوغسلافي السابق (من مواليد سلوفينيا) فاسيلي سيلوفيتش، والمخرجة أوجا كودار، وهي من مواليد زغرب في كرواتيا، لكن أهميتها تعود إلى أنها كانت أيضا الزوجة الأخيرة للمعلم الكبير أورسون ويلز ورفيقة دربه طيلة السنوات العشر الأخيرة من حياته، وقد عملت مساعدة له في كتابة السيناريو لبعض أفلامه التي لم يجد معظمها طريقه إلى العرض، أو لم يكتمل تصوير بعضها الآخر لأسباب يتعرض فيلمنا الوثائقي هذا لها ويترك الكثير من علامات الاستفهام معلقة امام البعض الآخر منها.

ولعل السؤال الاول الذي قد يتبادر إلى الأذهان هنا هو: وما الذي يستطيع أن يقدمه فيلم وثائقي جديد عن عالم أوروسون ويلز الذي رحل عن دنيانا قبل ربع قرن؟ فقد ظهرات من قبل عن ويلز عشرات الكتب والدراسات والمقالات النقدية والأفلام الوثائقية التي حاولت تقديم صورة مكثفة للعالم الخاص والفريد لذلك الفنان العظيم وتجاربه الفريدة في التمثيل والإخراج والكتابة، فما الجديد الذي جاء فيلم "جوقة رجل واحد" لكي يقدمه؟

يلقي الفيلم أضواء جديدة على الكثير من الجوانب الغامضة والخفية في شخصية أورسون ويلز، كما يعرض أجزاء نادرة لم يسبق عرضها، من أفلامه العديدة التي شرع في ابتكارها وإعدادها وتصويرها أحيانا، دون أن يتمكن أبدا من استكمالها لأسباب كثيرة معقدة يتطرق إليها الفيلم. ويقول الفيلم أيضا إن هناك أفلاما أخرى كان ويلز قد انتهى بالفعل من إخراجها لكنها لم تعرض قط لأسباب قانونية لاتزال قائمة حتى يومنا هذا. ولو قدر لهذه الأعمال أن تعرض الآن فلاشك أنها ستضيف الكثير جدا إلى تجربة أورسون ويلز السينمائية، وتفتح آفاقا جديدة للتعرف الحقيقي على حجم موهبته، بل وعلى قدرته الدائمة على الاكتشاف والابتكار والتجديد في الشكل السينمائي، في حين أن الكثيرين يتصورون أنه انتهى في تجديده عند رائعته "المواطن كين" (1941) الذي لايزال منذ ظهوره منذ نحو سبعين عاما، قادرا على تحدي الزمن، وعلى تحدي الكثير من الإضافات الفنية اللاحقة على ظهوره بسنوات بعيدة.

وكان ويلز في الرابعة والعشرين من عمره عندما أخرج هذا الفيلم الذي غير وجه تاريخ السينما وأسس بشكل كبير، للـ"الفن السينمائي" في مقابل "الصناعة" السينمائية. وبعده، لم يستسلم ويلز كما يتصور كثيرون لمقاييس هوليوود السائدة، بل واصل تجاربه وابتكاراته، حتى أنه يمكن القول إنه يعتبر أعظم التجريبيين في تاريخ السينما.

في فيلم "جوقة رجل واحد" يستخدم لقطات عديدة للقاء التاريخي الذي جمع بين ويلز قبيل وفاته، وأعضاء معهد الفيلم الأمريكي American Film Institute أو مؤسسة دعم السينما الأمريكية كتاريخ وثقافة، ومقرها نيويورك.

فقد أقام له هؤلاء حفل تكريم خاص ومنحوه جائزة المعهد، ربما كانت الوحيدة التي حصل عليها طيلة حياته من مؤسسة أمريكية، عن مجمل إسهامه الفني في تطوير لغة السينما. وخلال اللقاء الذي نشهد منه لقطات متقطعة عبر المراحل المختلفة من الفيلم، يرد ويلز على سؤال بشأن علاقته بالجمهور فيقول بحسرة واضحة، إنه كان يسعى طوال حياته، للوصول إلى ذلك الجمهور وليس إلى القطيعة معه.

غير أن أفلام أورسون ويلز التي لم تختبر اختبارا حقيقا في سوق الفيلم، واجهت في الحقيقة، صعوبات ومتاعب جمة وعراقيل من جانب شركات الإنتاج السينمائي في الولايات المتحدة، فقد وضع المنتجون أمامه العراقيل والشروط الصعبة، وارادوا إرغامه على الامتثال لشروط الإنتاج الأمريكي الذي يحسب طبقا لدراسات جدوى في الأسواق، في حين أن موهبته الجامحة كانت ترغب دائما، في تطويع إمكانيات الصناعة لخياله الخاص الجامح.

كان ويلز، المشبع تماما بالثقافة الحقيقية: الأدب والمسرح الشكسبيري والفن التشكيلي وفن التصوير الفوتوغرافي والتمثيل المسرحي، أكثر طموحا في أفلامه من مجرد الطموح المعتاد للمخرج السينمائي. فقد كان يسعى إلى العثور على معادل يجمع هذه الفنون جميعها، في بوتقة واحدة، يمزجها بالتجربة الشخصية للفنان، يصبغها بصبغته الشخصية، ويدفع الحياة فيها والحركة إلى أقصاها. وكان بالتالي، ينفق الكثير من الوقت والجهد من أجل تحقيق غرضه دون كلل. ولم تكن شركات الإنتاج السينمائي الأمريكي تستطيع ان تقبل بذلك, ومن هنا جاءت مشاكله، فقد أشيع عنه مثلا أنه لا ينهي أفلامه بسهولة، وأنه عنيف متقلب المزاج، في حين كان ويلز يتمتع بطاقة هائلة وقدرة فذة على العمل الشاق المتواصل، وإرادة لا تعرف الكلل، من أجل تحقيق أحلامه السينمائية الخاصة، والبحث عن تمويل مناسب لها، حتى لو أدى الأمر إلى قيامه بمعظم العمليات الفنية الأساسية بنفسه: الكتابة والتمثيل والإخراج والإنتاج، واحيانا المونتاج أيضا. وكان بالتالي نموذجا للمخرج صاحب الرؤية، أو ما يعرف بالمخرج- المؤلف بكل معنى الكلمة.

ويكشف فيلم "جوقة رجل واحد" عن طاقة ويلز الهائلة، كما يلقي الأضواء على أعماله الطموح، التي لم يتوقف قط عن تطويرها والابتكار فيها. ومن هذه الأعمال مثلا فيلم "الجانب الآخر من الريح" The Other Side of the Wind الذي يعرض فيلمنا هذا مشاهد عديدة منه للمرة الأولى. وقد انتهى ويلز من تصوير الفيلم بالكامل إلا أنه لم يتمكن ابدا من عمل المونتاج له، وبالتالي يظل حبيسا في العلب.

ويقول فاسيلي سيلوفيتش، أحد مخرجي "جوقة رجل واحد"، إن الفيلم لم يكتمل بسبب ما وقع من مشاكل بين طرفي الإنتاج فيه، وهما منتجان من فرنسا وإيران، وكان من الصعب للغاية أن يقوم أي مخرج آخر غير ويلز الذي توفي عام 1985، بالإشراف على المونتاج له، لأن المونتاج كان دائما المرحلة الاهم في العمل السينمائي لدى ويلز، وخلالها كان يمنح الفيلم طابعه المميز، وأسلوبه الشخصي، لكنه يرى أن المخرجة أوجا كودار، مساعدته، هي الوحيدة التي يمكنها استكمال الفيلم. وفي المشاهد التي تظهر هنا من "الجانب الآخر من الريح"، يتبدى بوضوح الطموح الفني عند ويلز في بناء المشاهد وتصميم الحر كة في داخلها، واختياراته للألوان، ولقطاته الفريدة القريبة (كلوز اب).

وكان أورسون ويلز قد شرع في سنواته الأخيرة، في تصوير فيلم عن مسرحية شكسبير الخالدة "الملك لير" يقوم هو بدور البطولة فيه أي بدور الملك لير نفسه. وكان لديه مشروع آخر بدأ في تصويره عن مسرحية "تاجر البندقية" نرى منه ومن الفيلم السابق ذكره، لقطات فريدة تبرز قدرة ويلز الكبيرة كممثل من طراز فريد يميل إلى التقمص التام، والتعايش الكامل مع الشخصية التي يؤديها، كما صور أيضا بعض المشاهد من فيلم بعنوان "الحالمون" عن مجموعة قصص قصيرة للكاتبة الدنماركية كارين بليكسن التي كانت تكتب باسم إسحق دينيسين (وهي مؤلفة رواية "خارج افريقيا" Out of Africa الشهيرة التي تحولت إلى فيلم بنفس العنوان حصل على عدد من جوائز الأوسكار). وكان ويلز من أشد المعجبين برواياتها وقصصها، وقد سبق أن أخرج للتليفزيون، فيلما عن إحدى قصصها هو فيلم "قصة لا تموت" The Immortal Story

وكان ويلز قد شرع أيضا في تصوير فيلم جديد عن الرواية التي يكن لها إعجابا كبيرا وهي رواية "موبي ديك" ومنح الشخصية الرئيسية فيه أبعادا جديدة من خلال رؤيته الخاصة لها، وادائه وأسلوب إخراجه. وبدأ ويلز تصوير الفيلم الذي لم يكتمل، في عام 1972 ثم توقف في العام التالي، وهو لا يقوم فقط في هذا الفيلم بالدور الرئيسي، بل بادوار أخرى ثانوية في نفس الوقت.

الساحر والساخر

في "جوقة رجل واحد" مشاهد عديدة مأخوذة من البرامج التليفزيونية التي ظهر فيها ويلز كضيف ثابت، ابتكر اشكالا جديدة للسخرية، منها ذلك العرض التليفزيوني الذي كان يقدمه مع مجموعة من الدمى المتحركة، وعروض أخرى كان يمارس فيها هوايته الغريبة في القيام بأعمال السحر، وبرامج صورها في بريطانيا وأيرلندا وجسد فيها انطباعاته الساخرة عن الشخصية الإنجليزية والأيرلندية، وغيرهما.

ويضم الفيلم ايضا لقطات نادرة صورتها المخرجة أوجا كودار لاورسون ويلز أثناء قيامه بإخراج أفلامه الأخيرة، أوأثناء قيامه بالتدريبات التمهيدية على الأداء(البروفات)، كما يعرض الفيلم لرحلات ويلز العديدة خارج الولايات المتحدة. لقد كان ويلز ، على نحو ما، سينمائيا أوروبيا، هضم جيدا التراث الثقافي في الأدب والمسرح الأوروبي، وتاثر بهما، وربما كانت تلك الخاصية وراء الكثير من أسباب إحساسه الشخصي بالغربة والعزلة عن المجتمع الأمريكي، وهو إحساس نشعر به طوال مشاهدتنا لهذا الفيلم الوثائقي المدهش.

يضم "جوقة رجل واحد" ستين دقيقة من لقطات من الأفلام المجهولة لاورسون ويلز، وثلاثين دقيقة من ذكريات زوجته الأخيرة كودار، عن حياتهما معا وعن نظرتها إليه، ليس فقط كزوج، بل كفنان مدهش، ومبدع كبير. وفي الفيلم أيضا لقطات من حفل تكريمه في معهد الفيلم الأمريكي، نرى كيف يوجه له أحد النقاد سؤالا يتعلق بعدم استكمال أفلامه الأخيرة، فيستنكر ويلز هذا القول، ويرفض الاعتراف بأنه توقف عن العمل، مصرا على أنه سيواصل العمل إلى أن ينتهي من هذه الافلام قريبا. لقد كان ويلز نموذجا للقدرة الدائمة على الاستمرار في العمل حتى آخر نفس في حياته، وهذا أهم ما يكشف لنا الفيلم عنه.

الأوسكار والنظام


لم يحصل أورسون ويلز على أي من جوائز الأكاديمية الأمريكية لفنون السينما (الأوسكار9، لا كمؤلف بارز وكاتب سيناريو، ولا كممثل عظيم، ولا كمخرج من الرواد، بل ولا حتى عن فيلمه الذي أدهش كل رجال صناعة السينما في زمانه ولايزال يعد من أهم عشرة أفلام في تاريخ السينما، أي فيلم "المواطن كين". ولم يحصل ويلز أيضا على جائزة الأوسكار التي تمنح تكريما للمخرجين العظام عن مجمل أعمالهم السينمائية، لكن أعماله القليلة المكتملة التي تركها، تتحدى الأوسكار، وتثبت للمقارنة مع الأعمال الرفيعة في الفن. ومن هذه الافلام: "فالساتف"، الذي استوحاه عن مسرحيات عدة لشكسبير، و"الرجل الثالث" الذي صوره في فيينا بعد الحرب العالمية الثانية، و"سيدة من شنغهاي"، و"آل أمبرسون العظام"، و"المحاكمة" عن رواية كافكا الشهيرة، و"لمسة الشر"، و"عطيل" الذي صوره في أربعة بلدان من بينها المغرب، وقد عرضت النسخة الكاملة منه للمرة الأولى في مهرجان كان السينمائي عام 1993، وفيلم "التزوير" وهو آخر أفلامه كمخرج.

كان ويلز قادرا على جعل الفيلم السينمائي سينمائيا خالصا، يحمل بصمته الشخصية، أيا كان المصدر المأخوذ عنه الفيلم، سواء عن مسرحيات شكسبير أم عن القصص والروايات البوليسية، وسواء كان يحتوي على أبعاد فلسفية أم نفسية أم سياسية. وكان قادرا على أن يجعله أيضا، شديد الجاذبية ومختلفا تماما عما قبله. وكان يضطر إلى القبول بالتمثيل في أفلام عديدة، حتى من تلك التي لم يكن يحترمها كثيرا، من أجل تدبير بعض المال الذي يمكنه من مواصلة عمله كمخرج، يقوم أيضا بإنتاج أفلامه الفنية.

وهنا تحديدا، يكمن سر شقائه ومجده في آن. فهو المتمرد الأعظم على "النظام" أي نظام الإنتاج التقليدي في هوليوود، المتجاوز لعصره فنيا وفكريا، الطامح إلى خلق لغة سينمائية خالصة. إلا أنه أيضا، ضحية النظام الذي حاربه، ولفظه، وحرمه من فرصة استكمال الكثير من أفلامه المدهشة التي لا تزال تنتظر من يكملها، ويخرجها من معطف الساحر ويعيدها إلينا. ولو قدر لهذه الأعمال أن تعرض اليوم ستكون كفيلة بتغيير وجه السينما إلى الأبد.
(جميع الحقوق محفوظة وغير مسموح باعادة النشر إلا بإذن صريح مكتوب من ناشر المدونة)

الأحد، 13 مارس 2011

"ميرال": عودة إلى مناقشة جادة لعمل سينمائي مهم

كنت أتخيل أن يكون فيلم "ميرال" Miral للمخرج الأمريكي (اليهودي) جوليان شنابل، الفيلم الأكثر إثارة للاهتمام، للنقاش، والجدل حول موضوعه ومحتواه في أوساط النخبة المثقفة العربية والإعلام العربي بشكل عام في 2010، باعتباره أول فيلم احترافي كبير مصنوع للجمهور العريض، يتناول تاريخ الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، منذ فيلم "حنا ك" الذي أخرجه الفرنسي (اليوناني الأصل) كوستا جافراس، والذي تعين على مخرجه فيما بعد أن يدفع الثمن باهظا، ويقدم فيلما آخر "يكفر به" عن تعاطفه مع القضية العربية، كما دفعت بطلته جيل كلايبرج الثمن أيضا، متمثلا في تجاهل هوليوود لها حتى وفاتها أخيرا.

أما "ميرال" الذي صور في عدد من المدن الفلسطينية داخل وخارج ما يسمى بالخط الأخضر، فلم يعرض سوى في اليوم الأخير من مهرجان أبوظبي، وعرضا واحدا في مهرجان الدوحة-تريبيكا فقط من بين كل المهرجانات السينمائية العربية لعام 2010، وغابت بالتالي فرصة مناقشته بشكل حقيقي يبتعد عن الانطباعات الأولية.

سيناريو الفيلم مأخوذ عن مذكرات رولا جبريل التي صاغتها في شكل رواية تروي فيها قصة حياتها، وهي الفلسطينية التي جاءت من قلب المأساة الى أوروبا لكي تصبح حاليا من أشهر مقدمات البرامج الشعبية في التليفزيون الإيطالي.


قصة الصراع
يروي الفيلم، أو يطمح إلى أن يروي، قصة الصراع الدائر في فلسطين، منذ عام 1948 حتى اليوم، من خلال التركيز على دور هند الحسيني، التي أنشأت بيتا لإيواء الأطفال اليتامى الذين فقدوا أباءهم في حرب عام 1948، واتسع هذا البيت الذي كان يأوي في البداية 55 طفلا فأصبح يستوعب ألفي طفل.
أما "ميرال" فلم تفقد والديها في الحرب، وهي التي ولدت في اوائل السبعينيات، بل فقدت أمها بعد ان انتحرت هربا من مصيرها الذي يرويه الفيلم بالتفصيل، فأودعها والدها "دار الطفولة" لكي تصبح في رعاية هند الحسيني، تلك الشخصية الفلسطينية "الأسطورية" التي تحدت كل الظروف غير الانسانية، ونجحت في الحفاظ على مدرسة تعليم الأطفال، وكانت ترى أن التعليم هو طوق النجاة الأساسي أمام الشعب الفلسطيني.
فيلم "ميرال" شاركت في إنتاجه شركات من فرنسا وايطاليا والهند وإسرائيل. وصنع أساسا لكي يخاطب الجمهور الأمريكي العريض. وقد بدأت عروضه العامة في السوق الأمريكية في شهر ديسمبر 2010. والمشاركة الاسرائيلية فيه مجرد تقديم خدمات للتصوير، وهو ما يحدث أيضا لافلام المخرجين الفلسطينيين الذين يصورون في اسرائيل مثل ايليا سليمان، ولا يجب التوقف امامه باعتباره نوعا من "المشاركة" الإسرائيلية في الإنتاج.
يبدأ الفيلم بلقطات تسجيلية (سيتكرر كثيرا استخدام لقطات من الأرشيف خلال الفيلم) لإعلان بن جوريون قيام دولة إسرائيل ووصول أعداد كبيرة من المهاجرين اليهود إلى فلسطين، ثم مظاهر الاحتفالي الشوارع بما يطلق عليه الإسرائيليون "يوم الاستقلال" في 15 مايو 1949 ثم قيام الحرب العربية- الإسرائيلية الأولى التي تنتهي بـ"النكبة" الكبرى.
ونرى لقطات لعشرات الأطفال يتحدثون عن فقدانهم لذويهم، وقد أصبحوا بلا مأوى في عرض الطريق، وهند الحسيني وهي تصطحبهم معها.
ونقفز الى حرب 1976 ودخول القوات الإسرائيلية إلى القدس. لكننا نعود في الزمن الى الوراء لكي نتوقف أمام قصة "نادية" (ياسمين المصري) التي تهرب من حياة الفقر والفاقة مع أسرتها المتعددة الأطفال، ووالدها الفظ الذي يسيء معاملتها، لتعمل راقصة في ملهى ليلي، ثم لا تستطيع أن تتحمل اهانة امرأة لها داخل حافلة، فتضربها بعنف ويقبض عليها وتحكم بقضاء ستة أشهر في السجن. وهناك تلتقي نادية بفاطمة، وهي ممرضة فلسطينية صدرت ضدها ثلاثة أحكام بالسجن المؤبد بعد أن قامت بزرع قنبلة داخل دار سينما.
تدور حوارات طويلة بين المرأتين داخل السجن، حول معنى القتل، وكيف يصبح من الممكن قتل أناس لا تعرفهم، قد يكونوا من الأبرياء، وحول مغزى الاحتلال، وقسوة العيش تحت سطوته. ويصور شنابل عملية زرع القنبلة داخل دار السينما في "فلاش باك" حيث نرى السينما تعرض فيلم "نفور" Repulsion لرومان بولانسكي في تحية واضحة لهذا المخرج (اليهودي، البولندي الأصل) الذي كان وقت إعداد الفيلم موضوعا تحت الإقامة الجبرية في سويسرا.
بعد خروج نادية من السجن يزوجونها من رجل لا تحبه، تنجب منه طفلتها "ميرال" لكنها تختفي ذات يوم، ونعلم أنها انتحرت. وهذا هو الجزء الأكثر غموضا في الفيلم، وفي عام 1985 يقوم هاني زوج نادية بتسليم ميرال الى مدرسة الدير أي الى هند الحسيني.


مشهد الجرافات


وفي 1987 تندلع الانتفاضة الأولى وتذهب ميرال الى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في الضفة الغربية لتعليم الاطفال. ويركز الفيلم هنا كثيرا على فلسفة هند الحسني في ضرورة التعليم للفلسطينيين، مع ضرورة أن يعرفوا دائما من أين جاءوا والى أي وطن ينتمون، في إشارة إلى توازن نظرتها، وعدم ابتعادها عن القيم الوطنية الفلسطينية.
ولكن سرعان مما تشهد ميرال كيف تلقى زميلة لها مصرعها برصاص القوات الإسرائيلية أثناء قمع الانتفاضة، كما تشهد هدم منازل قريتها بواسطة الجرافات الاسرائيلية، وتشريد العشرات من السكان. في مشهد من أعظم مشاهد الفيلم ولعله أيضا أكثر المشاهد من نوعها، "تعبيرية" في السينما، وهو مشهد يستغرق عرضه على الشاشة زمنا يوازي الزمن الحقيقي في الواقع، ويتم تقطيع لقطاته من زوايا مختلفة، مع تصاعد الموسيقى الحزينة المؤثرة التي تستخدم فيها آلات التشيللو والكمان، وتتناوب لقطات لعشرات الأشخاص من الأطفال والكبار وهم يتطلعون بأسى إلى ما يحدث أمامهم من هدم وتدمير، حتى يصل المشهد إلى ذروته في التأثير على المشاهدين، وبما يتجاوز عشرات المرات ما نراه يوميا في نشرات الأخبار والتقارير التليفزيونية. إن هذا المشهد وحده، يتجاوز أيضا فكرة الواقعية أو التصوير الواقعي لحدث تراجيدي، ليصل إلى فكرة "القهر" بالمعنى الشامل، أو وقوف الإنسان بكل انسانيته وعذابه ورغبته في مجرد العيش الكريم، عاجزا أمام جبروت الآلة، آلة الدمار التي ابتكرها الإنسان أيضا للقضاء على الأمل، وزرع الشقاء والحقد والرغبة في الانتقام. إننا نشاهد تلك الآلة العملاقة الجهنمية التي تقضي على رمز الحياة، أي البيت، كما لو كنا نشاهد وحشا من وحوش ما قبل التاريخ، وقد عاد لتهديد حياة البشر. إنه شيء فاقد أصلا لكل قيم الإنسانية. وهذا هو المغزى الذي يبقى في الأذهان طيلة الوقت، ولكن دون ان ينفصل في العقل البشري ابدا، عن صلته الوثيقة الثابتة بالبربرية الإسرائيلية العسكرية الغاشمة.

الطابع التسجيلي يسود النصف الأول من الفيلم (الذي يستغرق زمن عرضه 111 دقيقة). فنحن نشهد الكثير من الأحداث، خاصة الانتفاضة، مجسدة كما لو كانت مسجلة وقت وقوعها، في حين أن كل شيء في الفيلم مصنوع، أو أعيد تجسيده، بدقة مدهشة، وباستخدام كل امكانيات السينما الحديثة (تكلف انتاج الفيلم حسب تصريحات المخرج شنابل 15 مليون دولار).

نهاية القصة
في ظل هذا الدمار كله تسعى هند الحسيني بكل ما تملك من قوة، للحفاظ على المدرسة، وعلى الأطفال. ولكن بعد مقتل هديل صديقة ميرال، تتحول ميرال الى ناشطة، ترتبط بعلاقة مع شاب من النشطاء وتشارك في عملية تفجير داخل مستوطنة إسرائيلية عام 1990 ويتم اعتقالها (مع مائة آخرين) والتحقيق معها وتعذيبها لكي تعترف على زملائها، إلا أنها تصمد وتتمكن من الخروج بعد أن تتعهد بعدم المشاركة في العمليات ضد اسرائيل.
وفي النهاية تقنعها هند بمغادرة البلاد الى ايطاليا بعد ان تكون قد دبرت لها سبل مواصلة تعليمها هناك.
ولعل من أكثر نقاط الفيلم ضعفا وتهافتا واخلالا بالإيقاع، الفصل الأخير الذي يروي قصة "ليزا وسمير". وليزا هي فتاة اسرائيلية يهودية، وسمير هو ابن عم ميرال. والاثنان يرتبطان معا بعلاقة عاطفية. لكن ليزا ابنة لضابط في الجيش الاسرائيلي. وتعترض والدة سمير على تلك العلاقة وترفضها، وتسعى بشتى الطرق لجعل ليزا تترك ابنها. أما والد ليزا فهو أيضا يتحفظ على تلك العلاقة لكنه يبدو أكثر تفهما، ويصر الاثنان على مواصلة تلك العلاقة، وتتجاوب ميرال معهما، في إشارة رمزية مباشرة تؤكد الفكرة الثابتة لدى أصحاب الأفكار الليبرالية في الغرب، أي فكرة ضرورة التعايش بين العرب واليهود، وأنه لا يوجد حل آخر، وأنه قد آن الأوان لوقف مسلسل القتل والقتل المضاد، وهو ما عبر عنه المخرج شنابل في المؤتمرالصحفي الذي عقد في مهرجان فينيسيا، عندما أصر على أنه كيهودي، كانت أمه مسؤولة عن ادارة فرع الهستدروت في أمريكا من أجل دعم إسرائيل، وجد أن من الضروري تقديم وجهة النظر الأخرى، من أجل تقريب المسافات بين الطرفين، وإن فيلمه يمكن أن يكون مادة جيدة أمام الرئيس الأمريكي وهو يفتح ملف الشرق الأوسط من جديد!

مشاكل السرد والإخراج
ناقشنا في الجزء الأول من هذا المقال، الجوانب والإشكاليات الفكرية في فيلم "ميرال" لجوليان شنابل، وتطرقنا لما يتضمنه الفيلم من قضايا وجوانب تتعلق بالصراع العربي الفلسطيني.
هذه الرغبة الملحة في اطلاع الجمهور الأمريكي على القضية بتفاصيلها ولو من خلال فيلم واحد محدود المساحة والزمن، هو الذي يؤدي في واقع الأمر، الى وقوع الفيلم في الكثير من المشاكل الفنية.
من هذا المشاكل أولا: السقوط في الطابع التعليمي المباشر، من خلال الشروح، والتوقف، والسرد الذي يستخدم الوثيقة المصورة، لكي يذكر ويربط، ويجعل التعقيدات التي شهدتها المنطقة خلال أكثر من نصف قرن، شديدة التبسيط بل والتنميط أيضا كما نرى في الجزء الخاص بتردد ميرال بين الانتماء النهائي لحركة المقاومة المسلحة، أو الخضوع لقيادات منظمة التحرير التي كانت قد بدأت الترويج لخطة أوسلو. هنا يوجد الكثير جدا من الحشو والمشاهد الزائدة، والحوارات العقيمة التي لا تضيف بل تقطع مسار الأحداث. وإن كانت تحاول أن تقدم "تلخيصا" للتناقضات بين الأجنحة الفلسطينية المتصارعة.


ثانيا: ربما يكون ما يميز الجزء الأول من الفيلم ذلك التصوير البديع باستخدام الكاميرا المحمولة الحرة بطريقة فنية، في لقطات طويلة، من اليسار الى اليمين، ثم إلى أعلى، ثم تهبط الى أسفل مجددا، بحيث تصبح اللقطة مشهدا كاملا، تحيط بالمكان وبتفاصيله الموحية الخاصة التي روعيت فيها أكثر درجات الدقة، مع البشر، بملامحهم وملابسهم وسلوكياتهم المميزة: في الفيلم نسمع الآذان، ونرى المصلين، والمضربين، وأصحاب الحوانيت الصغيرة، ومرتادي المقاهي، وتلاميذ المدارس ودورهم في الانتفاضة، والقوات الإسرائيلية تغلق الطرق وتضع المتاريس والحواجز، وتقوم بأعمال الدورية والتفتيش، ومظاهر الموت والدفن والصلاة على الميت.. الخ
إلا أن هذا التشكيل البديع سينمائيا سرعان ما يختل بسبب ذلك الخلل في طريقة القص، الحكي، أسلوب السرد، البناء (وكلها تعبيرات مختلفة عن جانب واحد هو الـ narrativity فنحن نبدأ عام 1994 أي من نهاية الأحداث عمليا بعد أوسلو، لكي نعود الى 1948 وتأسيس اسرائيل، ثم الحرب، ثم 1967 ثم الانتفاضة وهكذا. ولكن السرد يتوقف لكي يقدم وجهات نظر متباينة، أولا الفيلم يبدأ من وجهة نظر هند الحسيني، وتمر 40 دقيقة قبل ظهور ميرال، التي يفترض أنها الشخصية المحورية في الفيلم، لكننا نذهب قبل ذلك لنتعرف على والدتها "نادية" ثم الى زميلتها في السجن "فاطمة"، وكل له قصته، وله وجهة نظره في الأحداث، مما يخلق فوضى غير منظمة، واضطرابا فكريا في مسار الفيلم وليس فقط فيما يتعلق بسلاسة البناء، فمن الممكن أن يتمحور الفيلم بين الماضي والحاضر، ولكن مع التركيز دائما، على موضوعه الأساسي.
العنصر الثالث يتلخص في أن الفيلم، نتيجة لهذا التشتت في الرؤية والرغبة في رواية كل شيء، يفتقد وحدة الأسلوب، فهو تارة يشبه فيلما بوليسيا من أفلام الاثارة السياسية، وتارة أخرى يبدو كعمل وثائقي أو توثيقي من خلال الافراط في استخدام الوثائق ومراعاة الدقة التسجيلية في اعادة تصوير الأحداث التاريخية، ومرة ثالثة يتجه نحو الميلودراما أو أسلوب المسلسلات soap opera في لعبه على المصادفات والأنماط التبسيطية والتقابلات المصنوعة لخدمة فكرة "التعايش" مثلا، ومرة رابعة يبدو كعمل "تعليمي" موجه.. وهكذا.
ورغم الجهد الواضح في أداء دور ميرال تبدو الممثلة الهندية فريدا بنتو غريبة على الدور، بل وعن الأماكن التي تدور فيها الأحداث في فلسطين، وغير منسجمة لغويا وشكليا ودراميا مع الممثلين الآخرين ومنهم الكثير من الممثلين العرب وعلى رأسهم هيام عباس التي تبدو الأكثر بروزا وتألقا في الفيلم، في تقمصها لدور هند الحسيني ببراعة جديرة بالتقدير والثناء بحيث يبدو الدور وقد كتب لها خصيصا.
هنا يصبح استخدام اللغة الانجليزية معظم الوقت، مفتعلا خاصة عندما نشاهد رجلا وزوجته يجلسان على السرير في غرفة النوم، يتبادلان الحديث بالانجليزية بلكنة فلسطينية، أو عندما تخاطب ميرال صديقها الناشط الفلسطيني بالانجليزية، ويخاطب الضابط الاسرائيلي ابنته بالانجليزية بلكنة اسرائيلية قوية.. وهكذا، وهو ما يساهم في "تغريب" الفيلم وان كان دفاع المخرج شنابل عن هذا الاختيار يتركز على رغبته في وصول الفيلم الى الجمهور الأمريكي بسهولة كما أوضحنا!
وأخيرا لا أجد مكانا هنا للظهور الرمزي للممثل الأمريكي وليم دافو، ولا للممثلة الانجليزية العظيمة فانيسا ريدجريف، من زمن الانتداب البريطاني، ووجود قوات الأمم المتحدة بعد حرب 1948، وهو استخدام لاثنين من كبار الممثلين يبديان، كما هو معروف، تعاطفا مع قضية الشعب الفلسطيني، وبهما، يظن شنابل أنه سيضمن نوعا من الشعبية لفيلمه.
وقد يكون أخطر ما في رسالة الفيلم أنه يدين على نحو ما، فكرة النضال المسلح، دون أن يطرح بديلا حقيقيا يصلح تبنيه من جانب المجموع، بل يكتفي بتقديم حل فردي "طوباوي" يتمثل في ضرورة البحث عن التعليم، والتمسك بفكرة التعليم كوسية لمقاومة الاحتلال أو الوقوع في التطرف، وهي رؤية ساذجة تبدو كما لو كانت تطالب الشعب الفلسطيني بمغادرة أراضيه بحثا عن التعليم وفرص العمل في أوروبا!
ولكن رغم كل الملاحظات السلبية على الفيلم، إلا أنه يساهم بشكل ما، في إضاءة بقعة من الضوء أمام الجمهور في الغرب، على ذلك الملف الملتبس، ويصور بشكل قوي وغير مسبوق، معنى العيش الفلسطيني تحت الاحتلال، وما يمكن أن يولده ذلك اليأس والإحباط، وتلاشي كل فرص تحقيق السلام يوما بعد يوم، من لجوء إلى كل أشكال التطرف والعنف. وهو تحذير سينمائي غير مسبوق في السينما الروائية الغربية الموجهة للجمهور العام.

الجمعة، 11 مارس 2011

المصري متهم حتى تثبت براءته

المستشار طارق البشري


بقلم: خالد البري

 
من كام يوم حكيت لبنتي اللي عمرها ٦ سنوات حكاية وقلت لها تصبحي على خير وبعدين رحت أغسل سناني قبل ما أنام… وأنا في الحمام سمعت صوتها من غرفتها بتغني مع نفسها "دولا مين ودولا مين، دول عساكر مصريين". والله لقيت دمعة نزلت من عيني من غير ما أحس.. بنتي دي مولودة في لندن، وأمها لبنانية، وأنا معلمتهاش الأغنية دي أبدا. بعدها بأقل من ٤٨ ساعة قريت التعديلات الدستورية اللي لجنة الأستاذ طارق البشري اقترحتها، ولقيت فيها هذا البند بخصوص الترشح لرئاسة الجمهورية:
"ألا يكون هو أو أحد والديه حاصلا على جنسية أجنبية , وألا يكون متزوجا من أجنبية , وألا يقل سنه عن 40 عاما" وهو تعديل للبند السابق الذي يقول ببساطة إن رئيس الجمهورية يجب أن يكون مصريا ومن أبوين مصريين.
يعني أنا وابنتي لا يحق لنا الترشح لرئاسة مصر، بغض النظر عن أننا لا ننوي الترشح، وبغض النظر عن أن أيا منا لم يصل إلى السن القانونية للترشح. نحن ممنوعان من الترشح، وأبناء ابنتي في المستقبل ممنوعون من الترشح. أي أنني أعاقب ابنتي ونسلها لأنني عشت خارج مصر وحصلت بطريقة إدارية روتينية على الجنسية البريطانية. أحسست أن الموضوع شخصي كما هو عام. كأنني تلقيت برقية تقول: "لجنة الأستاذ طارق البشري تقدح في وطنية خالد البري وابنته جود ذات الأعوام الستة وأبناءها." ففكرت أن أرد على طارق البشري برسالة أنا ايضا.

عزيزي الستشار السالف الذكر
أنا أعلم أنك لا تنتمي إلى الجيل الذي أنتمي إليه بل إلى جيل سابق له طريقة تفكيره، وله معاركه، وله أعداؤه وأصدقاؤه… تشكل هذا كله من خلال التاريخ الذي عشته والدعاية والإعلام الذي استمعت إليه والكتب التي قرأتها. للأسف، جيلك لم يحقق لمصر ما تستحق، وجعل الحياة في مصر بطريقة كريمة حكرا لأبناء أصحاب السلطة والنفوذ من السياسيين وأرباب المال، ثم، ايضا، لابناء طبقة من رجال القضاء المحترمين الذين تمتعوا بحصانة حمتهم من قلة أدب ضابط شرطة أو من استبعاد أمن الدولة لهم من الوظائف، ولأبناء طبقة العسكريين بما لهم من اتصالات ونفوذ… باختصار حتى لا أطيل عليك. أبناء هؤلاء لم يكونوا مضطرين للرحيل خارج الوطن، بالعكس، بعض منهم استفاد من الميزات التي تعطى لرجال القضاء في تعيين أبنائهم في سلك النيابة تفضيلا على أبناء "الغير لائقين اجتماعيا"، ميزات يقول الخبثاء أنها كانت ثمنا لسكوت آبائهم. وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
أما أنا وكثيرون غيري من أبناء المتعلمين وأبناء الكادحين وأبناء الطبقة الوسطى والفقيرة فلم نتمتع بأي من هذا، بل اضطر كثير منا إلى البحث عن حياة كريمة بعيدا عن الوطن، كانت تلك الوسيلة الوحيدة لكي يؤمنوا لأنفسهم مردودا ماديا وأدبيا يليق بمواهبهم على اختلافها. لم نكن جواسيس ولا مجرمين، وكثير منا كانوا ضحايا غربة مفروضة عليهم. لم يكن لديهم خيار. أنا وكثير من أصدقائي دخلنا السجن في عهد مبارك دون محاكمة، وأنت ورجال القضاء لم تدافعوا عنا بما يليق بكم كرجال قضاء، لم تعتصموا يوما من أجلنا ومن أجل احترام القضاء من باب أضعف الإيمان.
الآن اجتمعت أنت وبعض من المستشارين باختيار من مجلس عسكري وقررتم أنكم وأبناءكم أكثر وطنية منا ومن أبنائنا، أو على الاقل أكثر استحقاقا للثقة منا ومن أبنائنا. هذا سوء تقدير (على أقل تقدير) لكنه أيضا يشي بسوء تفكير… لماذا؟
أولا: لأنك وانت رجل القانون نزعت حقا من حقوقنا بلا جرم ارتكبناه. فالحصول على جنسية أجنبية ليس جرما في القانون المصري، والزواج من أجنبية ليس جرما في القانون المصري. والأكثر من ذلك، عاقبت أبناءنا على ما لا خيار لهم فيه… أنت تشي للناس بأن ثمة شيئا جوهريا (حتميا) في الإنسان الذي يحصل على جنسية أجنبية يجعله وأبناءه غير مستحقين للثقة، ولا بد من مرور ثلاثة أجيال لكي ينظف هذا الشيء الجوهري ونتخلص من آثاره. هذه شوفينية تنتمي إلى جيلك ولا تنتمي إلى جيلنا. نحن نتعامل مع الناس على سلوكهم. لا يهمنا من هم ولا أبناء من هم. االذي يسرق مصر أو يخطئ في حقها هو من نعاقبه، سواء كان أبواه مصريين أو مصريين "بشرطة".
ثانيا: لانك ـ والمفترض أنه حتى لو كنت من جيل سابق ـ مطلع على مسار التفكير في العالم. كثيرون منا اعتبروا أن اختيار أوباما لرئاسة الولايات المتحدة حدث تاريخي. الأمريكيون اختاروا رئيسا أسود ليحكمهم بعد أن كانوا - في جيلك - لا يسمحون لمن هم مثله بالجلوس في المقاعد الأمامية في حافلات النقل. هذا تغير للأفضل. وأنت تعلم أن أوباما ليس فقط رئيسا أسود، بل هو ابن رجل كيني. لكن هذا لم يقلل في عيون أقوى قوة في العالم من وطنيته.. هذا الرجل يا بك يا مستشار يملك المفتاح النووي، آه والله، المفتاح النووي. أضف إلى ذلك أن ساركوزي (وانت تعرف أن الدولة القومية نشأت في أوروبا وفرنسا بشكل خاص) من أبوين مهاجرين من المجر. نيك كليغ الذي كان مرشحا لرئاسة الوزراء في بريطانيا وهو حاليا نائب رئيس الوزراء متزوج من إسبانية تتحدث إنجليزية مكسرة.
ثالثا: لأنك تنشر عقلية شوفينية فاشية جربناها فولدت لنا فاشيات مختلفة الأشكال والأحجام، منها القومية التي تعادي الأجنبي خيرا وشرا (وتمالئه في الوقت نفسه إذا ضمنت مصالحها الشخصية لا مصالح الوطن) ومنها الإسلاموية المتعصبة التي تبيح دمه. اليس غريبا أن يكون مقبولا قبل أربعة عشر قرنا من الزمان أن يتزوج رأس الدولة الإسلامية من ماريا القبطية ولا يكون مقبولا لرأس الدولة المصرية أن يتزوج ماريا الفرنسية؟ وعلى ذكر الفرنسية، هل تعتقد أنك أكثر وطنية من طه حسين الذي أدخل التعليم المجاني إلى مصر، لقد كان متزوجا من فرنسية. أنصحك أن تقرأ كتابه مستقبل الثقافة في مصر بقلب وعقل مفتوح، لا تأخذك العزة بالإثم لأن كتبك، على خلاف كتبه، لم تساهم في جعل مصر بلدا أفضل. في مجتمع ما قبل جيلك كانت مصر منفتحة على الآخرين فتفوقت في السينما والأدب والفكر والاقتصاد بالنسبة إلى جاراتها. لأنها كانت - كما طه حسين - تنظر إلى الأمام بثقة، وتحلم، ولا ترتعد أو تبتز بدعاوى الفاشيين الذين يعتقدون أنهم أفضل من غيرهم وأنهم يملكون الحقيقة.
يوم أن طلب منك تعديل الدستور أسديت إليك أمانة نقل مصر إلى عهد تال. لكنك اخترت أن تعود بها إلى الوراء. اخترت أن تلعب على وتر التعصب والتشكيك ضد فئة من ابناء وطنك، لولا بعض منهم ولولا دماء بعض منهم لما كنت في مكانك الذي أنت فيه ولا كان الدستور مادة للنقاش. لقد اعتقدنا أنك ستفتح الباب أمام كل المصريين، لكنك اخترت، على عادة جيلك، أن تفصل البنود القانونية لكي تغلق الأبواب أكثر، لكي تستبعد مرشحين بأعينهم، يتردد أن أحدهم هو أحمد زويل، العالم المصري الكبير الذي عبر دائما عن رغبته في أن يكون في خدمة مصر وشعبها. أنا أؤمن أن مصر ستمضي في طريقها على اية حال، لكنني أعتقد أيضا أن أناسا كأحمد زويل ربما يلعبون دورا في وضعها على الطريق السليم.
أضعف الإيمان أن تبقى هذه المادة على ما هي عليه، على الظلم الذي فيها، لأن ابنتي، ابنة اللبنانية، ستظل مقدوحا في وطنيتها. لكن الأفضل أن تصير ـ ببساطة ـ "يجب أن يكون الرئيس مصريا، لا يمنع من الترشح من المصريين إلا من أدين بما يقدح في ذمته الوطنية. " ثم نترك الخيار للشعب. هكذا يجب أن تكون روح الدستور الجديد: الانفتاح لا الانغلاق، التيسير لا التعسير، الأمام لا الخلف.

* خالد البري كاتب واعلامي مصري مقيم في لندن ومؤلف رواية "رقصة شرقية"
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger