الأربعاء، 3 نوفمبر 2010

"التجلي الأخير لغيلان الدمشقي" لهيثم حقي


بقلم: أمير العمري

شاهدت أخيرا  الفيلم الروائي الطويل الأول للمخرج السوري الكبيرهيثم حقي، وهو من أعلام الإخراج والإنتاج التليفزيوني في سورية، وقد أخرج عشرات المسلسلات والأفلام التليفزيونية خلال أكثر من ثلاثين سنة، إلا أن دراسته الأساسية وعشقه الأول للسينما، وليس لمسلسلات التليفزيون، ولكن الوضع السينمائي في سورية وظروفه المعروفة فرضت عليه الابتعاد، لسنوات طويلة، عن إخراج أفلام سينمائية.
غير أنني بعد أن شاهدت فيلمه السينمائي "التجلي الأخير لغيلان الدمشقي"، الذي أنتجه وكتب له السيناريو وأخرجه، أدركت أن هيثم يتمتع بحس سينمائي رفيع، يتبدى في اهتمامه بالعناصر التشكيلية في تكوين اللقطات، وإحكام الإيقاع داخل المشاهد المختلفة لفيلمه، والانتقالات المحكمة في الزمن، بين الماضي والحاضر، وتحريك الكاميرا برقة ورصانة ودون إفراط، والاقتصاد في الحوار، والتعامل الواثق مع الممثلين بحيث يستخرج منهم أفضل ما عندهم، والأكثر تعبيرا عما يريد تجسيده. كما أنه يهتم كثيرا بشريط الصوت، وأساسا، بالموسيقى التي تضفي جوا خاصا سحريا على الفيلم، خاصة وأن الفيلم يدور في المساحة الواقعة بين الوعي واللاوعي، أو أن هذا على الأقل، هو استقبالي الشخصي له، ولا أدري ما إذا كان هذا صحيحا تماما، لكني لا أميل إلى التعامل مع هذا الفيلم ومحاسبته على أساس واقعيته، أو قربه من الواقع "الفوتوغراف"، فهناك مثلا الكثير من السمات الكاريكاتورية التي يضفيها على الشخصية الرئيسية، طبقا لرؤيته لتلك الشخصية وليس حسب علاقتها بالواقع.
مفهوم الواقعية لا يحتاج مني إلى مزيد من الشرح، فليس المهم أن يتطابق الفيلم مع الواقع، بل الأهم أن يكون مستمدا من الواقع، بمادته الخام، يتفاعل معه، ويقدم "رؤية" خاصة هي رؤية المخرج له، وهو ما يحاول هيثم حقي تقديمه هنا.
إنه فنان سينمائي يعبر من خلال الشخصيات التي يجسدها، ومن خلال الصور وتعاقبها وطريقة توليفها معا، عن "إحساس ما" يلف الفيلم، دون أن تكون هناك تلك "الرسالة" المباشرة التي تلخص لنا ما يريد أن يقوله.
الشخصية الرئيسية في الفيلم هي شخصية "سامي" (يقوم بدوره فارس الحلو) الذي يبدو وقد تجاوز الخمسين من عمره، لكنه يقول إنه لا يزال في الخامسة والثلاثين، فلا نعرف ما إذا كان صادقا أم كاذبا: وفي الحالتين، تعيش شخصية سامي مأزقا وجوديا دون شك.. وهو مأزق يتعلق بالعجز عن التحقق الذاتي، وعن التفاعل مع الواقع. إنه موظف في إحدى الإدارات الصحية، لكنه على ما يبدو، لا يقيم أي علاقة مع مكان عمله أو مع الشخصيات التي تتردد عليه، بل يكتفي بمراقبة الجميع والتحليق في عالم الخيال طوال الوقت. وهو يقوم بتحضير رسالة دكتوراه عن المعتزلة، موضوعها هو غيلان الدمشقي، القائم على بيت المال في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، وقصة خلافه الشهيرة مع هشام بن عبد الملك، وكيف رفض الامتثال لسلطة يراها خارجة عن جوهر الدين، أي العدل، وكيف يتصدى لها ويدفع حياته ثمنا لدفاعه عن العدل والحرية وتصديه لجبروت الخليفة الذي يحكم باسم الدين في حين يعيث هو ورجاله، في الأرض فساده، يستولي على المال العام لنفسه، وينشر الخوف والارهاب في الديار، وينتقم بقسوة من كل من يعارضه. وتكون نتيجة الصراع إقامة حد الحرابة على غيلان الدمشقي: تقطيع أطرافه ثم لسانه، ثم صلبه حتى الموت، دون أن يتخلى عن مبادئه وإخلاصه لمبادئه.
هذه القصة الرمزية بالطبع، نراها مجزأة عبر لحظات مفصلية معينة خلال السياق الذي ينتقل بين الحاضر في مدينة دمشق المعاصرة، والماضي من عهد الخليفة الآموي. إننا نرى في الحاضر بطلنا سامي، نموذجا للإنسان الفارغ، الخاوي، الجبان، الذي لا يملك حرية اتخاذ أي قرار، والشيء الوحيد الذي يمارسه في حياته هو الأكل بنهم، ربما تعويضا عن رغباته الجنسية العارمة المكبوتة التي لا يستطيع أن يحققها بسبب عجزه عن إقامة أية علاقة حقيقية مع المرأة، يهرب دائما إلى الخيال.
إنه من جهة، واقع في غرام جارته الشابة الحسناء "سناء" التي ترمز للبراءة والحلم بالمستقبل، لكن سناء ترتبط بعلاقة حب مع شاب مثلها من الباحثين عن الأمل ولو من خلال أغنيات تعبر عن التمرد والرغبة في الانعتاق والتحرر، ومن ناحية أخرى لا يفتأ سامي يتلصص على الجارة الأخرى العاهرة، يراقب كيف يستغلها قواد ومقامر (ربما يكون زوجها) ينكل بها ويقسو عليها لكي تعطيه كل ما تكسبه من مال، في حين تبدو هي مضطرة للانفاق على ولديها وتستسلم بالتالي لمصيرها.. غير أن سالم لا يحرك ساكنا وهو يراها يوما بعد يوم، عرضة للضرب والتنكيل والإيذاء، ويكتفي بالتلصص من مكمنه في المنزل المجاور، يشتهيها لكنه عاجز حتى عن مخاطبتها.
إنه يشعر بالقهر بسبب عجزه المزدوج، وكما أنه عاجز عن البوح بحبه لجارته الشابة، وعن تفريغ المكبوت الجنسي. وقد يكون "سامي" في هذا السياق نموذجا للإنسان المتوسط، الذي تكون في واقع محدد، يقمع الإنسان ويلغي شخصيته، ويصادر حتى قدرته على الاختيار، ويترك له فقط حرية اختيار الطعام والشراب. لقد أصبح مسخا مجردا، يتحرك في دوائر طوال الوقت، كلامه قليل، لأنه لا يستطيع التعبير عن نفسه، وحركنه تدور داخل دوائر مغلقة محدودة، كامن معظم الوقت في مكانه يكتفي بالتلصص، فالعجز هو السمة المميزة له.
هذه الحالة من الاحباط والعجز والضياع تجعله لا يستطيع الدخول في أي مناقشة: هو مثلا يستمع إلى جدال في المقهى بين مجموعة من الشباب حول ما يحدث في العراق بعد سقوط نظام صدام حسين ودخول القوات الأمريكية، لكنه لا يتدخل في المناقشة لأنه فاقد للرأي، يهرب من الواقع إلى الخيال، يتخيل نفسه في دور غريب تماما عليه هو دور غيلان الدمشقي بشجاعته وقوة شخصيته وبطولته الأسطورية.
وفي الفيلم دون شك، الكثير من الإشارات الرمزية حول السلطة التي تأتي (بالوراثة).. عندما نرى كيف يتم توريث عمر بن عبد العزيز، ويبايعه الدمشقي على أساس رد أموال المسلمين إلي المسلمين، وإصلاح حال العباد، أي أن المبايعة تكون هنا مشروطة. ولكن عندما يأتي خليفة فاسد، يكون هناك موقف آخر، هو موقف الرفض والمقاومة.
إلا أن المشكلة التي واجهتني وأنا أشاهد هذا الفيلم، تتمثل في أنني أحسست بغياب المنطق الدرامي في الربط بين شخصية سامي بتكوينها "الحشري" (نسبة الى الحشرات)، إذا جاز التعبير، وبين ما يمكن أن تتمثله أو تدرسه أو تحلم به بديلا، أي شخصية قوية مثل شخصية غيلان الدمشقي، خاصة وأن شخصية سامي لا تواجه سلطة غاشمة مباشرة أو قضية تتعلق بالعدالة مثلا لكي ترتد إلى الحلم بشخصية غيلان وتمثلها، بل الأمر لا يخرج عن مجموعة متراكمة من الإحباطات العاطفية التي تجعل شخصية سامي تفقد حتى القدرة على الانفعال عند وفاة أقرب الناس إليه، أي أمه. إنها ولاشك، مشكلة قد تعود إلى بناء السيناريو نفسه وبناء الشخصية الرئيسية بملامحها المحددة. إن الانتقال في الخيال إلى صور وانماط مغايرة للحقيقة، كان نشاهد عندما يرى سامي نفسه مثلا، خليفة للمسلمين يسهر ويأكل ويشرب، ويغازل إحدى جارياته التي يرى فيها صورة جارته الشابة "سناء"، لكن أن يرتد طوال الفيلم، إلى الجانب الإيجاني الرافض في شخصية غيلان، فإن هذا يبدو بتكوينه الفكري المعقد، بعيدا عن تكوين شخصية سامي البسيطة الأقرب إلى البلاهة، والبعيدة بكل تأكيد عن الذكاء أو الفطنة والمعرفة. والدليل أنه لا يستطيع أن يكتب صفحة واحدة في رسالة الدكتوراه التي يعدها، بل يسرح بخياله بعيدا أثناء المحاضرة الوحيدة التي أتيح له حضورها للاستماع إلى أستاذ متخصص في تاريخ المعتزلة.
لكن لا بأس فربما يكون هذا أقصى ما يمكن تحقيقه في ظل الأوضاع الرقابية القائمة التي حالت رغم ذلك، بين الفيلم والجمهور وحظرت عرضه في سورية بعد أن وصلت الرسالة.
التحكم في الأداء التمثيلي واضح في الفيلم. ولاشك أن هيثم كان موفقا في اختيار فارس الحلو في الدور الرئيسي، وهو ما يذكرنا في الكثير من المشاهد بأداء الممثل البريطاني الراحل أوليفر ريد، بتعبيرات وجهه الموحية، وقوة صوته، وبروز شخصيته في دور غيلان الدمشقي، وضعفه وتهافته الذي يدعو حينا إلى الشفقة، وحينا آخر إلى القرف.
وقد أحببت أيضا تعبيرات وجه كنده علوش في دور سناء، وهي التي بدت كفراشة محلقة في سماء الفيلم، تمنحه عبقا خاصا وبراءة وجمالا، بضعفها الظاهري في دور سناء.. الجارة الحسناء التي تبدو قريبة، لكنها بعيدة جدا في الوقت نفسه. ولكن يتعين على كندة أن تبتعد عن تلك الصورة النمطية وتقتحم مناطق جديدة في الأداء التمثيلي، لأن هناك الكثير مما يغري بتكرار ظهورها (أو بالأحرى إظهارها) في مثل هذه الشخصيات الناعمة الأحادية.
وربما يكون المشهد الذي يدور داخل الملهى الليلي قد أخل بالإيقاع العام للفيلم، وبدا نمطيا وبعيدا عن الأسلوب العام للفيلم أيضا.
في هذا المشهد نرى مجموعة من الراقصات، وكيف يتم استغلال السياح العرب (من الخليج تحديدا) الذين يتصرفون كالعادة، بنزق، يغمرون الراقصات بالأوراق النقدية، مع أغنية استعراضية مبتذلة، تتغزل من خلالها الفتيات في كرم ومروءة العرب من جميع البلدان، لكي ينهض أحدهم ويغمر الراقصة الأولى في الفرقة بالأوراق المالية التي تتناثر على الأرض. هذا المشهد كان ينبغي التخلص منه بالكامل في مرحلة المونتاج لأنه لا يضيف جديدا إلى الفيلم، بل ويخرجه عن طابعه الرمزي البسيط.
لكن هذا لا يقلل مما بذل من جهد كبير في الفيلم، سواء من جانب المخرج، أم طاقم الممثلين جميعا، والتجربة تستحق، دون شك، أن تتكرر، ونحن في انتظار الفيلم القادم لهيثم حقي.. لعله لا يتأخر كثيرا هذه المرة!

الثلاثاء، 2 نوفمبر 2010

مهرجانات وجوائز وموالد!

من الظواهر الملفتة للنظر في مهرجانات السينما الدولية التي تقام في العالم العربي، تعدد الجوائز وتكاثرها على نحو محير ومربك في الكثير من الأحيان ودون أي ضرورة أو اعتبار فني، وهو أمر لاشك أنه يلقي بالكثير من الشكوك على نوايا تلك المهرجانات، ويقلل كثيرا من مصداقيتها بل ويجعل من جوائزها مادة للقيل والقال، فعادة ما يوصف الكثير من هذه الجوائز المتعددة المتوالدة، بأنها تهدف أصلا إلى مجاملة أكبر عدد ممكن من أصحاب الأفلام دون أن يكون لها بالضرورة أي علاقة بالمستوى الفني للأفلام نفسها.
الأصل في جوائز المهرجانات أن تكون محدودة في عددها، لكي تكتسب قيمة ما، خاصة عندما لا تكون متبوعة بقيمة مالية. الجائزة الرئيسية عادة هي جائزة أحسن فيلم، وهي الجائزة الكبرى التي يتذكرها الجميع، كما نتذكر جميعا مثلا، جائزة السعفة الذهبية أو الدب الذهبي أو الأسد الذهبي في مهرجانات كان وبرلين وفينيسيا. وقد ابتكرت جائزة لجنة التحكيم الخاصة التي تمنح للفيلم التالي في أهميته للفيلم الأفضل في المسابقة. وبعد ذلك هناك جائزتا أحسن ممثل وأحسن ممثلة. وربما جائزة العمل الأول. أما غير ذلك من الجوائز الفرعية مثل الإخراج والسيناريو فأحيانا تمنح وأحيانا أخرى لا تمنح. وشخصيا لا أرى أي منطق في منح جائزة لأحسن إخراج إذا كنا منحنا جائزة لأحسن فيلم، فما معنى أن يكون الاخراج هو الأحسن دون أن يحصل الفيلم على جائزة أحسن فيلم. فالمعروف أن الاخراج يشمل كل العناصر الفنية في الفيلم.
لكننا في حالة مهرجانات العالم العربي نجد أولا تعددا مخيفا في المسابقات (خمس وست مسابقات متشعبة ومحيرة). أنظر مثلا إلى مهرجان أبو ظبي الأخير ستجد أن هناك مسابقة الأفلام الروائية، ومسابقة قسم "آفاق"، ومسابقة الأفلام الوثائقية، ومسابقة الأفلام القصيرة، ومسابقة أفلام من الامارات، وجائزة أحسن فيلم عربي، وجائزة الجمهور المبتدعة.
وأما مهرجان قرطاج فيمنح حزمة هائلة من الجوائز للأفلام الروائية والتسجيلية والقصيرة وأفلام الأطفال أو الأفلام التي تشكل لها لجنة تحكيم من الأطفال (وهي بدعة جديدة)، وأفلام المرأة، ومسابقة الأفلام التونسية، وجائزة الجمهور!
أما جوائز المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة فتتعدد على نحو مخيف وتتشعب وتبتكر لها لجان التحكيم جوائز أخرى ليس منصوصا عليها في لائحة المهرجان، كما حدث مثلا في دورة عام 2008 من مهرجان قرطاج مثل جوائز الأمل، وجوائز التصوير والموسيقى والمونتاج، وجائزتي التمثيل الثانوي، والتانيت الخاص، وجائزة راندة الشهال، وأخرى على اسم المخرج التونسي الراحل الياس الزرلي، وغير ذلك من الجوائز والأهازيج.
ولا يختلف مهرجان دمشق أو القاهرة أو الاسكندرية عن هذين المهرجانين في تشعب وتعدد الجوائز ولجان التحكيم، ومحاولة إرضاء الجميع، ومنح كل المشاركين جوائز تفقد قيمتها، خاصة وأن معظمها ليست له قيمة مالية بل قيمة رمزية فقط. ومعروف أن القيمة الرمزية تكون محفوظة عندما تنحصر الجوائز في عدد محدود من الأفلام، أما عندما ينفرط العقد وتتوالد الجوائز فيفقد الجميع الاهتمام بالأمر، ويضيع أسماء الأفلام الحاصلة على الجوائز.. وينفض المولد، دون أن يبقى في الذاكرة شيء.
وفكرة تعدد الجوائز تأتي من مسابقة الأوسكار الأمريكية التي لا تعد مهرجانا بل مسابقة مقصود منها تقييم الجوانب المختلفة في الصناعة السينمائية الأمريكية، وهي جوائز يمنحها اتحاد السينمائيين لأعضائهم الأكثر بروزا خلال العام. وهذا هو السبب الوحيد في تعددها وشمولها جوانب تقنية مثل مونتاج الصوت، تصميم المناظر، المؤثرات الخاصة.. إلخ
وبسبب تعدد الجوائز للترضية والمجاملات، وتعدد لجان تحكيم معظم أعضائهالا يتمتعون بأي قدرة على تقييم الأفلام أو الحكم عليها مع استبعاد نقاد السينما المتخصين لأنهم (مثقفون) أي يمكن أن يفسدوا العرس والاحتفال الكبير الذي لا يليق سوى بـ"النجوم" من عينة الهام وسلاف وموزيان ولبلبة وأخواتها، تكتسب المهرجانات العربية الدولية سمعة سيئة يوما بعد يوم، وتفقد المصداقية والاحترام، فالمشكلة ليست فقط أنها تسير على تقاليد بالية متخلفة، بل في أنها لا تستمع إلى ما يكتبه النقاد الصادقون الذين يسعون إلى التطوير لا الهدم، وإلى تعديل صورتنا أمام العالم.. وحتى لا نخجل من الذين يسخرون منا سرا وعلانية، ويعتبروننا من "كذابين الزفة"!

السبت، 30 أكتوبر 2010

انقراض القاعات السينمائية بالمغرب: بين صناعة الوهم وسياسة الهروب إلى الأمام



بقلم: مصطفى العلواني * 


 
من الوقائع السوسيوثقافية الصادمة التي استفحلت خلال العقد الأخير بالمغرب واقعة إغلاق القاعات السينمائية، أو بالأحرى انقراضها وموتها الوشيكين، إذا لم تتحرك الدولة والمجتمع لوقفهما. ولئن كانت هذه الظاهرة شبه عامة في الكثير من الدول النامية فإنها تعتبر من قبيل المفارقة الفاضحة في بلد يتباهى بأنه هوليود إفريقيا والعالم العربي، حيث لا يتوانى بمناسبة وبدونها عن الإعلان عن نفسه كقوة سينمائية ناهضة جذلانة بإنتاجها لــ 15 شريطا طويلا وأكثر من 50 شريطا قصيرا سنويا، وهي معطيات تصبح رغم أهميتها غير ذات موضوع، بل وموضع تساؤل ملح عن جدواها والحالة هذه. ما دامت لا تجد لها عمقا جماهيريا وتجليا مؤسساتيا ليس لهما غير تواجد القاعات والعمل على صيانتها والرفع من مستواها بديلا.
وفي هذا المقال ومساهمة في النقاش الدائر، نـود أن نقف على ما أسفرت عنه ندوة القاعات السينمائية بالمغرب، التي انعقدت قبل شهر، بمهرجان سينما المرأة بمدينة سلا، من خلاصات أماطت النقاب، كما سيأتي، عن خلو جعبة المركز السينمائي المغربي من أي مبادرة جدية أو مقاربة عملية موضوعية لوقف هذا النزيف الذي اندحرت بموجبه حظيرة القاعات السينمائية من قرابة 400 قاعة إلى ما يقل عن 50 فهل من مزيد.
وكان السيد مدير المركز السينمائي المغربي، المؤسسة الوصية على القطاع، الذي أفادت مصادر مطلعة، أنه من أفتى بتنظيم الندوة، واختيار المتدخلين فيها، بشكل يتلاءم كما سنبين، ومقاصده منها، قد تحدث خلالها بإسهاب سواء في كلمة التقديم أو خلال مداولاتها بصفته كان مديرا لها لمداولاتها، أيضا كلمة الختم، التي لم يتح بعدها وبشكل تحكمي للحضور الفرصة للنقاش أو التعقيب على ما ساقه من أفكار ومقترحات من باب أخبرها ولا تأخذ برأيها.
وفي هذا السياق، وكأرضية للتأسيس والتيسير لأطروحته حول انقاد القاعات السينمائية، مهد بمداخلة مدير مؤسسة أوروبا سينما، الذي قدم تقريرا عن مشروع رقمنة صالات العرض بفرنسا ودول أوروبية أخرى، وهو مشروع يتولى تجهيز دور العرض بآليات البث الرقمي، بحيث وضح هذا المسؤول ما قطعته مؤسسته من أشواط في اتجاه ذلك، وما هو قيد التحقق معززا ورقته بالكثير من الأرقام وآليات تفعيل المشروع وغير ذلك من الإجراءات.
وتأسيسا على ذلك وبتقنية copier coller، بشرنا السيد نور الدين الصايل، أن خلاص المغرب من آفة انقراض القاعات وموتها المحقق، يتلخص في تقليد هذه التجربة، وبذلك يضرب المغرب حسب زعمه عصفورين بحجر واحد، أي رقمنة القاعات وإنقاذها بنقرة واحدة. وحسم الأمر أنه لا ينبغي الاعتماد في هذا الباب على مساهمة الخواص، جاعلا الكرة في ملعب الدولة كفاعل ومرشح وحيد، لانجاز هذا المشروع. ثم أسند مقترحه بالمراهنة أيضا على تشجيع الاستثمار في بناء المركبات السينمائية، نظير مركبي ميكاراما في كل من الدار البيضاء ومراكش.
ومن التناقضات الأولى التي تسترعي الانتباه في هذا الطرح، هو استبعاد المراهنة على القطاع الخاص بخصوص مشروع الرقمنة، والدفع به في مشروع المركبات وهو ما يـؤثـر على تماسك منطق التحليل ويطبعه بالتدبدب والازدواجية.
وقبل الخوض في مناقشة أطروحة السيد نور الدين الصايل وجب التنويه بتراجعه - وإن جاء متأخرا -عن اتخاذ القرصنة كمشجب واحد أوحد، لتفسير إغلاق القاعات السينمائية، كما ذهب إلى ذلك بـوثـوقية بالندوة التي نظمها وترأسها قبل سنة بمهرجان السينما الإفريقية الذي يترأسه هو الآخر، إلى جانب مهرجانات أخرى؟
الملاحظة الأولى على هذا الطرح، أن مشروع رقمنة القاعات السينمائية مشروع في بدايته بما في ذلك الدول المتقدمة، الشيء الذي يجعله موضوعيا مشروعا تجريبيا لازال خاضعا لتصويبات متسارعة، واردة بقوة، بفعل إمكانية ظهور أجيال جديدة من الآليات، مما يجعل الأجيال الأولى منها مهددة بداهة بالتجاوز على المدى القريب والمتوسط، وبالتالي يكون التفكير في الرقمنة كحل رئيس لأزمة القاعات السينمائية ضرب من التهور والوهم، الذي لن يجد له أذانا صاغية، كحل جدي لانتشال القاعات من خطر التلاشي والاندثار، لأن الأمر بكل بساطة يتعلق بمشروع لم يثبت بعد صلاحيته واستقراره وبالتالي نجاعته.

ومن جهة أخرى تجب الإشارة، أنه لايــوجد إجماع حول هذا المشروع، إذ أن أصواتا كثيرة، ذات مصداقية ارتفعت من داخل الدول الأوروبية، لتعلن أن مشروع رقمنة القاعات، لا يعدو أن يكون سوى حل جزئي، لا ينبغي التعامل معه بوثوقية كحل مطلق. كما أشارت هذه الأصوات بقوة إلى الجوانب السلبية للمشروع، نظرا لما يمثله من تهديد للسينمات المستقلة، كخطر وارد يتربص بالذاكرة البصرية الموشومة في مئات الآلاف من أشرطة السيلولويد من قياس 35 مم، التي من المحتمل جدا، أن يطالها الإهمال والنسيان، وكان حريا بالمركز السينمائي المغربي الذي يوجد في وضعية العاجز حتى عن ترميم وصيانة ما بحوزته من أشرطة سينمائية، سواء منها التي تعود للمرحلة الكولونيالية، أو التي أنجزت سنوات الاستقلال، أن يكون أكثر حساسية لهذا الموضوع، ولا يسعنا في هذا السياق، مدام الشيء بالشيء يذكر، إلا أن نتوقف عند حالة الجمود والإهمال التي تعاني منها الخزانة السينمائية، وتلك حكاية أخرى لنا عودة في مقال خاص للتفصيل في شجونها التي طال أمدها.
وكان السيد نور الدين الصايل قد أعطى خلال الندوة المذكورة، لكل من المخرج والمنتج السينمائي نبيل عيوش بشراكة مع السيد العيادي صاحب قاعة سينما كوليزي بمراكش، الكلمة لعرض الخطوط العريضة لمشروع بناء قاعات مزدوجة binôme، بالأحياء الشعبية والعالم القروي... كذا ... وهو مشروع يعتمد على الشراكة مع الجماعات المحلية، وقد لاحظ المتتبعون تحفظ السيد نبيل عيوش في توضيح طبيعة مشروعه الذي أراد له على ما يبدو أن يظل مستورا، ومع ذلك يمكن تخمينه بناء على عدة سوابق ومعطيات، كمبادرة للاستفادة من هذا الوضع الكارثي، للحصول على وعاء عقاري من الجماعات الحضرية والقروية، والتدبر من هنا وهناك تمويلات للبناء والتجهيز، واتخاذ هذه القاعات أوكارا لترويج خردة، وهي ماركة من الأفلام شبيهة بالسلع الصينية الرخيصة. وقديما قيل مصائب قوم عند قوم فوائد. ومع ذلك فالمشروع بالنسبة للسيد المدير، لا يعدم فائدة في باب تعمار الشوارج وتسخين الطرح للتغطية عن الفشل.
وقد تميزت هذه الندوة باستبعاد وتغييب ممثلي أرباب القاعات السينمائية، الشيء الذي يدعو للاستغراب، باعتبارهم طرفا رئيسا في حل الإشكالية المطروحة، وقد فسر البعض ذلك بتجرؤ رئيس غرفة المستغلين السيد المراكشي، على فضح استفراد رئيس المركز السينمائي المغربي بقرار اتخاذ مدينة طنجة، مسقط رأسه مقرا دائما للمهرجان الوطني للسينما، مما يتناقض والغاية من طابعه المتجول خدمة للترويج للسينما، من خلال تشجيع المنافسة وتكافؤ الفرص بين الحواضر المغربية، بعيدا عن كل نزعة إقليمية ذاتية وبئيسة.
وبالعودة لأطروحة السيد المدير، فإننا نرى أنه من البديهي التساؤل لماذا لو كان تجهيز القاعات السينمائية بآليات البث الرقمي، سيشكل حلا تنجر بمفعوله السحري، على حد زعمه، الجماهير السينمائية، جرا لملئ القاعات السينمائية، قد تأخرت رغم ذلك شركات التوزيع العالمية عن المسارعة بتأسيس فروع لها بالمغرب، وعرض خدماتها بالمجان حتى، باعتبار أنها لا تتوانى قيد رمشة عين، عن التكالب على الأسواق المدرة للربح، هي التي تشتم رائحتها بالفطرة وبلا حاجة لدليل محلي مستبصر ولنا في التاريخ القريب مايؤكد هذا ويزكيه.
إن واقعة انقراض دور السينما بالمغرب، إشكالية مركبة ومستعصية، لا يمكن التصدي لها بالندوات المفبركة، والحلول المبتسرة، بل يجب النظر إليها بلا لف ولا هذيان، كواقعة سوسيو ثقافية، يتداخل فيها مايرتبط بالثورة التكنولوجية، بما هو سياسي، وبما هو تربوي وسوسيوثقافي، والإقرار بما لا يدع مجالا للشك، أن الأجيال الجديدة لا يوجد ضمن مرجعياتها طقس الذهاب إلى السينما، وما يرتبط به من حاجة ملحة للفرجة والمشاهدة الجماعية، أو لنقل على الأقل ليس ذلك أولوية بالنسبة لها.
وإذا كان هناك من إرادة حقيقية لمواجهة المشكل، فإن عليها أن تتجلى كاقتناع حقيق بأن طقس المشاهدة الجماعية، كطقس نبيل وسلوك إنساني حضاري ثقافي، منتج لقيم محبة الحياة والدوق الرفيع، والانتصار للجمال، والتنشئة الاجتماعية السليمة. يقتضي، أن نبدأ بالإقلاع عن صناعة الوهم وركوب سياسة الوهم، التي كثيرا ما تكون وليدة التشبث الأعمى بالمواقع الزائلة.
وتأسيسا على التوصيف والتحليل، الذي قمنا به لظاهرة اندثار القاعات السينمائية، يمكن القول أن المدخل الحقيقي، لإعادة الاعتبار إلى هذه الدور، وبعث الروح في الحاجة إلى الذهاب إلى السينما، يتجاوز التلويح بإجراءات جزئية محدودة الفعالية، والتفكير فيما هو أعمق وأشمل، وذلك من قبيل التفكير في إعادة هيكلة المشهد السينمائي. والإقرار بأن مهمة انقاد دور السينما تتجاوز قدرات المركز السينمائي المغربي، الذي يجب أن يعترف بدالك بشجاعة وبدون مركب نقص.
وقد يكون للمركز السينمائي، قبل فوات الأوان، للمساهمة في انقاد القاعات السينمائية كمؤسسات مدنية حيوية، شرف المبادرة باستدراج الدولة ومؤسسات المجتمع المدني إلى نقاش عمومي، يستهدف إرساء أسس إستراتيجية وطنية حقيقية، لانقاد القاعات، وبعث الحاجة إلى الذهاب إلى السينما، كإشكالية تقتضي إعادة تربية الأجيال الناشئة على الصورة، وعلى متعة المشاهدة الجماعية، المنتجة للمتعة الخلاقة، وهو عمل يحتاج إلى إرادة سياسية، ومجهود تربوي واجتماعي مدني، طويل الأمد، يتطلب شحذ الأفكار، وحشد الطاقات، إنه باختصار، عملية نضالية ثقافية وطنية، processus، تندرج ضمن مشروع مجتمعي، ليست حياله مقترحات من قبيل رقمنة القاعات وتشجيع المركبات السينمائية، سوى تدابير يمكن اقتراحها في نهاية المطاف.
انها مهمة تقتضي تدخل الدولة ممثلة في وزارة الثقافة، ووزارة الإعلام ووزارة التربية الوطنية والمركز السينمائي، والمؤسسات المنتخبة، والمجتمع المدني، بمختلف مؤسساته المهنية والثقافية والتربوية والحقوقية، ومادون ذلك، إن هو إلا بريكولاج مقيت لن ينتج غير الانعزالية والخطاب الوحيد، وباختصار الفشل الذر يع في إنقاذ السينما كنافذة على الحياة.

* ناقد سينمائي من المغرب

الأربعاء، 27 أكتوبر 2010

جدل متصاعد في دراسات عن لغة السينما


الحلم يصنع برقائق دوارة



بقلم: عصام الياسري

أثارت إهتمامي الموضوعات التي نشرت في موقع حياة في السينما على الأنترنيت الذي يحرره الكاتب والناقد أمير العمري. وهي مجموعة دراسات شارك فيها نخبة من المتخصصين في حرفيات السينما من فنانين ونقاد، تتناول أصنافاً فكرية ونظرية وحرفية وما هو هامٍ ومفيد في أمور سينمائية متعددة الجوانب. وتأتي المشاركة بناءً على فكرة فتح حوار في حياة في السينما بين الأجيال حول مسألة طرحها السينمائي قيس الزبيدي على الناقد العمري، إستهلها بدراسة حول مصطلح اللغة السينمائية . وفي دعوته للنقاد والمنظرين المحترفين في مجال السينما للمشاركة في الحوار بهدف الإثراء والمعرفة وتبادل الآراء، كتب أمير العمري: (أنشر هنا هذه الدراسة النظرية القيمة التي كتبها الناقد والمنظر والمخرج السينمائي الصديق قيس الزبيدي خصيصا للنشر هنا آملا أن تفتح الباب أمام مناقشة جادة بين نخبة من النقاد العرب الذين أرسلت إليهم هذه الدراسة للتعقيب أو مناقشة ما مرد فيها من أفكار، لعلنا في ذلك نعمل على تجميع النقاد العرب حول قضية فكرية نقدية بدلا من الانغماس في تلك الصراعات الصغيرة المنتشرة في الساحة، وبعيدا أيضا عن الشللية القاتلة التي تبتعد بنا عن جوهر مهمتنا النقدية.. ونحن في انتظار وصول كتابات الزملاء الأفاضل لكي ننشرها تباعا).. لكن لم يشارك، حتى الان، للأسف إلا أربعة كتاب هم الناقد محمد رضا والناقد د. بدر الدين مصطفي والدكتور ناجي فوزي والكاتب أمين صالح فيما علمت بأن الأستاذ العمري قد وجه الدعوة لأكثر من عشرين ناقداً، تحمسوا للمساهمة في الحوار، إلا انهم لم يفعلوا. على هذا ستختتم الدراسات بتعقيب من قبل العمري، الذي كان يأمل في إصدار الحوارات العديدة في كتاب، ينشره لاحقاً.
يتناول الفنان قيس الزبيدي، الذي يتابع اهتمامه بنظرية السينما، إضافة الى عمله في المونتاج والإخراج. وكما نعتقد، فان مجموعة الآراء حول قضية لغة السينما، التي نشرت، هي ذات قيمة "نظرية وفكرية معاصرة" ، جديرة بالإهتمام كما أنها مثيرة للجدل. وفي مقدمته قبل أن يعرج إلى نصه "مقدمة نظرية أولى للنقاش" أشار الزبيدي إلى أن مفهوم مصطلح "لغة السينما" المتداول، هو مصطلح مُضلل ولا يمتلك رؤية واضحة، مستنداً في جوهر تنظيره إلى رأي للناقد عدنان مدانات في الفصل الثالث "إكلاشيهات المصطلح النقدي المضللة" من كتابه "ازمة السينما العربية" الذي انتشر في الادبيات العربية ـ قبل أكثر من نصف قرن ـ نتيجة لصدور كتاب مارسيل مارتين "اللغة السينمائية" وقاد الى استخدام المصطلح وانتشاره، ويعترف الناقد نفسه، بوقوعه في استخدام هذا المصطلح المُضلل، ومن ثم تراجعه عن استعماله، واستخدم بدله، بعدئذ، "وسائل التعبير السينمائية" رغم أن النقاد العرب، ما زالوا يستخدمونه حتى اليوم، دونما أي شعور بالحرج". لكنه أي الزبيدي أجاز أيضاً وفقاً لنظريته، دفع ثلاثة عناصر هامة "الأساليب Techniques و الوسائل Mittel و المناهج التعبيرية Ansatz Expressionismus" التي يؤثر بلاغة قوامها اللغوي فنياً، وجعلها لا ذات أهمية بالعلاقة مع ما يعرف بمصطلح "لغة السينما"، فيما يعتبر الكثيرون من العاملين في مجال السينما بأن هذه العناصر الثلاثة، هي عمود فن السينما، بمعنى أن أي وحدة منها تشكل لغة خاصة بالسينما، مؤثرة ومتواصلة، كما انها مجتمعة تشكل لغة السينما.. ويعود ليتحدث عن ما أورده المخرج الكبير صلاح أبو سيف: "علينا فهم السينما كلغة ذات ابجدية واضحة ومحددة، شأنها في ذلك شان جميع اللغات الحية كاللغة العربية وما تتضمنه من قواعد للنحو والصرف (...) وكلما اتقنا قواعد اللغة كلما استطعنا التعبير عن مرادنا بأبسط وأدق الألفاظ بحيث يفهم حديثنا كل من يستمع إليه. ونتيجة لذلك يرى إن اللغة السينمائية تتألف ابجديتها من ثمانية حروف: خمسة منها تخص الصورة وثلاثة تخص الصوت. ويسمي أبو سيف لطلابه هذه الحروف الخمسة كالتالي: الديكور والممثل والاكسسوار الثابت والمتحرك والاضاءة"

القضايا الجمالية
وينطلق الزبيدي في مقدمته موضحاً: "في منتصف سنوات الستينيات حدث تحول كبير في طبيعة القضايا الجمالية واللغوية السينمائية التي خضعت للدراسة والتحليل من قبل منظرين جدد جاؤوا إلى حقل السينما من حقول معرفية أخرى مثل علم اللغة والبنيوية والسيميائية (سيميولوجي) أو علم نظام العلامات. وقد أغنت مثل هذه الأبحاث نظرية وجمالية السينما عبر عقد الصلة بين أصول وقواعد لغة الكلام وأصول وقواعد لغة السينما. وقد عرّفت السيميائية اللغة والفيلم باعتبارهما ينتميان، من جهة، إلى نظم الاتصال، ويختلفان، من جهة أخرى، في أن اللغة، أية لغة، تملك نظام لغة، أما الفيلم، الذي تجمعه مع اللغة أشياء كثيرة مشتركة، فليس له نظام لغة. ولعل هذه المقارنة توضح ما عناه كريستيان ميتز، حينما اعتبر الفيلم لسانا بدون لغة، أو حينما عقب على ذلك امبيرتو ايكو، وعد الفيلم بمنزلة كلام لا يستند على لغة".
من طرفنا نعود إلى معنى المصطلح "لغة السينما" في اللغة الألمانية "Filmsprache" أو أدق "Sprache des Films" الى (كرستيان ميتز) الذي يبين ـ تعريب كاتب المقال: إن الفيلم لا يعرف النحو، ومع ذلك، هناك بعض القواعد لاستخدام اللغة السينمائية. بناء الجملة في الفيلم يرتب هذه القواعد ويبين العلاقات بينهما. وبناء الجملة في الفيلم ليس محدد سلفاً، وإنما يتطور بشكل طبيعي، ويخضع لتنمية عضوية. ويضيف أيضاً: في النظم الخطية أو اللغة المحكية، يراعي بناء الجملة من حيث أوجه التركيب الخطي قواعد النحو، وفقاً لمبدأ دمج الكلمات معاً على شكل سلاسل. وفي الفيلم، قد يشمل بناء الجملة التراكيب المكانية. لذلك، يعتمد بناء الجملة في الفيلم تنموياً على كل من الزمان والمكان".
في مطالعته التنظيرية تناول الفنان قيس الزبيدي في أكثر من 6 صفحات A 4 مواضيع هامة تتعلق بمصطلح "لغة السينما"، خضعت للدراسة والتحليل والحقول المعرفية الأخرى مثل علم اللغة والبنيوية والسيميائية Semiotik (سيميولوجي) التي تقوم على التمييز بين الدال والمدلول، أو علم نظام العلامات "لعقد الصلة بين أصول وقواعد لغة الكلام وأصول وقواعد لغة السينما" وقد ساعده في ذلك خبرته الفنية وإطلاعه الواسع على المراجع والبحوث والمقالات الحرفية التي سبق له وإن إعتمدها في تأليف كتابيه التنظيريين "المرئي والمسموع في السينما" الذي صدر عام 2006 وكتابه "مونوغرافيات في تأريخ ونظرية صورة الفيلم" الصادر عام 2010 عن المؤسسة العامة للسينما في دمشق. وأورد الكثير من الأسماء والأمثلة والمراجع والنصوص، واستعمل أسلوباً سردياً ومعلوماتياً مشوقاً لقراءة الاشكالات الطارئة على فنون السينما ومحاولة التعريف بها.
وإستجابة لدعوة الناقد والكاتب أمير العمري التي جاء فيها أنشر هنا ورقة الناقد السينمائي الأستاذ محمد رضا في معرض التعليق على ما طرحه الأستاذ قيس الزبيدي فيما يتعلق بإشكالية "اللغة السينمائية"، "هذا المصطلح الذي نسعي من خلال هذا الحوار بين نخبة من النقاد، إلى استجلائه واستبيانه وتحديد معناه ومغزاه، وليس من الضروري أن تكون مداخلات الأساتذة النقاد محصورة بالطبع في مجال التعقيب أو الرد، بل يمكن أن تأتي متحررة، تستمد أفكارها من وحي ما أثاره قيس الزبيدي، على أن تحلق في نفس الفضاء. ونحن في انتظار المزيد من أوراق النقاد الأفاضل ونأمل أن نتمكن من إصدار حصيلة الجدل حول هذه القضية النظرية في كتاب يجمعنا رغم اختلاف الآراء" .
كتب الناقد السينمائي محمد رضا يقول: حتى يشعر الناقد السينمائي بالحرج لاستخدامه مصطلحاً معيّناً، عليه أن يكون واثقاً، وفي الأساس مدركاً، لما يكمن في هذا المصلح ومصدره كمفهوم ولماذا هو خطأ لا يجب إستخدامه، في الوقت ذاته، فإن تعريف "لغة السينما" بأنها "حرفة الفنان السينمائي ووسيلته لتحقيق رؤيته وتوضيح موقفه بشأنها، شأن اللغة التي يستخدمها الكاتب وفق القواعد والأساليب البلاغية والنحوية" تعريف لا يفي جيّداً بالمفهوم ومضامينه.. ثم يستطرق قائلاً: لكن أغلب ما أورده الزبيدي ، فيه، بالنسبة إليّ، الكثير من المقارنة بين اللغة التي نتحدّث بها بألسنة شتّي حول العالم وباختلاف الشعوب، وبين السينما التي نستقبلها بصور شتّي حول العالم وباختلاف مصادرها، علماً بأن المقارنة تصل مباشرة الى مبدأ نفي أن تكون للسينما لغة خاصّة بها وذلك لكل الأسباب المقنعة التي أوردها الزبيدي، سواء من معرفته ومعرفته او بالإستناد الى المصادر التي أوردها لإيضاح المسألة المختلف حولها".

سياق ابستمولوجي
وفي هذا الحوار عرج الدكتور بدر الدين مصطفي أستاذ علم الجمال بجامعة القاهرة إلى تناول الموضوع من زاوية "إشكالية العلاقة بين ما هو مرئي وما هو مكتوب"، في سياق ابستمولوجي مفيد على شكل تساؤلات هامة حول كيفية السؤال: " التي تتم بها عملية المعرفة واكتساب الوعي هو منطلقها: أيهما يمتلك الأولوية والسيادة على الوعي..اللغة أم المرئي؟ هل التفكير يتم بواسطة اللغة؟ أي هل العقل يترجم كل ما يراه إلى لغة؟ وبدون هذه العملية تفقد الأشياء دلالتها، أم أن المرئي له لغته الخاصة التي تتجاوز وتعلو على أية صياغة لغوية حتى ولو تمت؟ هل اللغة تستوعب ما هو مرئي، بحيث تنوب عنه في غيابه؟ أم أنها مجرد قوالب وصياغات تحفز الذهن على استحضار الصورة والمشهد؟ خاصة مع الوضع في الاعتبار، الأسبقية الأونطولوجية للمرئي، وأن التفكير يتم بالصورة أولا قبل أن يتم باللغة.. وفي مكان آخر جاء: ولعل هذا يدفعني إلى القول ان اللغة السينمائية (وأنا استخدم كلمة لغة هنا للإشارة إلى أن الصورة السينمائية في النهاية تهدف إلى التعبير، أي أنها وسيلة اتصال معبرة، فهي لغة غير كلامية)، هي لغة سابقة على النظام اللغوي الكلامي، أي أنها لا تخاطبنا من خلال الكلام أو اللسان، بل من خلال نظام مختلف نابع من داخل مكونات الصورة السينمائية ذاتها".
وفي معرض موضوعته التأسيس للبحث عن "الجدل" حول "الجدل" عقب الأستاذ الدكتور ناجي فوزي أستاذ النقد السينمائي بمعهد النقد الفني بأكاديمية الفنون بالقاهرة، على ما طرحه قيس الزبيدي حول مفهوم "اللغة السينمائية"، قائلاً: الجدل حول مصطلح "اللغة السينمائية" هو أمر ظهر بالفعل منذ عقد الخمسينيات من القرن العشرين، وظل قائما لزمن طويل، مع أن المفهوم الغالب للمصطلح في حقيقته يرمي - بالفعل- إلى فكرة التعبير الفني بمفردات التقنية السينمائية المرئية (الفيلم السينمائي بدون تقنية الصوت) ثم المرئية/ السمعية (الفيلم المصحوب بتقنية الصوت).. " فكل من "اللغة المنطوقة" و"اللغة السينمائية" عبارة عن "مادة اتصال"، الغرض منها توصيل معنى معين، فضلا عن ما تتضمنه من معلومة (أو معلومات). فاللغة المنطوقة هي "مادة اتصال لفظية" تتصل بالحاسة السمعية (مع ملاحظة أن الكتابة هي الشكل الاصطلاحي للغة وليست هي بذاتها اللغة)، واللغة السينمائية هي مادة اتصال مرئية بالدرجة الأولى (وبحكم النشأة التاريخية) تتصل بالحاسة البصرية (ولاحقا بحاستي الإبصار والسمع معا).

اللغة والصورة السينمائية
وفي خضم هذا الجدل حول " لغة السينما" يترك الأستاذ ناجي فوزي الخيارات اللفظية وأساليب تراكيبها، مفتوحة، مقابل القيمة الابداعية للغة السينمائية ومفرداتها (البصرية والسمعية) من خلال تتابعها المونتاجي، قائلاً: والجدل حول مصطلح "اللغة السينمائية" هو بطبيعته، جدل فلسفي صرف، ولكنه يتجاوز حدود "الترف الفلسفي"، وذلك في محاولة للاستقرار حول حدود استخدامه كمصطلح يتعارف عليه كل من يتصل بنشاط الفن السينمائي (الروائي وغير الروائي) من صناع الأفلام ومن باحثين ونقاد لها، باعتباره مصطلحا يعني به "مفردات التعبير السينمائي" التي تشترك مع "النظام الخاص باللغة المنطوقة" (وليست الطبيعية) عن خاصيتها الأساسية وهي "إيصال المعنى".
وعلى الرغم من أهميتها النظرية والفنية فأن الدراسة التي نشرها الأستاذ أمين صالح، والتي تتكون من ثلاثة أجزاء وعلى أكثر من ثلاثة عشر صفحة، لم تكن من وجهة نظري موفقة كونها لا تشكل تحليلاً من منظوره الخاص إنما تشكل ترجمة لنص من كتاب بيتر والين الشهير. وبذلك يكون الأستاذ صالح قد إبتعد وللأسف عن رغبتنا في سماع وجهة نظره سيما في موضوعة هامة من هذا النوع يتناولها نقاد ومفكرون عرب لأول مرة. لكن أمير العمري علق عليها بالقول: "هذه الدراسة تعيدنا مجددا إلى ساحة المقارنة العميقة بين النص الأدبي والفيلم السينمائي" وأردف: "وربما تكون النقاشات حول العلاقة بين اللغة والصورة السينمائية سابقة على ظهور النظريات التي تؤيد أو تعارض مثل هذه العلاقة".
إن فكرة استقراء آراء النقاد والمفكرين المتخصصين في شئون السينما حول واحدة من القضايا المثيرة للجدل في عالم السينما مثل مصطلح "لغة السينما" محاولة علمية قيمة تكشف عن أنساق قائمة على دلالات ومعاني عديدة. نأمل أن تؤسس هذه الآراء السيميولوجية، لدراسات دقيقة حول مفهوم المصطلح عامة وفي الفن والأدب على وجه الخصوص والمنقولة لنا عن لغات أجنبية، والتي تبدو لنا إختياراً مرادف، لكنه مضطرب، في لغتنا العربية. والجدير أن هنالك ثمة أختلاف فكري وتنظيري كبير يدور حول مصطلح "لغة السينما" بين النقاد والمفكرين، على المستوي العالمي. لكن دولوز رغم انتقاده للتحليل اللغوي للفيلم لا ينفي أن الفيلم هو مجموعة من العلامات، لكنها علامات غير لغوية أو بالأحرى "علامات قبل لغوية" ، كما يذكر الدكتور بدر الدين مصطفي.

* نشرهذا المقال في جريدة "الزمان" الصادرة في لندن
3 أكتوبر 2010
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger