الخميس، 2 سبتمبر 2010

يوميات فينيسيا 2: "البجعة السوداء" تشوش المعالجة أضاع الفكرة



فيلم الافتتاح في دورة مهرجان فينيسيا هذا العام هو الفيلم الأمريكي المنتظر "البجعة السوداء" للمخرج المتميز دارين أرونوفسكي، صاحب فيلم "المصارع" الذي شاهدناه هنا قبل عامين، واستطاع أن ينتزع الأسد الذهبي.
لكن شتان ما بين الفيلمين، فعلى حين كان "المصارع" فيلما محدد المعالم، يستند عظم الدراما فيه إلى بناء قوي، شخصياته محدودة ومحكمة وواضحة المعالم والدوافع، تشترك معا في ذلك الإحساس بعدم التحقق، وبالافتقاد إلى الآخر، يعاني فيلم "البجعة" من سيناريو متعدد الشخصيات، محير ومربك في بنائه، ملييء بالعثرات الدرامية، والسقطات في أسلوب الإخراج، فأنت لا تعرف ما إذا كانت تشاهد فيلما من نوع الدراما النفسية، أو من أفلام الرعب، أم الثريلر (أو فيلم الاثارة والترقب)، أو الفيلم الاستعراضي الراقص!
صحيح أن تعدد المستويات يكسب أي فيلم ثراء، لكن ما هو موجود هنا ليس تعدد مستويات في السرد أو في التكثيف الدرامي للشخصيات، وخصوصا الشخصية الرئيسية وهي (نينا- ناتالي بورتمان)، بل هو اضطراب في المعالجة، في السيناريو وفي الإخراج.
المرء يحتار في تفسير سبب اختيار أرونوفسكي هذا الموضوع المربك في الأساس؟ ربما تكون جاذبية عالم الباليه، وما يوحي به من غموض ممزوج بالسحر، بالصراع الداخلي، أي داخل النفس.

والموضوع هو باختصار وبساطة، يدور حول الراقصة الشابة الطموح (نينا) التي تتطلع للحصول على لقب نجمة الفرقة، وأن تضطلع ببطولة العرض القادم للمخرج الطموح توماس الذي سيقدم فيه معالجة جديدة للباليه الروسي الشهير "بحيرة البجع" الذي وضع موسيقاه الموسيقار العبقري تشايكوفسكي (1875-1876). ولكن توماس رجل سمعته تسبقه، فمعروف عنه أنه يقيم علاقات جنسية مع بطلاته. وهو يحاول إقامة مثل هذه العلاقة معها، لكنها ترفض، ليس من زاوية الكرامة، بل لأنها لا تشعر بالجنس كما تشعر به أي فتاة عادية بسبب عقدها الشخصية. ويدفعها توماس إلى التعرف على جسدها، فتمارس الاستمناء، لكن حتى هذه العادة لا تكتمل بسبب عقدة الاحساس بالقهر والخوف من الأم، ويتضح أن الأم كانت ضحية علاقة لم تكتمل مع رجل هجرها، قبل أن تنجب ابنتها التي تخاف عليها كثيرا، وتحاصرها، تريد أن تعرف كل خطوة من خطواتها وتمارس عليها القمع الشديد أحيانا بدافع خوفها هذا، فهي لا تريدها أن تلقى المصير نفسه الذي لقيته.
بعد ذلك، أو انطلاقا من هذه العقدة، تتقاطع الكثير من مشاهد الخيال، مع مشاهد الواقع، فنينا تتخيل أن هناك فتاة منافسة في الفرقة تريد الحصول على الدور الرئيسي وحرمانها منه، ولذلك لا تتردد في اقامة علاقة جنسية كاملة مع توماس، كما تنجح في إغواء نينا نفسها، وتمارس معها السحاق تحت تأثير المخدر، ثم تحصل على الدور، لكن نينا تقتلها وتخفي جثتها، وعندئذ تتحرر وتؤدي العرض الأول لها في دور البجعة السوداء، التي تختلف تماما في عنفوانها عن باقي البجع (الأبيض)، وتنتج وينجح العرض وتعود نينا إلى نفسها وتوازنها بعد أن قتلت في داخلها تلك النرجسية، وذلك القمع الذي تفرضه على نفسها وعلى رغباتها.
في خضم هذا الموضوع هناك عشرات الاستطرادات، والتفاصيل، كما أن هناك تكرارا، وثرثرة بصرية، وميلا إلى النقلات السريعة بين مشاهد لا يمكن للمتفرج أن يعرف مبكرا في الفيلم، ما اذا كانت تدور في الواقع أم في الخيال، بل والأهم، أننا لا نستطيع أن نتعاطف مع الشخصية الرئيسية، ولا أن نفهم سر أزمتها تماما، ولا نفهم لماذا يصدمنا المخرج بين حين وآخر، بما حل عليها من تطور بيولوجي (مثير لتقزز المتفرج)، يجعل جلدها ينتزع بسهولة أو يتقشر، ويجعلها تنزف من أماكن متعددة في جسدها، بل ونراها في أحد المشاهد وقد انكسرت ساقاها، وعندما تغلق الباب على يد أمها، نرى الأم في المشهد التالي وهي سليمة تماما. وهكذا، يساهم هذا المزج المتكرر بين الواقع والخيال، في تشتيت التركيز لأنه مصنوع بطريقة رديئة، أي أنه غير مركب معا ببراعة وفي إيقاع مناسب، يتيح لنا الفرصة للتأمل ولو قليلا، في أزمة تلك الفتاة.
نينا تنزع أيضا بعض الريشات السوداء التي تنبت داخل جلدها، دلالة على أنها بدأت تصاب بهلوسات، تتخيل فيها نفسها وقد أصبحت بجعة، ونكتشف أن النزيف الجلدي الذي قد يكون سببه حك الجلد بالأظافر، قد يكون خيالا أو تجسيدا جسمانيا للاضطراب النفساني، كما لو أن جلد نينا قد أصبح جلدا رقيقا مثل جلد البجعة. بل إننا نراها في المشاهد النهائي وهي ترقص وقد نبت لها جناحان من الريش الأسود تماما مثل جناحي البجعة!
صحيح أن ناتالي بورتمان نجحت كثيرا في التعبير عن تمزق الشخصية، كما نجحت باربره هيرشي في دور الأم، وفنسنت كاسل في دور توماس، وصحيح أن هناك الكثير من المشاهد الجيدة التنفيذ في الفيلم، وصحيح أن المشاهد الأخيرة للاستعراضات تسحر الألباب، لكن المشكلة أن كل هذه العناصر، لم توضع وتولف وتوظف معا في إطار يتمتع بالوحدة الفنية، والسبب، يعود في رأيي إلى ضعف السيناريو وخلوه من الأبعاد التي يمكن أن تساعد على تكثيف الدراما أكثر، كما كان الحال في "المصارع"، فأفلام من هذا النوع تحمل عادة رؤية ما أو فلسفة إنسانية معينة، من وراء تصوير تلك الشخصيات، لكنها لا توجد هكذا من فراغ، وتذهب بالتالي، إلى الفراغ!

الأربعاء، 1 سبتمبر 2010

يوميات فينيسيا 1: "الأكورديون" يعرض في غياب جعفر بناهي


  • افتتاح "أيام فينيسيا" يتحول إلى مظاهرة سياسية ضد إيران

    على العكس من كل التقارير الاخبارية التي بثت ونشرت خلال الأيام الأخيرة، والتي تؤكد على حضور المخرج الإيراني جعفر بناهي (50 سنة) الدورة 67 من مهرجان فينيسيا السينمائي (المعروف باسم الموسترا ديلا تشينما، أي معرض السينما) لم يتمكن بناهي من مغادرة إيران بعد أن رفضت السلطات السماح له بالسفر لحضور العرض العالمي الأول لفيلمه القصير "الأكورديون" الذي عرض الأربعاء الأول من سبتمبر في افتتاح القسم الذي يعرف باسم "أيام فينيسيا" (أو أيام المؤلفين) مع الفيلم الفرنسي الروائي الطويل "ضجيج الثلج" للمخرج الشهير برتران بلييه الغائب عن السينما منذ خمس سنوات.
    قام بتقديم الفيلم الإيراني القصير أحد زملاء وأصدقاء بناهي وهو يعيش في أمريكا، وأخذ يلقي كلمة طويلة أطول من الفيلم نفسه، وجه خلالها انتقادات للنظام الإيراني، وطالب بحرية التعبير وقال إن السلطة الإيرانية تعتبر مشاهدة الأفلام في دار العرض جريمة (يقصدد اجتماع الرجال والنساء في ظلام القاعة!)، كما طالبها باطلاق حرية بناهي في السفر، وأخذ يصول ويجول والجمهور يصفق، ثم بدأ يقرأ كلمة أو رسالة أرسلها بناهي من ايران إلى جمهور المهرجان، ثم يتناول مدير التظاهرة الميكروفون ويلقي هو الآخر كلمة حماسية. وأخذت أتطلع حولي وربما ظننت في لحظة أنني قد اكون الوحيد الذي لا يشارك "القطيع" التصفيق والتهليل، ليس لأنني من أعوان أو أنصار أو مؤيدي نظام الملالي الفاشي في إيران، فلاشك عندي في قمعيته ودمويته واحتكاره الحديث باسم الحقيقة المطلقة، واليقين المطلق، ويكفي أنهم يطلقون على شيوخهم الكبار "آيات الله" و"روح الله" وما إلى ذلك من هذه التخاريف والخزعبلات!
    لكني في الواقع أرفض أن تستخدم إيران، كما كان يستخدم الاتحاد السوفيتي في الماضي (مع الفارق بينهما بكل تأكيد) ككبش فداء من أجل البقرة المقدسة أي إسرائيل، التي جعلت من إيران في المحيط الدولي شيطانا رجيما فقط لأن إيران ترغب في الحصول على تكنولوجيا نووية!
    وهذا هو المغزى الخطير في التهليل والتصفيق الذي يجري في فينيسيا باسم الحق والعدل والديمقراطية والسلام، بينما تترك إسرائيل تعربد منذ سنة 1948 دون أي تظاهرة مشابهة في فينيسيا أو غيرها، بل وقد تجرأ اللوبي الموالي لإسرائيل، تلك الدويلة اللعينة التي تجسد كل ما هو شرير في التاريخ البشري، التي ابتلي بها الشرق الأوسط، ووضع صورة فوتوغرافية كبيرة للجندي جلعاد شاليط، فوق تمثال الحياة الشهير الموجود في أهم ساحة تاريخية في روما، وهي الساحة التي صممها مايكل أنجلو، مع ما في الصورة الحديثة لهذا الجندي التافه من إهانة لكل التاريخ الروماني وتاريخ عصر النهضة، الألأمر الذي دفعني عندما كنت في زيارة إلى روما أن أدخل إلى المتحف الموجود في تلك الساحة وأتحدث مع المدير قائلا له إنني لاحظت وجود صورة لشخص مجهول تشوه الساحة، فهل الذين علقوها استأذنوا منكم فما كان منه الا أن قال لي إن البلدية هي التي سمحت بتعليق هذه الصورة. فعدت أقول له: وهل هذا بطل قومي روماني، وهل يحق لكل انسان (عملا بالديمقراطية) أن يعلق صورة بطله، وهل يسمح لي في هذه الحالة بتعليق صورة هتلر مثلا اذا افترضنا أنني أعتبره بطلا لي!!
    عودة إلى تلك الأمسية التي أفسدها حديث السياسة، والتظاهرة المدفوعة التي تتناقض بالكامل، مع ما يحدث الآن، بعد أن أصبح رئيس الحكومة الإيطالية بيرلسكوني ينام في سرير واحد مع أجهل وأبشع الحكام العرب في التاريخ الحديث، والفضيحة العربية الدائمة المتكررة منذ 40 عاما، أي المدعو معمر القذافي، المعروف بأنه "يحشش" لكي يستوحي أفكارا جذابة على شاكلة أن "الجماهير لا يجب أن تتفرج على 11 لاعبا للكرة في الملعب بل يجب أن تنزل الجماهير لكي تمارس اللعبة بنفسها لا تتفرج عليها فالرياضة ممارسة وليست فرجة)، أو ما سبق أن "أفتى" جنابه به قبل سنوات حين قال إن الكتاب الأخضر (الذي جادت به قريحته) تنبأ بسقوط الاتحاد السوفيتي وجدار برلين، وقال إن سقوط الجدار يؤكد أننا نعيش عصر الجماهير، وان الهامبورجر اختراع امريكي وهو عبارة عن خليط من الصراصير والحشرات من أجل تدمير الاتحاد السوفيتي!!!
    كان العالم كله على يقين من أن القذافي يحتاج إلى رعاية صحية خاصة داخل مصحات الأمراض العقلية المتخصصة على مستوى رفيع، أما الآن فقد أصبحت ايطاليا لا تمانع من وضع صورة بيرلسكوني (وهو كاذب، ومحتال، ومستغل للسلطة، وزير عاهرات محترفات) مع صورة الحاكم النكتة، الذي يحكم ليبيا بالحديد والنار هو وعائلته، تماما كما لا تمانع إيطاليا ولا يمانع الغرب الديمقراطي جدا، من تأييد ودعم حسني مبارك وعائلته التي أصبحت تمتلك مصر إلى أن يأتي الله أمرا كان مفعولا، وتغض الطرف عن سورية التي تحكمها عائلة الأسد، وقبيلة آل سعود ماصة دماء البشر التي تتحكم في ثراوات الجزيرة العربية!
    أما "الأكورديون" فهو فيلم بسيط ولاشك في جماله، رغم الرسالة الصريحة المباشرة التي يرغب في توصيلها.
    الفيلم الذي يبلغ زمنه 9 دقائق، يصور طفلا في العاشرة وشقيقته في الخامسة أو السادسة من عمرها. الولد يعزف على الأكورديون، والفتاة تضرب الطبلة والاثنان يشحذان عن طريق الموسيقى والغناء في شوارع طهران. وفجأة تكتشف الفتاة أنهما يطبلان ويعزفان أمام مسجد في المدينة، هنا يهجم عليهما رجل يصادر الأكورديون من الفتى بدعوى أن العزف أمام المسجد حرام، بل ومحظور وأنه كان يمكنه ابلاغ الشرطة. ويقاوم الطفل بشدة انتزاع آلته المحببة التي يتعيش منها، من بين يده لكن الرجل يجذب الأكورديون ويمضي. شقيقة الفتى (خديجة) تتوسل إليه أن ينسى الموضوع، لكن الفتى يقبض على حجر ضخم ويعتزم أمرا. والفتاة تقول له وتعيد وتكرر أن الرجل أكثر بؤسا منهما، وعليه أن يتركه وشأنه. وفجأة يتناهى إليهما صوت يتعرف فيه الفتى على صوت الأكورديون المحبب الذي طار من يده قبل قليل. يتجه الاثنان صوب الصوت، فنرى الرجل الذي ادعى التقوى وتحدث باسم الحرام والحلال وصادر الآلة، جالسا يجاهد لكي يخرج نغمة صحيحة من الأكورديون لكنه عاجز عن الأداء، الفتاة تلحق به وتبدأ في متابعة العزف بالطبل، ثم يقترب الفتى وينتزع الأكورديون من يد الرجل، ويبدأ في العزف في ثقة وقوة، ثم يناول الرجل الوعاء الذي يترك فيه عابروا الطريق ما يجودون به. يقف الرجل إذن يحصل على الصدقات من المارة، بينما صاحب الأكورديون الأصلي (الفنان) يواصل العزف بقوة بعد أن انتصر!
    ولا أظن أن الفيلم في حاجة إلى تفسير، فهو يشرح نفسه بنفسه. ولا أظن أيضا أن الفيلم سينتهي هكذا على هذا النحو، فالمفاجأة التي تأتي من خلال ما يظهر من كلمات على الشاشة أن هذا العمل القصير هو جزء من فيلم روائي طويل يخرجه بناهي من تمويل شركة فرنسية!
    لن اكتب عن فيلم "ضجيج الثلج" فما شاهدته منه كان كافيا (قاومت النوم من شدة التعب والإرهاق بسبب الاستيقاظ في الرابعة صباحا للتوجه إلى المطار، قبل أن أنسحب بعد أن فشلت في القبض على أي مغزى لأي شيء في هذا الفيلم السطحي).. وهو بالقطع، أسخف ما شاهدت من أفلام كوميدية منذ سنوات بعيدة: كوميديا هزلية مليئة بالمبالغات عن مرض السرطان، تجسد المرض الخطير في صورة رجل (يستظرف).. بدون خفة ظل، ولا معنى إنساني، بل عبارة عن تخاريف لا قيمة لها.. شفى الله برتران بلييه، إذا كان قد "ارتكب" هذا الفيلم تحت تأثير المرض (لست واثقا من ذلك)، وأعاده سليما معافا يصنع أفلاما لها معنى!
  • أود فقط ان اضيف أن حب الغرب لأنظمة التخلف والقهر العربي التي ذكرتها يعود الى أن هذه الأنظمة تلتزم بحب اسرائيل ربيبة الغرب والأمريكان، في حين تدعو ايران إلى ازالتها من الوجود!

الأحد، 29 أغسطس 2010

مهرجان فينيسيا السينمائي في خضم المنافسة الشرسة


الدورة التي ستفتتح يوم الأربعاء الأول من سبتمبر (أيلول) من مهرجان فينيسيا السينمائي هي الدورة السابعة والستون من عمر هذا المهرجان الذي تأسس عمليا عام 1932، أي أن عمره الحقيقي اليوم يبلغ 78 عاما. فقد توقف لعدة دورات، خلال سنوات الحرب العالمية الثانية. وهو يعد بالتالي أقدم مهرجانات السينما في العالم. ولكنه واجه أيضا الكثير من الأزمات التي كادت أن تعصف به خصوصا في أواخر السبعينيات وقت اشتداد الصراع السياسي في إيطاليا بين اليمين واليسار، وفي ظل الإضرابات المستمرة التي عانت منها إيطاليا وقتذاك. وقد توقف المهرجان أيضا لعدة سنوات عن منح جوائزه، ولم ينعقد المهرجان عام 1978، وفي تلك الفترة ظهر عدد من المهرجانات السينمائية الأخرى الصغيرة التي حاولت أن تنافس مهرجان فينيسيا وتستقطب الأضواء بعيدا عنه، أو تقضي عليه.
وقد تعرض المهرجان لفترة من الخمول وكان أن يغرق ويطويه النسيان في السنوات الأولى من الألفية الثالثة، إلى أن جاء ماركو موللر (وهو منتج سينمائي ومدير سابق لمهرجان لوكارنو) وفتح المهرجان أكثر على السينما الأمريكية، وبدأ يعمل بما يملكه من أدوات، دون أن يضع في اعتباره الدخول في منافسة مباشرة يعرف نتيجتها، مع مهرجان كان. وكان مولد مهرجان روما السينمائي أيضا عاملا أساسي في زيادة الحمية عند القائمين على مهرجان فينيسيا في مواجة ذلك المنافس الجديد الذي تدعمه صناعة السينما الإيطالية بوقة. ومع ذلك تلاشى بسرعة، الضجيج الذي اثاره مهرجان روما، وظل قابعا في محيط محدود، وهو ما يؤكد فرتنا عن أن مهرجانات المدن الكبرى والعواصم ليست أمامها عادة فرصة كبيرة للمنافسة بسبب ضياع المهرجان في أجواء ومتاعب المدن الكبرى كما هو حال مهرجان القاهرة السينمائي مثلا، ومهرجان طوكيو، ولندن، وموسكو، وهي مهرجانات لا تتطور كثيرا، وإن حاولت عاما بعد عام، وربما يكون الاستثناء الوحيد هو مهرجان برلين العريق.
التحدي الحقيق القائم حاليا هو مع مهرجان اقل أهمية كثيرا من فينيسيا وهو مهرجان تورنتو في كندا، الذي لا ينظم مسابقة ولا يمنح جوائز، والسبب لأنه شديد التنظيم وأكثر قربا من قلعة صناعة السينما في العالم أي هوليوود، والمدنية تتيح امكانيات أكبر في الاقامة وغيرها، وباسعار مناسبة لشركات الانتاج والتوزيع التي تأتي معها عادة بجيوش من الموظفين.
غير أن مهرجان فينيسيا مازال على حيويته رغم التحديات، وهو تميز بتغليبه الجانب الفني في السينما على الجانب التجاري، فهو مثلا لا ينظم سوقا للأفلام كما يفعل مهرجان كان، ولا يعرف بالتالي وجود كل تلك الأعداد من الموزعين والمنتجين، لكنه بدأ منذ نحو عشرين عاما أو أكثر، في اجتذاب الكثير من نجوم السينما في العالم، ومن الولايات المتحدة تحديدا، سواء نجوم الإخراج أو التمثيل.
هذا العام ربما لا يوجد الكثير من النجوم. صحيح ان المسابقة تتضمن 6 أفلام أمريكية لكنها من الأفلام المستقلة التي لا تعتمد عادة على كبار النجوم. ستحضر بالطبع هيلين ميرين، وناتالي بورتمان، لكن سيغيب مثلا جورج كلوني.
ويرتبط المهرجان في أذهان الكثير من السينمائيين المشاهير بحصول أفلامهم على التقدير والجوائز في هذا المهرجان قبل أن تنطلق إلى العالم وتمتد شهرة مخرجيها. ولعل من أشهر هؤلاء المخرج الياباني الراحل أكيرا كيروساوا الذي اكتشفه المهرجان عام 1950 مع عرض فيلمه "راشومون" الذي حصل على الأسد الذهبي هناك، وانطلقت منه السمعة الكبيرة التي حققها مخرجه فيما بعد.
ويعد الحصول على جائزة "الأسد الذهبي" التي توازي "السعفة الذهبية"، مفتاحا لتوزيع الفيلم في شتى أرجاء العالم (مطروحا منه العالم العربي بالطبع!). كما تميز المهرجان خلال السنوات القليلة الأخيرة بمنحه الجوائز لعدد من الأفلام التي نجحت بعد ذلك في الحصول على جوائز الأوسكار الرئيسية مثل فيلم "جبل بروكباك"، و"المصارع"، و"خزانة الألم".
الدورة الجديدة تحمل الكثير من الآمال، وربما تكون بمثابة انطلاقة للمهرجان نحو آفاق جديدة، خصوصا وأن المهرجان يستعد لافتتاح الإنشاءات الجديدة في العام القادم التي يمكن أن تحقق له اجتذاب المزيد من الجمهور والأفلام، وترسيخه كمؤسسة تعمل على مدار العام، وتستضيف الكثير من المؤتمرات مما يساهم في إحياء جزيرة ليدو الصغيرة التي يقام بها المهرجان منذ سنوات بعيدة، والتي تعاني عادة من الإهمال التام وعدم التقدم في أعمال البنية الأساسية اللازمة لازدهار أي مهرجان، أي على نطاق الفنادق والمطاعم، بسبب ما تتعرض له من كساد في معظم أوقات العام بعد أن ينتهي موسم الصيف.
السينما العربية التي كانت قد تواجدت بشكل لا بأس به العام الماضي من خلال ثلاثة أفلام مصرية داخل وخارج المسابقة، وفيلم تونسي، وآخر محسوب على الجزائر، تراجع وجودها هذا العام وانحسر في فيلمين من الأفلام التسجيلية من مصر ولبنان، هما "ظلال" لماريان خوري ومصطفى الحسناوي، و"شيوعيين كنا" لماهر أبي سمرا من لبنان. ولكن هناك طبعا فيلم "فينوس السوداء"، الذي سيعرض داخل المسابقة، للمخرج التونسي الأصل الذي يعمل في نطاق السينما الفرنسية، عبد اللطيف قشيش. وهذا في رأيي، هو الحجم الحقيقي لمنطقة غير مؤثرة في خريطة السينما العالمية، وكفت عن القيام بدورها من التأثير الثقافي والفني في محيطها العربي بما في ذلك المجال الداخلي، باستثناء السينما المصرية بالطبع، فالأفلام أصبحت تصنع لحفة من المهتمين، ونادرا ما تنجح في الوصول للجمهور عن طريق العرض العام في دور العرض، بل وأصبح السؤال المطروح ايضا هو" وأين هي دور العرض أصلا!

الجمعة، 27 أغسطس 2010

"جنوب الحدود": مغامرة جديدة لأوليفر ستون في أمريكا اللاتينية


استمتعت شخصيا بدرجة كبيرة بالفيلم التسجيلي "جنوب الحدود" South of the Border للمخرج الأمريكي الشهير أوليفر ستون (الذي عرض خارج المسابقة في مهرجان فينيسيا).
ستون يخوض هنا مغامرة جديدة في السباحة ضد التيار السائد، ضد الإعلام الأمريكي وما يروجه من معلومات خاطئة وما يعكسه من مواقف موالية بالكامل لنظرة الإدارة الأمريكية التقليدية بل وضد موقف ورؤية وكالات الاستخبارات الأمريكية من بلدان أمريكا اللاتينية، التي تتناقض في مواقفها السياسية مع رغبة واشنطن في فرض الهيمنة عليها.
على رأس تلك البلدان فنزويلا في عهد رئيسها الممتليء بالحيوية والنشاط والذي يتحلى أيضا بشجاعة كبيرة: هوجو تشافيز.
ستون يتجول بالكاميرا، في عدد من بلدان القارة الجنوبية، فيذهب إلى فنزويلا حيث يلتقي بتشافيز، ثم إلى الأرجنتين فيقابل الرئيس السابق نيستور كيرشنر والرئيسة الحالية (زوجته) كريستينا كيرشنر، وإلى بوليفيا حيث يلتقي بأول رئيس في أمريكا اللاتينية من السكان الأصليين (يطلقون عليهم خطأ الهنود الحمر) هو الرئيس إيفو موراليس، ثم إلى البرازيل والرئيس لولا دا سيلفا، وباراجواي والرئيس فرناندو لوجو، وأخيرا إلى كوبا ورئيسها راؤول كاسترو.
يستخدم ستون المادة المصورة التي يظهر فيها بنفسه يدير الحوارات أمام الكاميرا، ويطرح الكثير من التساؤلات من وجهة نظر الأمريكي "العادي" لكنه لا يحاول بالطبع ادخال الرأي الآخر، المناقض لآراء زعماء بلدان أمريكا اللاتينية بل ويستثني رئيس كولومبيا المؤيد تماما للسياسة الأمريكية والذي تخوض بلاده حربا ضد جماعات الثوار منذ سنوات، والسبب بسيط، لأن هذا الرأي أو تلك الوجهة الأخرى، معروفة ومألوفة وشائعة، ويعرفها جميع الأمريكيين، بل والرأي العام في العالم من خلال أجهزة الإعلام السائدة مثل سي إن إن وغيرها، وهي تتلخص في إدانة هذه البلدان والحكم عليها بانتهاك حقوق الإنسان (التي يقول لنا الفيلم إنها أصبحت التهمة الجديدة بعد تهمة الديكتاتورية).
ويسخر الفيلم من اتهام تشافيز مثلا بالديكتاتورية، وتقول رئيسة الأرجنتين إنها لا تعرف بلدا في العالم أجريت فيه الانتخابات الديمقراطية 17 مرة في سنوات معدودة كما حدث في فنزويلا. ويؤكد الفيلم على أن جميع الرؤساء الذين يحاورهم ستون جاءوا إلى الحكم عن طريق الانتخابات بل إنهم فضوا دائما التصدي للعنف بالعنف، ويصور احترامهم لحق الإضراب والتظاهر في كل الظروف، باستثناء كوبا التي تنهج نهجا مختلفا، وإن كان يصور كيف يحظى النظام بالشعبية الكبيرة من جانب الطبقات الكادحة، أي الأغلبية.
المدهش أن الفيلم يكشف لنا كيف أن هذه البلدان كلها في عصر العولمة، وبعد اختفاء المنظومة السوفيتية من الوجود، انتفضت كلها متجهة في اتجاه اليسار، لكي تتمرد على قوانين واشنطن، وشروط البنك الدولي الذي توجهه الإدارة الأمريكية لمصالحها وكيف أنها تمكنت من التصدي لأكبر قوة في العالم، كما رفضت الانصياع لشروطها وشروط البنك المتخصص في اقراض دول العالم الثالث بشروط قاسية تؤدي أحيانا إلى كوارث اجتماعية وسياسية، دون أن تنهار كما يذاع علينا يوميا، ودون أن تشتعل فيها الانقلابات والثورات، بل على العكس تماما، للمرة الأولى في تاريخ تلك القارة التي كانت الولايات المتحدة تعتبرها "البيت الخلفي" لها، تقارب الحكام مع المحكومين، وأصبحت برامج الإصلاح الحقيقية توجه لمصلحة الناس وليس لمصلحة البنك الدولي والاحتكارات الأمريكية.
ويركز الفيلم بدرجة كبيرة، على تجربة تشافيز في فنزويلا، وهي من أغنى الدول بالنفط، وكيف تآمرت عليه الولايات المتحدة وأرادت الاطاحة به في انقلاب سرعان من انعكس لصالحه، وكيف تمكن من الصمود وتحويل بلاده من دولة تستورد كل قمحها من الخارج إلى دولة مصدرة، وكيف وفرت الدول التعليم والصحة لفئات كانت محرومة تماما منها.
ولعل من الجوانب المهمة التي يكشف عنها الفيلم من خلال الحوارات المكثفة مع زعماء البلدان التي اشرنا إليها، هو كيف تتضامن هذه الدول معا، في مواجهة القوة الأكبر في العالم، متحدة بموقف موحد ورأي واحد، لا تسعى للصدام بل لاحترام استقلاليتها وتوجهها المختلف.
صحيح أن هذا الفيلم من الأفلام التليفزيونية المصورة بكاميرا الديجيتال الصغيرة، وصحيح أنه يعتمد على الحوارات، لكنه يتمتع بقدر كبير من الحيوية، والجمال الداخلي، الذي يشع من مشاهد كثيرة مثل المشهد الذي يلعب فيه ستون مع رئيس بوليفيا الكرة، أو عندما يشرح رئيس باراجواي الشاب في حماسة وسخرية، كيف أنه رد على رفض الأمريكيين سحب قاعدتهم العسكرية من بلاده بأنه سيوافق على وجودها في حالة موافقتهم على وجود قاعدة لبلاده على الأراضي الأمريكية.
ويكشف الفيلم من خلال ما يدور من حوارات عما يتمتع به هؤلاء الرؤساء من ثقافة سياسية وقدرة تحليلية عالية، يجمعهم الوقوف سياسيا على اليسار أو يسار الوسط، ويدافعون جميعا عن دور الدولة في توجيه الاقتصاد، ويرفضون فكرة الاستسلام لاقتصاد السوق طبقا لشروط البنك الدولي.
وفي الفيلم جانب تعليمي مهم يساهم في إثارة الوعي لدى مشاهديه. وليت حكامنا يشاهدونه لكي يدركوا أن الأمر ممكن.. وليته يعرض على الجمهور في بلادنا لكي يعرفوا كيف يخدعهم حكامهم ليلا ونهارا بالقول إنه "ليس ممكنا"!
ملحوظة: فاجأ الرئيس الفنزويلي تشافيز جمهور المهرجان وظهر إلى جانب أوليفر ستون في المؤتمر الصحفي ليس باعتباره رئيسا، بل باعتباره الشخصية الأولى في للفيلم مما أضفى جوا من الحيوية الشديدة على المؤتمر. وقد قضى تشافيز 17 ساعة في فينيسيا قبل أن يغادرها.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger