الأحد، 22 أغسطس 2010

بلاد مسلسلات


أرجو ألا يغضب أصدقائي الذين يكتبون ويخرجون المسلسلات التليفزيونية من هذه الكلمة، وكذلك أصدقائي من هواة الفرجة عليها، فقد توقفت منذ أكثر من عشرين سنة، عن مشاهدة مسلسلات التليفزيون التي يطلق عليها البعض (أو تقريبا معظم الناس حاليا) تسمية خاطئة هي "الدراما"، وكأن الدراما لا تكون إلا في المسلسلات فقط.
والحقيقة أن التعبيرات الخاطئة أصبحت تطغى بشكل محير على حياتنا، لأن أحدا، حتى من الذين يمسكون بالقلم من الصحفيين، لا يمتنعون عن تصحيحها فقط، بل إنهم مسؤولون عن هيمنتها بحكم استخدامهم الدائم لها في تعليقاتهم الصحفية. فهناك مثلا تعبير "فيديو كليب" video clip الذي يقصد به عادة، الأغنية التليفزيونية أو المصورة بكاميرا الفيديو، بينما تعبير "فيديو كليب" بالإنجليزية له معنى مختلف تماما في لغة التليفزيون في بلاد الإنجليز والأمريكان التي ينقل البعض عنها بدون فهم أو أساس معرفي.
أعلم أن هناك بعض المسلسلات التي يبذل فيها كتابها ومخرجوها جهدا كبيرا، ويحاولون تطويرها، سواء منناحية نوعية المواضيع التي يطرحونها، أو شكل المعالجة، أو أسلوب التصوير والإخراج. وهذا "العلم" يأتيني من خلال أصدقاء أثق في أحكامهم ونظرتهم للأمور الفنية والجمالية، لأنني لست من سعداء الحظ الذين يشاهدون ما يشاهده الملايين من مسلسلات. والسبب؟ أسباب كثيرة منها أولا، وأساسا، أنني لا أحب فكرة أن يعتقلني أحد، أيا كان، وتحت أي مبرر أو مسمى، ويحبسني طوال ثلاثين يوما متتالية في بيتي كل مساء، للفرجة على ما أبدعته قريحته. فهذا أصلا، أمر يتنافى مع حقوق الإنسان، أي حقه في اختيار الموعد المناسب للمشاهدة. فأنت عندما تقرر الذهاب إلى السينما لمشاهدة فيلم معين مثلا، فأنت الذي تختار الموعد المناسب لك، وأنت تعرف مسبقا أن زمن عرض الفيلم لا يتجاوز ساعتين أو ساعتين ونصف في معظم الأحوال، ثم ينقضي الأمر. ولا يصبح مطلوبا منك العودة إلى دار السيمنا لمشاهدة بقية الفيلم. أما أن تتابع يوميا في ساعة معينة، مسلسلا قد يتجاوز أحيانا الثلاثين حلقة، فهو أمر لا يمكن احتماله أصلا، لا نفسيا ولا عمليا، فإذا كان أمامك شيء مهم لابد من إنجازه مثلا، أو موعد مهم، أو عمل يشغلك في إحدى الأمسيات المسلسلية، فسوف تفوتك مشاهدة بعض الحلقات، وتفقد بالتالي القدرة على المتابعة.
الأمر الثاني الذي أراه مهما، أن "المسلسل" شكل فني مستحدث ومفتعل لأغراض تجارية بحتة، فالهدف الأساسي للمسلسل هو الحصول على أكبر قدر من الفقرات الإعلانية التي غالبا ما تقطع حتى بدايته في أكثر الأشكال التجارية استفزازا، وهو ما يؤكد أن الهدف الأساسي هو شد المتفرجين إلى الشاشة لكي يبتلعوا تلك الإعلانات التجارية عن الصابون والبامية وزيت الطعام وأدوات التجميل وغيرها. أي أن المسلسل يرتبط بالضرورة، بعملية استلاب وتفريغ للعقل والاستسلام للهاث "السلعي" الرأسمالي، الاستهلاكي، التافه!
الأمر الثالث أنني لا أعتبر المسلسل "فنا" من الفنون المعروفة.. فالفنون السبعة لا تعرف أبدا شكل التسلسل أو الحلقات، فلا توجد مثلا لوحة تشكيلية مسلسلة يمكنك أن تشاهدها بالقطعة، كل يوم قطعة، ولا قصيدة مسلسلة، ولا مسرحية تعرض على حلقات، ولا تمثال يمكن تقسيمه إلى أجزاء تعرض بالواحدة. والفنان بالتالي، أي فنان، مثل الشاعر والروائي والمسرحي والرسام والنحات والسينمائي، لا يفكر بعقلية من يصنع "مسلسلا" بل هو يبدع عملا مكتملا متكاملا غير متجزيء. وهو ما يؤكد فكرتي عن أن مفهوم "المسلسل، أساسه تجاري واستهلاكي وإعلاني ولا ينتج أصلا بدافع فني. ومن زاوية أخرى أجد أن في المسلسلات دائما تكرارا هائلا، وتراكما تصاعديا مرعبا، في الشخصيات، والأجيال، والأحداث، والانماط، كما أجدها كلها مليئة بالثرثرة المستمرة، والخطب الرنانة، والمواعظ الأخلاقية التي تتردد في الحلقة الواحدة عشرات المرات، وهو أمر مثير، ليس فقط للملل، بل للشفقة أحيانا، على صناع المسلسل مهما كانوا حرفيين مهرة، أو خبراء في هذا النوع، فلابد في النهاية من انفلات الإيقاع.
ومازلت أتذكر ما قاله لي كاتب سيناريو من الجيل المخضرم (رحمه الله)، وكان كاتبا متميزا كتب الكثير من الأفلام السينمائية الجيدة. فقد قال لي عندما سألته لماذا لا يكتب للتليفزيون، إنه لا يستطيع تحويل مشهد يقتضي اثنتي عشرة لقطة أو أكثر إلى ثلاث أو أربع لقطات، لأن لا أحد سيمنحك تلك الحرية.
وربما يكون بعض المخرجين السوريين قد تمكنوا من تعويض عدم توفر فرصهم في إخراج الافلام، في المسلسلات التي يخرجونها، أقصد من ناحية استخدام تقنيات السينما وأساليبها الفنية. ولكن مرة أخرى، فالمسلسل هنا ليس حالة "أصيلة"، أو اختيار إبداعي، فأنا على ثقة أنه لو توفرت الفرصة أمام نجدت أنزور مثلا لإخراج أفلام سينمائية، فسوف يهجر المسلسلات رغم أنها تدر عليه وعلى زملائه بالتأكيد، ذهبا (اللهم لا حسد!!).
تصادف مساء أمس أن كنت أتناول الطعام أمام التليفزيون فشاهدت (دون أن أقصد) نحو عشرين دقيقة من أحد المسلسلات، فهالني ما شاهدت: عشرات الشخصيات التي تتحرك هنا وهناك، في ديكورات مكشوفة ومعروف أين أقيمت، من الصعيد إلى القاهرة، ومن جيل الشباب، إلى العواجيز، ومن الريف إلى المدينة، ومن الرقص إلى التجهم، والغيرة، والحب، والدلع والدلال، والفساد الاجتماعي والسياسي، و"رجال الأعمال" الذين أصبحوا هم أصل "البلاوي" وخراب الديار!
وتساءلت: ما الجديد في كل هذا؟ ما الذي يرمي إليه كاتب المسلسل حقا؟ هل هو ضد فساد الطبقة الجديدة أو طبقة "الاثرياء الجدد" التي يطلقون عليها طبقة رجال الأعمال الآن؟ وما الجديد في هذا إذا كنا قد قتلنا هذا الظاهرة بحثا وتنقيبا وتسلسلا في صحفنا وكتبنا وإذاعاتنا وقنواتنا وبرامجنا المفتوحة والمشفرة؟ وهل الذين يكتبون مسلسلات ضد الفساد، وضد التوريث، وضد... ليسوا ضالعين هم أنفسهم في الفساد على طريقتهم الخاصة؟ ألم يدخلوا أولادهم معهد السينما بالوساطة والمحسوبية؟ ألا يحاولون أن يورثوا أبناءهم مهنتهم، فالمخرج يريد أن يجعل ابنه مخرجا، والممثل يجعل ابنه ممثلا.. ولو رغم أنوفنا.. كما هو واضح وبين أمامنا في الكثير من المسلسلات المعروضة حاليا!
إن المسلسل الأكثر إثارة للاهتمام في رأيي، هو ما يجري يوميا على أرض الواقع، لكن هناك من يريدون للجماهير العريضة أن تجلس في منازلها، تتابع ما يجري على الشاشة الصغيرة، عبر المسلسلات، حتى تجعل من طقس الفرجة، طقسا تعويضيا بديلا عن "الفعل".. وهذا هو المطلوب.. أليس كذلك!

الخميس، 19 أغسطس 2010

السيميولوجيا والسينما في لغة الفيلم (الجزء الثاني)


كتابة: بيتر والن

ترجمة: أمين صالح



(2)
رولان بارت (مواليد 1915، مؤلف "الكتابة في درجة الصفر" 1953، و"عناصر السيميولوجيا" 1964) كنتيجة لبحوثه في لغة الأزياء، استنتج أن من المستحيل الإفلات من الحضور المتخلل للغة الشفوية. الكلمات تدخل في محادثة ذات نظام آخر إما لتثبيت معنى غامض وملتبس، مثل نعت أو عنوان، أو للمساهمة في المعنى الذي لا يمكن توصيله بطريقة أخرى، مثل الكلمات المدوّنة في المساحات الأشبه بالفقاعات في الرسوم الهزلية. الكلمات إما تثبّت المعنى في موضعه أو تنقله.
فقط في حالات نادرة جداً يمكن للنظم غير الشفوية أن توجد بلا دعم إضافي من الشفرة الشفوية. حتى النظم المعطاة شكلاً أو مضموناً عقلانياً، والمتطورة جداً، مثل الرسم والموسيقى، باستمرار تلتمس العون من الكلمات، خصوصاً في المستوى الشعبي الرائج: الأغاني، الرسوم المتحركة، الملصقات الدعائية.
في الواقع، سيكون ممكناً كتابة تاريخ الرسم بوصفه دالاً على العلاقة المتحولة بين الكلمات والصور. أحد الإنجازات الأساسية لعصر النهضة كان في إبعاد الكلمات عن حيّز الصورة. مع ذلك، كانت الكلمات على نحو متكرر ترغم نفسها على العودة وتفرض حضورها. إنها تعاود الظهور في لوحات إل جريكو، على سبيل المثال، وفي لوحات دورير وهوجارث. بوسع المرء أن يقدّم أمثلة لا تحصى. في القرن العشرين، عادت الكلمات بإفراط.
في الموسيقى، الكلمات لم يتم إبعادها والتخلّص منها إلا مع بداية القرن السابع عشر. الكلمات فرضت نفسها في الأوبرا، في الموشّحات الدينية، في اللّيْدة (أغاني ألمانية). أما السينما فكانت حالة جلية أخرى في صميم الموضوع. بضع أفلام صامتة تم تحقيقها بدون عناوين.
لقد توصل رولان بارت إلى نتيجة مفادها أن السيميولوجيا ربما تكون مرئية على نحو أفضل كرافد لعلم اللغة بدلاً من أن تكون العكس. هذا يبدو استنتاجاً يائساً. الفرع ينتهي بأن يصبح "الأكثر تعقيداً وشموليةً" إلى حد أنه يغمر الكل.
مع ذلك، فإن تجربتنا مع السينما توحي بأن التعقيد الكبير للمعنى يمكن التعبير عنه من خلال الصورة. بالتالي، لأخذ مثال واضح، نلاحظ أن أكثر الكتب عاديةً وتفاهة وابتذالاً يمكن أن يتحول إلى فيلم مشوق جداً، مثير للاهتمام، ويحمل مغزى ودلالة. إن قراءة السيناريو هي عادةً تجربة غير ممتعة وغير مثمرة فكرياً.. وعاطفياً أيضاً. المعنى الضمني لهذا، أنه ليس فقط النظم التي كلياً "معتمدة على اعتباطية العلامة" تكون معبّرة وحافلة بالمعنى. العلامات الطبيعية لا يمكن أن تكون مرفوضة كما تصوّر سوسير. إنه هذا المطلب، بإعادة دمج العلامة الطبيعية في السيميولوجيا، الذي قاد كريستيان ميتز لأن يعلن بأن السينما هي بالفعل لغة، لكن لغة بلا نظام شفري. إنها لغة لأنها تملك نصوصاً. ثمة خطاب ذو معنى. لكن بخلاف اللغة اللفظية ، لا يمكن إحالة هذه اللغة إلى شفرة كائنة.
إن افتراض ميتز يورّطه في عدد كبير من المعضلات التي لا يستطيع أن يتغلّب عليها على نحو مرْض. إنه يجد نفسه مرغماً على العودة إلى مفهوم "منطق المعنى المتضمن" الذي به الصورة تصبح لغةً. إنه يستشهد برأي الناقد والمنظّر الهنغاري بيلا بالاش القائل بأن من خلال "تيار الاستقراء" نحن نجعل الفيلم يبدو معقولاً ومفهوماً. لكن ليس واضحاً ما إذا علينا أن نتعلم هذا المنطق أو أنه طبيعي وفطري. من الصعب فهم كيف أن مفاهيم مثل "منطق المعنى الضمني" و "تيار الاستقراء" يمكن دمجهما في نظرية السيميولوجيا.
ما كنا نحتاجه هو بحث أو نقاش، أكثر دقةً، لما نعنيه بـ "العلامة الطبيعية"، وسلسلة من الكلمات مثل: المتشابه، المتواصل، المحفّز.. هذه الكلمات التي يستخدمها بارت وميتز وآخرون لوصف مثل هذه العلامات.
(3)
لحسن الحظ أن الأساس الضروري لتوفير دقة أبعد قد تم انجازه سابقاً من قِبل شارلز ساندرز بيرس، عالم المنطق الأمريكي. كان بيرس معاصراً لسوسير، ومثل سوسير، جُمعت بحوثه ونُشرت بين 1931 و 1935، أي بعد وفاته في 1914 بعشرين سنة.
كان بيرس من أكثر المفكرين الأمريكان أصالةً وتجديداً، كما أشار رومان ياكوبسون، إلى حد أنه لسنوات طويلة من حياته العملية لم يستطع الحصول على وظيفة في الجامعة. إن شهرته الآن ترتكز قبل كل شيء على أعماله الأكثر قابلية للفهم، وبشكل أساسي على تعاليمه في الذرائعية. أما اشتغاله على السيميولوجيا فقد تم – للأسف - إهماله والاستخفاف به. وقد ساهم مريده شارلز موريس في الإساءة إلى نظريته، المتصلة بعلم اللغة وعلم الجمال، عبر ربطها بشكل خبيث من أشكال السلوكية التي وُجهت إليها انتقادات شديدة وقاسية من كتّاب مثل جومبريش ونعوم تشومسكي. في السنوات اللاحقة، استطاع رومان ياكوبسون أن يوجه اهتمام الآخرين إلى سيميولوجيا بيرس، وأن يعيد إحياء حماسة تأخرت زمناً طويلاً.
في عدد من كتب بيرس نجد تصنيفاً لطبقات مختلفة من العلامة، والتي كان ينظر إليها بوصفها الأساس السيميولوجي الجوهري لمنطق لاحق ولعلم بلاغة. التصنيف، الذي هو هام بالنسبة للنقاش الدائر حالياً، هو ذاك الذي يسميه بيرس "الانقسام الثاني للعلامات"، المؤلف من ثلاثة أجزاء أو عناصر، حيث العلامات تكون:
دلالية.. العلامة التي فيها المعنى مبني على رباط وجودي بين الدال والمدلول.
أيقونية.. العلامة التي تمثّل مادتها، في الدرجة الأولى، بواسطة الشبه المادي، الفيزيائي.
رمزية.. العلامة التي تكون اعتباطية ومشفّرة.
في الأيقونة، العلاقة بين الدال والمدلول ليست اعتباطية بل ذات تماثل أو شبه. هكذا، على سبيل المثال، الصورة الشخصية (البورتريه) لرجل يشبه نفسه. من جهة أخرى، بإمكان الأيقونات أن تكون منقسمة إلى شعبتين رئيسيتين: الصور والرسوم البيانية أو التخطيطية. في حالة الصور تكون "الخاصيات البسيطة" متشابهة. وفي حالة الرسوم البيانية تكون "الصلات بين الأجزاء". ثمة رسوم بيانية عديدة تتضمن معالم معبّر عنها بالرموز. وبيرس أكّد هذا نظراً لأنه المظهر الغالب الذي كان يهتم به.
بشأن العلامة الدلالية، قدّم بيرس أمثلة عديدة: "أرى رجلاً ذا مشية متمايلة أو مترنحة.. هذه دلالة محتملة على أنه بحّار. أرى رجلاً متقوس الساقين، ببنطلون من القماش القطني وحذاء نصفي من المطاط وسترة.. هذه دلالات محتملة على أنه فارس (جوكي) في سباق الخيل أو شيء من هذا القبيل. المِزْولة (الساعة الشمسية) أو الساعة تشير إلى توقيت اليوم".
أما العلامة الرمزية فتراوغ الإرادة الفردية. يقول بيرس: "بإمكانك أن تدوّن كلمة "نجمة" لكن ذلك لا يجعلك خالقاً للكلمة، الأمر نفسه عندما تمحوها.. هذا لا يجعلك هادماً للكلمة. الكلمة تعيش في عقول أولئك الذين يستخدمونها".
العلامة الرمزية لا تقتضي تشابهاً مع مادته، ولا رباطاً وجودياً معها. إنها اصطلاحية، متفقة مع القواعد المقررة، ولها قوة القانون. بيرس كان قلقاً بشأن صحة أو ملاءمة تسمية هذا النوع من العلامة "رمزاً".. وهي الاحتمالية التي فكر فيها سوسير وأخذها بعين الاعتبار لكنه رفضها بسبب خطورة التشوّش. مع ذلك، من المؤكد أن سوسير قد بالغ في تقييد مفهوم العلامة بحصرها في "رمزية" بيرس.
تصنيفات بيرس كانت الأساس لأي تقدّم في السيميولوجيا. لكن من المهم ملاحظة أن بيرس لم يعتبرها حصرية على نحو متبادل. على العكس، كل الأوجه الثلاثة كثيراً ما – وعلى نحو ثابت أحياناً – تتداخل وتكون حاضرة معاً. إن هذا الوعي بالتداخل هو الذي ساعده على أن يدوّن بعض الملاحظات المتصلة خصوصاً بالتصوير الفوتوغرافي.
"الصورة الفوتوغرافية، خصوصاً الصور الفورية، هي مرشدة جداً، لأننا نعرف أنها، في نواح معينة، تشبه بالضبط الأشياء التي تصورها. لكن هذا الشبه ناشئ عن كون الصور منتَجة في ظروف معينة إلى حد أنها فيزيائياً تكون مجبرة أن تتوافق درجةً فدرجة مع الطبيعة. في ذلك المظهر، هي إذن تنتمي إلى الطبقة الثانية من العلامات، ذات الصلة الفيزيائية".
بين من كتبوا عن السيميولوجيا، رولان بارت يتوصل إلى استنتاجات مماثلة إلى حد ما، مع أنه لا يستخدم التصنيف "الدلالي"، لكنه يرى الصورة الفوتوغرافية المطبوعة بوصفها "أيقونية". مع ذلك، هو يصف كيف أن الأيقونة الفوتوغرافية تقدّم "نوعاً من الوجود الطبيعي للشيء هناك". ليس ثمة أي تدخّل بشري، أي تحوّل، أي شِفرة، بين الشيء والعلامة. التناقض الظاهري هنا أن الصورة الفوتوغرافية هي رسالة بلا شِفرة.
السينما تتضمن الصيغ الثلاث للعلامة: الدلالية، الأيقونية، الرمزية. الناقد الفرنسي أندريه بازان طوّر جمالية تأسست على الصفة الدلالية للصورة الفوتوغرافية. كريستيان ميتز خالف هذا بجمالية تفترض أن السينما، لكي تكون ذات معنى، لابد أن تحيل نفسها إلى نظام شفري، إلى قواعد خاصة، وأن لغة السينما يجب أن تكون رمزية في المقام الأول.
لكن كان هناك خيار ثالث: فون ستيرنبرغ كان، على نحو قاس، معارضاً لأي نوع من الواقعية. هو كان يسعى، قدر المستطاع، إلى أن ينكر ويهدم الرباط الوجودي بين العالم الطبيعي والصورة السينمائية. لكن هذا لم يكن يعني أنه تحوّل إلى الرمزي. عوضاً عن ذلك، هو كان يؤكد على الصفة التصويرية للسينما. كان يرى السينما، ليس على ضوء العالم الطبيعي أو اللغة الشفهية، بل على ضوء الرسم. "الكانفاس الأبيض الذي عليه تكون الصور مطروحة هو سطح منبسط ذو بعدين. ليس جديداً على نحو مروّع. الرسام استخدمه منذ قرون".
يجب على مخرج الفيلم أن يخلق صوره الخاصة ليس بمحاكاة الطبيعة على نحو خانع وصاغر، ليس بالانحناء أمام صنم الدقة والموثوقية، بل بفرض أسلوبه الخاص، تأويله الخاص.
"سلطة الرسام على موضوعه هي غير محدودة، مطلقة. سيطرته على الشكل البشري والوجه البشري هي استبدادية". لكن "المخرج هو تحت رحمة كاميرته". مأزق مخرج الفيلم هو في هذا، في الأداة الميكانيكية، غريبة الشكل، التي يجد نفسه مجبراً على استخدامها. ما لم يسيطر عليها، ما لم يتحكم فيها، سيكون متنازلاً عن حقه.
فون ستيرنبرغ خلق عالماً اصطناعياً تماماً، فيه الطبيعة تكون مبعدة على نحو صارم. قال ذات مرّة عن فيلمه The Saga of Anatahan أن الخلل الأساسي في هذا الفيلم أنه يحتوي على لقطات لبحر حقيقي، في حين أن كل شيء آخر كان زائفاً.
الفيلم لا يعتمد على أي نظام شفري مشترك، بل على الخيال الفردي للفنان. إنه المظهر الأيقوني للعلامة ذاك الذي يؤكده ستيرنبرغ، المظهر المنفصل عن الدلالي من أجل استحضار عالم، ممكن إدراكه بفضل التماثلات مع العالم الطبيعي، مع ذلك هو ضرب من عالم الحلم، مختلف ومتغاير.
السيميولوجيون كانوا، على نحو غريب، صامتين إزاء موضوع العلامات الأيقونية. كانوا يعانون من انحيازين: الأول، لصالح الاعتباطي والرمزي. الثاني، لصالح المنطوق والصوتي. هذان الشكلان من الانحياز يمكن العثور عليهما في أعمال سوسير الذي، بالنسبة إليه، اللغة كانت نظاماً رمزياً يعمل في رباط حسّي مميّز. حتى الكتابة كانت قد عيّنت، بإصرار ومثابرة، مكاناً أقل شأناً بواسطة اللغويين الذين رأوا في الأبجدية وفي الحرف المكتوب فقط "علامة العلامة"، نظام فرعي خارجي، اصطناعي، ثانوي. هذه الانحيازات يجب تحطيمها. المطلوب هو إحياء علم القرن السابع عشر الذي يشمل دراسة المجال الكلي للاتصال ضمن الرباط الحسي البصري، من الكتابة والأرقام وعلم الجبر حتى التصوير الفوتوغرافي والسينما. ضمن هذا الرباط سوف يتضح بأن العلامات تمتد من تلك التي فيها المظهر الرمزي يكون مهيمناً على نحو بيّن، مثل الحروف والأرقام، إلى العلامات التي فيها المظهر الدلالي يكون مهيمناً، مثل الصورة الوثائقية. بين هذين الطرفين، في محور المجال، هناك درجة جديرة بالاعتبار من التداخل والتشابك، من التعايش، لأوجه مختلفة بلا أي غلبة بيّنة لأي وجه منها.

الاثنين، 16 أغسطس 2010

السيميولوجيا والسينما في لغة الفيلم

((استجابة لدعوتنا إلى فتح باب المناقشة حول مصطلح "اللغة السينمائية"، أرسل الناقد والباحث والمترجم البحريني الأستاذ أمين صالح دراسة مترجمة لبيتر والن، ننشرها على عدة حلقات، وهي بلاشك، يمكن ان تساهم في تعميق فهمنا للموضوع بل وتعميق الدراسات السينمائية النظرية عموما. والدراسة تعيدنا مجددا إلى ساحة المقارنة العميقة بين النص الأدبي والفيلم السينمائي. ولا يسعني هنا سوى أن أتوجه بالشكر إلى الأستاذ أمين صالح على جهده الكبير الذي أرجو أن يواصله في هذا المجال الذي تحتاجه المكتبة العربية)).


كتابة: بيتر والين
ترجمة: أمين صالح

(1)

أحاول هنا أن أعرض بعض الخطوط الهادية لسيميولوجيا السينما، أي دراسة السينما كنظام من العلامات. الهدف الأساسي لهذا هو فرض إعادة الاستقصاء أو البحث في ما نعنيه عندما نتحدث عن لغة الفيلم.. بأي معنى الفيلم يكون لغةً.
هناك سببان لجعل السيميولوجيا مجالاً حيوياً للدراسة بالنسبة للباحثين في جماليات الفيلم.
الأول، أي نقد يعتمد بالضرورة على معرفة ما يعنيه النص، والقدرة على قراءته. ما لم نفهم شِفرة أو طريقة التعبير التي تتيح للمعنى أن يوجد في السينما، فإننا نكون في موقف المحكوم علينا بالغموض والضبابية وعدم الدقة في النقد السينمائي، وبالتعويل الذي لا أساس له على الحدس والانطباعات الخاطفة.
الثاني، يصبح جليّاً على نحو متزايد أن أي تعريف للفن لابد وأن يكون مفهوماً كجزء من نظرية السيميولوجيا في الثلاثينيات من القرن العشرين.
النقاد الشكلانيون الروس أصروا أن مهمة نقاد الأدب ليس دراسة النتاج الأدبي بل "الحالة الأدبية".. هذا لا يزال ساري المفعول. إن الانسياق الكلي للتفكير الحديث بشأن الفنون كان لغمرها بنظريات عامة عن الاتصال، سواء السيكولوجي أو الاجتماعي (السوسيولوجي)، وللتعامل مع الأعمال الفنية كما الحال مع أي نص آخر أو رسالة أخرى، ولحرمانها من أي خاصيات جمالية معينة بها تستطيع أن تكون مميّزة.
الاختراق العظيم في نظرية الأدب جاء مع إصرار رومان ياكوبسون على أن الشعرية هي مجال اختصاص اللغويين، وأنه كانت هناك وظيفة شعرية إلى جانب الوظائف الأخرى. الرؤية ذاتها لعلم الجمال، كمجال اختصاص للسيميولوجيا، يمكن إيجادها في مدرسة براغ عموماً، وفي أعمال Hjelmslev ومدرسة كوبنهاجن.
هناك اهتمام متزايد بسيميولوجيا السينما، بالسؤال عما إذا كان من الممكن تذويب النقد السينمائي وجماليات السينما في إقليم خاص من علم العلامات. لقد أصبح واضحاً على نحو متزايد أن النظريات التقليدية في لغة الفيلم وقواعد الفيلم، والتي نمت على نحو تلقائي عبر السنوات، تحتاج إلى إعادة استنطاق وأن تكون متصلة بالراسخ من نظام علم اللغة.
إذا كان ينبغي استخدام مفهوم "اللغة"، فلابد أن يكون استخدامه على نحو علمي وليس ببساطة كمجاز فضفاض وغير دقيق، حتى وإن كان إيحائياً. الجدل الذي دار في فرنسا وإيطاليا حول أعمال رولان بارت، كريستيان ميتز، بيير باولو بازوليني، أمبرتو إيكو، يمتد في هذا الاتجاه.
الباعث الرئيسي وراء أعمال هؤلاء النقاد والسيميولوجيين ينشأ من كتاب فرديناند دي سوسير "دروس في علم اللغة". كان سوسير قد توفى سنة 1913، وقام تلامذته في جامعة جنيف بجمع محاضراته ومخطوطاته، إضافة إلى ملاحظاتهم، وتركيب المادة في عرض منهجي، نشر في جنيف سنة 1915.
في هذا الكتاب يتنبأ سوسير بعلم جديد، علم السيميولوجيا: "العلم الذي يدرس حياة العلامات داخل المجتمع هو ممكن تصوره. سيكون جزءاً من السيكولوجيا الاجتماعية، وبناءً على ذلك، جزءاً من السيكولوجيا العامة.. سوف أسميه السيميولوجيا (المشتقة من الكلمة الإغريقية semeion والتي تعني "علامة"). السيميولوجيا سوف تعرض ما يؤلّف العلامات، القوانين التي تحكمها.
بما أن العلم لا يوجد بعد، فإن أحداً لا يستطيع أن يزعم ما الذي سيكون عليه، غير أن له الحق في أن يوجد، في أن يكون مشدوداً سلفاً إلى مكان ما. علم اللغة مجرد جزء من علم السيميولوجيا العام. القوانين التي ستكتشفها السيميولوجيا ستكون ملائمة للغويين، وهؤلاء سوف يعينون حدود منطقة هي محددة جيداً ضمن مجموعة من الحقائق الأنثروبولوجية".
سوسير، الذي كان متأثراً بأعمال إميل دوركهايم (1858- 1917) في السوسيولوجيا، شدّد على أن العلامات يجب دراستها من وجهة نظر اجتماعية، وأن اللغة كانت مؤسسة اجتماعية والتي امتنعت على الإرادة الفردية. النظام اللغوي – ما يمكن تسميته هذه الأيام بـ "الشفرة" – سبق في الوجود الفعلَ الفردي للخطاب، "الرسالة". بالتالي فإن دراسة النظام لها أولوية منطقية.
سوسير شدّد، بوصفه مبدأه الأول، على الطبيعة الاعتباطية للعلاقة. الدال ليس له علاقة طبيعية مع المدلول. العلاقة، وفقاً لتعبير سوسير، هي "ليس لها محرّض". إن سوسير لم يكن واثقاً أي التضمينات الكاملة للطبيعة الاعتباطية في العلامة اللغوية كانت لصالح السيميولوجيا.
"عندما تصبح السيميولوجيا منظّمة كعلم، فإن سؤالاً سوف ينشأ عما إذا هو يحتوي على نحو ملائم طرائق من التعبير مبنية على علامات طبيعية تماماً، مثل البانتومايم. لنفترض أن العلم الجديد يرحّب بها، سيظل اهتمامه الرئيسي المجموعة الكاملة من النظم المعتمدة على اعتباطية العلاقة. في الواقع، كل وسيلة تعبير مستخدمة في المجتمع هي مبنية، من حيث المبدأ، على السلوك الاجتماعي أو على العادة المتبعة. الصيغ المهذبة، على سبيل المثال، مع أنها غالباً ما تكون مشرّبة بتعبيرية طبيعية معينة (كما في حالة الصيني الذي يحيّي الإمبراطور بالانحناء حتى الأرض تسع مرات) هي مع ذلك مثبّتة من قِبل قانون. هذا القانون وليس القيمة الجوهرية للإيماءات هو الذي يرغم المرء على استخدامها. العلامات التي هي اعتباطية تماماً تدرك على نحو أفضل من الأخرى غايات العملية السيميولوجية: لهذا السبب اللغة، الأكثر تعقيداً وشمولية من بين كل نظم التعبير، هي أيضاً الأكثر تميّزاً. بهذا المعنى، بإمكان علم اللغة أن تصبح النمط الرئيس لكل فروع السيميولوجيا مع أن اللغة ليست إلا نظاماً سيميولوجياً واحداً".
لقد كان على علم اللغة أن يكون إقليماً خاصاً للسيميولوجيا، وفي الوقت نفسه، النمط الرئيسي للأقاليم المتعددة الأخرى. مع ذلك، كل الأقاليم – أو على الأقل، المركزية منها – كان عليها أن تملك، كهدف لها، نظماً "معتمدة على اعتباطية العلاقة". لكن يتضح أن من الصعب العثور على هذه النظم.
السيميولوجيون وجدوا أنفسهم مقيدين بلغات مصغّرة، مجهرية، كما في لغة إشارات المرور، لغة المراوح، نظم إشارات السفن، لغة الإيماءة بين رهبان دير "لا تراب" الصائمين عن الكلام، ضروب متنوعة من إشارات ضوئية.. وغير ذلك. هذه اللغات المصغّرة ثبت أنها حالات محدودة جداً، قادرة على ربط نطاق دلالي ضئيل جداً. العديد منها كان متطفلاً على لغة شفوية مناسبة.

السبت، 14 أغسطس 2010

"العد التنازلي حتى الصفر": عودة التحذير من الخطر النووي

من مميزات الفيلم الوثائقي الجيد أن يكون موضوعه قد نال أولا ما يستحقه من بحوث وتحقيقات وإعداد للمادة من جميع زواياها، وثانيا أن يكون مركزا لا يحيد عن موضوعه ولا يخرج عنه أبدا، وأن يستخدم كل ما يمكن من وثائق ومقابلات وصور من من الأرشيف، لدعم أفكاره الأساسية وإبرازها والتركيز عليها، وأخيرا، أن يكون جذابا للمشاهدين، كأنه يروي لهم قصة مثيرة تشد انتباههم، وتجعلهم أيضا يخرجون بعد المشاهدة، بفكرة جديدة لم تخطر على بالهم من قبل.
هذه المزايا أجدها متوفرة تماما في الفيلم الأمريكي الوثائقي الطويل "العد التنازلي حتى الصفر" Count Down to Zero للمخرجة البريطانية لوسي ووكر الذي عرض خارج المسابقة في مهرجان كان السينمائي الـ63.
موضوع الفيلم هو الخطر النووي الذي لايزال قائما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ونهاية ما عرف بالحرب الباردة بين الكتلتين، الشرقية والغربية، ورغم ذلك، يؤكد الفيلم أن الخطر المحدق انتقل من الصراع بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، إلى ذلك "الانفلات" النووي الذي يمكن أن يؤدي إليه وقوع قنابل نووية في أيدي عصابات دولية، أو منظمات إرهابية، أو أنظمة ترفض الانصياع للرأي العام العالمي، وتتمادى في فكرة الردع المعنوي بل ويمكن ايضا أن تلجأ إلى الردع المادي النووي باستخدام تلك الأسلحة بالفعل، في حالة شعورها بالخطر.مدخل الفيلم إلى الموضوع هو ما ورد في خطاب للرئيس الأمريكي الأسبق جون كنيدي، الذي حذر عام 1961 من الخطر النووي الذي يمكن أن يقضي على الإنسان، وذكر كنيدي آنذاك، قولته الشهيرة "إن كل رجل وامرأة وطفل يعيش تحت سيف ديموقليطس النووي، المعلق بخيوط رفيعة جدا يمكن أن تُقطع في أي لحظة نتيجة حادث، أو حسابات خاطئة، أو نوبة جنون".
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger