الجمعة، 9 يوليو 2010

حول مصطلح اللغة السينمائية



(أنشر هنا هذه الدراسة النظرية القيمة التي كتبها الناقد والمنظر والمخرج السينمائي الصديق قيس الزبيدي خصيصا للنشر هنا آملا أن تفتح الباب أمام مناقشة جادة بين نخبة من النقاد العرب الذين أرسلت إليهم هذه الدراسة للتعقيب أو مناقشة ما مرد فيها من أفكار، لعلنا في ذلك نعمل على تجميع النقاد العرب حول قضية فكرية نقدية بدلا من الانغماس في تلك الصراعات الصغيرة المنتشرة في الساحة، وبعيدا أيضا عن الشللية القاتلة التي تبتعد بنا عن جوهر مهمتنا النقدية.. ونحن في انتظار وصول كتابات الزملاء الأفاضل لكي ننشرها تباعا- أمير العمري)
بقلم: قيس الزبيدي

أشار الناقد عدنان مدانات في الفصل الثالث "إكلاشيهات المصطلح النقدي المضللة"من كتابه "ازمة السينما العربية" بأن صدور كتاب مارسيل مارتين "اللغة السينمائية" - قبل أكثر من نصف قرن – قاد الى استخدام مصطلح لغة السينما وانتشاره، ويعترف الناقد نفسه، بوقوعه في استخدام هذا المصطلح المُضلل، ومن ثم تراجعه عن استعماله، واستخدم بدله، بعدئذ، وسائل التعبير السينمائية، رغم أن النقاد العرب، ما زالوا يستخدمونه حتى اليوم، دونما أي شعور بالحرج. فنحن نرى مثلا ناقداً بارزاً كعلي أبو شادي، الذي عنوّن كتابه "الفيلم السينمائي" والذي سبق وصدر في طبعته الاولى عن الثقافة الجماهيرية في العام 1989، لكنه حينما اعاد إصداره عن مكتبة الاسرة في العام 1996 واعاد إصداره في دمشق في سلسلة الفن السابع 114 في العام 2006- غير عنوانه إلى "لغة السينما"، التي يعرّفها: حرفة الفنان السينمائي و"ووسيلته لتحقيق رؤيته وتوضيح موقفه بشأنها، شأن اللغة التي يستخدمها الكاتب وفق القواعد والأساليب البلاغية والنحوية". كما إن مخرجاً كبيراً كصلاح أبو سيف أكد، في فترة قريبة، أثناء ما كان يشرح لطلاب المونتاج والإخراج في السنة الثالثة في أكاديمية الفنون بالقاهرة، "علينا فهم السينما كلغة ذات ابجدية واضحة ومحددة، شأنها في ذلك شان جميع اللغات الحية كـاللغة العربية وما تتضمنه من قواعد للنحو والصرف (...) وكلما اتقنا قواعد اللغة كلما استطعنا التعبير عن مرادنا بأبسط وأدق الألفاظ بحيث يفهم حديثنا كل من يستمع إليه. ونتيجة لذلك يرى إن اللغة السينمائية تتألف ابجديتها من ثمانية حروف: خمسة منها تخص الصورة وثلاثة تخص الصوت. ويسمي أبو سيف لطلابه هذه الحروف الخمسة كالتالي: الديكور والممثل والاكسسوار الثابت والمتحرك والاضاءة"!

مقدمة نظرية اولى للنقاش؟
منذ بداية تاريخ السينما تمت مقارنة السينما باللغة الطبيعية وتبع ذلك الاعتقاد بانها لغة تمتلك قواعدها ومونتاجها ونحوها. واستمر عدم الوضوح في عدد من تلك المفاهيم في إطار نظرية السينما، خصوصاً وان نظرية الفيلم الكلاسيكية، لم تمتلك إلا معرفة قليلة بعلم اللغة، كانت بالكاد تؤهلها، بشكل كاف، في عقد عقد مقارنة سليمة بين مفاهيم هذا العلم وتطبيقها في مجال نظرية السينما.
لنعد إلى تاريخ نظرية السينما وإلى الدراسات اللغوية والسيميائية، التي توصلت إلى تحديد وتعريف دقيقين لمفهوم اللغة، بحيث لم يعد من المجدي تطبيق خصائصها ومواصفاتها على ما كان النقد يسميه اللغة السينمائية، والذي تمت مقارنته، منذ بداية تاريخ السينما، باللغة الطبيعية. لقد ساد الاعتقاد بإنها لغة تمتلك قواعدها ونحوها وصرفها. وسبق لبودفكين أن عرف تشابه مفردات السينما بمفردات اللغة الطبيعية كالتالي: “إن المونتاج هو اللغة التي يتحدث بها المخرج إلى جمهوره، واللقطة تمثل الكلمة ومجموعة اللقطات تمثل الجملة والمشهد يتألف من الصور كما تتألف الجملة من الكلمات”. إيزنشتين، أيضاً لجأ بدوره، إلى اللغة، وإلى اللغة اليابانية، بصورة خاصة، لشبه كتابتها بالرسوم الهيروغليفية وانصرفت جهوده في فيلم "اوكتوبر"، إلى اكتشاف الكيفية التي يتمكن بها المونتاج من تحويل صور المواضيع الحسية إلى لغة المفاهيم المجردة. ونتيجة لذلك يرى ميتري أن محاولة ايزنشتين في صنع فيلم عن "رأس المال"، وهي محاولة لم تر النور، ، لو تحققت، لكان مصيرها الفشل.
ليس هناك من يعارض اعتبار الصور السينمائية مثل الكلمات، طبيعتها، كعلامات، التعريف بشيء ما عبر استبداله بشيء آخر، أو بتعبير أفضل، إحلال شيء آخر بدله. ولا شك إن العلامات السينمائية تُظهر بنية نظيرة لبنية لغة الكلام، كما أن استعمالها يخفي نظاماً شبيهاً بنظام لغة الكلام، ويُظهر بنية نظيرة لبنية لغة الكلام. "وإذا ما ارادت السينما أن تكون لغة اصلية فعلينا أن نتنازل عن أن تكون بمنزلة كاريكاتير اللغة الطبيعية".
حدث في منتصف سنوات الستينيات تحول كبير في طبيعة القضايا الجمالية واللغوية السينمائية التي خضعت للدراسة والتحليل من قبل منظرين جدد جاؤوا إلى حقل السينما من حقول معرفية أخرى مثل علم اللغة والبنيوية والسيميائية (سيميولوجي) أو علم نظام العلامات. وقد أغنت مثل هذه الأبحاث نظرية وجمالية السينما عبر عقد الصلة بين أصول وقواعد لغة الكلام وأصول وقواعد لغة السينما. وقد عرّفت السيميائية اللغة والفيلم باعتبارهما ينتميان، من جهة، إلى نظم الاتصال، ويختلفان، من جهة أخرى، في أن اللغة، أية لغة، تملك نظام لغة، أما الفيلم، الذي تجمعه مع اللغة أشياء كثيرة مشتركة، فليس له نظام لغة. ولعل هذه المقارنة توضح ما عناه كريستيان ميتز، حينما اعتبر الفيلم لسانا بدون لغة، أو حينما عقب على ذلك امبيرتو ايكو، وعد الفيلم بمنزلة كلام لا يستند على لغة.
عرف ابن جني اللغة بأنها مجموعة “أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم”. كما اعتبرها الآمدي “اختلاف تركيبات المقاطع الصوتية” التي تفضي إلى دلائل كلامية وعبارات لغوية. والثابت أن لكل لغة وحدات صوتية تتيح لها تركيب الوحدات الدالة التي تنفرد بها، وإذا ما تجاوزنا التعاريف العديدة للغة، التي حاول كل منها وفي أوقات مختلفة أن يقترب من قانون اللغة الأساس، فسنجد أن أندريه مارتينيه، وهو يقارن بين الكلام البشري وبين غيره من ألوان التخاطب، استطاع أن يبين أن الكلام البشري قادر وحده على "التمفصل المزدوج" وأكتشف أن مبدأ التمفصل المزدوج هو القانون الأساس من قوانين اللغة الطبيعية.
يتركب التمفصل المزدوج من تمفصلين: المورفيمات، وحدة التمفصل الأول، وهي وحدات صوتية صغرى دالة، تتألف بدورها من وحدات أصغر منها غير دالة وهي الفونيمات، وحدة التمفصل الثاني، وهي وحدات صوتية تمييزية. يعبر عنها في الكتابة بالحروف الأبجدية يمكن بواسطتها تركيب الوحدات الصوتية الدالة: الكلمات المعجمية، التي تنفرد بها كل لغة. ومع أن عدد الفونيمات محدود، إلا أنه ينتج عدداً غير محدود من المورفيمات، تساعد على التمييز بين المعاني. وان ما ينتج عن تعريف الفونيم بوصفه قيمة تمييزية في المقام الأول، هو أن الفونيمات لا تنجز وظيفتها بفضل تفردها الصوتي وإنما بفضل تقابلها التبادلي ضمن نظام معين. والشيء المهم، الذي يتعلق، بقدر ما بالفونيمات، هو الاختلافات، التي تساعد على التمييز بين الكلمات. وهذه هي القيمة اللغوية الوحيدة للفونيمات. فتلك الاختلافات هي بالضبط، نقطة الانطلاق لأي بحث في الفونيمات. وأكد دي سوسور نفسه اعتماد اللغة على الاختلافات، ورأى أن ليس في اللسان سوى فروقات، من هنا يأتي اكتشاف مارتينيه الحاسم للتمفصل المزدوج ويتيح تعريف اللغة، إذ لا يمكن اعتبار أية وسيلة اتصال أخرى، لا تمتلك هذا القانون الأساس، الذي يصوغ نظام اللغة بمنزلة اللغة. من هنا أيضاً يأتي، مثلاً، تأكيد مونان على إن “التمفصل المزدوج هو ما يُميز اللسان البشري وما هو لغوي خالص في تعابير الإنسان معاً، وهو مشترك بين اللغات كافة. وخارج التمفصل المزدوج لا توجد لغة قط، ولا يوجد شيء يتعلق بعلم اللغة".
كان السؤال، الذي يساق، منذ البداية، ويقارن السينما باللغة الطبيعية هو: كيف نجعل مادة التعبير في السينما ذات دلالة، وكيف نجعل الصور تحمل الدلالات؟
هناك عدد من مشاكل مركزية في نظرية السينما، لا يمكن حلها دون الرجوع إلى نظرية علم اللغة وطريقتها. وثمة أوجه ثلاثة متداخلة فيما بينها: تاريخ النظرية، ونقد النظرية الكلاسيكية في تحليل لغة الفيلم وسيميائية الفيلم، ومشروع نظرية الفيلم الجديدة، وهذه العلاقة المترابطة، لا يمكن كشفها دون استطلاع قصير للمفهوم النقدي لتاريخ النظرية.
تحدث كريستيان ميتز عن مراحل ثلاثة لتاريخ النظرية، جرى فيها تسليط الضوء على الفيلم، وتأسس، نتيجة لذلك، ما سُمي نظرية الفيلم أو نظرية السينما، و يعني الشئ ذاته، وتمت فيها معرفة ما هو فيلمي أو ما هو سينماتوغرافي. وكانت تلك الابحاث الإنتقائية والتركيبية متألقة، في بعض الأحيان، رغم إنها لم تستعمل منهجاً معرفيا بعينه، بشكل كامل، بل استعملت مناهج عديدة. وفي مرحلة ثالثة، كانت متوقعة، كان على كل منهج من هذه المناهج، وهو يرتبط بغيره ويتداخل، أن تختفي اشكاله الحاضرة، وأن يتخلص تركيب نظرية السينما، فعلاً، من انتقائيته ويراجع مدى صحة تقديراته المختلفة ومعرفة مستواها التجريدي الخاص. ويبدو إننا في الوقت الحاضر، نجد أنفسنا في المرحلة الثانية، التي هي "مصح شفاء" لا مفر منه، وعلينا أن نتعرف على تعددية المناهج الضرورية. إن سيكولوجية الفيلم وسيميائيته لم تكن موجودة في الماضي، وربما لن توجد في المستقبل، لكن علينا اليوم أن نرعاها، لأن الوصول إلى خلاصة حقيقية، لن يتحقق بالإملاء، إنما يتحقق، في النهاية، عن طريق الابحاث الوفيرة".
كان الهولندي جان ماري بيترس من أوائل السيميائيين الذين بحثوا في هذه الإشكالية. وتقف دراسته الأولى التأسيسية "بنية اللغة السينمائية" التي نشرت عام 1961 على رأس قائمة البحوث الجديدة المهمة. ويبدأ بيترس بحثه بالسؤال التالي: "ماذا نريد أن نفهم من كلمة "لغة"؟ وإذا ما كنا نرى في لغة الكلام الظاهرة اللغوية الوحيدة. فعندها ستكون كل مناقشة حول طبيعة لغة السينما بدون أي معنى. أما إذا سلمّنا بوجود لغات أخرى إلى جانب لغة الكلام، وانطلقنا من مفهوم لغة عام جداً، فعندها يمكننا أيضاً أن نفكر بـلغة للسينما. وإذا ما توصلنا، بناء على ذلك، إلى الاستنتاج القائل بأن استعمال تعبير لغة سينمائية تم تفسيره، فنكون، بذلك، توصلنا بالتأكيد إلى نتيجة ناقصة.
تتوقف الدراسات المقارنة الحديثة عند هذه المسألة طويلاً، وتتوصل إلى نتيجة: إن اللقطة لا تشابه الكلمة والمشهد لا يشابه الجملة، لأن الفيلم أصلاً لا يمتلك، مثل اللغة، نظاماً خاصاً، يجعل منه لغة. فالكلمات هي رموز اصطلاحية ينوب فيها الدال عن المدلول على أساس المواضعة، أما الصور فهي علامات أيقونية، تقوم نفسها على أساس مشابهة ما تدل عليه. وكما تملك الكلمة علاقة غير مباشرة بما تدل عليه، تملك الصورة علاقة أيقونية مباشرة بما تدل عليه وتصوره : أي إن الكلمة، وحدة لغوية، علامة، وظيفتها إحلال شيء بدل شيء آخر، فهي دال ينفصل عن مدلوله: الكلمة تساوي الشيء. أما الصورة، فهي علامة بصرية، تتشابه فيها العلاقة بين الشيء ومظهره، ويتطابق فيها الدال مع المدلول: أي إن العلامة هنا هي مظهر الشيء ذاته: العلامة تشبه مظهر الشيء. وتكمن قوة اللغة في استعمال علامات يتباين فيها الدال والمدلول، بينما قوة الفيلم تكمن في استعمال علامات يتطابق فيها الدال والمدلول.
بإمكاننا الوقوف على غنى هذا التصور عندما يطبقه رولان بارت على العمليات الدلالية التي ننعتها عادة بلفظي التعيين DENOTATION أي المعنى الحرفي للكلمة والتضمين CONNOTATION أي المعنى الثاني الإيحائي للكلمة. إن معنى التعيين هو عادة استعمال اللغة بطريقة أو بأخرى، لتدل بها على ما تقوله، بينما معنى التضمين هو استعمالها بطريقة أو بأخرى، لتدل بها على غير ما تقوله. ويحدث التضمين عندما تغدو نفس العلامة، الناتجة عن علاقة سابقة بين الدال والمدلول، دالاً على مدلول جديد. وهذا يعني إن التعبير في السينما يمكن أن يتحول بدوره، عبر حضور العلامة الأيقونة، إلى تضمين، إلى دال، يبتكر كل مرة، مدلوله. ولعلّ هذا ما دفع كريستيان ميتز إلى التأكيد على إن الفيلم: "يروي لنا قصصاً مترابطة، ويقول لنا اشياء كثيرة، تقولها ايضا اللغة المنطوقة، لكنه يقولها بطريقة اخرى. إن الذهاب إلى السينما يعني رؤية هذه القصص".بمعنى آخر: "ليس لان السينما لغة تستطيع أن تروي لنا قصصا جميلة، إنما لأنها روت لنا هذه القصص اصبحت، بذلك، لغة". على الفيلم أن يقول شيئا وله أن يقوله، لكن دون أن يلتزم بشعور معالجة الصور ككلمات وتنظيمها وفقا لقواعد نحو لغوي مشابه. أن حظ الفيلم في قدرته على التفريج والتعبير عن معنى، ليس وفقا لافكار مسبقة أو مستعارة، انما عبر تنظيم عناصره في الزمان والمكان. كيف؟ يستنتج ميتز: "الكاتب يستعمل اللغة، أما السينمائي فإنه يبتكرها".
يتطرق جان ميتري في مؤلفه "جماليات وسيكولوجية السينما" إلى قضية "اللغة" في السينما، ويعدها من أهم القضايا السينمائية وأكثرها شيوعاً على الإطلاق. وينطلق ميتري، في معالجة هذه القضية، من منظور مختلف إلى حد ما عن ميتز، وينتهي، بعد عرض أفكاره، إلى أن السينما أيضاً لغة، لكنها تختلف عن اللغة المنطوقة، رغم أنه، يراها، في النهاية،لغة طالما إنها تشارك اللغة اللفظية في خاصية إيصال المعنى. يكتب ميتري: إلى أي مدى يمكن اطلاق مفهوم لغة على الفيلم بصورة عامة؟ إذا ما عدنا إلى مفهوم اللغة بمعناه الكلاسيكي، فمن الواضح أن السينما لا يمكن أن تكون لغة (...) لان مفهوم اللغة الكلاسيكي يصح على اللغة المنطوقة فقط، لأنه مفهومٌ لغويٌ وليس مفهوما منطقياً. ليست الصورة، كما نعرف، علامة في ذاتها، غير إن المعنى الذي تحمله، يتغير وفقا لاسلوب عرضه (...) كما أن من الواضح أيضاً، بان الفيلم هو شيء يختلف تماماً عن نظام العلامات والرموز، وانه على الأقل لا يبدو، وحده، كذلك. الفيلم أولا هو نظام صور، صور لأشياء، نظام صور هدفه وصف تتابع إحداث معينة، يطورها الى سرد. وهي صور تذعن، وفقا لطريقة السرد، المختارة، لنظام من العلامات والرموز، تصبح أو يمكنها إضافة إلى ذلك، رموزاً. وإنها أخيراً ليست علامات كالكلمات، إنما هي، في الدرجة الأولى، مواضيع من واقع ملموس، مواضيع، تحمل أو يمكن أن تحمل معانٍ معينة. من هنا فان الفيلم لغة ويصير بهذا المقياس لغة حينما يعرض أولا بمعونة هذا العرض.
باختصار صنف جان ميتري السينما في تصنيف يختلف عن اللغة الكلامية، لأنه يجد الصورة تختلف عن الكلمة التي تقارن ، ولان الصورة تتطابق مع أشياء الواقع. غير إن محاولة جعل المونتاج يعمل عمل اللغة، هو مجرد اساءة لاستعمال قدرات وسيط السينما الفني. ومع إن الناقدة دينا دريفوس تقول الشيء نفسه الذي يقوله ميتري، إلا أنها ترفض اعتبار السينما لغة. ويوضح ميتز، بأن الملاحظة التي يوردها ميتري ومفادها، انه من اليسير مناقشة أن كل لغة ينبغي أن تشبه اللغة المنطوقة، تجعلنا نستنتج أن لغة الفيلم، لاختلافها عن اللغة المنطوقة، هي بالتالي ليست لغة.
على أساس من هذه الإشكالية، تاريخياً، جرت مساع عديدة لمحاولة البرهنة على وجود "تمفصل مزدوج" في التعبير السينمائي، يتناظر مع وجوده في اللغة، فمثلاً وجد بازوليني علامات الفيلم هي علامات الواقع نفسه، والفيلم هو فلتر/ مرشح بين صانع الفيلم والواقع، لأن الفيلم يحكي لغة الواقع المكتوبة ويعرض الواقع بالواقع نفسه ولغة الواقع الموجودة في العالم هي لغة الواقع الطبيعي النقية والوحيدة، التي تجعل الواقع يحاكي حاله. وتجعل من سيميائية الواقع مادة الفيلم الواقعية، سيميائية تقول لنا شيئا، وتسرد معاني، بالعلاقة مع معاني الأشياء والأحداث التي يصورها الفيلم.
ووصل بازوليني إلى كون الوحدات الصغرى في السينما، التي يعاد إنتاجها كما هي على الفيلم، تعادل الفونيمات، وأن لغة السينما هي صياغة خاصة للتمفصل المزدوج. لان وحدات لغة السينما الصغرى تبرهن على أشياء الواقع المتنوعة وتحتل الصدارة في الصورة، وتعادل، عبر التشابه، الفونيمات، التي تقابل مورفيمات اللغة الطبيعية وتوازيها. أما ايكو فيجد حجة بازوليني تدل على فهم ناقص في معرفة الكود الثقافي،ومعرفة إيديولوجية وطبيعة، ليس فقط الفيلم إنما طبيعة السلوك الإنساني وعملية التفاهم بصورة عامة. فأشياء الواقع، التي تحتل الصورة، بالنسبة له، هي مجرد مظاهر اصطلاحية مقررة، تتم بوساطة التكويد/ التشفير إلا يقوني، وتدل على صفات المعاني، وهي بالتالي، وحدات صغرى لا تعادل الفونيمات اللغوية ولا تستند في إنتاج المعاني المختلفة على تمفصل صورة مزدوج.
غير أن محاولة بازوليني بينت، في نهاية المطاف، نوعية مغايرة للتمفصل المزدوج، التي سعت للبرهنة على وجوده. ففي كتابه الأول"الصورة ـ الحركة" أشار الفيلسوف جيل دولوز إلى مسعى بازوليني في إيجاد مقاربات في السينما مع اللغة، ووجدها مقاربات غير موفقة، لأنه يرى إن كان للقطة من نظير فسيكون في المنظومة المعلوماتية، وليس في المنظومة اللسانية. ويعود دولوز في فترة لاحقة إلى مناقشة مسألة العلاقة بين السينما واللغة، لينبه إلى أنها ساعدت على صياغة شروط وإمكانات سيميائية الفيلم. ويطري حذر كريستيان ميتز في تناوله لهذه العلاقة، إذ انه لم يسأل: “ما الذي يجعل من السينما لغة؟”، إنما طرح السؤال بشكل آخر: “ما الذي يجعلنا نعتبر السينما لغة؟”. ويستنتج ميتز أن: “السينما فن حين تصبح لغة”. وقد وضع ميتز أمامنا جوابين، الأول الذي تبيّنه “الواقعة” التاريخية، وهو أن السينما تطورت، بالدرجة الأولى، إلى سينما سردية تروي حكايات. والثاني يتعلق بتتابع الصور واقترابه، كمعنى، من العبارة الملفوظة، مما قاد إلى اعتبار اللقطة المنفردة كعبارة سردية صغرى. ولربما دفعته مقارنة كهذه إلى التوضيح: "بأننا نفهم الفيلم ليس بسبب من فهمنا المُسبق لنظامه، إنما على العكس من ذلك، فنحن، لأننا نفهم الفيلم، نقترب من فهم نظامه. فالسينما لم ترو لنا قصصا جميلة لأنها لغة، بل لأنها روت لنا مثل هذه القصص والحكايات أصبحت كما اللغة". ويستنتج ميتز: “السينما فن حين تصبح لغة”.
وإذ يجد لوتمان اللغة الطبيعية كموديل نموذج للعالم أولي، فانه يجد أشكال التعبير في الفن وسائط موديل من نوع آخر ثانوي. وهو يعتبر اللغة “نظام تنمذج أولي” في التعبير، كما يعتبر وسائل التعبير الأخرى الأدبية والفنية “نظام تنمذج ثانوي” في التعبير، وقلما يستطيع نظام التنمذج الثانوي، وهو يبتكر لغته في التعبير، الاستغناء عن النظام الأولي.
إن التحليل الذي يقدمه لوتمان ويصل انطلاقاً منه إلى نظام موديل الفن كلغة "تعبير" ثانية بالعلاقة مع اللغة الأولى، يساعد إلى حد كبير على فهم الإشكالية التي واجهت العديدين. فهو إذ يسمي هذه اللغة الثانية “نظام تنمذج ثانوي” يضع بيد المختصين مصطلحاً يعينهم على إزالة الالتباس، الذي يحيط بهذه الإشكالية المطروحة، الناتجة من عدم الوضوح العام.
يتم عندنا الحديث في أدبيات عديدة عن اللغة السينمائية وعن سيطرة مفرداتها وقواعدها، نحوها وصرفها، على كل الأشكال في كل الأفلام، ويربط مثل هذا التصور كل شيء هنا بخاصية فيزيائية، تتم عن طريق الاستعانة بالكودات والتقنيات السينمائية المتداولة التي تشكل معجماً صغيراً في عملية الابتكار السينمائي، الذي يرتبط بمجموع دلالات الأفلام. كما أن هذا التصور يرد اعتماد مصطلح اللغة السينمائية إلى استخدام هذه أو تلك من الكودات الفيلمية والتقنيات السينمائية، التي تم اكتشافها في عملية إنجاز الأفلام، وهو ما يطلق عليه كريستيان ميتز صفة "سينمائي"، أي كل ما يتألف من تركيبات تظهر في الأفلام وتحمل دلالات وتنتج معاني. إن هذه الفرضية تؤكد، بالتالي، على بعض المكونات السطحية، لان أية لغة تميز نفسها عن لغة أخرى بواسطة مادة تعبيرها، واعتبار السينما لغة يضعنا، أيضا، بمواجهة وجود مادة تعبير مسبقة، هي في واقع الحال غير موجودة.
ليس المهم، لمن يبحث، التراجع عن مصطلح "لغة السينما"، حتى وان كان يستعمله مجازاً، المهم أن تتاح لنا فرصة الوقوف عند: “إشكالية” موجودة حقا ويجب علينا فهمها بعمق، خصوصا وان "الالتباس" يأتي من استعمال مصطلح "لغة" بينما الوسيط السينمائي، ليس، في واقع الحال، لغة جاهزة، لها قاموسها الخاص وقواعدها العامة ونحوها...
يبقى أن من يعتقد إن تقسيم المشهد إلى لقطات بأحجام مختلفة واستعمال الشاريو أو الزوم والبانوراما أوالتصوير بكاميرا واحدة واعتماد مواقع تصوير عديدة واستخدام طرق مونتاج مختلفة الخ... يخوله باستعمال هذا المفهوم، فليس علينا سوى أن نبين إن ذلك يشكل للسينمائي "كودات" حيادية، ليس لها، في الأصل، دوال جاهزة، ترتبط بمدلولات قاموسية، فالفيلمي المنجز يسبق الفيلم، وما هو سينمائي ينتج من الفيلم ويأتي مصدره من علامات مبتكرة تتآلف في الفيلم كخطاب. وبناء على ذلك يستطيع البحث السيميائي في بنية الفيلم "العميقة " أن يستدل، فقط، على خاصية تعبيره المُميزة، التي تشكل خطابه السينمائي، والتي هي " اللغة " الثانية ـ نظام التنمذج الثانوي ـ التي لا تسبق التعبير إنما تنشأ عنه.
لنحاول أن نصل الى خلاصة، نستنبطها، من سؤال جان ماري بيترس الهام، الذي لم يتمكن، حينئذ، أن يجد جوابه الحاسم، لكنه استطاع أن يفتح الحوار أمام الدارسين بهدف الوصول إلى معرفة جديدة. ولعل العلاقة إذا ما توضحت عندنا بين لغة السينما وفن السينما ذات وضوحها في لغة الكلام وفي فن الشعر، فإن هذا الوضوح يقدم فائدة جليلة في الكشف العميق عن طبيعة عملية التعبير البصري وخصوصيتها ويظل يفتح آفاقاً جديدة أمام علم جمال السينما.
مصادر مختارة
1- عدنان مدانات. أزمة السينما العربية - الهيئة العامة لقصور الثقافة/ 2007/ القاهرة .
2- د. منى الصبان. أنا والمونتاج. تجارب خاصّة في السينما المصرية. الفن السابع 116 منشورات وزارة الثقافة-المؤسسة العامة للسينما/دمشق/ 2006.
3- قيس الزبيدي. بنية المسلسل الدرامي التلفزيوني: نحو درامية جديدة. قدمس للنشر والتوزيع/دمشق/ 2000 .
4- جيل دولوز. الصورة ـ الحركة. وزارة الثقافة ـ المؤسسة العامة للسينما/ دمشق/ 1997.
5- كريستيان ميتز. دراسة عن جان ميتري. مجلة الفكر والفن المعاصر. ديسمبر/ 1997.
6- ج. مونين. في اللسانية- مفهومات في بنية النص ـ دار معد للنشر/ دمشق/ 1996
7- جيل دولوز. الصورة ـ الزمن. سوركامب/ فرانكفورت/ 1991.
8- بيتر فايس. قيمة فن وخواص جماهيرية الوسيط.، مفاهيم في تاريخ ونظرية الفيلم الروائي. دار نشر هينشل/ برلين/ 1990.
9- يوري لوتمان. مدخل إلى السيميائية. النادي السينمائي. ترجمة. نبيل الدبس. مراجعة. قيس الزبيدي. دمشق/ 1989.
10- كارل-ديتمار موللير-ناس. لغة الفيلم. نظرية تاريخ نقدي. الطبعة الثانية/1988. دار نشر ماكس- منستر.ألمانيا
11- ترنس هوكس. مدخل إلى السيمياء. مجلة بيت الحكمة. المغرب/ العدد الخامس أبريل/ 1987.
12- ج. دادلي أندرو. ترجمة: د. جرجس فؤاد الرشيدي. مراجعة: هاشم النحاس. الألف كتاب (الثاني-51) الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 1987
13- أندريه مارتينيه. مبادئ اللسانيات العامة. ترجمة الدكتور احمد الحمو. وزارة التعليم العالي/دمشق/1985.
14- كريستيان ميتز. سيميائية الفيلم. Wilhelm Fink Verlag، ميونيخ/ 1972
15- بودفكين. الفن السينمائي. ترجمة. صلاح التهامي. دار الفكر/ القاهرة 1957.

الاثنين، 5 يوليو 2010

"حنين للضوء": التطلع إلى السماء لمعرفة ما في باطن الأرض

كان من أهم وأجمل ما عرض من أفلام وثائقية في مهرجان كان السينمائي الـ63 فيلم "حنين للضوء" Nostalgia De La Luz للمخرج التشيلي الكبير باتريشيو جوزمان Guzman
وقد صنع جوزمان فيلمه في نحو ساعة ونصف، وصوره للشاشة العريضة، وفيه يحاول أن ينقل الفيلم الوثائقي نقلة جديدة، ليس من خلال التلاعب بالشكل بل عن طريق، التعامل مع التاريخ والسياسة ولكن من خلال نظرة فلسفية ذهنية، ترى علاقة بين دقائق الكون، وحبيبات الرمال في جوف الصحراء، بين الكواكب وحركتها وما تسقطه من ضوء، وبين العتمة التي تمكن داخل باطن الأرض، والعتمة القائمة التي تحلق فوق منطقة معينة من "تاريخ" تشيلي، لا يصلها ضوء الكواكب، ولا تخترقها نظرة المناظير العملاقة التي نراها في المشاهد الأولى من الفيلم.
إننا أمام فيلم يبدو للوهلة لأولى، تقليديا، في بنائه، وفي استخدامه للتعليق الصوتي المصاحب لصوره ولقطاته، غير أن الفيلم في جوهر مادته وتركيبها معا، ليس تقليديا على الإطلاق، بل ويمكن أن يكون فيه نوعا من السيريالية أيضا، فهناك علاقة وثيقة بين ما يحدث في الكون، خارج عالمنا المحدود، وبين ما هو كائن في جوف الأرض "حرفيا"، بين التاريخ: تاريخ الإنسان على هذه الأرض، وبين ما يكمن تحت هذه السماء، بين الماضي البعيد والماضي القريب، وبين الإنسان والتاريخ. ولذلك يمكن القول إن فيلمنا هذا ينحو منحى ذهنيا، يحيل المشاهدين إلى التأمل، ويدعوهم إلى التوقف أمام أفكار تتجاوز مجرد الهجاء الشائع في الأفلام التي تبحث عادة، في قضية الاضطهاد السياسي.
يدور الفيلم في معظمه في صحراء "أتاكاما" Atacama التي تبلغ مساحتها نحو الف كيلومتر مربع، وتمتد بين تشيلي وبيرو. وتعتبر هذه الصحراء أكثر مناطق العالم جفافا، ولذا تعتبر بمثابة "جنة" لعلماء الفلك، وفيها كما نرى في الفيلم، عدد من المراصد ذت القباب التي تحتوي على أكبر المناظير الفلكية في العالم.
هنا، من خلال هذه المناظير، يمكن رصد حركة بعض الكواكب.. ويمكن متابعة أشعة الضوء التي تنعكس من هذه الكواكب وتصل إلى كوكبنا بعد فترة زمنية لها بالطبع حساباتها العلمية.

رحلة إلى الماضي
رحلة الضوء بكل ما يحمله من لغز في داخله، هي مدخلنا إلى موضوع الفيلم، ولكن الموضوع ليس علم الفلك. إنه التاريخ: تاريخ القتل وسفك الدماء وعدوان الإنسان على الإنسان.. ما شهدته تشيلي في عهد الجنرال أوجستو بينوشيه، من تصفيات للمعارضين ودفنهم في مقابر جماعية.
ولكن ما علاقة الفلك والضوء بهذا؟
يتحدث عالم الفلك الشاب جاسبار جالاز في الفيلم عن الضوء فيقول إن العلماء عندما يتطلعون إلى السماء لرصد الضوء ومساره، فإنهم في الحقيقة يتطلعون إلى الماضي، فالضوء عندما يسقط لا يصل إلينا مباشرة بل يقتضي الأمر مرور بعض الوقت، قبل أن يصل إلينا، وإذن فنحن في الحقيقة نتعامل مع ظاهرة تنتمي إلى الماضي.
ويقول العالم الشاب إن بحث الإنسان يتركز في الماضي، في التاريخ، فيما وقع بالفعل.
في صحراء أتاكاما الممتدة الشاسعة، ينتشر أيضا عدد من علماء الجيولوجيا والحفريات الذين ينقبون عن أصل الإنسان، ويجرون الكثير من الحفريات التي يستخرجون خلالها الكثير من البقايا التي تدل على نشاط الإنسان في تلك المنطقة منذ أكثر من عشرة آلاف سنة. ولعل هذا النشاط العلمي المزدهر هنا يعود أيضا إلى ان احتواء التربة على أملاح النترات التي تساعد على حفظ الهياكل العظمية والبقايا البشرية.

لكن المفارقة التي يركز عليها جوزمان هنا، هي أنه في حين يجري الاهتمام بالفضاء وما يحدث فيه من خلال رصد أدق التفاصيل، وبينما يلقى الماضي السحيق اهتماما من جانب علماء الحفريات والآثار القديمة، لا أحد يبدو مهتما كثيرا بالبحث فيما وقع في الماضي القريب، خلال سبع عشرة سنة من حكم الجنرال بينوشيه الذي جاء في انقلاب عسكري دموي على حكومة الرئيس سلفادور اليندي عام 1973.
في تلك المناطق الصحراوية التي تقسو فيها الحياة، وتشتد الحرارة، ويتصاعد اللهيب بفعل الجفاف الشديد، هناك بقايا قائمة من مساكن عمال مناجم أملاح النترات، أقيمت في عشرينيات القرن الماضي. هي مهجورة حاليا، لكن نظام الجنرال بينوشيه كان يستخدمها كمعسكرات اعتقال جماعية قتل فيها آلاف الضحايا. ويقدم اثنان من الناجين من تلك المعسكرات الرهيبة شهاداتهم في الفيلم، ويتحدثان عما كان يقع من تصفيات فيها وعمليات تعذيب، ويرويان عن معاناتهما الشخصية خلال سنوات الاعتقال، ثم كيف تمكنا من الهرب.
وفي الصحراء جنبا إلى جنب مع علماء الفلك، وعلماء الآثار، نساء بلا مستقبل، يعشن جميعهن في الماضي، جئن إلى تلك المنطقة النائية واتخذن منها مكانا لإقامتهن الطويلة، من أجل هدف واحد يجمع بينهن جميعا: العثور على رفات الأهل والأحباب والأبناء والأزواج من المعارضين السياسيين لنظام العسكر بزعامة بينوشيه، والذين قضوا خلال سنوات الحكم العسكري، ودفنوا في عمق الصحراء.
الباحثات عن الحقيقة
ماذا يمكن أن تفعل تلك المناظير الضخمة التي تراقب ما يحدث في الفضاء الخارجي، وماذا يمكن أن يقدم العلماء لهاته النسوة المعذبات؟
هنا نرى النسوة وهن يحفرن بأيديهن، يوما بعد يوم، يروادهن الأمل في العثور على رفات أحبائهن الغائبين، دليلا على تلك الجريمة الكبرى التي لوثت تاريخ تشيلي الحديث، وأرادت الأنظمة التي تعاقبت بعد سقوط نظام بينوشيه، أن تنساها، أو تتجاوزها وتتستر عليها، لكن جوزمان، المخرج الذي لعب هو نفسه دورا بارزا في مقاومة الديكتاتورية العسكرية بأفلامه، ودفع ثمنا باهظا لمعارضته، لا ينساها ويريد أن يساهم بفيلمه هذا في إعادة التذكير بتلك التراجيديا الكبرى. إمرأة مثل فيوليتا بيريوسي، وهي في السبعين من عمرها، نحيلة البنية، تشع عيناها ببريق غريب، تأسرك بكلماتها. يسألها جوزمان من وراء الكاميرا: هل ستواصلين التنقيب؟
فتجيب: "سأواصل التنقيب مهما كلفني الأمر ومهما طال الزمن. حتى لو كانت لدي شكوك واسئلة لا أملك إجابات عنها. إنهم يقولون إنهم قاموا بإخراجهم من تحت الأرض وألقوا بهم في مياه البحر. هل حدث هذا حقا؟ لا يمكنني العثور على إجابة عن مثل هذا السؤال. ماذا لو كانوا قد ألقوا بهم في الجبال القريبة. حتى بعد ان بلغت هذا السن، وأنا في السبعين من عمري الآن، أجد من الصعب أن أصدقهم. لقد علموني ألا أصدقهم. أحيانا أشعر أنني كالبلهاء، لأنني لا أكف عن طرح الأسئلة. ولا أحد يريد أن يمنحني الإجابة التي أنشدها. إذا قال لي أحد إنهم ألقوا بهم في أعلى الجبل، فسوف أعثر على وسيلة للوصول إلى قمة الجبل . لست مثلما كنت في العشرين، سيكون من الصعب أن أفعل ذلك.. لكن الأمل يمنحك القوة".فيلم "حنين إلى الضوء"، أي حنين إلى المعرفة، إلى الإبصار، إبصار الحقيقة، والكشف عن الماضي، يكشف لنا طبقة جديدة من المعاناة: معاناة العيش في الماضي ليس من أجل التلذذ به، بل للكشف عن درس في التاريخ لا يجب نسيانه.
الكاميرا- قلم
والفيلم عمل فني رفيع، يستخدم فيه مخرجه كل إمكانيات السينما الوثائقية الحديثة للتعبيرعن فكرته. إنه يستخدم الكاميرا كما يستخدم الشاعر القلم، يبدأ الفيلم بلقطات من خلال عدسات المناظير الفلكية العملاقة، للكون، لقطات سيريالية تتداخل فيها الالوان وتبدو فيها الحركة الدقيقة للأشياء مثل حركة جنين لم يولد بعد. وينتقل بعد ذلك إلى الصحراء، ويصنع من اللقطات التي تمتزج فيها حبيبات الرمال المتطايرة مع الضباب في الليل، صورة فريدة تعمق من إحساسنا بالاغتراب من أجل الاقتراب.
ويشيع طوال الفيلم إيقاع بطيء، يسمح بمساحة جيدة للتفكير والتأمل، وموسيقى كلاسيكية رصينة، تساعد على التحليق بنا إلى مأساة الماضي، إلى عمق التاريخ بطبقاته المختلفة التي يكشف لنا عنها الفيلم تدريجيا، إلى أن يواجهنا بالصدمات الأخيرة. ويستخدم الفيلم الشهادات الحية ويمزجها بالوثائق والصور الفوتوغرافية والخرائط والرسوم. ويستخدم التعليق الصوتي بدقة شديدة، ويحرص على الابتعاد عن الثرثرة، بل بلغة ذات إيقاع شاعري حزين، فيها الكثير من الرصانة، والكثير من الرنين الذي يضفي عليها رونق خاص. والتعليق كله بصون جوزمان نفسه، الذي يريد أن يقول لنا إنه يوجه رسالته بشكل مباشر إلينا نحن المشاهدين.
ورغم ما يبدو من صرامة باردة ظاهرية في التعامل مع الموضوع إلا أن هناك الكثير من المشاهد الصادمة المثيرة للعديد من المشاعر. فهل يمكن مثلا نسيان امرأة مثل فيكي سافيدرا التي استطاعت، بعد سنوات من التنقيب، العثور على جزء من جمجمة شقيقها وبعض أسنانه وإحدى قدميه والحذاء لايزال فيها، وهي تواصل التنقيب، تريد أن تعثر على باقي أجزاء جسده!
تجربة المخرج
باتريشيو جوزمان المخرج من مواليد تشيلي عام 1941، درس السينما في مدريد (اسبانيا)، وتخصص في إخراج الافلام الوثائقية التي يعتبر أشهرها فيلم "معركة تشيلي" الذي يسجل ويوثق فيه لسنوات تجربة حكومة الوحدة الشعبية وما لاقته من متاعب، إلى أن وقع الاتقلاب العسكري عام 1973 وقد سجن جوزمان لفترة قبل ان يتمكن من الفرار من تشيلي ونجح تهريب المادة المصورة إلى كوبا حيث تمكن من عمل المونتاج لفيلمه الطويل، كما أخرج هناك أفلاما أخرى. وله فيلم مرجعي عن سلفادور أليندي. وقد عاش في اسبانيا وفرنسا قبل أن يعود إلى تشيلي حيث واصل عمله في التأريخ للمتغيرات السياسية في بلاده خلال 40 عاما، وهو يمتلك مادة مصورة هائلة صورها لحسابه الشخصي كما يستعين في أفلامه بالكثير من المواد المصورة من الأرشيف.

الأربعاء، 30 يونيو 2010

"أورورا" والسينما الرومانية الجديدة

لم تمر سوى سنوات محدودة على ظهور السينما الرومانية الجديدة أو "الموجة الجديدة" كما يحلو للبعض أن يصفها، فقد ولد التيار الجديد الذي دفع بالحياة في قلب هذه السينما العتيقة التي تجمدت طوال سنوات حكم الديكتاتور تشاوشيسكو (1965- 1989) مع ظهور فيلم "موت السيد لازاريسكو" The Death of Mr Lazarescu الفيلم الروائي الثاني للمخرج كريستي بويو Cristi Puiu (مواليد 1967) الذي أذهلنا جميعا عام 2005 بأسلوبه الرصين الذي يعيد الاعتبار مجددا إلى المذهب الطبيعي في السينما.
ويصور الفيلم رحلة ليلية (تحدث في ليلة واحدة في الواقع) لرجل متقاعد يعاني من متاعب في المعدة وهو بصحبة ممرضة في منتصف العمر، تنتقل به عبر عدد من مستشفيات بوخارست، حيث يلقى الإهمال واللامبالاة والتجاهل، ويظل ينتقل من مكان إلى آخر، بسبب البروقراطية القاتلة والتجمد الذي أصاب المشاعر الإنسانية، إلى حين ندرك أنه سيلقى مصيره المحتوم في النهاية.
يبدو هذا الفيلم بسيطا في تكوينه العام: فهو مصور في شقة صغيرة مهملة هي شقة السيد لازاريسكو نفسه، وعربة إسعاف من الداخل، وغرف استقبال وفحص في المستشفيات، وبعدد محدود من الشخصيات: الرجل، الممرضة، سائق سيارة الإسعاف، ثلاثة من الأطباء، عدد من الممرضات والمساعدات.
إلا أن الفيلم رغم بساطته الظاهرية، عميق في محتواه، مذهل في دقته وتفاصيله وقدرة مخرجه على انتزاع أقصى ما يمكن التعبير عنه من الممثلين وخاصة البطلين/ اللا بطلين، أي الرجل والممرضة التي تصحبه.
في هذا الفيلم ظهرت لغة تعيد الاعتبار إلى سينما التفاصيل الصغيرة التي يمكن أن تلتقطها الكاميرا الثابتة في لقطات طويلة، تحدق فيها عدسة الكاميرا إلى الشخصيات، وإلى المكونات العادية أو الأقل من العادية في المكان: حوض، فرشاة أسنان، مرحاض عتيق، زجاجة خمر فارغة، أرفف تزدحم بالصحف القديمة، أريكة متهالكة..إلخ.
ونادرا ما تتحرك الكاميرا على راحتها في المحيط، بل تبدو مختنقة في الفضاء المحدود الطبيعي للغرف، أو لسيارة الإسعاف، فالأساس أن نرى الإنسان، كيف يعاني ويتألم، ويرقد قليلا ثم يستيقظ لكي يتقيا مثلا، أو يشكو ويئن ويطلب ضرورة العودة إلى المنزل، وكيف يواجهه السادة الأطباء داخل المستشفى بكل ما لا يمكن تخيله من اللامبالاة بل والاستهتار الذي يصل إلى مرحلة سيريالية تماما غير أنه لا يحيد قيد أنملة عن الواقعية المباشرة التي تصل أيضا إلى حد التصوير الوثائقي: حركة الممثلين، الحوار التلقائي المباشر، المكان الطبيعي، الممثلين غير المحترفين، اللقطات والمشاهد الطويلة التي لا تكاد تلحظ أثر المونتاج عليها.
وفي العام التالي، 2006، وعلى نفس المنهج والأسلوب جاء فيلم "4 أشهر 3 أسابيع ويومان" للمخرج كريستيان Cristian Mungiu (مواليد 1968) الذي يصور محاولة فتاة وصديقتها إجراء عملية إجهاض للأولى إبان حكم تشاوشيسكو، أي وقتما كانت عمليات الإجهاض محظورة قانونا في رومانيا. هذا الفيلم الذي يهمس ويصرخ، يواجه برشاقة ورصانة كبيرتين، يقدم صورة إنسانية مفزعة ولكن بدون ضجيج، وببلاغة رفيعة، بلاغة الأسلوب الذي يرصد ويدقق، ويتيح مساحة للتأمل، لا يجنح أبدا إلى الميلودراما رغم الإغراء الكامن في ثنايا الموضوع نفسه، ويعتمد على الصمت أكثر مما يعتمد على الكلام والصراخ والتشنجات، يخفي أكثر مما يعلن، ويظهر أقل مما يمكن ان نرى بسبب الظلال وبقع الظلام التي تمليء الكادر السينمائي لكي توحي بالجو، وتكثف المشاعر بدون حاجة إلى الشرح والتفسير. ولم يكن مفاجئا أن يحصل هذا الفيلم على "السعفة الذهبية" في مهرجان كان السينمائي في ذلك العام.
وعلى نفس المنوال يأتي الفيلم- التحفة "الشرطة: صفة" Police: Adjective عام 2009، للمخرج كورنيلو برومبو، الذي يدور حول شخصية ضابط شرطة شاب يفقد قناعته بعمله في الشرطة ويبدأ في اختراق النظام على طريقته الخاصة، وطرح تشككه فيه عمليا.
وأخيرا يأتي فيلم "أورورا" Aurora (أو الفجر) لكريس بويو أيضا، الذي يعتبره صاحبه الجزء الثاني ضمن سلسلة من ستة أفلام يطلق عليها "ست قصص من ضواحي بوخارست"، كان أولها "موت السيد لازاريسكي"، ويقول إنها كلها أفلام عن الحب: حب الإنسان للإنسان، والرجل للمرأة، والرجل لأبنائه، وحب النجاح، والحب بين الأصدقاء، وحب المعرفة.
وهو يهدي الافلام الستة إلى المخرج الفرنسي الراحل الكبير، إريك رومير، الذي يقول بويو إن سداسيته الشهيرة بعنوان "ست قصص أخلاقية" ألهمته كتابة قصص أفلامه الستة التي أنهى منها اثنين بالفعل.

"أورورا" تلك الكلمة اليونانية القديمة التي تشير إلى الفجر أو إلهة النور، افتتح به قسم "نظرة خاصة" في مهرجان كان السينمائي 2010. والعنوان اختير في إطار الفهم الخاص "السحري" لدى بويو لكلمة "أوروا" التي تعني النور الذي ينبثق من الظلمة، أو اللحظة الفارقة بين ظلام الليل وضوء النهار، وهي لحظة تتغير فيها النظرة إلى الأشياء، غير أنها لحظة يراها بويو "غامضة"، فهو يقول إن "النجمة التي تتألق في الضوء هي فينوس، وفينوس في اللغة الرومانية هي لوسيفارول Luceafarul المشتقة من لوسيفر Lucifer رسول الضوء، الملاك المفضل الذي سرعان ما يصبح الشيطان".
والغموض الناتج من العنوان يشير تحديدا، إلى استحالة الفصل بين الخير والشر، وهو يرى أن "أوروا" بالتالي ليس فيلما عن الخير والشر، لكنه فيلم عن "غموض واستحالة ادراك صلتنا بالعالم، بالآخرين، واستحالة التواصل الحقيقي".بطل الفيلم رجل في الثانية والأربعين من عمره، يدعى فيوريل Viorel وهو رجل عادي تماما، يعمل مهندسا للمعادن، يبدو أنه طلق زوجته حديثا، ويعول طفلتين منها، نراه في شقته الصغيرة العارية تقريبا من الأثاث، والتي يتردد عليها عمال للقيام بأعمال الترميم والطلاء. يجلس وحده، يشاهد التليفزيون، يتجادل مع جيرانه في الطابق الأعلى: رجل وزوجته، يهبطان إليه للاعتذار عن تسرب الماء إلى سقف الحمام بسبب ترك طفلهما الصنبور مفتوحا. ويدور حوار طويل عادي للغاية بينه وبين الزوجين، حوار لا طائل من وراءه على الإطلاق لكنه يجري يوميا.
في المصنع الذي يعمل به يلتقي بزميل له مدين له ببعض المال، ثم يتوجه إلى زميل آخر يحصل منه على رصاصات صنعها خصيصا له، ثم يذهب ويشتري بندقية صيد. وبعد أن يدور بالسيارة في بودابست بدون هدف، يعود إلى شقته ليجرب البندقية، ثم يضع البندقية في حقيبة يحملها على كتفه ويتوجه بالسيارة إلى فندق انتركونتيننتال حيث يقف مترقبا في مرأب السيارات في انتظار أحد لا نتبينه على وجه التحديد بل سرعان ما نرى شبح رجل وامراة يتجادلان يقتربان. يخرج البندقية ويطلق الرصاص عليهما ثم يغادر بالسيارة. يعود يقضي ليلته ثم يتوجه في الصباح إلى حيث يرتكب الجريمة الثانية داخل منزل، يعرف الضحية تماما ويتبادل معها الحديث قبل أن يتحول إلى قتلها.
ونحن لا نشاهد الجريمة الأولى بل نرى مجرد شبحين للضحيتين، ونسمع صوت إطلاق الرصاص، بعد أكثر من ساعة من بدء الفيلم، بشكل مفاجيء، ولا نرى أيضا جريمة القتل الثانية، بل نعرف بحدوثها من الصوت ومن الحركة المسبقة، لأن الكاميرا هنا تتركز على سقف الحجرة، بل ولا نرى الجثث ولا الدماء ولا نعرف مسبقا دوافع ارتكاب الجريمة، ولا ما الذي يعذب بطلنا بالضبط، بل ونراه أيضا وهو يذهب بنفسه في النهاية، إلى مركز الشرطة، لتسليم نفسه وتقديم اعتراف تفصيلي بالجريمتين ويرشد عن مكانهما، بمنتهى الهدوء والعقلانية. لقد قتل والد ووالدة زوجته، وأمه. وعندما يسأله الضابط لماذا؟ تأتي إجابته اكثر غموضا مما نتوقع: أن تتركك زوجتك ليس أمرا سهلا!
فهل يمكن اعتبار الدافع إلى ارتكاب الجريمة عند فيوريل مجرد تخلي زوجته عنه؟ أي وقوع الطلاق؟ ولماذا لم يقتل الزوجة نفسها؟
الواضح من البداية أن الفيلم يكثف حالة إحساس بالقنوط والعبث وانعدام القيمة، بل والوصول إلى طريق مسدود في الحياة باسرها عند هذا البطل/ اللابطل ، على طريقة قريبة من الإحساس العبثي عند بطل رواية "الغريب" لألبير كامي، أي الفرنسي الذي يقتل الرجل الجزائري ويبرر ذلك أمام المحكمة بأن "الشمس كانت في عينه"!
فيلم "أورورا" يقع في ثلاث ساعات ودقيقة واحدة. وهو مثل الأفلام السابق الإشارة إليها، ليس أهم ما فيه الدوافع والحبكة الدرامية التقليدية التي يتم شرحها أو فك طلاسمها قرب النهاية، او البناء الدرامي الواضح للشخصيات: هنا مثلا لا يوجد تفسير سيكولوجي لدوافع البطل، بل إنه يتسم بالبرود التام، والحركات المحسوبة، والعقلية الواعية المدركة لما تفعل تماما. هناك فقط نوع من الشرود في نظراته، ومن التأمل والتفكير، والنظرات الحادة الغاضبة إلى الناس. وهناك مشهد نرى خلاله "فيوريل" يصر على دخول محل ملابس في وسط بودابست لكي يعثر على عاملة فيه ربما تكون هي زوجته نفسها، لكن العاملات بالمحل يؤكدن له أنها ليست موجودة، بل ويدعونه إلى تفتيش المحل، وتفتيش دورة المياه إذا اراد. وترتفع حدة انفعاله في هذا المشهد الطويل كثيرا، لكنه لا يخرج عن نطاق السيطرة.
ورغم القتل والجريمة، فنحن لا نرى الفعل نفسه، لأن المخرج ليس هدفه ان يجعل الجريمة نوعا من "الفرجة" التي يمكن أن تحقق متعة المشاهدة، أو الإثارة، فليس هذا هدفه، بل إنه يرغب اساسا، في تصوير حالة إنسانية، لرجل عادي تماما، لا يبدو مثل أبطال أفلام الجريمة بل على النقيض منهم، لكي يقول لنا إن الجريمة من الممكن أن تأتي من داخل الإحباط والشعور بالقرف واللاجدوى وعبثية المحيط كله، ومن قبل أناس عاديين، لا يخططون ولا يتربصون في الظلام، بل حتى طريقة ارتكاب الجريمة هي طريقة "عادية" تماما لا تقتضي أية مهارة خاصة!
مرة أخرى، هنا اللقطات الطويلة، والمشاهد المكونة من لقطات محدودة، والحوارات التي يمكن أن تمتد أحيانا كثيرا لتصبح نوعا من "ثرثرة الحياة اليومية"، والاعتماد الأساسي على تكوين اللقطات، مما هو متاح داخل منظور الصورة من عاديات الحياة والطريق والمواقع المختلفة الداخلية للتصوير، وليس من خلال الإبهار الشكلي والتلاعب بالضوء، فمصادر الضوء الطبيعية هي الغالبة، والديكورات الطبيعية ايضا، والممثلين يبدون بدون ذلك التكلف المصطنع، بل كأشخاص من الحياة العادية، والشخصية الرئيسية (فيوريل) يؤديها المخرج نفسه بعد أن فشل، كما يقول، في العثور على الممثل المطلوب. لكنه يؤديها بتحكم كبير، ودون أن يفقد الفيلم بعضا من روح السخرية السوداء.
فيلم يشدك إليه ويجعلك مسحورا في مقعدك لأكثر من ثلاث ساعات، فهناك في ذلك الإيقاع البطيء الذي يمضي وتتعاقب معه المشاهد، شيء ما مثل التنويم، فما يجري على الشاشة، وما يجري وراء الشاشة، كلاهما يجعلان من تجربة "أورورا" تجربة للاستنارة، ولمشاهدة إنسان من عالمنا، كما لو كان المرء يشاهد نفسه في مرآة كبيرة، هي مرآة السينما.

الاثنين، 28 يونيو 2010

شاشات وأحداث: وودي ألين وكوبولا وجودار وديفيد لينش


* على شاشات لندن يعرض حاليا فيلم "مهما حدث" Whatever happened للمخرج الأمريكي وودي ألين، وهو فيلمه التاسع والثلاثون، وقد أخرجه قبل فيلم "ستقابلين غريبا طويلا أسمر" الذي عرض في مهرجان كان هذا العام، وقبل فيلمه الأحدث الذي يستعد للبدء في تصويره وهو بعنوان "منتصف الليل في باريس" Midnight in Paris
وودي ألين في الخامسة والسبعين من عمره حاليا، فإذا عرفنا أنه بدأ الإخراج للسينما منذ 1966، وأنه أخرج أيضا أربعة أفلام للتليفزيون، وفيلما قصيرا أو جزءا ضمن فيلم طويل، يكون فعلا مستمر في إخراج فيلم كل تسعة أشهر تقريبا، وهو إنجاز كبير من حيث الكم بكل تأكيد. والغريب أن وودي ألين لديه دائما ما يقوله، حتى لو لم يوفق تماما في قوله، مثلما حدث في فيلمه الأخير الذي تناولته عند عرضه في مهرجان كان الشهر الماضي. أما الفيلم المعروض حاليا في لندن فيستحق المشاهدة.
* من الأفلام الجديدة التي تشاهدها لندن حاليا فيلم "تيترو" لفرنسيس فورد كوبولا، وهو فيلم شخصي لاشك أن مخرجه يتحرر فيه كثيرا من سطوة شروط شركات الإنتاج في هوليوود، ويعبر عن تجربة خاصة عائلية، إلا أنني لم اجده جديرا بالثناء الكثير، ففيه الكثير جدا من الجمود، الذي يتعلق بطول المشاهد، وطول الحوارات، وانحصار المشاهد في ديكورات داخلية، نادرا ما تتغير، واعتماد التمثيل على الأداء المسرحي المغالى فيه، وهذا، على الرغم من محاولات كوبولا الجمالية في استخداماته للتصوير بالأبيض والأسود. أضف إلى ذلك أن الفيلم لم يتجاوز نطاق الدراما العائلية السيكولوجية الخاصة التي تفتقد إلى ما يعرف بـ"البعد الإنساني الأشمل" أو universal level بحيث تلقى صدى لدى الجمهور خارج نطاق الدائرة المحدودة التي تدور فيها. أقول قولي هذا وأستدرك بالقول إن لكل إنسان بطبيعة الحال، الحق في رؤية الأشياء حسب نظرته الخاصة، وثقافته الشخصية، وتكوينه الفكري. غير أن "البعض" يعيب على "البعض" الآخر، أنه لم يعجب بما أعجبه من أفلام.. أو أنه معجب بما لم يعجبه، وهي قمة الفاشية التي لا أرى لها مثيلا في الثقافات الأجنبية، فهي ظاهرة قاصرة فقط بكل أسف، على النقد العربي والثقافة العربية، فالكثير ممن يكتبون بالعربية يبدأون عادة مقالاتهم بتوجيه انتقادات لاذعة لما كتبه الآخرون عن الفيلم الذي يتناولونه، والتقليل من شان كل ما ظهر من كتابات حوله، ومحاولة إثبات أنهم الأقدر على الفهم، والأكثر إدراكا لمغزى العمل، وأن الآخرين متخلفون، وحمقى، وليسوا على مستوى الكفاءة.. إلخ، كما لو كان التقليل من شأن ما يكتبه الآخرون، يمكن أن يرفع من شأن أي كاتب، أو أي شخص ممن تعلموا الكتابة بالامس القريب فقط، واكتشفوا أمس الأول، وتصوروا أن السينما يمكن أن تكون مسألة بسيطة، لا تحتاج إلى ثقافة ومعرفة وعلم وخبرة ومشاهدات مكثفة حقيقية ضمن سياق فكري وفني محدد، وليس بشكل عشوائي، يميل إلى الانبهار المسبق، بكل ما يصنع من أفلام في العالم، ويعتبرها جميعها تحفا كبيرة، خصوصا لو اتفقت مع مفاهيمه المراهقة عن السينما!
كلمة أخرى هنا: إذا كان أحد يريد أن يكون كاتبا أو ناقدا، فلماذا لا يكتب مباشرة، يقول لنا كيف يرى الأشياء أو الأفلام، وماذا يرى فيها، وكيف يحكم عليها، ويقيمها، ويقومها، دون أن يجعل مما يكتبه مادة متذيلة أو ذيلية، يرد فيها على كتابات آخرين، وينطلق فيها استنادا على مجهود غيره، ورؤية كونها غيره، واجتهادات جاءت من طرف غيره، لكي يستلمها حضرته، ويقوم بتسفيه ما ورد فيها، والتقليل من شأنها، والرد عليها ومقارعتها، متصورا انه بهذا، سيجعل من نفسه شخصا ذا شأن. وسؤالي البسيط هو: من أين سياتي هذا الكاتب بمادته في حالة توقف "الكتاب الذين يلهمونه الكتابة" عن كتابة مقالاتهم التي لا تعجبه حتى من قبل أن يكتبها أصحابها، ومن قبل ان يقرأها هو!
* وقد رأينا أخيرا ظاهرة أخرى، هي الدفاع عن اختيارات مديري المهرجانات الغربية الكبيرة، والهجوم الشرس على كل من يوجه لها انتقادات مشروعة في كل الأعراف والثقافات، أيضا تحت تصور فاشي يقوم على فكرة أن الدفاع عن مدير مهرجان دولي ما، واجب وضرورة مقدسة، تنسجم مع تلك النفسية المنافقة في الاصل والأساس، أو أن "الأجنبي" أي الخواجة، أكثر فهما ومعرفة بالضرورة من "أبناء الثقافة المشتركة"، خصوصا وأن هذا النوع من أنصاف الكتبة، لا يحظى عادة بالاحترام في أوساط المهرجانات الدولية، التي يتزلف وينافق ويقدم الهدايا والعطايا إلى المسؤولين عن مكاتبها الصحفية، من أجل الحصول على "بطاقة" صحفية، توفر له التردد على الأفلام تحت تصور أن مشاهدة أكبر عدد من الأفلام دون القدرة على هضمها، يضفي على مثل هؤلاء الأشخاص قيمة ما، في حين أنهم محتقرون تماما من طرف مديري المهرجانات. وقد استمعت بنفسي أكثر من مرة إلى شكاوى الكثير من مسؤولي بعض المهرجانات الدولية، الذين أخذوا ينتقدون أمامي بقسوة وسخرية، هذا النوع من المتطفلين، وإلى شكاواهم من تحايلاتهم من أجل الحصول على الاعتماد ضمن الصحافة السينمائية، لكن هؤلاء المديرين يقولون إنهم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئا لأن هناك "جهات" صحفية عربية، يحصل منها هؤلاء على خطابات تزكية. وإذن العيب وأصل الفساد موجود عندنا، في صحفنا ومؤسساتنا التي تفضل التعامل مع هؤلاء "الأنصاف" (جمع نصف).. لأنهم مثل الأحذية، يكمن خلعها في اي وقت.. وسأكتفي بهذا الآن، لأني أرى ان هؤلاء لا يستحقون أكثر من هذه "القرصة" الصغيرة بحجم ما هو كائن تحت قشرة أدمغتهم الصغيرة!

* نسخة جديدة حديثة مجددة من الكلاسيكية الشهيرة "على آخر نفس" أول أفلام جان لوك جودار من عام 1959 تعرض حاليا للأجيال الجديدة التي لم تشاهدها أو شاهدتها من خلال الأسطوانات الرقمية، أي على شاشة التليفزيون. الاحتفال بهذا الفيلم يجب في رأيي أن يتركز، ليس فقط على دور جودار كمخرج، بل وبالموازاة وعلى نفس القدر والمستوى، إلى مصوره راؤول كوتار، الذي لعب دورا بارزا في تشكيل ملامح سينما الموجة الجديدة الفرنسية في الستينيات.
* مهرجان إدنبره السينمائي اختتم أخيرا الدورة الرابعة والستين، أي أنه أقدم من مهرجان لندن السينمائي، وهو يقام في المدينة الاسكتلندية الجميلة التي تتميز بأجوائها الحميمية الرائعة، في نفس الوقت مع مهرجان ادنبره الدولي للفنون: المسرح والموسيقى والفن التشكيل والرقص. ومثل مهرجان لندن، لا يمنح مهرجان إدنبره السينمائي جوائز ولا ينظم مسابقة دولية، لكنه ابتدع منذ سنوات، مسابقة محدودة قاصرة على الأفلام البريطانية الجديدة فقط، تمنح جائزة كبرى باسم المخرج الراحل مايكل باول. وقد ذهبت هذه الجائزة هذا العام إلى فيلم "هياكل عظمية" Skeletons وهو من نوع الكوميديا ويقوم بطلاه بدوري طاردين للأرواح الشريرة، ويقعان في سلسلة من المآزق. عرض الفيلم في لندن سيبدأ في نهاية الأسبوع الجاري (الجمعية القادم). وهو توقيت سيء لأن الجمهور مشغول حاليا بمتابعة مباريات كأس العالم التي تعرض يوميا في التليفزيون العمومي (بي بي سي وآي تي في) أرضي وفضائي بدون أية قيود، وليس مثلما هو الحال في العالم العربي الذي عرف منذ مدة، حكاية احتكار من يملك المال حق شراء وبيع هذه المباريات لغيره من المحطات، وهي مشكلة تؤذي الجمهور وتسبب الاحباط للجهات المسؤولة، ويبدو لي الأمر اشبه بالابتزاز الذي يحتاج إلى كفاح حقيقي ضده من أجل إسقاطه، وان على ثقة أن الجمهور في بلادنا يعرف كيف يخترق النظام، أي نظام، عندما يشاء!
* أخيرا، نشر المخرج الأمريكي الكبير ديفيد لينش على موقعه على شبكة الانترنت إعلانا يدعو من خلاله، محبيه إلى التبرع، كل منهم بمبلغ خمسين دولارا للمساهمة في إنتاج فيلمه القادم، والمفأجاة أنه سيكون فيلما وثائقيا يروي فيه قصة حياته والمؤثرات التي ساهمت في تشكيل رؤيته وثقافته. وقد أراد تحرير الفيلم بالكامل، من ضغوط الشركات، ولذا لجأ إلى فكرة التمويل العام، أي جعل الجمهور طرفا مباشرا في إنتاج الفيلم، مقابل هدية تشجيعية تتلخص في الحصول على ملصق من الفيلم الذي يحمل رسما للمخرج الكبير وعليه توقيعه، وسيصدر هذا الملصق في طبعة محدودة تقتصر في توزيعها على المتبرعين كما فهمت. وفهمت أيضا أن من الممكن شراء الملصق أو قميص تي شيرت أو حقيبة صغيرة يكون مطبوعا على كل منها صورة الفنان السينمائي. ومن يرغب في الحصول على نسخة، والتبرع لدعم هذا الفيلم، عليه الدخول إلى موقع ديفيد لينش من هنا:
www.lynchthree.com
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger