الجمعة، 25 يونيو 2010

"الفاعل من الداخل": قوة الوثائقي تفضح وول ستريت


من أهم الأفلام الوثائقية (أو غير الخيالية) التي عرضت في مهرجان كان السينمائي الـ63 فيلم "الفاعل من الداخل" The Inside Job (والعنوان يشير إلى وجود ما يعرف بطرف داخل المؤسسة يساعد أطرافا خارجية على سرقتها).والفيلم يقع في ساعة و48 دقيقة، وهو من إخراج تشارلز فيرجسون، الذي برز اسمه عندما قدم فيلمه الوثائقي الأول "لا نهاية في الأفق" No End in Sight عن الحرب في العراق قبل ثلاث سنوات. ولكن على حين كان هذا الفيلم، الذي رشح لأوسكار أحسن فيلم وثائقي، يوجه انتقادات شديدة للسياسة الخارجية الأمريكية عموما، وللسياسة الأمريكية في العراق بوجه خاص، يأتي الفيلم الجديد لكي يسلط الأضواء، كما لم يحدث من قبل، على الانهيار المالي والاقتصادي في الولايات المتحدة الذي تسبب في الأزمة العالمية الاقتصادية القائمة حاليا.يتجاوز الفيلم الجديد كثيرا ما صوره المخرج الشهير مايكل مور في فيلمه البديع "الرأسمالية: قصة حب"، فعلى حين اكتفى مور بالعرض الساخر، والبحث في "أعراض" الأزمة، يتعمق فيرجسون في هذا الفيلم البديع، لكي يصل إلى أصل الفساد، من خلال التدقيق في تاريخ العلاقة بين وول ستريت، وبين المؤسسة السياسية الأمريكية، ويوجه في النهاية، بوضوح، اتهامات مباشرة بارتكاب جرائم، ليس فقط في حق الشعب الأمريكي، بل في حق شعوب العالم أيضا.

الأربعاء، 23 يونيو 2010

فاروق عبد القادر: رحيل ناقد فذ وصديق عظيم


نزل خبر مغادرة الناقد الكبير فاروق عبد القادر على رأسي نزول الضاعقة. صمت صاحب القلم الذي لم يهادن ولم يساوم، ولم يعرف الحلول الوسط، ولم يقبل أبدا، كما فعل قلائل أصبحوا يعدون على أصابع اليد الواحدة، الدخول في "الحظيرة" سيئة السمعة.
ناضل فاروق عبد القادر بقلمه، كاشفا العفن الثقافي، فاضحا المواهب الزائفة التي يفرضها علينا الإعلام السائد، في المسرح والرواية والقصة. لم يجامل أحدا، ولم ينافق مسؤولا، ولم يمدح نجما أو مخرجا حسب الطلب، أو حسب ما يمكن أن يحصل عليه من منافع ومكاسب، فقد عاش فاروق ومات، فقيرا معدما، بخلت عليه الدولة بالعلاج الذي أصبح متاحا في الخارج لكبار الوزراء والمسؤولين "عيني عينك" ولا أحد يجرؤ على الكلام، وإذا تكلم، فلا أحد يهتم أو يحاسب.
عرفت فاروق عبد القادر عام 1976 أي منذ 34 عاما، عندما كان محررا للملحق الثقافي في مجلة "الطليعة" الشهرية التي كانت من أكثر المجلات المصرية احتراما وتأثيرا في الأوساط الثقافية والفكرية، سواء في مصر أو في العالم العربي.
ولكن فاروق لم يكن يعمل في براتب شهري ثابت في تلك المطبوعة الشهرية التي تصور الرئيس جمال عبد الناصر عندما سمح بصدورها في 1965، أنه يستطيع أن يشتري مثقفي اليسار المصري ومفكريه، بحفنة من الجنيهات (خمسة آلاف جنيه شهريا كما نقل عنه أحد مثقفي اليسار فيما بعد). فقد كان فاروق يعمل بمكافأة شهرية متواضعة، ولعله ارتضى بذلك حتى لا "يتورط" في الوقوع في شرك نظام كان يعارضه، وقد دفع الثمن باهظا، واضطر في وقت ما إلى الرحيل خارج مصر حيث عمل لسنوات في إحدى الدول العربية مستشارا خاصا. ولكنه منذ أن عاد في أوائل السبعينيات على ما أعتقد، وحتى وفاته بعد فترة طويلة في غيبوبة ما قبل الفراق منذ أشهر، ظل كاتبا مستقلا، يرفض الارتباط بالعمل لحساب أي مؤسسة من مؤسسات الدولة، الصحفية أو الثقافية.
لم تكن تربطني علاقة شخصية مباشرة بفاروق عبد القادر في ذلك الوقت، فقد كنت مازلت طالبا بالجامعة وكنت أنشر مقالات متفرقة هنا وهناك، ولكن فاروق كان يقرأ ويتابع ويهتم، وقد أرسل لي من يخبرني بأنه يريد أن يراني في مكتبه بمجلة الطليعة. وكان مقر المجلة داخل مبنى "الاهرام" الجديد الذي كان قد افتتح قبل سنوات محدودة في 1970 على ما أتذكر، قبل وفاة عبد الناصر، واعتبر إنجازا شخصيا فارقا للصحفي والكاتب الكبير محمد حسنين هيكل.
وقد دخلت مبنى "الأهرام" وانا أشعر بالضآلة، فمن أنا بين كل هؤلاء الكتاب والصحفيين الكبار، وكان منهم توفيق الحكيم ونجيب محفوظ والدكتور حسين مؤنس والدكتور جمال حمدان، وغيرهم كثيرون.
وقد طلب مني فاروق دون أي معرفة سابقة أن أكتب لـ"الطليعة"، وكان يبدي حماسا كبيرا لما أكتبه رغم أنني كنت في بدايات حياتي ككاتب.
وكنت أحيانا أمر عليه في "الطليعة" لكي اسلمه مادة للنشر، أو أستشيره في أمر من الأمور، ونخرج معا ونسير حتى نصل إلى مقهى كان يقع أمام دار سينما مترو بشارع سليمان باشا، ونجلس معا، نتحدث في كل شيء، حتى السابعة مساء، وعندها كان فاروق يعتدل ويطلب فنجانا من القهوة قبل أن يذهب إلى المسرح. وارتبطنا بصداقة دامت طيلة تلك السنوات.
وكنت دائما أحرص على اللقاء بفاروق عندما أكون في القاهرة منذ أن غادرت مصر قبل سنوات بعيدة. وكان هو قد اتخذ من مقهى "سوق الحميدية" في وسط القاهرة مكانا للقاء الأصدقاء مساء الأحد من كل أسبوع. وقد التقينا هناك قبل أقل من عام، وكان معه الأستاذ أحمد الخميسي. ولاحظت أن فاروقا لم يتغير أبدا. صحيح أن علامات الكهولة كانت بادية على شعره ووجهه، لكنه في عقله وذهنه وفكره، كان لايزال شابا متوهجا كعادته، يتحدث، ويسخر، وينقد، ويبدو رافضا للتواءم مع التركيبة السائدة حوله كما عهدناه دوما.
وكان المرء لا يملك سوى أن ينصت عندما يتحدث فاروق، فقد كان ملما بالكثير مما يجري ويحدث في بطن الواقع، كما كان مطلعا على مجريات الأمور حتى الكثير مما هو شخصي منها، يحرص أصحابه عادة على إخفائه بعيدا عن العيون والآذان. وكان حديث فاروق جذابا، تحليليا، يفيض أيضا بالسخرية المحببة التي تجذبني لأنها تعكس ذكاء متوقدا خاصا، وتضفي جاذبية على الحديث. وقد أصبح مكانه المفضل الثابت في ميدان باب اللوق بوسط القاهرة، جزءا لصيقا في ذاكرتي الشخصية. وكنت دائما أشعر بالاطمئنان بأن فاروقا هناك، يمكنني أن القاه في أي يوم أحد أشاء، فلم يكن يمنعه سوى المرض العضال عن الوفاء بوعده لأصدقائه.
وقد حزنت كثيرا عندما علمت بمرضه وتدهور حالته الصحية التي أدخلته في حالة الغيبوبة منذ أشهر. وظللت أتابع حالته مع الأصدقاء، من موقعي البعيد.. في هذا المنفى الاختياري الذي أكتب هذه الكلمات منه الآن، إلى أن تلقيت اليوم خبر وفاته.
ورغم أنه كسب الكثير من الأعداء، بسبب كتاباته التي لم تكن تعرف المحاباة أو النفاق، وهو ما جعلها دائما "خارج السرب"، ورغم تمرده المعلن على "سكان الحظيرة" التي دخلها كثيرون بالعشرات، إلا أنه اكتسب احترام وتقدير الجميع، سواء من اتفق معهم أو من اختلف، رغم ما كان يشنه من حملات عنيفة أحيانا. وكان فاروق قد شهد فترة ازدهار المجلات الثقافية في الستينيات، ثم شهد اختفاءها وتدهور الصفحات الثقافية في معظم الصحف والمطبوعات حتى أصبحت مجرد صفحات إخبارية، شبه إعلانية، وتلاشى منها النقد الجاد، بل وبعد أن أصبحت الكتابة "المشروطة" في النقد الفني والأدبي والمسرحي، متاحة فقط، في جريدة الوزير فاروق حسني، بشروطه وبما يخدم توجهات وزارته بل وطموحاته الشخصية ايضا. فقد بتنا في عصر وزعت فيه الاقطاعيات على المماليك الجدد، وضاقت فيه الأبواب أمام شرفاء الكلمة. غير أن فاروقا كان يتمكن دائما من العثور على منبر يكتب له، وكان مستمرا أيضا في إصدار كتبه التي اثرت الحياة النقدية وأبقت على نوع من الحيوية في داخلها.
أما الآن فقد اصبح بوسع الكاتبين بالتكليف وبالتطوع المدفوع، أن يصولوا ويجولوا دون خوف أو وجل، وأن يستنكروا علانية ما كان في ماضيهم من ملامح "شبه ثورية"، لحساب تلك "العقلانية البراجماتية" التي أدركوها بعد أن وصلوا إلى سن ما قبل الرحيل، وهو اللغز الذي لم يتوقف فاروق عبد القادر أمامه كثيرا، فقد كان يرى إرهاصات السقوط كامنة من البداية.. كما تعلمنا منه.
رحم الله فاروق عبد القادر ألف رحمة. وستظل خسارتي الشخصية فيه ما حييت، فقد كان مثلا أعلى يحتذى، وصديقا حقيقيا في زمن عز فيه الأصدقاء.

فاروق عبد القادر في سطور:
ولد في بني سويف - مصر 1938.
كان عاشقاً للقرآن، يرتله في الفجر وقبل الغروب وكان حسن الصوت سليم النطق.
التحق بقسم الدراسات الاجتماعية والنفسية واختار علم النفس.
تخرج من الجامعة في مايو عام 1958 (ليسانس علوم نفسية) بتقدير جيد.
في 1962 صدر أول كتاب له.
عمل سكرتيراً لتحرير مجلة (المسرح) ثم مجلة (المسرح والسينما) حتى نهاية 1970.
عمل محرراً مسؤولاً عن ملحق الأدب والفن الذي كانت تصدره مجلة (الطليعة).
من كتبه:
ازدهار وسقوط المسرح المصري.
مساحة للضوء، مساحة للظلال.
من أوراق الرفض والفنون.
أوراق من الرماد والحجر.
أوراق أخرى من الرماد والحجر.
رؤى الواقع وهموم الثورة المحاصرة.
نافذة على مسرح الغرب.
مسرحيات ترجمها:
فترة التوافق – تنيسي وليامز.
لعبة البنج بونج – أرتور أداموف.
المساحة الفارقة.
النقطة المتحولة – بيتر بروك.
يو . أس – بيتر بروك.
* منح المجلس الأعلى للثقافة فاروق عبد القادر جائزة التفوق في الادب يوم الإثنين أي قبل وفاته بيوم واحد فقط، وقدرها 100 الف جنيه، بتدخل من الدكتور جابر عصفور حتى يمكن ان تساهم في نفاقت علاجه، ولم يكن فاروق مرشحا للجائزة أصلا، بل ولم يدري بفوزه بها فقد كان يرقد في غيبوبة كاملة ثم توفي في اليوم التالي.

الثلاثاء، 22 يونيو 2010

صلاح عيسى.. الراديكالي التائب


بقلم" محمد شعير

هل يبرِّر صلاح عيسى للمثقفين المصريين خياناتهم؟ هذا المثقف اليساري البارز الذي قال لنا يوماً إنّه «جاء إلى الدنيا لكي يعترض» بحسب عبارة غوركي الشهيرة المعلَّقة فوق مكتبه. العبارة التي استهلَّ بها كتابه الأشهر «مثقفون وعسكر» (1986)، تغيب روحها عن إصداره الجديد «شخصيات لها العجب» (نهضة مصر)، ليحلّ مكانها اعتذار عمَّا ظنَّه يوماً «خيانة» المثقّفين لمبادئهم... و«لأنّ حماسة الشباب كثيراً ما تعمي البصر»، يعلن الصحافي المصري المعروف أنّه كان مخطئاً في تصوراته السابقة عن شخصيات عامّة كثيرة. هكذا نجده يكتب، بنظرة جديدة، عمن ظنّهم في السابق «مشاغبين متقاعدين»... فهم لم يتقاعدوا بل غيّروا وسائل النضال فقط.أحمد بهاء الدين (1927ـــــ 1996) مثلاً، هذا الصحافي والمفكّر الذي ترأس تحرير مجلّة «صباح الخير» وجريدة «الأهرام»، صار من وجهة نظر صلاح عيسى «منتمياً غير منحاز». يجده لم يعدم الحيل الفنية التي تمكّنه دائماً من إضاءة شموعه بقدر لا يستفز الظلام. لم يكن ذلك سهلاً. الأسهل بحسب عيسى كان أن يقول ما يريده مرة واحدة، ثمّ يحمل حقيبته ويتوجّه إلى أقرب معتقل. كان بهاء يؤمن إيماناً جازماً بأنّ المثقّف في «عصر عرب الحرب الباردة»، لا يستطيع أن يؤثّر بعيداً عن المؤسسة. ليس فقط لأنَّها كانت تحوز من أدوات القهر ما لا يمكن تجاهله، بل لأنَّه ليس هناك تناقض رئيسي بين اقتناعاته وما تمارسه تلك المؤسسة من سياسات وطنية وتقدمية.
«شخصيات لها العجب»، بينها أحمد بهاء الدين، ولطفي الخولي، ونعمان عاشور...
أما لطفي الخولي (1928ـــــ 1999) الكاتب السياسي والمسرحي فحكاية أخرى. «تعلّم جيلنا الثورة والتمرد من الخولي ومن جيله ومن زمنه»، يكتب عيسى. «كنّا ننظر إليه وإلى جيله وزمنه بغضب، لأنّهم ـــــ في ما كنا نعتقد ـــــ كفّوا أن يكونوا ثواراً، وتخلّوا عن قضايا الأمة والوطن والشعب، واستناموا إلى المقاعد الوثيرة التي منحتها لهم السلطة في أحد الجوانب القصية من صالة المسرح. وكما يفعل الأبناء مع الأباء عادةً، اتخذنا منهم شواخص أولى ــــ وأحياناً وحيدة ـــــ لسخطنا. وكان فواراً بمقدار حبنا لهم، وعنيفاً بقدر ما نظن أنّه خديعتنا فيهم. فيما بعد أيقنت أن تلك سنن الله في خلقه وفي كونه». يراجع عيسى مواقفه وسير المثقفين في «شخصيات لها العجب» كشاهد على تحوّلات طاولت جيلاً بأكمله.يخبرنا حين كان مكلَّفاً الاتصال بعدد من المثقفين، يدعوهم للكتابة في جريدة «الأهالي» (يصدرها «حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي» أحد أبرز الأحزاب اليسارية المصرية)، اعتذر كثيرون لأسباب واهية، منها مثلاً أنّ الجريدة «أقلّ يسارية مما يجب». أمّا نعمان عاشور (1918ـــــ 1987) الكاتب المسرحي المصري، فقال ببساطة آسرة «إنّه لا يملك شجاعة الكتابة فيها لأنَّه قد أحيل على المعاش، ويتقاضى الفارق بين مرتّبه وتعويض المعاش، مقابل عمود أسبوعي يكتبه في «أخبار اليوم» ويخشى لو كتب في «الأهالي» أن يتعرّض لاقتطاع جزء مهمّ من دخله».
عاشور وفق ما يكتب عيسى «اكتشف مع تعدّد مرات القبض عليه في النصف الثاني من الأربعينيات، أن مكوّناته الذاتية لا تساعده على أن ينغمس في نضال حركي، وأنّه لا يصلح إلّا للانغماس في نضال ثقافي وفكري». ورغم التاريخ النضالي البارز لمثقف مثل محمد سيد أحمد (1926ـــــ 2006)، إلّا أن عيسى لا يتوقف في كتابه إلا عند جملة قالها الراحل في مدخل لشخصيته: «ليست لدي أوهام حول ما قمت به أو قام به جيلي. لقد أخطأنا لكنّ أخطاءنا كانت موضوعية ولم تكن شخصية».ما يدعو إلى العجب فعلاً في الكتاب هو ما كتبه عيسى عن بطرس غالي. وافق هذا الأخير على مهمات وزارة الخارجية خلال مفاوضات «كامب ديفيد»، بعدما استقال وزيرا خارجية احتجاجاً عليها. يعلّق عيسى: «ليس بالاستقالة وحدها يستطيع الإنسان أن يخدم وطنه، كما أنّ الانضمام للعصابات ليس دائماً ضدّ القانون».
لا أحد يعرف السبب الذي دفع عيسى إلى هذه المراجعة اليوم. هل هو يبرّر «توبته» لنفسه وللآخرين؟ كأنَّه يقول لنا إنّ المثقف لا يمكن أن يؤدّي دوره إلا من داخل السلطة، وأنّه لن يغيرها إلا إذا كان جزءاً منها.أما التعليقات القاسية التي يتضمّنها الكتاب، فكانت من نصيب عدد من المثقفين البارزين. الأوّل هو الراحل محمود أمين العالم (1922ــــ 2009) «الشيوعي الأرثوذوكسي» الذي «يكثر من الاستشهاد بالنصوص الأساسية للماركسية، بينما تتسم مواقفه بالمرونة إلى حد ما بالبراغماتية». والثاني محمد حسنين هيكل الذي يراه عيسى ««كاهناً في معبد الفرعون» يصوغ له الخطب والرسائل ويؤلّف له كتاباً في الفلسفة وميثاقاً في العمل الوطني...».قد تزول الدهشة إذا علمنا أن صاحب «تباريح جريح»، كتب معظم مقالات الكتاب في الجريدة التي يرأس تحريرها «القاهرة»، وهي لسان حال «وزارة الثقافة». لهذا ربما اختلفت اللهجة التي يستخدمها في هذا الكتاب، عن مؤلفاته ومقالاته السابقة. هكذا يبدو الفرق شاسعاً بين صلاح عيسى في السبعينيات والثمانينيات وصلاح عيسى اليوم. هو نفسه الفرق بين كتابيه «مثقفون وعسكر» و... «شخصيات لها العجب». إنّها تلك المسافة بين إلقاء القبض عليه بتهمة مناهضة «وزارة الثقافة» والنوم في أحضان الوزارة نفسها بعد ثلاثين عاماً!
((عن جريدة الأخبار اللبنانية))

السبت، 19 يونيو 2010

كتاب أمير العمري "حياة في السينما": الناقد السينمائي شاهدا على عصره

(هذا المقال نشر بصحيفة "القدس العربي" في 17 مايو 2010 وقت أن كنا كلنا مشغولون بمتابعة مهرجان كان السينمائي.. أنشره هنا في إطار التوثيق لاصداء كتابي "حياة في السينما"- أمير العمري)

القاهرة- "القدس العربي"
"حياة في السينما" هو إسم الكتاب الجديد للكاتب والناقد السينمائي المصري أمير العمري المقيم في لندن، وقد صدر مؤخرا عن مكتبة مدبولي بالقاهرة، في 280 صفحة من القطع الكبير. وهو كتاب يبدو مختلفا، سواء في مادته، أم أسلوبه، أم طريقة عرضه لما يتضمنه من رؤى وشهادات على الكثير من الوقائع والأحداث التي شابت العمل الثقافي في مصر خلال السبعينيات من القرن الماضي، وكان المؤلف شاهدا عليها أو طرفا مباشرا فيها.
والكتاب بهذا المعنى أيضا، يختلف عن سائر ما صدر للمؤلف نفسه من كتب في النقد السينمائي من قبل (9 كتب)، كما يختلف عما يصدر عادة من كتب في مجال النقد السينمائي عموما. فهو لا يهتم بنقد وتحليل الأفلام رغم إشاراته وتوقفه كثيرا أمام عدد من الافلام التي يراها ساهمت في تكوينه الشخصي وتكوين أبناء جيله، بل يقدم فيه العمري سردا يستخدم فيه ضمير المتكلم، كشاهد، يروي ويحلل ويتوقف أمام عشرات الأحداث والشخصيات، التي تمتد متابعة المؤلف لها، إلى زمننا الحالي.
في القسم الأول من الكتاب يتناول العمري بالتفصيل، مدخله إلى الاهتمام بالسينما وعشقه للفن السابع، وكيف يعتبر أن فيلم "الترتيب" لإيليا كازان لعب دورا حاسما في اتجاه انحيازه لنوع معين من السينما التي تحمل نظرة فلسفية ورؤية للعالم تتجاوز حدود القصة وتتعامل مع الفرد ككيان ضمن إطار اجتماعي محدد، كما يعتبر هذا الفيلم نقلة كبرى من حيث الشكل والأسلوب واللغة السينمائية، في مسيرة مخرجه، ومسار السينما الأمريكية عموما في تلك الفترة من أواخر الستينيات حينما كان تأثير السينما الأوروبية الفنية قويا عليها.
وينتقل العمري بعد ذلك لكي يروي للقاريء تجربته في جمعية نقاد السينما المصريين، ونوع المعارك التي كان شاهدا عليها، والتي اصطبغت في تلك الفترة، أي خلال النصف الأول من السبعينيات، بالطابع السياسي. فقد اشتبك السياسي بالثقافي، وفرض نفسه عليه كما يشرح العمري في مقدمة كتابه، خاصة وأن تلك الفترة مثلت مرحلة انتقالية بين نظامين، هما نظام عبد الناصر، ونظام السادات الذي جاء بعده وكانت له رؤية مختلفة في تعامله مع المثقفين والمجلات والجمعيات والكيانات الثقافية. ويتعرض المؤلف في هذا الفصل، وهو مثير وحافل بالكثير من التقلبات، لعدد من الشخصيات العامة من وزير ثقافة السادات يوسف السباعي، إلى الوزير الذي تلاه عبد المنعم الصاوي وطموحاته الشخصية، إلى بعض نقاد السينما والصراعات التي دارت فيما بينهم، والتي كانت أجهزة الدولة تغذيها وتدفعها، وذلك في إطار الصراع السياسي الدائر آنذاك بين خطين: ما يسميه العمري خط الحركة الوطنية الديمقراطية عموما التي كانت تتجه يسارا، وتحالف قوى اليمين مع نظام السادات المدعوم من الإخوان المسلمين في البداية، لضرب التجربة الناصرية.
غير أن الكتاب لا يعد كتابا سياسيا، بل هذا هو الإطار العام الذي تتحدد فيه الأحداث، وتدور الشخصيات العديدة التي يتوقف أمامها العمري، لكن العمري يروي أيضا بعضا من تجاربه الشخصية في العمل الثقافي في محيط ثقافة السينما من خلال محاولاته مع بعض أبناء جيله تأسيس أكثر من جمعية سينمائية، وما تعرضت له تلك التجارب من عمليات إجهاض، أو ربما كانت أكثر طموحا من أن يستوعبها العصر. هنا يتوقف العمري بنوع من الحسرة والأسى وهو يتكلم عن ذلك "المناخ الطارد" الذي أدى بالكثير من المثقفين إلى الخروج من مصر، والهجرة سواء إلى دول عربية أخرى أو إلى أوروبا.
ويروي العمري في فصل ممتع، ذكرياته مع أعضاء ما يعرف بـ"شلة المنيل" ذلك الحي القاهري العريق، وهم مجموعة من الشباب الذين جاء معظمهم إلى القاهرة من مدن أخرى، ولم يدرسوا الفنون، على الاقل في بداية حياتهم بل درسوا الطب والهندسة والحقوق والآداب والصيدلة ودراسات أخرى، لكنهم اختاروا مجال العمل السينمائي فيما بعد، وعلى رأسهم بالطبع المخرج السينمائي الراحل رضوان الكاشف الذي يروي العمري الكثير عن ذكرياته الشخصية معه، دون أن يتوقف عند موهبته وطموحه الفني فقط، بل ويتناول أيضا علاقاته ونوعية شخصيته، مع عدم إغفال المناخ الذي جعله يتصرف كما كان يتصرف.
والحقيقة أن العمري يحاول دائما عبر فصول الجزء الأول من كتابه، على الأقل، أن يضع السلوك الشخصي في إطار الوضع العام. هو مثلا يقول في مجال تناوله للصراعات والتراجعات التي وقعت داخل تجمع النقاد السينمائيين المصريين في السبعينيات: "كان الاتهام بالشيوعية وقتها قد أصبح سائدا، تستخدمه أجهزة الأمن والمتعاونين معها من الجماعات المتشددة في الجامعات، وكلك صحفيو المؤسسات الرسمية الذين أطلق لهم السادات العنان للقيام بحملتهم المنظمة من اجل "تطهير" الساحة من القوى الوطنية بزعم أنها شيوعية تعمل ضد مصلحة مصر".
ثم يمضي قائلا "هذه الضغوط النفسية الشديدة كان لها دون شك، تأثير واضح على عدد من أعضاء جمعية النقاد، فبدا بعضهم يتردد ويتراجع بل وشجعت استقالة السلاموني والبشلاوي من الجمعية آخرين منهم أحمد رافت بهجت، الذي تقدم باستقالة مسببة اتهم فيها الجمعية صراحة بالعمل في اتجاه نشر الشيوعية علما بأن العناصر الاساسية في مجلس الغدارة وقتها لم يكن بينها عنصر واحد من العناصر التي تتبنى الفكر الماركسي..".
في الجزء الثاني من الكتاب يتوقف العمري أمام ثلاث شخصيات متباينة هي المخرج الراحل يوسف شاهين الذي يروي ذكرياته الشخصية معه، والصحفي الراحل عبد الفتاح الجمل الذي كانت تجمعه بالعمري صداقة خاصة وطيدة رغم أن بداية علاقتهما شابها موقف عنيف بل وقطيعة امتدت لفترة طويلة، والمخرج الفلسطيني رشيد مشهرواي الذي كان العمري من أوائل من انتبهوا لظهوره على الساحة في أواخر الثمانينيات، وكتب عنه وعن أفلامه.
والملاحظ أن اللغة التي يستخدمها المؤلف في كتابه هي لغة النثر الأدبي السلس، الذي يتداعى في يسر وجاذبية، مع حبكة تصل في بعض الفصول إلى نوع من الإثارة، خاصة وأنه يستخدم، كما يصف هو في مقدمة الكتاب، "أسلوب التداعيات وتداخل الأزمنة الشهير في السرد السينمائي". ولذا يمكن القول إن كتاب "حياة في السينما" ليس فقط كتابا في السيرة الذاتية، بل جنس أدبي جديد يقوم على التسجيل والسرد الدقيق الممزوج برؤية المؤلف وتجربته الشخصية، وبالتالي فإن الكتاب بأكمله وثيقة مهمة، أو شهادة من ناقد عاصر الكثير من الشخصيات والأحداث، على عصره، وهي شهادة تمتد أيضا إلى تجاربه المثيرة في لجان التحكيم التي يروي منها تجربتين: في مهرجان أوبرهاوزن الألماني، ومهرجان طهران الإيراني. ولا يتوقف خلال سرده المشوق في هذين الفصلين عند ما يدور عادة وراء الكواليس خلال عمل لجان التحكيم، بل يمد التجربة أكثر ليصف لنا تفصيلا الكثير من الجوانب المتعلقة بما يدور في المجتمع، خاصة في حالة تناوله التجربة الإيرانية، ويصف مشاعر عدد من المثقفين الإيرانيين الذين التقى بهم: كيف يفكرون، وكيف يرون التجربة من الداخل، كما يتعرض أيضا للكثير من الجوانب المثيرة للخيال عندما يروي في نوع من أدب الرحلات أيضا، الرحلة التي كان جزءا منها مع أعضاء لجنة التحكيم، إلى مدينة إصفهان.
ويروي الكثير من التفاصيل الداخلية حول ما يحدث في المهرجانات السينمائية الشهيرة، العربية (نموذج مهرجان قرطاج)، والعالمية (نموذج مهرجان البندقية- فينيسيا، ثم نموذج مهرجان فالنسيا الإسباني). لكنه يستخدم أسلوبا جديدا في الكتابة عن هذه المهرجانات هو أسلوب اليوميات التي تحفل بشتى المعلومات، والتأملات الفكرية الشخصية للمؤلف أيضا.
ويختتم العمري كتابه بالعودة إلى بدايات مهرجان القاهرة السينمائي، من خلال توثيقه لموقف نقاد السينما المصريين، وبعض النقاد العرب الذين حضروا ندوة لمناقشة الدورة الأولى من ذلك المهرجان عام 1976، وهي ندوة مثيرة لم تنشر وقائعها من قبل، يضعها المؤلف في ملحق خاص في نهاية الكتاب كوثيقة تذكر بالبداية الخاطئة، وربما أيضا، تصلح دليلا على أن التاريخ يعيد نفسه أحيانا!
والكتاب بوجه عام، ممتع، ومثير للفكر والخيال، وعمل شجاع لأن مؤلفه لا يتردد في ذكر الأسماء الحقيقية للشخصيات التي يتناولها، بما لها، وما عليها أحيانا، وفي أحيان أخرى، يترك الحكم النهائي على الأحداث والشخصيات ومواقفها، للقاريء الفطن الذي يمكنه اكتشاف ما بين السطور.

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger