
ناضل فاروق عبد القادر بقلمه، كاشفا العفن الثقافي، فاضحا المواهب الزائفة التي يفرضها علينا الإعلام السائد، في المسرح والرواية والقصة. لم يجامل أحدا، ولم ينافق مسؤولا، ولم يمدح نجما أو مخرجا حسب الطلب، أو حسب ما يمكن أن يحصل عليه من منافع ومكاسب، فقد عاش فاروق ومات، فقيرا معدما، بخلت عليه الدولة بالعلاج الذي أصبح متاحا في الخارج لكبار الوزراء والمسؤولين "عيني عينك" ولا أحد يجرؤ على الكلام، وإذا تكلم، فلا أحد يهتم أو يحاسب.
عرفت فاروق عبد القادر عام 1976 أي منذ 34 عاما، عندما كان محررا للملحق الثقافي في مجلة "الطليعة" الشهرية التي كانت من أكثر المجلات المصرية احتراما وتأثيرا في الأوساط الثقافية والفكرية، سواء في مصر أو في العالم العربي.
ولكن فاروق لم يكن يعمل في براتب شهري ثابت في تلك المطبوعة الشهرية التي تصور الرئيس جمال عبد الناصر عندما سمح بصدورها في 1965، أنه يستطيع أن يشتري مثقفي اليسار المصري ومفكريه، بحفنة من الجنيهات (خمسة آلاف جنيه شهريا كما نقل عنه أحد مثقفي اليسار فيما بعد). فقد كان فاروق يعمل بمكافأة شهرية متواضعة، ولعله ارتضى بذلك حتى لا "يتورط" في الوقوع في شرك نظام كان يعارضه، وقد دفع الثمن باهظا، واضطر في وقت ما إلى الرحيل خارج مصر حيث عمل لسنوات في إحدى الدول العربية مستشارا خاصا. ولكنه منذ أن عاد في أوائل السبعينيات على ما أعتقد، وحتى وفاته بعد فترة طويلة في غيبوبة ما قبل الفراق منذ أشهر، ظل كاتبا مستقلا، يرفض الارتباط بالعمل لحساب أي مؤسسة من مؤسسات الدولة، الصحفية أو الثقافية.
لم تكن تربطني علاقة شخصية مباشرة بفاروق عبد القادر في ذلك الوقت، فقد كنت مازلت طالبا بالجامعة وكنت أنشر مقالات متفرقة هنا وهناك، ولكن فاروق كان يقرأ ويتابع ويهتم، وقد أرسل لي من يخبرني بأنه يريد أن يراني في مكتبه بمجلة الطليعة. وكان مقر المجلة داخل مبنى "الاهرام" الجديد الذي كان قد افتتح قبل سنوات محدودة في 1970 على ما أتذكر، قبل وفاة عبد الناصر، واعتبر إنجازا شخصيا فارقا للصحفي والكاتب الكبير محمد حسنين هيكل.
وقد دخلت مبنى "الأهرام" وانا أشعر بالضآلة، فمن أنا بين كل هؤلاء الكتاب والصحفيين الكبار، وكان منهم توفيق الحكيم ونجيب محفوظ والدكتور حسين مؤنس والدكتور جمال حمدان، وغيرهم كثيرون.
وقد طلب مني فاروق دون أي معرفة سابقة أن أكتب لـ"الطليعة"، وكان يبدي حماسا كبيرا لما أكتبه رغم أنني كنت في بدايات حياتي ككاتب.
وكنت أحيانا أمر عليه في "الطليعة" لكي اسلمه مادة للنشر، أو أستشيره في أمر من الأمور، ونخرج معا ونسير حتى نصل إلى مقهى كان يقع أمام دار سينما مترو بشارع سليمان باشا، ونجلس معا، نتحدث في كل شيء، حتى السابعة مساء، وعندها كان فاروق يعتدل ويطلب فنجانا من القهوة قبل أن يذهب إلى المسرح. وارتبطنا بصداقة دامت طيلة تلك السنوات.
وكنت دائما أحرص على اللقاء بفاروق عندما أكون في القاهرة منذ أن غادرت مصر قبل سنوات بعيدة. وكان هو قد اتخذ من مقهى "سوق الحميدية" في وسط القاهرة مكانا للقاء الأصدقاء مساء الأحد من كل أسبوع. وقد التقينا هناك قبل أقل من عام، وكان معه الأستاذ أحمد الخميسي. ولاحظت أن فاروقا لم يتغير أبدا. صحيح أن علامات الكهولة كانت بادية على شعره ووجهه، لكنه في عقله وذهنه وفكره، كان لايزال شابا متوهجا كعادته، يتحدث، ويسخر، وينقد، ويبدو رافضا للتواءم مع التركيبة السائدة حوله كما عهدناه دوما.
وكان المرء لا يملك سوى أن ينصت عندما يتحدث فاروق، فقد كان ملما بالكثير مما يجري ويحدث في بطن الواقع، كما كان مطلعا على مجريات الأمور حتى الكثير مما هو شخصي منها، يحرص أصحابه عادة على إخفائه بعيدا عن العيون والآذان. وكان حديث فاروق جذابا، تحليليا، يفيض أيضا بالسخرية المحببة التي تجذبني لأنها تعكس ذكاء متوقدا خاصا، وتضفي جاذبية على الحديث. وقد أصبح مكانه المفضل الثابت في ميدان باب اللوق بوسط القاهرة، جزءا لصيقا في ذاكرتي الشخصية. وكنت دائما أشعر بالاطمئنان بأن فاروقا هناك، يمكنني أن القاه في أي يوم أحد أشاء، فلم يكن يمنعه سوى المرض العضال عن الوفاء بوعده لأصدقائه.
وقد حزنت كثيرا عندما علمت بمرضه وتدهور حالته الصحية التي أدخلته في حالة الغيبوبة منذ أشهر. وظللت أتابع حالته مع الأصدقاء، من موقعي البعيد.. في هذا المنفى الاختياري الذي أكتب هذه الكلمات منه الآن، إلى أن تلقيت اليوم خبر وفاته.
ورغم أنه كسب الكثير من الأعداء، بسبب كتاباته التي لم تكن تعرف المحاباة أو النفاق، وهو ما جعلها دائما "خارج السرب"، ورغم تمرده المعلن على "سكان الحظيرة" التي دخلها كثيرون بالعشرات، إلا أنه اكتسب احترام وتقدير الجميع، سواء من اتفق معهم أو من اختلف، رغم ما كان يشنه من حملات عنيفة أحيانا. وكان فاروق قد شهد فترة ازدهار المجلات الثقافية في الستينيات، ثم شهد اختفاءها وتدهور الصفحات الثقافية في معظم الصحف والمطبوعات حتى أصبحت مجرد صفحات إخبارية، شبه إعلانية، وتلاشى منها النقد الجاد، بل وبعد أن أصبحت الكتابة "المشروطة" في النقد الفني والأدبي والمسرحي، متاحة فقط، في جريدة الوزير فاروق حسني، بشروطه وبما يخدم توجهات وزارته بل وطموحاته الشخصية ايضا. فقد بتنا في عصر وزعت فيه الاقطاعيات على المماليك الجدد، وضاقت فيه الأبواب أمام شرفاء الكلمة. غير أن فاروقا كان يتمكن دائما من العثور على منبر يكتب له، وكان مستمرا أيضا في إصدار كتبه التي اثرت الحياة النقدية وأبقت على نوع من الحيوية في داخلها.
أما الآن فقد اصبح بوسع الكاتبين بالتكليف وبالتطوع المدفوع، أن يصولوا ويجولوا دون خوف أو وجل، وأن يستنكروا علانية ما كان في ماضيهم من ملامح "شبه ثورية"، لحساب تلك "العقلانية البراجماتية" التي أدركوها بعد أن وصلوا إلى سن ما قبل الرحيل، وهو اللغز الذي لم يتوقف فاروق عبد القادر أمامه كثيرا، فقد كان يرى إرهاصات السقوط كامنة من البداية.. كما تعلمنا منه.
رحم الله فاروق عبد القادر ألف رحمة. وستظل خسارتي الشخصية فيه ما حييت، فقد كان مثلا أعلى يحتذى، وصديقا حقيقيا في زمن عز فيه الأصدقاء.
فاروق عبد القادر في سطور:
ولد في بني سويف - مصر 1938.
كان عاشقاً للقرآن، يرتله في الفجر وقبل الغروب وكان حسن الصوت سليم النطق.
التحق بقسم الدراسات الاجتماعية والنفسية واختار علم النفس.
تخرج من الجامعة في مايو عام 1958 (ليسانس علوم نفسية) بتقدير جيد.
في 1962 صدر أول كتاب له.
عمل سكرتيراً لتحرير مجلة (المسرح) ثم مجلة (المسرح والسينما) حتى نهاية 1970.
عمل محرراً مسؤولاً عن ملحق الأدب والفن الذي كانت تصدره مجلة (الطليعة).
من كتبه:
ازدهار وسقوط المسرح المصري.
مساحة للضوء، مساحة للظلال.
من أوراق الرفض والفنون.
أوراق من الرماد والحجر.
أوراق أخرى من الرماد والحجر.
رؤى الواقع وهموم الثورة المحاصرة.
نافذة على مسرح الغرب.
مسرحيات ترجمها:
فترة التوافق – تنيسي وليامز.
لعبة البنج بونج – أرتور أداموف.
المساحة الفارقة.
النقطة المتحولة – بيتر بروك.
يو . أس – بيتر بروك.
* منح المجلس الأعلى للثقافة فاروق عبد القادر جائزة التفوق في الادب يوم الإثنين أي قبل وفاته بيوم واحد فقط، وقدرها 100 الف جنيه، بتدخل من الدكتور جابر عصفور حتى يمكن ان تساهم في نفاقت علاجه، ولم يكن فاروق مرشحا للجائزة أصلا، بل ولم يدري بفوزه بها فقد كان يرقد في غيبوبة كاملة ثم توفي في اليوم التالي.