الخميس، 29 أبريل 2010

"حياة في السينما " مذكرات وشهادات تجمع بين الهمّين الثقافي والسينمائي



((أنشر هنا المقال الذي كتبه الزميل الناقد الاستاذ عدنان حسين أحمد ونشر في ملحق جريدة "العرب الأسبوعي" بتاريخ 24 ابريل عن كتاب "حياة في السينما" الذي يستمد اسمه من عنوان هذه المدونة، بل إن بعض فصوله نشرت هنا أولا))

عدنان حسين أحمد



صدرعن دار مدبولي في القاهرة كتاب جديد يحمل عنوان "حياة في السينما" للناقد السينمائي المصري أمير العمري. يقع الكتاب في 280 صفحة من القطع الكبير وقد تضمّن فهرس الكتاب مقدمة وافية، فيما انضوى المتن تحت ثلاث محطات رئيسة سنتوقف عندها تباعا. أما خاتمة الكتاب فهي ملحق يوثق فيه العمري ندوة جمعية النقاد حول مهرجان القاهرة السينمائي الأول عام 1976) إضافة الى ملحق بتسع وعشرين صورة تذكارية، بعضها مع مخرجين ونقاد سينمائيين وصحفيين، عربا وأجانب، وبعضها الآخر ملصقات أو لقطات من بعض الأفلام التي توقف عندها سواء بالتلميح العابر أو بالتحليل المعمّق.
لم يشأ العمري أن"يجنِّس" هذا الكتاب أو يُخضعه الى نوعٍ معيّن من الكتابات أو الأساليب المتعارف عليها فهو مزيج من المذكرّات والشهادات واليوميات والمحاورات التي تجمع بين الهمّين الثقافي والسينمائي في آنٍ معا. وعلى الرغم من أن بعضا من جوانب هذا الكتاب هو سيرة ذاتية إلا أن العمري حاول أن ينأى بنفسه عن هذا التوصيف بحجة أنه "لا يريد أن يكون محورا للوقائع والأحداث، بل شاهدا عليها أو مُساهما فيها".
وحينما قرأت الكتاب قراءة متفحصة واستمتعت به أيما استمتاع وجدت أنه نوع من الكتابة "السيرية" القارّة وغير المتعينة، أي التي لم تتخذ شكلا ما بعد، وإنما ظلت تتأرجح بين الأنواع الأدبية الأربعة المُشار اليها سلفا، ففيها كثير المذكرات التي تمتد من أواخر الستينيات من القرن الماضي وحتى الوقت الحاضر كما أنها تتضمن شهادات محايدة وغير محايدة في آنٍ مع.
تزخر مادة الكتاب أيضا باليوميات التي تمحورت حول مهرجانات عربية وعالمية مهمة. أما المحاورات فأعني بها ذلك السجال الدائم الذي كان دائرا بين العمري وأنداده من المخرجين الذين يصنعون أفلاما جادة تفضي الى تراكم الوعي، وتنشد الى تغيير الذائقة الجمعية للناس. والحوار المعمق الذي كان يستعر بينه وبين النقاد والمثقفين المصريين والعرب على مدى أربعة عقود بالتمام والكمال.
يتألف متن الكتاب مبدئيا من ثلاثة أقسام وهي "تجارب وحكايات شخصية"، "شخصيات" و"في لجان التحكيم والمهرجانات". وسنتعرف في كل قسم من هذه الأقسام الثلاثة على جانب من جوانب شخصية الناقد السينمائي أمير العمري التي تنطوي على مهيمنات بصرية وفكرية وثقافية يمكن تلمّسها منذ بدايات ولوجه الى عالم الأدب والفن بمفهوميهما الواسعين.
فشخصية(أمير) تتجاوز حدود الناقد السينمائي الى شخصية الأديب المبدع والمنظِّر الذي يمكن له أن يشتغل في أي حقل فكري يروق له فعدته النقدية واضحة ولا غبار عليها، ولكن اللافت للنظر أن جملته الأدبية تتجاوز الإطار النقدي، لتقفز الى حدود الاطار الأدبي الابداعي الذي نستمتع بقراءته، وهذا ما أضفى على هذا الكتاب بُعدا جماليا يتلاقح فيه النقد والأدب، وتتماهى فيه المذكرات مع الشهادات.
تشكلات الوعي البصري
يكشف القسم الأول من الكتاب عن المراحل الجنينية التي شكلّت الأس البصري لثقافة العمري فثمة إشارة الى مرحلة الطفولة والصبا التي كان فيها العمري يشاهد بعض أفلام الحروب والمغامرات التي كانت شائعة ومألوفة آنذاك مثل "ريو برافو" لهاوارد هوكس و"ثورة على السفينة باونتي" لفرانك لويد وسواها من الأفلام التي قُدِّر له أن يراها قبل مرحلة النضج الفكري والفني على حد سواء والتي تبدأ عند العمري بفيلم
"الترتيب" الذي أُنجز عام ١٩٦٩ للمخرج الأميركي، من أصل يوناني، إيليا كازان. وقد عُرض هذا الفيلم في القاهرة عام ١٩٧٠ .
ومن هنا يمكن أن نعّد هذا العام هو البداية الحقيقية للعمري مع الفن السابع الذي أخذ بتلابيب هذا الطالب الجامعي وخطفهُ من أروقة كلية الطب الى فضاء الخطاب البصري اللامحدود. وجدير ذكره أن العمري ينتمي مع أقرانه من الأدباء والنقاد والفنانين الى ما يمكن تسميته بتيار الجيل الغاضب، ذلك الجيل الذي تململ وتمرد وثار على كل أشكال الجمود والانتهازية والتخلف بغية تغيير وجه العالم سواء بواسطة السينما أو بغيرها من الأجناس الفنية والابداعية، وربما كان فيلم "العصفور" ١٩٧٢ ليوسف شاهين هو خير أنموذج لما نذهب اليه.
لابد من الاشارة الى أن كتاب العمري سيضعنا في مأزق سردي لأنه يعتمد في بنيته التأليفية على"تداخل الأزمنة" فليس غريبا أن ينتهي الكتاب بالندوة النقدية التي غطت أسباب فشل مهرجان القاهرة السينمائي الأول عام ١٩٧٦ في حين أن بعض موضوعات الكتاب وثيماته تمتد الى أواخر عام ٢٠٠٨ في أقل تقدير. ومع ذلك يجب أن نقفز الى ما قبل السنة التي أنجز فيها فيلم "العصفور" أي عام ١٩٧١ ، وهو العام الذي أسس فيه العمري "نادي السينما "في كلية الطب بجامعة عين شمس، وبدأ يعرض فيه أفلاما (نوعية) كان مصدر أغلبها من بلدان أوروبا الشرقية التي كانت، ولا تزال، تصنع أفلاما جادة تحترم عقلية المتلقي، وتسهم في تثقيفه بصريا وفكريا. تعززت أهمية"نادي السينما" بفضل الندوات الأسبوعية المنتظمة التي كان يعقِدها العمري مستضيفا فيها أسماء سينمائية ونقدية مهمة في الوسط الثقافي المصري، إضافة الى الحضور النوعي الذي يمثله كل من سمير فريد، سامي السلاموني، محمد كامل القليوبي وغيرهم من النقاد والسينمائيين الذين كرسوا حياتهم للفن السابع وانقطعوا اليه.
يمكن الاشارة في هذا الفصل من الكتاب الى أهمية انتماء العمري عام ١٩٧٤ الى جمعية نقاد السينما المصريين) التي أُسست بمبادرة من سمير فريد عام ١٩٧٢ وكان يرأسها المخرج والناقد المخضرم أحمد كامل مرسي، ونائبه مصطفى درويش وعضوية كل من فتحي فرج، أحمد رأفت، سمير فريد، يونس شريف رزق الله وأحمد الحضري وغيرهم) ويبدو أن العمري ليس متأكدا من المناصب الادارية التي كان يتبوأها بعض أعضاء الجمعية لأنه يعتمد على ذاكرته فقط، وليس على وثائق رسمية سنعرف لاحقا أنه ضيّع بعضها في أثناء انتقاله من شقة الى أخرى في أوقات متعددة. أما يهمنا هنا، أن العمري يتذكر أبرز الأسماء في جمعية النقاد وهم سامي السلاموني، خيرية البشلاوي، رفيق الصبان، أنور خورشيد، هاشم النحاس وصبحي شفيق.
كما أنه يتذكر جيدا أن الشخص الذي ضمّه الى الجمعية هو فتحي فرج وبتشجيع والحاح من الناقد سمير فريد. ولا شك في أن انتماء العمري الى هذه الجمعية سوف يفتح له آفاقا جديدة لأنها وضعته في تماسٍ مباشر مع الأجيال السابقة من النقاد والسينمائيين المصريين، هذا إضافة الى حراكه النقدي مع أقرانه من النقاد والسينمائيين من جيل السبعينات. يبيّن هذا الفصل من الكتاب أن شهرة العمري لم تأتِ من فراغ، فقد بذل جهودا كبيرة كي يؤسس لنفسه موطئ قدم وسط الأسماء النقدية المكرّسة واللامعة آنذاك.
وكان لا يتورع عن خوض المعارك والسجالات النقدية مع بعض الأسماء التي كان يراها مهيمنة أو متزمتة بعض الشيء، ولا تفسح المجال للأسماء النقدية الشابة آنذاك لكي تلعب دورها في المشهد النقدي. وربما يكون من المفيد أن نشير هنا الى (النشرة) التي كان يصدرها النادي السينمائي ويعمل في مجلس إدارتها سامي السلاموني، سمير فريد وأحمد الحضري.
وكان السلاموني متهما في إعاقة نشر المواد التي يكتبها النقاد السينمائيون الشباب آنذاك أمثال فايز غالي، الفاروق عبد العزيز، محمد زهدي، أحمد عبد العال وأمير العمري. وعلى وفق هذا التصور إندلع السجال بين العمري والسلاموني، غير أن هذا الأخير لم يُستثر أو يسقط في دائرة الانفعال على الرغم مما وُصف به من"ذاتية وصلف".
لم يستطع العمري في كتابه أن يتفادى الخوض في الجانب السياسي لأن حقبة السبعينات وما تلاها من تداعيات جوهرية كانت جديرة بأن تضع جزءا كبيرا من المثقفين المصريين في مواجهة مع أجهزة السلطة فلا غرابة أن تتحول كلية الطب في جامعة عين شمس الى بؤرة للنشاط السياسي المحموم الذي يريد أن يعيد الأمور الى نصابها الصحيح. فقد بدأت مظاهر القمع الثقافي تتمثل في منع بعضالنقاد من الكتابة في نشرة نادي السينما في صيف ١٩٧٣ لعل أبرزهم سامي السلاموني، سمير فريد ورفيق الصبّان.
وعلى الرغم من مضايقات أجهزة السلطة إلا أن عزيمة النقاد السينمائيين لم تفتر. ففي عام ١٩٧٥ أقيم أسبوع الفيلم البرازيلي حيث عُرض فيه ١٤ فيلما، كما أعدّ سمير فريد كتابا عن السينما البرازيلية شارك فيه نخبة من النقاد السينمائيين من بينهم رأفت الميهي والفاروق عبد العزيز وفوزي سليمان.
وفي ١٩٧٦ نظمت جمعية نقاد السينما أسبوعا للسينما الجزائرية عُرض فيه ١٤ فيلما جزائريا، كما أصدروا كتابا جماعيا عن السينما الجزائرية شارك فيه محمد كامل القليوبي، سمير فريد، يسري نصرالله، يوسف شريف رزق الله والجزائري محمد أمغار. كان العمري يشارك أقرانه في اهتمامهم بالسينما النضالية أو ما كان يُطلق عليها بـ "سينما العالم الثالث". إن تعيين يوسف السباعي بعد حرب أكتوبر عام ١٩٧٣ قد زاد الطين بلّة ففضلا عن قمع الأجهزة الأمنية الساداتية للثقافة اليسارية والناصرية وإطلاق العنان للمتأسلمين الظلاميين، فقد أسس السباعي (جمعية كتاب ونقاد السينما) التي ضمّت عددا من كتاب السيناريو ومحرري الأخبار الفنية والسينمائية ثم أتاح لها أن تشنَّ حملة شعواء على جمعية نقاد السينما وتتهمهم بالشيوعية والعمالة وتشويه صورة مصر. كما إتهم السباعي نفسه بعض المخرجين بالترويج لثقافة الاستسلام والهزيمة.
والملاحظ أن أغلب أعضاء جمعية نقاد السينما لم يتبنوا الفكر الماركسي، ولم ينتموا الى حلقاته السرّية، بل أن بعضهم رفض الماركسية، مثل سمير فريد، وتبنى الاشتراكية الناصرية، ثم تبرأ منها ليعتنق الفكر الليبرالي الذي يكاد ينسجم مع ذهنية شريحة واسعة من المثقفين المصريين لعل العمري أحدهم.
بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد(عام ١٩٧٩) كوّنت جمعية نقاد السينما لجنة مقاومة السينما الصهيونية ومن بين أعضاء هذه اللجنة سمير فريد، علي أبو شادي، كمال رمزي ومحمد كامل القليوبي التي رفضت التطبيع في الجانبين الثقافي والسينمائي. ثم أصدر سمير فريد في الأول من يناير عام ١٩٧٧ صحيفة (السينما والفنون) وهي أسبوعية سينمائية ضمت في عضويتها عددا من النقاد بينهم أمير العمري. غير أن هذه الصحيفة توفقت بعد عددها الثالث والثلاثين بناء على تعليمات محسن محمد.
ازداد الوضع تأزما فغادر الفاروق عبد العزيز للعمل في التلفزيون الكويتي، واتجه يسري نصر الله للعمل في الصحافة اللبنانية، وذهب صبحي شفيق للعمل في مجلة جون أفريك في فرنسا، وسافر القليوبي لدراسة الدكتوراه في موسكو، وانتقل فتحي فرج للعمل في السعودية فيما رحل أمير العمري الى الجزائر ومنها الى لندن.
يا ترى، ما الذي حققه العمري خلال انضمامه الى جمعية نقاد السينما عام ١٩٧٤ وحتى رحيله الى الجزائر، فهو من المخلصين للفن السابع، والأوفياء لتجربته النقدية التي كانت تنضج على نار هادئة. ففي عام ١٩٧٨ أُنتخب العمري عضوا لمجلس إدارة جمعية النقاد، وفي العام الذي يليه أصبح سكرتيرا للجمعية بعد سفر فتحي فرج الى السعودية، لكنه لم يمكث طويلا، إذ قدّم استقالته قبيل سفره الى الجزائر في مارس .


ثم تتسارع نبرة (الكائن السيري) لنكتشف أنه أمضى ثلاث سنوات ونصف السنة في الجزائر، ثم توجه الى لندن ليعمل محررا لصفحة سينما وفنون) في صحيفة (القدس العربي لينتقل بعدها للعمل في الاذاعة والتلفزيون والنشر الأليكتروني في القسم العربي في البي بي سيفي لندن. وعلى الرغم من نجاحاته المتواصلة وحياته المستقرة في لندن إلا أنه قرر العودة الى مصر في أواخر عام ٢٠٠٠ ، حيث أُنتخب عضوا في إدارة مجلس جمعية النقاد، ثم أُنتخب بالاجماع ليكون رئيسا لأكبر جمعية نقدية متخصصة بالنقد السينمائي على وجه التحديد، وحقق في أثناء رئاسته لهذه الجمعية عددا من المنجزات الكبيرة من بينها إصدار عشرة أعداد من مجلة (السينما الجديدة)، ونظّم عددا من الأسابيع السينمائية، وأصدر كتابا عن الرقابة على السينما في مصر، وأنشأ موقعا على الانترنيت، ودعم علاقة الجمعية باتحاد النقاد الفيبريسي، وما الى ذلك من منجزات فعلية ملموسة، لكنه مع ذلك قدّم استقالته عام 2003 لأن مناخ العمل أصبح مغلقا كما هو شأن المناخات في بعض الدول المغلقة التي سوف يزورها العمري ويشعر بالخوف والحيطة والحذر، بالاضافة الى تسلم العمري لمنصب رئاسة جمعية النقاد السينمائيين، فقد أنيطت له مسؤولية إدارة مهرجان الاسماعيلية عام ٢٠٠١ ، لكنه انسحب بهدوء عن صخب المهرجان لعله يجد فضاء هادئا للكتابة والابداع.
كنا قد ألمحنا سابقا الى أن هذا الفصل، على وجه التحديد، يضع القارئ أمام كمٍ كبير من المعلومات التي تؤرخ للنوادي والجمعيات السينمائية المهمة، كما يشير من طرف غير خفي الى العدد الكبير من نقاد السينما والمعنيين بالشأن السينمائي عموما.
ولعل من المفيد هنا أن نتوقف عند الافتتاحية التي كتبها العمري لنشرة (جمعية سينما الغد) والتي تضمنت الاشارة الى الذكرى الخمسين على ظهور الفيلم السوفييتي الصامت (البارجة بوتمْكين) للمخرج سيرغي إيزنشتاين غير أن مصطفى درويش كان يرى في هذا الفيلم (استفزازا للأمن والسلطات) وهذا ما دعاه لأن يهاجم العمري متهما إياه والسائرين في فكله بأنهم (شلة من المراهقين اليساريين الذين يرغبون في تحقيق
الثورة الشاملة دفعة واحدة). وعلى الرغم من حدة السجال الذي دار بين الطرفين إلا أن العمري تجاوز الخلاف ورأبَ الصدع حينما اقترح على مصطفى درويش أن يوفدوه الى ايطاليا ممثلا لجمعية نقاد السينما لحضور الاجتماع السنوي للاتحاد الدولي لنقاد السينما الفبريسي.
على الرغم من المعوقات والعراقيل التي واجهت جماعة (سينما الغد) إلا أن العمري لم ييأس فقد اشترك ثلاثة من أصدقائه في تأسيس جماعة (السينما الثالثة) وخلاصة فحوى هذه الجماعة تشي بالضرورة بأن هناك سينما أولى وثانية.
فالسينما الأولى، وهي الأميركية التي لا تُعلي من شأن المخرج، وإنما تعتبره مجرد محرّك لمجموعات من المنفذين، أما السينما الثانية وهي الأوروبية التي تضع المخرج في الاعتبار، فهو عقل الفيلم وروحه. أما السينما الثالثة فقد رفضت النموذجين أعلاه وطرحت أنموذجا جديدا يقوم على تصوير تجارب الوعي الجمعي المشترك ويسعى الى تغيير الواقع بواسطة التعرية والتحريض. ويبدو أن تجربة السينما الثالثة قد فشلت في مصر لأنها حاولت أن تنمو في مناخ مختلف تماما عن المناخ الذي تألقت فيه في بعض بلدان أميركا اللاتينية.
يختتم العمري هذا الفصل الشيّق بمجموعة من الذكريات المهمة التي جمعته بـ"شلّة المنيل". فبواسطة (نادي السينما) الذي أسسه العمري في كلية الطب بجامعة عين شمس والذي أصبح محط اهتمام الكثير من المثقفين والفنانين المصريين تعززت علاقة العمري بالعديد من المخرجين السينمائيين لعل أبرزهم المخرج الراحل رضوان الكاشف، والمخرج مجدي أحمد علي الذي ستتعمق معه العلاقة في الجزائر لاحقا.
تنطوي هذه الذكريات على عدد من المواقف الطريفة التي تكشف عن رؤية المخرجين (رضوان ومجدي) وطريقة ترويجهما لفيلميهما الروائيين (ليه يا بنفسج) و (يا دنيا يا غرامي) كما يتوقف العمري عند الخلاف الذي كان دائرا بين مجدي أحمد علي والمخرج السوري محمد ملص الذي كان مقيما في القاهرة آنذاك. ولأن علاقة الموهوبين مع بعضهم البعض هي أكبر من الخلافات العابرة فسرعان ما يصطف مجدي أحمد علي الى جانب محمد ملص ويبدي استعداده لحل مشكلة (ملص) مع (الشركة العربية) التي كان متعاقدا معها في القاهرة. حري بنا أن نشير هنا الى الحكم الذي أطلقه العمري على فيلم (الساحر) الذي لا يرقى الى مستوى فيلميه السابقين (ليه يا بنفسج) و(عرق البلح) اللذين ينطويان على نجاح فني واضح ويؤسسان لرؤية اخراجية جديرة بالرصد والاهتمام.
علامات فارقة
يقتصر الفصل الثاني من الكتاب على ثلاث شخصيات مهمة وفاعلة في المشهدين السينمائي والنقدي في آنٍ معا. وهذه الشخصيات هي المخرج يوسف شاهين الذي (ملأ الدنيا وشَغَل الناس) طوال ستة عقود تقريبا، أي مذ أخرج فيلمه الأول (بابا أمين) عام ١٩٥٠ وحتى فيلم (هي فوضى) الذي أخرجه بالاشتراك مع تلميذه خالد يوسف عام ٢٠٠٧ . ويبدو أن أفلام شاهين سوف تشكّل منعطفا مهما في حياة العمري وأقرانه من النقاد الذين بدأوا يرون في السينما (فنا وثقافة إضافة إلى عنصري التسلية والامتاع. كما أن تجربة شاهين السينمائية سوف تثير شهية النقاد الجادين وتحفزهم على الكتابة النقدية الرصينة إذ يسوق العمري في هذا الصدد فيلم (اسكندرية ليه) الذي حفّز النقاد على كتابة كم هائل من الدراسات النقدية الجادة في حينه. لم يُخفِ العمري اعجابه بأفلام شاهين الكلاسيكية مثل (باب الحديد) (الناصر صلاح الدين( و(الأرض)، لكن الأفلام اللاحقة التي انطوت على عناصر الحداثة والتجديد كانت الأكثر قربا وإثارة للعمري ولغيره من نقاد السينما الجادين في مصر والعالم العربي. فلا غرابة أن يعرض العمري فيلم (الاختيار) في (نادي السينما) ويناقشه مناقشة مستفيضة. ثم تتوالى متابعاته لأفلام شاهين الأخرى التي شكلّت علامات فارقة في السينما المصرية مثل (الأرض) و (عودة الابن الضال). كان العمري سعيدا جدا بلقاء يوسف شاهين في مكتبه بشارع شامبليون إثر المقال التحليلي المهم الذي نشره في مجلة (الطليعة) اليسارية ذائعة الصيت. ثم يتكرر اللقاء بشاهين في مهرجان لندن السينمائي عام ١٩٩٠ .
ولعل أجمل ما في هذا اللقاء هو ذكاء العمري ودقة ملاحظته التي تسبر أعماق شاهين وتعري طوّيته حيث يقول "كان شاهين يتظاهر في البداية بأنه لا يتذكرك جيدا، ثم يستخدم حركة يده الشهيرة، يقرّبها من أذنه، مُدعيا أنه لا يسمعك أيضا جيدا، ثم سرعان ما تكتشف أنه يتذكر جيدا ويعرف ويسمع ويهتم" (ص ١١٠ ). ولأن العمري مواظب على
حضور المهرجانات السينمائية العربية والدولية فقد التقى شاهين مرة ثالثة في مهرجان فالنسيا وكتب عنه دراسة موسعة شاملة نشرت في مجلة ميتيماس الأسبانية. أما المقابلة الوحيدة التي أجراها العمري مع شاهين فقد كانت على هامش مهرجان تطوان السينمائي ويبدو أن شاهين كان متفننا في المراوغة، وقادرا على التلاعب بدفة الحديث الى الجهة التي يراها مناسبة.
أما الشخصية الثانية التي توقف عندها العمري فهي شخصية الناقد عبد الفتاح الجمل الذي ترك بصمة واضحة على الحياة الثقافية في مصر. وربما يكون اللقاء الذي جمَعهُ بالجَمل إضافة الى صديقه محمد كامل القليوبي هو من أطرف اللقاءات التي لا تسلّط الضوء على طبيعة الجَمل وسلوكه الشخصي حسب، وإنما تكشف حجم المشاعر الملتبسة التي إنتابت العمري وهو يواجه نوبات الضحك الهستيرية التي تدفق بها الجَمل بينما هو يستمع الى دفاع العمري عن واحدة من مقالاته النقدية. وعلى الرغم من الحرج الشديد الذي سقط فيه العمري، إلا أنه سيتقبل الجمل على علاته بعد أن يتعرف على طبيعته وسلوكه الشخصي الفكِه من خلال عدد كبير من الأصدقاء. وربما يعود الفضل الأكبر الى الأديب عبده جبير الذي اصطحبه الى مكتب الجمل لينتهي توتر العمري من أساسه بعد أن يوقن تماما بأن هذا الرجل لا يكّن له إلا المودة والاحترام، واكثر من ذلك فإنه يدعوه بمحبة كبيرة للكتابة في صحيفة (المساء). أما الشخصية الثالثة والأخيرة فهو المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي، صاحب فيلم (الملجأ) الذي يعِّده العمري واحدا من أهم الأفلام الروائية القصيرة في السينما العربية. يغيب مشهراوي (ذو الشعر الأسود الكثيف) لبضع سنوات، ثم يقابله بعد أربع سنوات في مهرجان القاهرة
السينمائي ليراه حليق الرأس على وفق صرعة تيلي سافالاس!
ينجز مشهراوي عدة أفلام من بينها (انتظار) و (عيد ميلاد ليلى). وعلى الرغم من اعجاب العمري بتجربة مشهراوي السينمائية إلا أن ذلك لا يمنع من وجود بعض الملاحظات التي تتعلق بطريقة البناء الفني، وأسلوب السيناريو، وضرورة تحرير المخيلة من بعض الأنماط التقليدية التي تهيمن على جوانب محددة من أفلام مشهراوي الوثائقية والروائية على حد سواء. إذا كان الفصل الأول ينطوي على مفارقات كثيرة فإن هذا الفصل الثاني لا يخلو من عناصر الشدّ والترقّب والتشويق. ففي أثناء لقائه بالسيدة ليا فان لير، المشرفة على السينماتيك الاسرائيلي، التي قدّمت فيلم (الملجأ) لمشهراوي، وفيلم اسرائيلي يحمل عنوان (كلا يا ماتياس لا تتورط)، كان ثمة رجل طاعن في السن تصوره العمري متطفلا حينما سأله عن أسباب منع فيلم (البريء) لعاطف الطيب في مصر. وبعد مناقشة حادة كشفت عن تبرّم العمري وضيقه من حضور هذا الرجل الطارئ الذي تبين لاحقا أنه زوج السيدة ليا فان ليرا وأنه يدافع عن ديمقراطية اسرائيل التي تعرض كل الأفلام من دون رقابة! ومثل الضربة الخاطفة التي تتوفر في بعض القصائد القصيرة يفاجئنا هذا الرجل بالقول (إنه طيار في سلاح الجو الاسرائيلي، وأنه هو الذي قاد طائرة الرئيس السادات في رحلته الشهيرة الى القدس!) عن هذه المواقف المفاجئة والمواقف الطريفة التي لا يكتبها بهذه التقنية الرفيعة إلا كاتب مبدع تتجاوز قدرته حدود الكتابة النقدية الى فضاء النص الابداعي اللامحدود.

تجارب ويوميات
كنت قد أشرت آنفا الى أهمية المذكرات والمحاورات التي وردت في كتاب (حياة في السينما) ولكني لا أجد مفرّا من الاعتراف باللغة الجميلة والمعبّرة التي كتب فيها العمري عن مشاركته في لجنتي تحكيم مهرجاني أوبرهاوزن وطهران.
ووجه الطرافة في مهرجان أوبرهاوزن، وهو للمناسبة مهرجان عريق للأفلام الوثائقية والقصيرة، إن بعض أعضاء لجنة التحكيم وغالبيتهم من النساء (المؤدْلجات) قد سحبن اللجنة الى ما لا تُحمد عقباه. وأن هذا البعض يتمثل باثنتين وهما الكندية كاثلين كارتر والأميركية من أصل كوبي إيلا ترويانو قد خطفنَ المهرجان برمته، وسيحرفنَ مسار القرارات التي يجب أن يتوصل اليها المحكمون باتجاه التحيّز النسوي على حساب القيمة الفنية للأفلام المتنافسة. وحينما بلغت المعركة ذروتها قررن، بسبب الهيمنة العددية (وهنَ ست محكمات نساء ضد ثلاثة محكمين رجال) حجب الجائزة الكبرى، كما منحنَ الجائزة الخاصة الى فيلم (كئيب) يتعارض مع الشرط الذي فرضته صاحبة الجائزة وهو ألا يكون الفيلم الفائز (متشائما أو كئيبا). وعلى الرغم من الجهود الجهيدة التي بذلها العمري لتصحيح مسار اللجنة، إلا إنه لم يفلح في تفتيت صلافة المحكمات المتعصبات لجنسهن النسوي، فلا غرابة أن يقاطع حفل الختام، ولا يحضر توزيع الجوائز، وإنما قرر القيام بجولة حرة في المدينة متنقلا في باراتها الى وقت متأخر بعد منتصف الليل. وفي صبيحة اليوم الثاني كان على العمري أن يذهب معهن في السيارة الى المطار، وقد فعل، لكنه لزم الصمت، ولم يكلم أيا منهما طوال الطريق. ولعل الجملة الآسرة التي أنهى بها العمري شهادته القيّمة وهي (ما أن وصلن الى المطار حتى تركتهن واختفيت) احتجاجا على تعصبهن الأعمى الذي أفقد المهرجان جزءا من مصداقيته المعروفة.
أما تجربة لجنة التحكيم في مهرجان طهران فهي أنضج بكثير من سابقتها، وأكثر مهنية. ويبدو أن العمري مقتنع بمجمل الأفلام الفائزة لو استثنينا فقط أنه حاول أن يمنح فيلم (سايبر فلسطين) لإيليا سليمان جائزة ما، لكنه لم ينجح في مسعاه.
أما الجوائز الأساسية في المهرجان فقد ذهبت لمستحقيها. إذ أسندت الجائزة الكبرى لفيلم (امرأتان) للمخرج أمير رضا زادة، فيما ذهبت جائزة أفضل فيلم روائي قصير الى فيلم ( ليوناردو) أما جائزة أفضل فيلم تسجيلي فقد حصل عليها فيلم (نحن نعيش على الحافة) لفيكتور أسيلوك، بينما نال فيلم (متعة النار) لعلي محمد قاسمي جائزة لجنة التحكيم الخاصة.
لا شك في أن منْ يقرأ هذه التجربة التي وصفها العمري بلغة شديدة الدلالة والتعبير سيكتشف كيف تسللت الرؤية السياسية الى هذه المادة الفنية التي قد تنتمي الى جنس التحقيقات تارة، وجنس أدب الرحلات تارة أخرى، وربما هي خليط من نمط النصوص المفتوحة التي تعطيك انطباعا صادقا عن بلد ما أو نظام حكم معين في هذا الطرف أو ذاك من الكرة الأرضية. ثمة شخصيات عديدة نصادفها في هذة المادة مثل شيرين نادري، الفتاة المحجبة المسؤولة عن الاتصالات الخارجية التي ترفض أن تصافح أحدا بسبب خلفيتها الدينية المتشددة، و(حسن) المكلف بالاتصالات الخارجية الذي ينتمي الى (أهل الخبرة) وليس الى (أهل الثقة) يتحدث ثلاث لغات ولا يمكن الاستغناء عن خدماته. و(رائد) الشاب الناضج ابن مستشار الرئيس الذي يعرّي النظام الثيولوجي ويكشف عيوبه أمام الزوار الأجانب، و(المرافق الأمني) الذي يتابع أعضاء لجنة التحكيم مثل ظلالهم، لكنه ينفجر في خاتمة المطاف ويتهجم على النظام الديني المتشدد الذي خنق الحريات الشخصية والعامة. إن مجرد التوقف عند الشخصيات الرئيسة المشار اليها سلفا يعطي القارئ صورة واضحة عمّا يجري في ايران. كما سلطت المُحاضَرة التي قدمها العمري عن السينما المصرية وما انطوت عليه من انتقادات حادة لم ترُقْ للمنظمين طبعا حيث تفرض حكومتهم نوعا واحدا من الفكر السينمائي على السينمائيين الايرانيين، فيما تضطرهم لأن يتجنبوا الخوض في أنماط سينمائية أخرى مثل الأفلام الموسيقية والعاطفية والبوليسية وما الى ذلك.

تجدر الاشارة الى الرحلة التي قام بها العمري مع أعضاء لجنة التحكيم الى أصفهان وما تضمنته من كشوفات جديدة لمدينة ايرانية موغلة في القدم، كما ألفتْ عناية القارئ الكريم الى الرحلة الجميلة التي قام بها أعضاء لجنة التحكيم الى مدرسة تابعة للسفارة الايطالية تقع على مسافة بعيدة من طهران، لكنها تمثل الوجه الآخر لإيران حيث تقلع النساء أغطية والملابس الثقيلة السوداء ويتحررن منها تماما ليظهرن في ملابس أوروبية، يدخنَّ السجائر، ويخالطنَ الشاب بعيدا عن أعين الرقباء. وكعادة العمري في كل مقال أو فصل لا بد أن يسرّب لنا طرفة ما فأحد أعضاء لجنة التحكيم هو رجل يوناني كان متضايقا جدا من محاولات زوجته السويدية (ليندا المصابة بمرض عصبي) في اللحاق به الى طهران لأنها واجهت صعوبة شديدة في الحصول على تأشيرة الدخول.
وحينما وصلت الى طهران أخذت تتشاجر مع زوجها (الذي لم يكن سعيدا بوجودها في أروقة المهرجان) كما يدعي العمري، وهذه لفتة فنية جميلة تضع القارئ في مزاج آخر. ثم تأخذنا ملاحظة العمري الى جوٍ سري آخر حينما نكتشف أنه سمع الاتهام الذي وجهته الى زوجها (بأنه السبب في إصابتها بمرض عصبي) لكنه، أي زوجها اليوناني، فضّل الصمت لكي لا تتفاقم الأمور وتذهب أبعد من حدود المرض العصبي ونوباته العنيفة.
وفي خاتمة المقال لابد أن ألفت عناية القارئ الكريم الى الجزء المتبقي من الفصل الثالث والأخير لأنه يضم بين دفتيه نماذج مهمة لليوميات التي دوّنها العمري عن بعض المهرجانات العربية والعالمية مثل مهرجان (تطوان وفينيسيا وقرطاج حيث يقدم العمري صورة أمينة عن المهرجانات التي يشارك فيها بما لها وما عليها. فإماطة اللثام وإزاحة الأقنعة عن الوجوه هي التقنية المحببة التي يستعملها العمري في تغطياته أو كتاباته النقدية عن المهرجانات السينمائية التي تتشرف بدعوته بوصفه ناقدا جادا ودؤوبا لا يتسرّب الملل الى ذهنيته المتقدة على الدوام.

الاثنين، 26 أبريل 2010

عن النائمين فى الأفلام!

((تعرفت على الناقد والصحفي الأستاذ محمود عبد الشكور عندما كنت رئيسا لجمعية نقاد السينما المصريين، وكنت أقدم وأناقش مجموعة من الأفلام الوثائقية البارزة في تاريخ السينما ضمن حلقة خاصة نظمها المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة في ربيع 2002. وقد لفت نظري ذلك الشاب الذي كان يقف بين الحين والآخر، ليبدي رأيه في الأفلام بحصافة شديدة ومعرفة ودراية بتاريخ السينما وأدبياتها. ولم يكن كثيرون من أعضاء جمعية النقاد يعرفون من هو، وأين يكتب. وبعد أن تعرفت عليه دعوته للكتابة في المجلة المتواضعة الشهرية التي كنا نصدرها وقتذاك عن الجمعية باسم "السينما الجديدة". وكتب محمود بالفعل سلسلة من المقالات النقدية التي كنت أعجب بها كثير،ا بل وأعتبر ان "السينما الجديدة" لو استطاعت فقط أن تكتشف أو تعيد اكتشاف قلم واعد مثل قلم محمود لكفاها هذا فخرا. لقد اكتشفت فيه قلما مثقفا موهوبا، يملك المعرفة والأسلوب السلس الجميل. وكنت دائما أسال عنه عندما ازور القاهرة، لكن محمود لم يكن من النوع الذي يغشى كثيرا المنتديات والجلسات الثقافية، وكان مشغولا معظم الوقت، في عمله بمجلة "أكتوبر" الأسبوعية، إلى أن فوجئت أخيرا رسالة منه بعد أن عرف طريقه إلى مدونتي هذه، وقال وإنه ينشر مقالاته في النقد السينمائي بانتظام في صحيفة "روز اليوسف". ولولا أن الوسط الصحفي في مصر تسيطر عليه عصابات فكر، وتتحكم فيه الشللية ودوائر العلاقات العامة، لكان محمود عبد الشكور قد أصبح أحد نقاد السينما البارزين، ولدعي إلى لجان التحكيم التي تقام في الداخل والخارج. و سوف أتشرف هنا بنشر عدد من مقالاته استهلها بهذا المقال الطريف الذي يكشف لنا عن اسلوبه وما يتمتع به من روح مرح ودعابة- أمير العمري))

بقلم: محمود عبد الشكور

لم يحدث أبداً – حتى الآن – أن سقطت صريع النوم فى أحد الأفلام رغم أن كثيراً من الأفلام التى شاهدتها وأشاهدها يمكن – بلا مبالغة – أن توصف كعلاج رائع للأرق . ولكنى كنت فى مناسبات كثيرة شاهداً عما تفعله الأفلام فى بنى البشر المسالمين . للأمانة لم تكن كل حالات النوم أثناء المشاهدة فى أفلام رديئة ، الأمر يعتمد فيما أعتقد على ظروف المتفرج ، وعلى حالته المزاجية وليس على مستوى الفيلم فى كل الأحوال والظروف.
كنت فى قصر السينما أشاهد للمرة الأولى تحفة المخرج الأمريكى " ستانلى كوبريك " ( أوديسا الفضاء 2001 )، وكان بجوارى شاب عائد لتوّه من الجيش فى إجازة قصيرة ، ولأنه " غاوى " مشاهدة أفلام اختار أن يشغل وقته بالذهاب الى نادى السينما . لم يمر الكثير من زمن الفيلم البديع إلا وسمعت صوت شخير عميق صادر من المقعد المجاور . كان ذلك تحديداً فى مشهد سفينة الفضاء المذهلة وهى تغوص وسط فضاء أزرق لانهائى وعلى شريط الصوت " فالس " ( الدانوب الأزرق ) البديع . أما العجيب حقاً فهو ضبط إيقاع " الفالس" على إيقاع شخير صاحبنا ، وكأن ّ ( شتراوس ) كتب مقطوعته الخالدة لينام عليها شاب مصرى مجهد جاء ليتسلّى فقهره النوم الذى نصفه دائما بأنه" سلطان".
فى مواقف مباغته مثل الموقف سالف الذكر تهاجمنى نوبة من الضحك لاسبيل لدفعها ، ربما لأن الشخير يقطع الجدية التى أشاهد بها الأفلام ، وربما لأن التشويش الذى يحدث يدمر أى محاولة للفرجة، ولكنى كنت أشعر أحياناً بالرثاء لحال النائمين، بل وربما شعرت فى بعض الحالات بتأنيب الضمير مثل هذه الحالة التى لم أنسها أبداً رغم مرور السنين: كنتُ أقف أمام سينما مترو) مُتردداً فى حسم قرارى بدخول فيلم " اسكندرية كمان وكمان " للمرة الخامسة أو السادسة. بالطبع كنت أريد قطع تذكرة دخول ولكنى كنت أفكر فى "توابع" هذا القرار المتهوّر على ميزانيتى الضئيلة . أمام " فاترينة " الصور لمحته يصارع تردده لأسباب مختلفة . كان رجلاً فى العقد الرابع من عمره يحمل كيساً ضخماً من " البوب كورن" أو الفيشار ، ويمتد أمامه كرش صغير . رحت أراقب حيرته بفضول إذ كان يتنقل بين صورة لمشهد عصرى جداً من الفيلم ومشهد آخر يعود الى زمن الإسكندر . بدا المسكين يسأل نفسه :" هل هذا فيلم تاريخى أم معاصر ؟! هل هذا فيلم واحد أم عدة أفلام " فى بعض "؟! ولأننى كنت وقتها قريباً منه وجد أنه من المناسب أن يسألنى دون أن يتوقف عن التهام "الفيشار" : " هوة الفيلم ده تا ريخى ياكابتن؟" . دون تفكير، ومدفوعاً بحماسي للفيلم ، ورغبتي فى أن يشاهده أكبر عدد من الجمهور حسمت لصاحبنا الأمر مؤكداً وجود مشاهد تاريخية ، وزدتُ فى الحماس بأن قطعت تذكرة لنفسي ، وهكذا دخلنا معاً الى صالة العرض. اختار الرجل أن يجلس فى الصفوف الأولى ومعه الكيس العملاق. بعد ربع الساعة تقريباً حانت منى التفاتة فوجدت صاحبنا غارقاً فى النعاس ، وكيس "الفيشار" فى يده مثل طفل صغير . وظل على هذا الوضع حتى ما قبل النهاية بخمس دقائق . شعرت بالإشفاق عليه ، وانتظرت خروجه أولاً تحسباً لغضبه المتوقع رغم مظهره المسالم ، وكان عزائى الوحيد أننى أردت أن يتذوّق سينما مختلفة ، ولكن يبدو أنها كانت خطوة سابقة كثيراً لأوانها !
في حالة أخرى أكثر غرابة ، تمنيت أن ينام المتفرج حتى يتخلص مما يعانيه أثناء المشاهدة. كنا فى أحد أيام الصيف القائظة . الصالة خاوية تقريباً إلا منّى ومعى اثنان من المتفرجين : أنا بحكم الشديد القوى ، أى بحكم اضطرارى لمشاهدة الأفلام والكتابة عنها ، والآخران جلسا على مسافات متباعدة يتفرجان بصبر وصمود مشهود على أحد أفلام المقاولات التى تستخدم – فيما أظن – فى عمليات التأديب والتهذيب والإصلاح فى السجون . بعد ما لا يزيد عن ثلث الساعة كان أحد المشاهدين ينتفض من مكانه لاعنا ً مايشاهده من (......) ، واتجه ( لايلوى على شئ ) كما يقولون ناحية باب الخروج . أدهشنى هذا التمرد المفاجئ ، وسعدت لمتابعة شئ آخر بخلاف الأشياء التى تتراقص على الشاشة ، وكانت أفلام المقاولات لاصوت ولاصورة ولاأى شئ . لم يستغرق الرجل وقتاً ليهنأ بهروبه ، فقد عاد من جديد مخفوراً برجلين من الأمن لم يكن يعنيهم مستوى الأفلام المعروضة بقدر ما كان يعنيهم تطبيق التعليمات التى تمنع الخروج من دار العرض أثناء المشاهدة وقبل انتهاء الفيلم لأسباب أمنية ، وكانت الأحداث الإرهابية وقتها فى ذروتها . ولكن المتفرج الهارب الممسوك لم يستسلم، ولم يتوقف عن الاحتجاج والمطالبة بحق بسيط من حقوق الإنسان وهو حقه فى الهرب من فيلم ردئ يعذّب مشاهده ، ولم يتوقف أيضاً عن كيل الشتائم لصناع هذا الـ(.....) والأهم من ذلك أنه لم يتوقف عن إعادة محاولة الهرب كل عدة دقائق ليعود فى كل مرة مخفوراً برجال الأمن ! فى نهاية الفيلم / العلقة، حصلنا جميعا علي الإفراج ، ولكنى تمنيت أكثر من مرة أثناء هذا الشد والجذب أن ينام المتفرج المسكين كحل مثالى للمأساة : لقد كان مستحيلاً أن يصمد لمشاهدة هذا ال(.....) ، وكان مستحيلاً أيضاً أن يسمح له أمن السينما بالخروج لأن أمن الوطن أهم من عذاب الجمهور أثناء مشاهدة الافلام الرديئة ، أو لعلهم اعتبروها ضريبة هيّنة يمكن دفعها بهدوء ودون ضجيج "علشان مصر "!
على الباب قلت للرجل : "طب انا ظروفى بتخلّينى أشوف الأفلام دي .. إنت أيه اللى رماك ع المر ؟! "قال الرجل بتلقائية أولاد البلد : " اللى أمرّ منه .. الجو زيّ النار برة .. وعندى معاد بعد ساعتين .. قلت أضيّع وقت واشوف فيلم فى التكييف .. كنت عايز أضيّع وقت كنت حاضيع وح ارتكب جريمة !"رددت على الرجل الحكيم الظريف وسط الضحك الممتزج بالدموع :" كفّارة يا راجل .. بس اوعي تعمل كدة تانى ف نفسك ". من يومها تأكدت أن العبارة التى تقال عن أن بعض الأفلام تذكرة دخولها بعشرة جنيهات والخروج منها بعشرين ليست نكتة على الإطلاق ، لقد كان المسكين مستعداً أن يفتدى نفسه بأىّ مبلغ من المال لكى يطلقوا سراحه ، وأظنه تعلّم درساّ لن ينساه بأن نار الفيلم الردئ أقوى من صهد الشوارع فى عز الصيف، وأن دخول الأفلام مش زي الخروج منها."
على أن أعجب ما شاهدت من طرائف النائمين فى الأفلام ذلك الصديق الذى يدخل مسرعاً ومهرولاً ليلحق بالفيلم بعد بدايته ، وبعد دقائق معدودة نتراهن على أنه الآن فى سابع نومة ، ولم يحدث أبداً أن خيّب رهاننا . المُذهل أنه من عشاق مشاهدة الأفلام كما يؤكد فى كل مناسبة ، وله أيضاً محاولات فى النقد تعادل – ربما – محاولاته فى النوم ،الأرجح أنه اكتشف أن أحسن منوّم هو مشاهدة الأفلام مثلما اكتشف عم " حسنين " بتاع الكشرى أن أحسن معلّم هو الزمن فكتب حكمته الخالدة على عربته الصغيرة ليلخّص تجربة الحياة فى طبق واحد مركّز !

السبت، 24 أبريل 2010

"كلمني شكرا": كوميديا اجتماعية بعيدة عن الادعاءات

لا أعرف لماذا يصر "البعض"، أي بعض من يكتبون عن الأفلام ويمارسون "الانتقاد" السياسي، ويفتشون دائما عن قيمة سياسية كبرى في هذا الفيلم أو ذاك، على فرض رأيهم المسبق العقائدي الجاهز على مخرج موهوب مثل خالد يوسف، يريدونه أن يصبح بطلهم المنشود في السينما؟ يخوض لهم معاركهم، ويصنع لهم بطولاتهم، على الشاشة، فهم يمجدون كل "انتقاد" يوجهه في أفلامه للسطة، كما لو كان انتقاد السلطة في حد ذاته يكفل تحقيق عمل فني خارق، في حين انه أصبح مهمة كل من يكتبون في الصحف المصرية، الحكومية والموازية للحكومية.
إن آفة فيلم خالد يوسف السابق "دكان شحاتة" كانت تكمن تحديدا في هذا "الهاجس" الملح بتسييس ما لا يمكن تسييه بالضرورة، أي الانتقال من دراما تشيكوفية بكل ما يمكن أن تعكسه من دلالات كبيرة (نفسية واجتماعية، وسياسية أيضا بلاشك) إلى جعل فيلمه حقيبة ضخمة منتفخة بكل ما يمكن وما لا يمكن تصوره من مواضيع و"مانشيتات" سياسية، عن الانفتاح الاقتصادي وما جلبه من فقر وتناقضات طبقية واسعة، ومشكلة القهر الذي تمارسه السلطة، وأزمة المياه والرغيف والتلوث والعشوائية وانتشار العنف.. وغير ذلك، عشرات الأشياء التي أضرت بالدراما الأصلية التي كان يمكن أن تكون كافية بدلالاتها الداخلية الخاصة، دون حاجة إلى الإحالة إلى كل هذه الأشياء.
ولاشك أن خالد يوسف تعلم أن يتجنب هذا الحشو والخلط والادعاء في فيلمه الأحدث "كلمني شكرا" الذي يعتمد على سيناريو كتبه باقتدار وتركيز، سيد فؤاد، مستمدا عناصره من الواقع دون أن يكون بالضرورة فيلما "واقعيا"، ففيه بالتأكيد من المبالغات كل ما يلزم لتوليفة كوميدية (لا أراها أبدا هزلية) بل فيها الكثير من الجوانب الإنسانية التي تتعلق بشخصية الإنسان البسيط الذي يسعى بشتى الطرق، وحتى أكثرها تدنيا، ربما من وجهة نظرنا، إلى التواجد والاستمرار في الحياة، والقدرة على تحقيق الذات وسط واقع شديد القسوة والتوحش.
ويمكنني أن أؤكد هنا، دون أن أخشى بالاتهام بالوقوع في غرام المشاهدة في حد ذاتها (أي الفُرجة المجردة) أنني استمتعت كثيرا بالفيلم، وضحكت كثيرا وأنا أشاهد تلك الشخصيات المكتوبة جيدا وهي تتحرك في بيئة مرسومة ومجسدة بشكل أكثر من ممتاز، ليس فقط من خلال الديكورات التي تنبض بالحياة بكل تفاصيلها، بل وأيضا بسلوكياتها وأنماطها وتناقضاتها واستخداماتها الخاصة للغة الشائعة، وصراعاتها الصغيرة التي يمكن أن تكبر، وارتداداتها إلى الخير رغم امكانية انحرافها في اتجاه الشر، وقبل هذا كله، وجودها المحسوس في قلب عصر الاتصالات الحديثة: الهاتف المحمول (الموبيل)- الذي يستمد منه عنوان الفيلم نفسه، والأطباق اللاقطة، والتليفزيون الفضائي، وشبكة الانترنت.
هذه العناصر كلها موجودة في الفيلم، ليس كديكورات خلفية أو كأدوات تعبر سريعا في فضاء الفيلم، بل في أساس وقلب الكوميديا، التي فيها الكثير بلاشك، كما ذكرت، من المبالغات بل والمواقف الميلودرامية التي تتصف أيضا بالمبالغات كما هو معروف، وهذا ليس عيبا كما قد يتصور البعض، بل مقبول تماما في فيلم يلمس الواقع بطريقته الخاصة التي تميل إلى السخرية منه، دون "تحليله" تحليلا سياسيا، وتوجيه الإدانات المباشرة كما يطالب البعض.
بطل الفيلم "ابراهيم توشكى" (الذي يقوم بدوره عمرو عبد الجليل) يعتبر في حد ذاته نموذجا يجمع كل صفات الإنسان الحائر، الذي يحاول باستماتة الاستفادة من التغيرات العشوائية التي طغت على مجتمع الحارة الشعبية التي يعيش فيها مع أمه التي كافحت من أجل تربيته (تقوم بالدور شويكار)، يريد أن يتزوج من "عبلة"، لكنه مرتبط بشكل ما، بـ"أشجان". والنموذجان مختلفان تمام الاختلاف، ما بين الفتاة التي تصلح كزوجة تقليدية، والمرأة المقتحمة المغوية اللعوب التي فرضت عليها ظروفها الشخصية أيضا استغلال امكانياتها الممكنة من أجل البقاء.
و"توشكى" نموذج كوميدي فذ للبطل المضاد المهزوم باستمرار الذي يفشل في التمثيل فيتحول إلى مجرد "كومبارس"، ويفشل في التجارة، فيلجأ إلى الاحتيال على شركات الهاتف المحمول لكي يبيع خدمة تناسب زبائنه العاجزين عن الاستخدام الحقيقي لهذه السلعة الحديثة لأنهم بساطة، لا يمتلكون ثمن المكالمات، فيكتفون عادة بإرسال رسائل قصيرة للطرف الآخر تقول له "كلمني.. شكرا".
واسم ابراهيم توشكى يحيلنا مباشرة إلى المشروع العملاق المعروف الذي انتهى إلى الفشل، في تعليق ساخر على فكرة الطموح الذي هو في الحقيقة، أكبر كثيرا من الواقع.
هناك بالطبع شخصيات أخرى تدور في فلك الفكرة الأصلية للفيلم، أي التحايل من أجل الاستمرار في الحياة في مجتمع مأزوم، أصبح الكثيرون فيه مهمشين، رغم علاقتهم بوسائل الاتصال الحديثة: شقيقة أشجان مثلا تتحايل من أجل استخدام شبكة المعلومات الدولية (الانترنت) للحصول على ثمن مكالمات اضافية تقوم ببيعها لصاحب دكان تأجير الهواتف المحمولة، فهي أيضا تبيع نوعا من "الوهم" المثير أو الخيال، بطريقتها الخاصة، لكنها تنجرف وراء عالمها الالكتروني الذي يصبح بديلا عن العالم الحقيقي، فتجري وراء سراب الهجرة إلى الخارج والزواج من رجل ثري، وسرعان ما تعود مهزومة مرتين بعد أن اتضح ان الأمر كله لم يكن سوى نوع من الاحتيال!
وهناك صاحب المخبز الذي يطلق لحيته ويدعي التقوى لكي يستغل الناس، ويبيع الدقيق المدعوم في السوق السوداء، لكنه أيضا جزء من الشلة القديمة التي تجمعه مع ابراهيم منذ أيام الطفولة، ويتمتع بالتالي بالقدرة على مواجهة الذات، وعندما تواجهه كارثة شخصية بوفاة ابنه، يثوب إلى رشده ويقرر العودة عن أفعاله السيئة، تأكيدا لفكرة الشر الطاريء الذي يفرضه الواقع الصعب، على أناس طيبين في قرارة قلوبهم.
وهناك ضابط الشرطة الذي يتصور أنه يطبق القانون بينما هو في الحقيقة يقمع محاولات البسطاء في الحصول على القليل من التسلية حتى من خلال اختراقهم لمباريات البطولة الدولية لكرة القدم التي بيعت حقوقها لمحطة فضائية.
هناك إذن نوع من "الكوكتيل" الذي يلمس الكثير مما يدور في واقع هذه الفئة من الهامشيين في المناطق العشوائية المصرية، ولكن دون اقحام للسياسي على حساب الإنساني، ودون أن يصبح الفيلم محاضرة مملة عن سلبيات الانفتاح الاقتصادي العشوائي وسياسات الدولة.
هناك براعة في الأداء من جانب كل الممثلين الذين شاركوا في الفيلم، وتمكن خالد يوسف كعادته، من السيطرة عليهم وتوظيفهم، وهو ما يجب أن يحسب له بينما ينكره عليه دائما المناهضون لأفلامه، فقط لأنها لا تحقق لهم من يطلبونه مسبقا من تغلييب الأيديولوجي على الفني. ويجب ألا ننسى أن في هذا الفيلم وجوها جديدة سيكون لها شأن في السينما المصرية مثل حورية وصبري فواز. وهناك براعة في نسج الأحداث، والانتقال فيما بينها، والقدرة على تحقيق إيقاع سريع متدفق ملائم تماما لفيلم كوميدي، واستخدام جيد لشريط الصوت بأغانيه الشائعة، وموسيقاه، وفي قلب ذلك، الاعتماد الأساسي البارز على بطل- لابطل (يقوم بدوره ببراعة الممثل الذي ولد مجددا عمرو عبد الجليل) يربط بين الشخصيات والأحداث، ويتداخل في كل مشهد، ويبدو عفويا في استخدامه للغة واشتباكه التلقائي مع غيره من الشخصيات، وفي قدرته على إشاعة جو من البهجة حتى في أحلك اللحظات. ويستخدم خالد يوسف ببراعة كل تفاصل الديكورات الجيدة الخارجية للحي الشعبي، مثل المواسير الضخمة التي يجتمع عندها أفراد الشلة، والبيوت المتجاورة والدكاكين والأسطح، كما يجيد تحريك واستخدام الأطفال والمجاميع الكبيرة من الممثلين الثانويين.
ربما يكون هناك بعض المغالاة في استخدام تعبيرات ذات مغزى خاص في سياق الحوار، أو بعض الإفراط في استخدام التعليقات اللفظية. لكن من المؤكد أن هذه التعليقات تبدو ملائمة تماما لهذه الشخصيات القريبة - الغريبة التي تتحرك أمامنا والتي لا نملك سوى التعاطف معها جميعها، وحبها وفهم ظروفها، والاشتراك معها في محاولاتها الحصول على بعض لحظات السعادة الضائعة.
"كلمني شكرا" فيلم بسيط لا يتحذلق ولا يدعي كثيرا، يصور ويعرض، يسخر ويعلق على ما يجري في الواقع اليوم، ولكنه أيضا يُمتع ويُضحك ويُصبح تجربة مثيرة في المشاهدة تحقق التفاعل بين المتفرج والشاشة، وهذا هو أساس السينما. وليس مطلوبا منه أكثر من ذلك.

الثلاثاء، 20 أبريل 2010

فيلم "بالألوان الطبيعية": عين على الفن وأخرى على شباك التذاكر!

لاشك أن أسامة فوزي أحد أهم السينمائيين العاملين في السينما المصرية اليوم. ولعل أفلامه الثلاثة السابقة تكفيه لأن ينضم بجدارة، إلى نادي كبار السينمائيين أصحاب الرؤية السينمائية المتميزة، ذات الدلالات والأفكار الكبيرة، دون أن يعني هذا أنه كان يحشو أفلامه تلك، بالكلمات الكبيرة، أو يقحم عليها إقحاما، المعاني الاجتماعية والسياسية ويفرضها فرضا على المشاهدين.
إن تأمل أفلام أسامة فوزي السابقة "جنة الشياطين"، و"عفاريت الأسفلت"، و"بحب السيما"، لا تجعلنا نتوقف فقط أمام "الجرأة" في المعالجة، بل وطرق أبواب الكثير من "المحرمات" والقضايا "المسكوت عنها" في السينما المصرية عموما، بل وأمام أسلوب فني واثق ومتميز، يمزج بين الخاص والعام، الذاتي والموضوعي، وبين حدود الموضوع كعالم في حد ذاته، وبينه كنموذج مجازي لعالمنا الكبير. وقد بلغ أسامة فوزي ذروة النجاح في التعبير عن عالمه السينمائي، من خلال لغته الخاصة في التعبير، واستنادا إلى الأفكار التي ساهم في صياغتها سينمائيا رفيقه كاتب السيناريو هاني فوزي، في فيلم "بحب السيما" وهو الفيلم الذي يتجاوز فيه الإثنان معا، ما قدمه بعض كبار السينمائيين في تاريخ السينما المصرية طوال مسارهم الفني.
غير أن إغواء الدخول إلى المناطق "المحرمة"، أو الاجتراء على طرق دروب المسكوت عنه، قاد الثنائي هاني- أسامة، أخيرا إلى صنع فيلم "بالألوان الطبيعية"، فانزلقا فيما تمكنا من تجنبه ببراعة في فيلمهما السابق، أي في "المباشر" و"الخطابي"، وإقحام الكلمات الكبيرة، ومحاولة فرضها فرضا في سياق قسري يسير في اتجاه الوعظ، وينتهي بشكل مفروض من الخارج، مهووس بـ "الرسالة" المحددة، وهو ما يجعلنا نأسف كثيرا، لضياع كل ما بذل من جهد في هذا الفيلم الذي يفتقد كثيرا إلى الإقناع، ويميل إلى المبالغة الكاريكاتورية، والتكرار، والضغط طوال الوقت، على الفكرة الواحدة، والاعتماد على الحوارات الطويلة المرهقة، التي يحاول المخرج التخفيف منها، فيلجأ إلى الاستعانة بالأغاني والموسيقى الراقصة المفروضة فرضا، والتي تبدو في كثير من الأحيان، اقرب إلى ما يعرف بـ"الفيديو كليب"، أي تلك الأغاني الشائعة المصورة، ربما رغبة في مخاطبة قطاع الشباب تحت تصور وهمي أن هذه هي "السينما الشبابية" على غرار "الأغاني الشبابية" الشائعة.
الدين والدنيا
من ناحية، يريد أسامة فوزي أن يطرق مجددا موضوع العلاقة بين الدين والدنيا، وبين الفن والدين، وبين الإنسان والله، لكن سيناريو هاني فوزي (والعيب لاشك كامن في الأصل والأساس، أي في السيناريو السطحي) لا يمنح تلك الفكرة ما تحتاجه من جدية، ولا يعالجها على المستوى الوجودي أو الفلسفي أو الذهني مثلا، بل يميل إلى الاستخفاف بها ولمسها من الخارج بطريقة تبدو أحيانا كما لو كانت "هزلية" أو طفولية تفتقد إلى الإقناع.
ليس مهما أن توجد فكرة جيدة يسعى اي فيلم من بدايته إلى سبر أغوارها، ولكن المهم في كيفية معالجتها وتطويرها وتحويلها إلى بناء وسرد وشكل مقنع فنيا. وليس مهما أن يكون الفيلم معتمد على ما يدور في الواقع من تناقضات، بل المهم في تناوله لهذه التناقضات والتعبير عنها بلغة السينما الفنية، وليس بلغة الاسكتشات المسرحية الهزلية، أو المونولوجات الطويلة التي لا تكشف بقدر ما تنمط (هناك دليلا على ذلك شخصية زميل يوسف في كلية الفنون ويدعى "علي" الانتهازي عن وعي الذي يقيم علاقة جسدية مع "ليلى" تكون نتيجتها الانجاب).

مشكلة فيلم "بالألوان الطبيعية" أن العلاقات بين الشخصيات داخل فيلمه هي علاقات "شبه آلية".. شبه نمطية:

هناك أولا الشاب "يوسف" (كان العنوان الأصلي للسيناريو "يوسف والأشباح")، الباحث عن تحقيق ذاته من خلال الرسم، والذي يتمرد على رغبات والدته التي قامت بتربيته وحدها، فيلتحق بكلية الفنون الجميلة، بدلا من كلية الطب كما أرادت له والدته، لكنه يلتحق بقسم الديكور في حين أن موهبته الحقيقية هي في الرسم. وهو حائر بين مفهوم التعبير الحر عن الخيال من خلال الرسم حتى لو تمثل هذا في رسم الجسد البشري العاري، وبين مفهوم "الحرام" الذي امتد ليشمل كل ما له صلة بالفنون الحديثة وغيرها في المجتمع المصري اليوم، وبروز فكر "التحريم" الذي يجعل بطلنا يرى أشباحا تجسد هذه الفكرة طيلة الوقت: فكرة الخوف من الحرام والوقوع في الخطيئة. هذه المعاناة (الهاملتية) الواقعة داخل منطقة الصراع بين التعبير الفني الحر، والخوف في الوقوع في ارتكاب الحرام، نراها في الفيلم، ليس من خلال علاقات اجتماعية متشابكة ومتداخلة بين شخصيات من لحم ودم، تتصارع وتتجادل، تعيش في محيطها الطبيعي، حتى لو كانت تستعين على الواقع بالخيال، بل من خلال بناء هش سطحي لشخصيات من ورق، وسليتنا الوحيدة لمعرفة اي شيء عنها، الثرثرة والأعمال الطفولية.
طلاب الكلية مثلا يرغبون في الانتقام من أحد أساتذتهم بسبب تعاليه عليهم وإهماله لهم، فماذا يفعلون؟ يقدمون له هدية داخل علبة ملفوفة بشريط يفتحها فيجد داخلها كمية لا بأس بها من "البراز".. هل تصدقون أن هذا الذوق الغليظ الذي يمثل اعتداء فظا على البصر، هو ما تجود به قريحة مخرج مرهف الحس مثل أسامة فوزي؟ وهل كان هذا المشهد الذي مهد له بمشهد آخر، تجلس فيه إحدى الطالبات داخل دورة المياه، وباقي الطالبات والطلاب يصطفون في الخارج امام الحمام، يسألونها: هل انتهيت؟ فتجيبهم: ليس بعد، هل كان هذا المشهد هو التعبير الوحيد المتاح أمام أسامة فوزي وكاتبه الموهوب، للتعبير عن القبح والتطرف، وهل المباشرة الفجة هي الوسيلة الفنية الأفضل للتعبير عن الانتقام في أقبح صوره!
"يوسف" يسقط في "الخطيئة" مع إلهام- يسرا للوزي، الفتاة البريئة الخاضعة للقيم السائدة، التي لا يمكنها أن تقاتل من أجل الارتباط بمن تحب، وتنتهي إلهام تحت وطأة الشعور بالذنب إلى التحجب ثم ارتداء النقاب، والاحتجاب وراء أسوار سميكة من العزلة، فمفهومها للدين وقناعتها بضرورة الابتعاد عن "الحرام" تجعلها تنتهي هذه النهاية.

أما "ليلى"(فريال يوسف) فهي نموذج الشيطان، تحرض وتوسوس وتدفع إلى الانحراف في طريق الانتهازية، وتغوي بالجسد والمال والوظيفة، لكن يوسف بقناعاته التي يصل إليها وحده، يعود إلى رشده في النهاية، رافضا الانصياع لها أو للفساد المستشري في الكلية (كل الأساتذة تقريبا ضالعون في الفساد حتى النخاع، يستغلون مناصبهم لتحقيق المكاسب الشخصية على حساب أي قيمة) وهو يصل إلى ذلك "الحل الوسط" السحري الذي يتمثل في تحقيق التوازن بين الدين والفن، بين إرضاء الذات، وإرضاء الخالق، دون أن نعرف لماذا ينجح هو فيما فشل فيه الآخرون.

عن الأسلوب
أسلوب السرد في الفيلم يسير في اتجاه تقليدي، صاعدا إلى الأمام، لكن هذا المسار تقطعه الكثير من الخيالات والهواجس والكوابيس، التي لا تفلح كثيرا في تطوير الموضوع وتعميقه، بل تتلخص مهمتها في تقديم التأكيد على الفكرة التي كان من الممكن أن تصنع فيلما في نصف ساعة على الأكثر، ولم تكن تحتاج إلى كل هذا الحشو والتكرار والخطب الرنانة والمونولوجات والحوارات العقيمة والشخصيات النمطية التي تفتقر حتى لخفة الظل.
والمشكلة أن أسلوب الإخراج يفتقد إلى الوحدة، فهو يتراوح بين أسلوب الفيلم الذي يسعى لمحاكاة الواقع (ولا نقول الواقعي)، وأسلوب الفيلم الخيالي الذي يدور خارج الواقع، مع رغبة واضحة في التخفيف من وطأة الفكرة بالميل في اتجاه أفلام "التهريج" (التي يطلق عليها البعض الكوميديا الجديدة) من خلال تلك المبالغات اللفظية، والانماط الكاريكاتورية المبالغ فيها التي يقدمها مثلا لأساتذة الكلية، بأشكالهم الغريبة، وطريقتهم في الملبس والحركة والكلام. ونموذجا على الانسياق وراء "التهريج" المجاني، يختلق الفيلم شخصية "موديل" رجل، يقوم بها الممثل سعيد صالح، ربما توجد بين الواقع والخيال، ويجعله يسقط فجأة ميتا، ثم يجعل أحد الأساتذة (الفاسدين) يقوم بمساعدته على العودة مجددا إلى الحياة، في مشهد طويل لا يضيف أي جديد إلى الفيلم، تماما مثل ذلك المشهد الآخر الذي أغوى اسامة فوزي بتنفيذه وبدا مقحما على الفيلم، وهو مشهد الحفل التنكري الذي يدور داخل أركان الكلية، يريد أن يؤكد لنا من خلاله على فكرة "التدهور" والشهوة التي لا تعرف العاطفة. وكان من الممكن قبول كل ما يقدمه أسامة فوزي في فيلمه هذا الذي يحمل عنوانا رديئا على أي حال، لولا المشكلة الخطيرة التي تفسد الفيلم وتجعلنا نعجز عن متابعته، وهي تنتج عن ذلك الفقدان الملحوظ للقدرة على التحكم في الإيقاع الخاص بكل مشهد على حدة، وبالتالي في الإيقاع العام للفيلم.إن معظم مشاهد الفيلم تعاني من الترهل، أي الانسياق طويلا وراء الحدث المحدود الذي يدور داخل المشهد، والإطالة المذهلة التي تجعل المشهد يخرج عن كل ما يمكن احتماله، فالمخرج لا يعرف أين يقطع تحديدا لينهي المشهد وينتقل إلى ما بعده، حتى لو كانت النتيجة الاستغناء عن الكثير من الحوارات أو تقصيرها، والتخفيف من مشاهد مناجاة البطل للخالق، وهي مشاهد أصبحت عبئا على الفيلم بسبب مباشرتها ورداءة الحوار المكتوب لها، ودورانها حول الفكرة نفسها.
من المؤسف أن يسقط مخرج موهوب مثل أسامة فوزي، في هذا العمل المرتبك، الذي يفشل في التعبير عن الفكرة كما ينبغي، أي باقتصاد، وسلاسة، ولمسات فنية مبتكرة، ولغة سينمائية رفيعة، كما كان منتظرا. والسبب الأساسي في كل هذا الاضطراب يكمن في التردد الشائع، بين السينما الفنية، وسينما الشباك. أي بين الإخلاص للذات المبدعة وإحكام السيطرة على الفيلم بكل قوة، وبين الرغبة في مغازلة جمهور لن يبقى في ذاكرته، بعد كل هذه الخطب العصماء، سوى بعض مشاهد الإيحاء بالجنس.. وهو أمر مثير للحسرة بكل تأكيد!
عن التمثيل في هذا الفيلم أقول إن فريال يوسف في دور المعيدة الانتهازية، تبدو صاحبة موهبة لاشك فيها، بل إنها هي التي تحمل معظم الفيلم على كتفها، لكنها في حاجة إلى صقل هذه الموهبة بمزيد من التدريب على أداء أمام الكاميرا.
أما كريم قاسم في دور يوسف، فقد بدا ضئيلا في أدائه للشخصية، بل إن ترهل الشخصية وتكرار الفكرة التي تدور حولها، جعله يكرر أداءه بطريقة آلية، وعندما يريد أن يجعل أداءه اكثر إقناعا، نراه يبالغ ويغالي ويصرخ بصوته الذي لاشك انه في حاج إلى تدريبات مكثفة على استخدامه في الأداء. لايزال أمامه في الحقيقة، طريق طويل.
يسرا اللوزي: الفتاة الرقيقة الجميلة التي تحاول إقناعنا بوجودها فتبالغ في البكاء والانفعالات قبل أن تخرج من الفيلم مبكرا.
فرح يوسف (في دور ليلى) هي الاكثر رسوخا وقوة في التعبير والأداء، وثقة في استخدام تعبيرات الوجه وتبدو وهي تسيطر على الشخصية وليس العكس، وربما يرجع الفضل في ذلك إلى المسرح.

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger