الجمعة، 5 مارس 2010

"جوليتا والأرواح": إعادة اكتشاف أحد الأفلام العظيمة المنسية

جميع المهتمين بالسينما، من المحترفين والهواة، يحتفون كثيرا بأفلام المخرج الإيطالي العبقري فيديريكو فيلليني Federico Fellini . وهم يحفظون الكثير من أفلامه عن ظهر قلب، مثل "لاسترادا" أو الطريق La Strada و"8 ونصف" و"الحياة الحلوة" La Dolce Vita"، و"روما" و"أماركورد" Amarcord و"كازانوفا" و"أبحرت السفينة" وغيرها.
غير أن فيلم "جوليتا والأرواح" Juliet of the Spirits (1965) يسقط تماما من دائرة الاهتمام العام بسينما فيلليني، رغم أنه من أكثر الأفلام "الشخصية" التي أخرجها العبقري الإيطالي، ومن أهمها أيضا، كونه فيلمه الأول الذي يصوره بالألوان، وفيه يستخدم الألوان استخداما مميزا كثيرا، وكانت المدرسة الإيطالية في الستينيات تميل إلى التلاعب بالألوان واستخدامها بطريقة تضيف إلى الصورة السينمائية خارج الإطار الجمالي التقليدي للألوان الذي ينحصر في "محاكاة الواقع". ولعلنا نتذكر في هذا المجال كيف استخدم أنطونيوني Antonioni الألوان استخداما عبقريا في فيلمه الملون الأول أيضا "الصحراء الحمراء" The Red Desert (عام 1964).
وكان فيلم "جوليتا والأراوح" أيضا مستمدا من الحياة الخاصة لفيلليني مع زوجته الممثلة جوليتا ماسينا، التي ظهرت في أفلام فيلليني الأولى الشهيرة مثل "الشيخ الأبيض" و"لاسترادا" و"ليلي كابيريا"، وكلها من الأفلام التي سبقت فيلم "جوليتا والأرواح" وصورت بالأبيض والأسود، كما عادت للقيام بدور البطولة أمام مارشيللو ماستروياني في فيلم "جنجر وفريد" لفيلليني عام 1986.
وكان توتر العلاقة الزوجية بين فيلليني وماسينا، وما تردد عن اقامة فيلليني علاقات عاطفية متعددة مع نساء خارج مؤسسة الزواج، بل وما قيل أيضا عن وجود علاقات مثلية له، بالإضافة إلى ما ثبت من إدمانه للمخدرات، قبل اخراجه هذا الفيلم، وتحديدا تعاطيه لما عرف بـ"عقار الهلوسة" أو إل إس دي LSD، قبل أن يعالج ويشفى تماما من الإدمان.. كل هذه العوامل أثرت على رؤية فيلليني لموضوع فيلمه وعلى الأسلوب الذي استخدمه في إخراجه.
وقد عدت أخيرا لمشاهدة الفيلم، ويمكنني القول إنه واحد من أفضل وأهم أفلام مخرجه، وأكثرها تعبيرا عن أسلوبه السينمائي الذي يمزج بين الأحلام والخيالات الشخصية والواقع. وفيه يستند فيلليني بوضوح ونتيجة معرفة ودراسة، إلى مباديء علم التحليل النفسي، كما يستخدم لغة سيريالية واضحة، مع استخداماته المكثفة لحركة الكاميرا، واهتمامه المعتاد بكل تفاصيل الديكور، والاستعانة بالموسيقى التي تعكس الجو الصاخب المصطرع داخل الشخصية الرئيسية (جوليتا)، التي تبدو من على السطح، شخصية سلبية باردة.
موضوع الفيلم يدور حول امرأة في منتصف العمر تعيش مع زوج ثري ناجح، يسافر كثيرا لقضاء أعماله، ولكنها تكتشف ذات يوم أنه يخونها مع امرأة أخرى، وتتأكد من خيانته لها بعد أن تكلف مخبرا خاصا بتحري الأمر. وتنقلب حياة جوليتا رأسا على عقب، وترتد إلى الماضي، إلى طفولتها، التي كانت تعاني خلالها من أم متسلطة مستبدة، وتربية كاثوليكية قمعية في المدرسة، تعمق إحساسها بالذنب. وتدريجيا تكتشف كم الزيف الذي يسود العالم المحيط بها، فالأصدقاء ليسوا أصدقاء كما تتخيل، وليس هناك من يهمه أصلا أن تتحرر جوليتا من عقدها النفسية المترسبة. ويدفعها ايمانها بالخرافات إلى زيارة شيخ بوذي يقال إنه يملك قوة سحرية خاصة، إلا أنها تكتشف أنه أيضا يشارك في لعبة كبرى لتضليلها مع الآخرين، وتمر بتجربة التعرف على نمط آخر من الحياة، متحرر، منطلق، من أجل تذوق المتعة المطلقة فقط، بدون أدنى حساب لأي قيمة، لكنها تعجز عن استكمال الاحساس بالمتعة بسبب القيود التي تكبلها وتعود إلى طفولتها ونشأتها في بيئة متزمتة، إلى أن تتوصل في النهاية إلى التخلص من مخاوفها، بعد أن تدرك أن الأرواح الشريرة التي تطاردها وتتحكم في مصيرها، ليست في الخارج، بل في داخلها هي، وحينئذ، ترفضها وترفض أن تسمح لها بالتسلل إلى داخل نفسها مرة أخرى، وبذلك تنجو جوليتا وتكسب نفسها، وتصبح قادرة على مواجهة ما وقع لها في حياتها الخاصة.
هذا الموضوع يتعامل معه فيلليني بطريقة في السرد شديدة الحداثة، تجعله ينتقل من الواقعي إلى الغيبي، من عالم الأسطورة، إلى عالم اغوار النفس البشرية، ما تراكمه، وما يترسب من عقد، قد تجعل المرء عاجزا عن اتخاذ قرار صائب في حياته، ويناقش خلال ذلك، مواضيع تتعلق بمعنى المتعة، بالجنس وبالعلاقات الجسدية، وبما يؤثر على الحياة الزوجية، وبما يعرف بـ"أزمة منتصف العمر" وما يمكن أن يصيب الزوجين، أي زوجين من ملل واحباط في مرحلة ما.
والأهم من كل هذا، أن فيلليني ينجح في صنع فيلم ممتع، مثير وجدانيا وبصريا إلى أقصى درجة.
في الكثير من المشاهد تواجه جوليتا الكبيرة جوليتا الصغيرة، تتأملها، ترنو إليها، تتعاطف معها، تشفق عليها، وفي مرحلة ما، تفك قيودها بعد أن كبلوها لكي تحرق عقابا لها على مخالفة قوانين الامبراطورية الرومانية واعتناق المسيحية، وكيف أنهم يرفعونها مكبلة، تشتعل النيران في جسدها، لكنها تتأهب للقاء الله. وهذه الخيالات نراها من وعي جوليتا الكبيرة الآن وهي تتذكر المسرحية المدرسية الكاثوليكية التي شاركت فيها بالقيام بهذا الدور، وكيف تأثرت بتلك الشخصية التي لعبتها، وكيف خضعت بل وكانت تبكي وتقاوم بعد أن فك جدها قيودها وقام بتوبيخ القائمين على المدرسة من كهنة وقساوسة، رافضا كل هذا "الهراء" على حد تعبيره.

ويستخدم فيلليني الألوان الثلاثة الأحمر والأزرق والأصفر، بكثرة في الفيلم، وهي ألوان صريحة، يستخدمها في نغمتها الفاتحة المباشرة لتجسيد عالم الأحلام.
ولعل الشخصيات الكثيرة التي تمر كالأطياف في حياة جوليتا وكل ما تشهده من "خيالات ومواقف ومشاهد ولا أقول أحداثا، تقع أغلب الظن، خارج نطاق الواقع، أي في تلك المنطقة الواقعة بين الوعي واللاوعي، وكأن بطلتنا تمر بمرحلة استدعاء للذكريات، لتعقيدات الماضي، لمشاكل الحاضر، كما لو كانت تمر بجلسة خاصة من جلسات التحليل النفسي، ولكن تحت يدي فيلليني، وليس أحد أطباء النفس، الذين يسخر منهم فيلييني بشكل واضح في فيلمه.
والغريب أنه رغم حصول فيلليني على كل الإمكانيات التي ساعدته على صنع هذا الفيلم، بما في ذلك الكثير من الممثلين والممثلات، إلا أن هذا الفيلم (الذي جاء مباشرة بعد فيلمه الناجح "8 ونصف" الذي أخرجه عام 1963) فشل فشلا ذريعا في عروضه التجارية، كما هاجمه النقاد، مما جعل فيلليني يدفع ثمنا باهظا بسبب ذلك الفشل، فقد توقف عن الإخراج لنحو خمس سنوات إلى أن أخرج رائعته "ساتيريكون" Satyricon عام 1969.

إنني أكتب هذا المقال في 2010، لكي أدعو إلى ضرورة إعادة الاعتبار إلى فيلم "جوليتا والأرواح".. وأحرض عشاق وهواة السينما الحقيقية، على ضرورة مشاهدته والاستمتاع به، ووضعه في إطاره الصحيح ضمن مسيرة فيلليني العظيم (1920- 1993).
لنستمتع بموسيقى نينو روتا صاحب موسيقى معظم أفلام فيلليني، ونتأمل في الأزياء الغريبة المميزة التي صممت خصيصا لهذا الفيلم، وكيف يصور فيلليني الشخصيات النسائية التي تظهر في هذا الفيلم بأزيائها الغريبة، وأشكالها التي تميل إلى التمرد والصخب من السطح، ويجعلهن تبدين مثل طواويس ملونة ومزركشة بلا أدنى رح أو طعم.. فقط جوليا، ببراءتها، وبساطتها تظل الشخصية المحورية الآسرة.
ولاشك أن هذا هو أيضا أفضل أفلام جوليتا ماسينا كممثلة، فهي تعبر بنظرات عينيها عن كل ما يمكن تخيله من أحاسيس تشعر بها الزوجة المخدوعة، التي تحاول أن تبدو متماسكة بينما تصطرع في داخلها عشرات المشاعر.
عاش فيلليني 73 عاما، وعاشت جوليتا، زوجته التي ظل معها حتى نهاية عمره، أيضا 73 عاما، وتوفيت بعد عام واحد من وفاته أي في 1994.


((تحذير: حقوق النشر محفوظة ويحظر الاقتباس او اعادة النشر دون الحصول على تصريح مكتوب من الناشر- المؤلف))

الاثنين، 1 مارس 2010

فيلم "تسع نساء": استعراض بدون جاذبية وسحر فيلليني

أخيرا شاهدت فيلم "تسع نساء" Nine (وبالمناسبة هكذا يجب أن يسمى بالعربية، وليس "تسعة" والاكتفاء بالرقم فقط يجعله "تسع" وليس تسعة على أي حال). وقد شاهدته بعد إلحاح من عدد من الأصدقاء والزملاء الذين أدهشني حماسهم للفيلم،وكأننا أمام فتح جديد في عالم السينما. وكان قد فاتتني مشاهدته في عرضه العالمي الأول في افتتاح مهرجان دبي السينمائي أواخر العام الماضي.
وبعد أن شاهدت الفيلم لم أستطع أن أفهم حتى الآن لماذا كل هذا الحماس لعمل ليس فيه أي قدر من التجديد أو الإبداع أو حتى التماسك الفني، في إطار النوع، أي في إطار هذا اللون من الأفلام الموسيقية الأمريكية، وما الذي أضافه الفيلم في معالجته، إلى الفيلم الإيطالي الشهير للمخرج الراحل فيديريكو فيلليني الذي يحمل عنوان "ثمانية ونصف" وكان يقصد معنى آخر مختلفا تماما من الرقم في عنوانه عما يقصد من "تسع" هنا. فقد كان يشير إلى عدد الأفلام التي اخرجها فيلليني قبل فيلمه هذا الذي أخرجه عام 1963 بالأبيض والأسود.
كان فيلم فيلليني المقتبس عنه فيلمنا هذا فيلما طليعيا بكل معنى الكلمة، أي عملا من أعمال سينما الحداثة الشعرية في أرقى أنواعها.. فقد كان دالا على عصره بكل ما فيه من تساؤلات وجودية حميمية عن الذات الفردية او الأنا الذكورية، وعلاقتها بالإثم والخطيئة والإبداع، وكيف يرتبط الذاتي بالموضوعي، والخيالي بالواقعي، والمخرج الحقيقي صاحب الفيلم الذي نشاهده، أي فيلليني، بشخصية المخرج في داخل الفيلمن أي "جويدو" الذي قام بدوره مارشيللو ماستروياني. وكان فيلم فيلليني أيضا يمتليء بالإشارات الفرويدية، وبالكثير من الرموز المرتبطة بالجنس والحب، بالأوديبية والشبق ومفهوم العلاقة بين الرجل والمرأة، وارتباط الإبداع بعقد الطفولة وذكرياتها، والعلاقة مع الكنيسة كمؤسسة للقمع: قمع الفكر والبدن، بغرض فرض قيم معينة.. وغير ذلك الكثير الكثير، ومن خلال أسلوب عذب، أخاذ، فيه من الشعر بقدر ما فيه من التأملات والهواجس الشخصية المعذبة التي كنا نستطيع أن نتابعها من فيلم إلى آخر، من أفلام فيلليني.
اما "تسع نساء" Nine للمخرج روب مارشال، فهو رغم اقتباسه من فيلم فيلليني المشار إليه، إلا أنه يفتقر إلى كل ما كان يميزه، ويعوض ذلك عن طريق تحويل الأنظار من الدراما، إلى الأغاني والاستعراضات الراقصة، ويستخدم أسماء كبيرة لنجمات لامعات في عالم السينما ولكن بلا ججدوى بل ودون اي ضرورة تذكر، فالفيلم لا يعتمد على الأداء التمثيلي المعقد بقدر ما يعتمد على المرور سريعا على الشخصيات ثم تقديم الاستعراضات والأغاني.
والموضوع كما في فيلم فيلليني يدور حول مخرج سينمائي مصاب بعدم القدرة على كتابة سيناريو فيلمه القادم، مستغرق في مشاكله وهواجسه الذاتية، ممزق بين حبه لزوجته وعدم شعوره بالإشباع معها في الوقت ذاته، وعلاقاته النسائية المتعددة مع بطلات أفلامه، وما ينتج عن ذلك من شعور بالذنب.

غير أن الشخصيات النسائية هنا تتحول إلى مجرد إطار خارجي تماما (لا نقترب في أي لحظة من أي شخصية من تلك الشخصيات بما في ذلك الأم التي يفترض أن تكون قد توفيت منذ فترة).. باستثناء شخصية الزوجة التي يمكن فهم مشاعرها، فإن معظم الشخصيات النسائية في الفيلم عبارة عن أجساد تتلوى بالرغبة والشبق، وتكاد احداهن (بنيلوب كروز) أن تكون مصابة بهاجس جنسي مرضي يدفعها دفعا لمطاردة البطل رغم أنها متزوجة، ورغم إعراض صاحبنا "جويدو" عنها. وهي تغالي كثيرا في الكشف عن فتنتها لإثارته بشتى الطرق دون أن تنجح في الاستيلاء عليه.
ولا أفهم كيف أن كل هاته النسوة الحسناوات تطاردن شخصا كئيبا أو على الأقل لا تتضح لنا جوانب جاذبيته وسحره، على هذا النحو، اللهم إلا أن تكون هذه الجاذبية مستمدة من كونه مخرجا سينمائيا فقط، وإن كنت أنا شخصيا، أعرف الكثير من المخرجين السينمائيين المحبطين كثيرا في علاقاتهم النسائية، ولكن هذا موضوع آخر بكل التأكيد!
ولكي يهرب المخرج من هشاشة السيناريو وضعف بناء الشخصيات، يلجأ إلى الانتقال الآلي، من الحدث الواقعي في حياة البطل، إلى الاستعراضات الراقصة، ويجعل كل ممثلة من ممثلاته تغني أغنية من أغاني الفيلم، التي تدور كلها أو في معظمها، حول استدعاء الرغبة في الحبيب الغائب المغيب الذي يعاني من الوحدة على الرغم من كل هذه المطاردات والعروض.. أليس هذا أمرا يغيظ فعلا!
الحقيقة أن الفيلم نفسه هو الذي يجعلك تشعر بالغيط، فلا الاستعراضات الراقصة فيها أي جديد يجعلها تتجاوز مثلا ما سبق أن ظهر في أفلام أخرى (أمريكية شهيرة) مثل "كل هذا الجاز" لبوب فوسن أو حتى "شيكاغو" للمخرج نفسه بوب مارشال، ولا الحبكة وطريقة البناء تنجح في تجاوز الإطار المسرحي المحدود الذي تدور فيه عادة مسرحيات برودواي الاستعراضية الراقصة، بديكوراتها المصنوعة وأضوائها المصطنعة، وملابسها شديدة البذخ.
أما التمثيل فقد تساءلت بيني وبين نفسي وأنا أشاهد الفيلم: أين ذهبت الموهبة الخارقة لممثل بحجم موهبة العملاق داني داي لويس، وماذا تفعل ممثلة مثل نيكول كيدمان في هذا الدور الباهت الذي يجعلها تطل علينا مرة أو مرتين ثم تختفي كما ظهرت، ولماذا كل هذا التلوي والمبالغات من بنيلوب كروز الجميلة على نحو بدا لنا وكأنها تبتذل نفسها في دور تافه، وأين ذهبت صوفيا لورين بل وما فائدتها أصلا في الفيلم؟
وأخيرا تساءلت: أين هذا من فيلم عصري بكل معنى الكلمة مثل "الراقصون" Hipsters الروسي الذي صعد بنا آفاقا جديدة في الفيلم الاستعراضي. ليت الروس يدبلجونه إلى الإنجليزية ويوزعونه في السوق الأمريكية لكي يتعلم الأمريكيون كيف يحتفون بتراثهم الموسيقي في السينما كما ينبغي!

الجمعة، 26 فبراير 2010

فيلم "إنفكتوس" لكلينت ايستوود: تحية تليق بمانديلا

لاشك أن أفضل تحية أو تكريم للزعيم الافريقي الكبير نيلسون مانديلا في الذكرى العشرين لإطلاق سراحه، هو بدء العروض العالمية لفيلم "إنفكتوس" Invictus وهي كلمة لاتينية تعني "من لا يقهر".هذا الفيلم الكبير من إخراج الممثل والمخرج الكبير كلينت إيستوود، يحقق حلما شخصيا طال انتظاره للممثل الأمريكي مورجان فريدمان، الذي يقوم هنا بدور مانديلا بعد سنوات من التأهب له، والبحث الدءوب عن المشروع السينمائي المناسب الذي يحقق له حلمه الفني.سيناريو الفيلم، الذي كتبه أنطوني بيكهام، مستمد من كتاب جون كارلين "ملاعبة العدو: نيلسون مانديلا واللعبة التي صنعت أمة". وهو يعتمد على وقائع حقيقية شأنه في ذلك شأن فيلم "فروست/ نيكسون"، إلا أن كاتب السيناريو يسمح لنفسه هنا بتجاوز ما حدث في الواقع، ليسبح في محيطه الطبيعي، أي ينسج من خياله ما يدعم الأحداث ويقويها ويمنحها طابعا دراميا حقيقيا يمكن تجسيده بشكل مؤثر ومقنع في السينما.
"إنفكتوس" فيلم سياسي لكنه أساسا، عمل إنساني كبير، أساسه القدرة الإنسانية على التسامح ونسيان الماضي وتجاوزه، والسعي الحثيث لتحقيق هدف أكبر وأشمل كثيرا من مجرد الانتقام الشخصي أو تصفية حسابات الماضي، هذا الهدف يتعلق بإعادة توحيد صفوف أمة بجميع عناصرها، بعد صراع عنصري عنيف، وحرب أهلية دامية استغرقت عشرات السنين.

الأربعاء، 24 فبراير 2010

حول الأفلام المرشحة لجوائز الأوسكار 2010

من فيلم "بريشيس"
من فيلم "خزانة الألم"

شاهدت 7 أفلام من تلك الأفلام العشرة المرشحة لجائزة أحسن فيلم في مسابقة الأوسكار. هذه الأفلام هي "بريشيس" Precious و"التعليم" Education و"أفاتار" Avatar و"خزانة الألم" Hurt Locker و"رجل جاد" A Serious Man و" "أوغاد مجهولون" Inglourious Basterds و"إلى أعلى" Up ولم أشاهد ثلاثة أفلام بعد وهي "عاليا في الهواء" Up in the Air و"الجانب المظلم" The Blind Side و"مقاطعة 9" District 9 ولا اعرف ما اذا كانت الترجمات الثلاث الأخيرة صحيحة أم لا فهي مجرد اجتهادات إلى أن اشاهد هذه الأفلام.
ويمكنني القول إنني أرى بشكل عام أن قائمة الأفلام المرشحة للحصول على جائزة أحسن فيلم، وخمسة منها مرشحة لجائزة أحسن إخراج، أنها قائمة ضعيفة كثيرا قياسا بقوائم السنوات العشر الماضية.
إن هناك أفلاما ضمن هذه القائمة أرى أنها لم تكن تستحق أصلا أن ترشح على الاطلاق لهاتين الجائزتين مثل "بريشيس" الذي اراه فيلما مسرحيا أو اذاعيا مملا بل ومنفرا أيضا، ولا يثير الاهتمام فيه أي شيء من الناحية الفنية البحت، وافهم أنه أثار تعاطف المرشحين في الأكاديمية الأمريكية لفنون السينما بسبب موضوعه.
ومن الأفلام العادية التي لا تثير أي اهتمام ايضا فيلم الاخوين كوين "رجل جاد" الذي لم أدهش أنه استبعد من كل مسابقات المهرجانات الكبيرة في العالم كونه فيلما يصلح وصفه بأنه من أفلام الطائفة، والمقصود بالطائفة هنا الطائفة اليهودية في أمريكا تحديدا، ويحتاج من يشاهده إلى قراءة مكثفة في المفاهيم والأفكار اليهودية ومعنى الكلمات واصولها التاريخية في المجتمعات اليهودية المغلقة في أوروبا الشرقية، والاحتفالات اليهودية..إلخ
أما فيلم "التعليم" البريطاني فأراه فيلما تقليديا كلاسيكيا من أفلام الرسالة، يسير بالحرف على "الكتاب" أي كتاب الإخراج الكلاسيكي الذي يعتمد على وحدة الحدث والزمان والمكان، ويروي في شكل أدبي يعتمد على التمثيل والحوار، قصة فتاة تعثر تمر بتجربة التمرد على حياتها الأسرية وتعليمها المدرسي في زمن التمرد (بداية الستينيات) إلى أن تنضج على نيران التجربة فتعود على الطريق القويم (من وجهة النظر الاجتماعية التقليدية المحافظة). ولعل أفضل ما في هذا الفيلم أداء الممثلة الشابة كاري موليجان وهي احدى الممثلا المرشحات لجائزة أحسن ممثلة وقد حصلت على جائزة مشابهة في مسابقة بافتا البريطانية أخيرا.
فيلم "أوغاد مجهولون" (الذي حير الجميع في ترجمة إسمه على نحو يستحق التأمل!) سبق أن كتبت رأيي فيه تفصيلا في مشاهدته في مهرجان كان. وارى بموضوعية أنه رغم كل تحفظاتي الفنية عليه، إلا أنه قد يكون أفضل هذه الأفلام العشرة المرشحة لجائزة أحسن فيلم، فقط لأنني أرى أنه يمثل سينما 2010 بينما معظم الأفلام الأخرى تنتمي إلى السينما التقليدية العتيقة.. سينما القصة التي يحاول المخرج أن يجعلها قصة جذابة، بما في ذلك فيلم "أفاتار" الذي يستخدم أحدث تكنولوجيا الصورة، لكنه لا يقدم نموذجا لسينما المستقبل كما يقول لنا كثيرون من الذين ينبهرون بالإمكانيات الكبيرة التقنية التي توفرت لهذا الفيلم. وقد سبق أيضا ان كتبت مقالا تفصيليا عنه. وربما يميل ذوقي الشخصي إلى تفضيل فيلم "إلى أعلى" Up عليه، فهو فيلم أكثر إنسانية واكثر براءة وجمالا ورقة ومتعة أيضا في رواية قصة تصلح للكبار والصغار. وهو كذلك من نوعية أفلام الأبعاد الثلاثة.

من فيلم "التعليم"
يظل هناك الفيلم اللغز "خزانة الألم". وقد شاهدت هذا الفيلم في مهرجان فينيسيا السينمائي (سبتمبر 2008). وكان عرضه في المسابقة الرسمية هو عرضه الأول على الصعيد العالمي. وكانت مسابقة المهرجان العريق في تلك السنة تعاني من الضعف الشديد، وكانت لجنة التحكيم الدولية تبحث عن فيلم واحد في المسابقة تتفق على كونه العمل الأهم والأبرز لكي تمنحه جائزة الأسد الذهبي. وكان النقاد يضربون كفا بكف ويسيرون حائرين على شاطيء الليدو وهم يتساءلون عما حدث للسينما، واين اختفت الأفلام البارزة فنيا. وقد مر عرض "خزانة الألم" مرور الكرام.
حقا لفت الفيلم أنظارنا إلى الزاوية الإنسانية الجديدة التي يتناول منها الوضع في العراق، من زاوية التركيز على خبير نزع ألغام وقنابل في الجيش الأمريكي يساهم في تجنيب المدنيين والعسكريين الكثير من المصائب والويلات، ويدفع حياته ثمنا لقيامه بتلك المهمة.
ولكني أود أن اضيف أيضا أن الكثير من النقاد رأوا في هذا الفيلم انه ينحرف عن الموضوع الرئيسي لكي يجعلنا نتعاطف مع جندي أمريكي، وجوده في العراق نفسه، محل تساؤل بعد كل ما جرى ولايزال يجري. وكان ما يميز الفيلم التقنية العالية المستخدمة في اخراجه لكنه لا يصل ابدا في رأيي، على مستوى الخيال والرؤية والتجسيد السينمائي لفيلم يسبقه بسنوات عديدة عرض في فينيسيا أيضا عام 1995 للمخرجة نفسها، كاثرين بيجلو، وهو فيلم "الأيام الغريبة" Strange Days
ولم يحصل فيلم "خزانة الألم" على أي جائزة من أي نوع في مهرجان فينيسيا في تلك السنة، ولم يشكو أحد بسبب خروجه من المهرجان بدون جوائز، في حين تشبثت لجنة التحكيم بآخر فيلم عرض في المسابقة وهو فيلم "المصارع" The Wrestler فمنحته جائزة الأسد الذهبي.
وقد لفت نظري بالطبع عودة الاهتمام بفيلم "خزانة الألم" أخيرا، وتلك الرغبة العارمة في لفت الأنظار إليه، والترويج له بشتى الطرق، وإبرازه في كل المجالات (الفيلم حصل على 6 جوائز في مسابقة بافتا ومرشح لتسع من جوائز الأوسكار وهو أمر مدهش بكل المقاييس، ويعكس في تصوري، غياب الأفلام العظيمة عن السينما الأمريكية في 2010. ولاشك لدي أيضا في أن هذا الفيلم سيخرج بنصيب الاسد من الجوائز بالتقاسم مع فيلم "أفاتار" لجيمس كاميرون الزوج السابق لمخرجة "خزانة الألم".. وكأن السينما الأمريكية انقسمت بين الزوجين!
ملحوظة: شاهدت أخيرا فيلم "عاليا في الهواء" واكتشفت أنه قد يكون اضعف الأفلام العشرة، فلم اشعر بالتعاطف مع اي من شخصياته، بل ولم أفهم كيف يمكن أن يرشح جورج كلوني أيضا لجائزة أحسن ممثل عن دوره في هذا الفيلم، لأنه دور عادي للغاية، وتصنيف الفيلم على أنه كوميدي تصنيف غريب لأنني لم ار فيه أي كوميديا، بل ربما عملا كئيبا.. وهذا رأي شخصي على أي حال!
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger