الأربعاء، 27 يناير 2010

يوميات مهرجان روتردام 1

الرحلة بالطائرة من لندن إلى أمستردام تستغرق بالضبط، 45 دقيقة. وبالقطار من مطار أمستردام إلى روتردام نفس المدة بالضبط أيضا. وهي لذلك رحلة مريحة تماما، خاصة أن القطارات الهولندية مشهورة بكفاءتها وسرعتها وانتظامها.
على جانبي طريق القطار الثلج منتشر في كل مكان، يغطي المزارع الهولندية الشهيرة. علمت قبل أن أحضر أن درجات الحرارة تهبط هنا لتصل إلى 4 و5 درجات تحت الصفر، أكثر برودة بكثير عن العام الماضي. لندن نفسها تركتها ودرجة الحرارة فيها حوالي 5 درجات، أي أفضل من هنا قليلا. لكن المشكلة ليست في البرودة بل في أنني وصلت إلى روتردام لأجد سماءها ممطرة مطرا سخيفا أي أنه ليس بالمطر الغزير الذي ينتهي بعد فترة، ولا بالرذاذ الناعم المنعش، بل بنوع من الأمطار المصحوبة بما يسمى sleet
لا يوجد الكثير الذي يمكن فعله الليلة فاليوم هو يوم الافتتاح، وليس هناك سوى فيلم الافتتاح الذي سأشاهده غدا ضمن العروض الصحفية. والحقيقة أن المهرجان بأكمله يبدأ غدا، كل شيء، العروض الرسمية والصحفية، عروض مكتبة الفيديو لمن يريد، السوق الدولية للأفلام، وغير ذلك. وكنت عادة أحضر في اليوم الثاني من المهران لأنني لا أحضر حفلات الافتتاح بل ولا يسمح للصحفيين هنا بحضورها بل بمجرد الفرجة عليها عبر الشاشات. ولكني وجدت أنني اذا حضرت في اليوم التالي سيكون وصولي في المساء، وفضلت بالتالي المجيء واستلام البيانات والمعلومات وكتالوج المهرجان ودراسته وإعداد برنامجي للمشاهدات وتناول قسط من الراحة تمهيدا للماراثون الذي سيتم على ما يبدو، في أسوأ جو يمكن تخيله في أي مهرجان سينمائي، والانتقال من هنا إلى هناك بملابس "الميدان" الكاملة، أي الملابس الصوفية الثقيلة جدا، فإن لم تتحصن جيدا من الممكن أن تهلك!
الهولنديون في هذه المدينة لا يبدو لهم أثر في المساء.. ثلث عدد سكان روتردام من المغرب العربي. لكن المدينة يندر أن تجد فيها مطعما عربيا يقدم المأكولات الشرقية المألوفة في حين أن النسبة الغالبة على مطاعمها هي المطاعم الصينية ومطاعم نوب شرق آسيا عموما، ربما بحكم التاريخ الاستعماري لهولندا التي كانت تحتل فيتنام لسنوات طويلة.
في المكتب الصحفي التقيت بصديقنا انتشال التميمي المسؤول عن ترشيح الأفلام العربية لمهرجان روتردام الدولي والمدير الفعلي لما عرف باسم مهرجان روتردام العربي (وهذا المهرجان تحديدا له قصة طويلة معقدة يمكن أن يختلف حولها بالطبع لكني لا أحب أن أتطرق إليها، ولا أن أكون طرفا بأي حال ولو حتى من باب النقد لهذه "الظاهرة" الخارقة التي تردد عليها الكثير من أصدقائنا النقاد والسينمائيين لسنوات، ولم أكن أبدا منهم لحسن الحظ!
المهم أن انتشال، وقد ترك تلك الظاهرة أو التظاهرة العربية، وأصبح نشاطه الآن يمتد إلى مهرجان أبو ظبي ومهرجانات أخرى دولية مرموقة، لم ينجح هذا العام على ما يبدو، في إقناع القائمين على برنامج مهرجان روتردام، بضم عدد لا بأس به من الأفلام العربية أو من إخراج سينمائيين عرب، إلى برنامج الدورة الـ39 اتي ستنطلق رسميا غدا بعد الافتتاح بفيلم "باجو" Paju من كوريا الجنوبية.
وقال لي انتشال إنه لا يملك سلطة إدراج الأفلام في برنامج المهرجان بل ينتهي الأمر عند ترشيحه ما يرى من أفلام وإتاحة الفرصة لكي يشاهدها فريق الاختيار. ويبدو أن المبرمجين هذا العام كان همهم الرئيسي، ليس السينما العربية التي كانت عادة تلقى اهتماما جيدا هنا، بل السينما الافريقية، أو تحديدا "سينما افريقيا السوداء" أي جنوب الصحراء.
ينظم المهرجان ها العام أكبر تظاهرة من نوعها لهذه السينما حيث يعرض عشرات الأفلام الطويلة والقصيرة من بلدان افريقية تحت عنوان "إنس افريقيا" و"أين افريقيا" والعنوانان مختاران لهدف محدد بالطبع.
هنا أفلام من أوغندا وجنوب افريقيا وانجولا وزامبيا وتنزانيا ومالاوي ورواندا وموزمبيق وكينيا والكونغو والكاميرون والنيجر وبوركينا فاسو والسنغال وساحل العاج، بل وهناك أيضا أفلام من مدغشقر. فهل سبق أن شاهد أحد من القراء أو من النقاد فيلما مدغشقري من قبل؟.. أشك كثيرا!
ويبدو أن دورة كأس افريقيا لكرة القدم انتقلت إلى هنا على صعيد التباري بالأفلام، وهو أفضل وأجمل كثيرا بكل تأكيد من وجهة نظر كاتب هذه السطور، على الأقل لأنه لا يحول التنافس الرياضي المفترض أن يتصف بالرقة والجمال والتسامح، إلى معارك حربية ترفع أعلاما ولافتات شوفينية متخلفة، وقد تتحول من لعبة بريئة إلى جريمة فقأ عين إنسان كما حدث من قبل أمام عشرات الآلاف من الشهود، دون أن يعتبر مرتكب تلك الجريمة مجرما يوضع وراء قضبان السجن كما يليق بأي مجرم حقا، بل تم التغاضي عن جريمته، وترك ليرحل بهدوء إلى بلده!
آسف جدا أنني تطرقت لهذا الجانب الذي لا يستهويني عادة، لكنها تداعيات من وحي اللحظة.. وإلى اللقاء.

الجمعة، 22 يناير 2010

فيلم "صداع": مقاومة الموت والمرض والاحتلال

فيلم آخر من الأفلام الوثائقية الطويلة التي عرضت في مهرجان دبي السينمائي السادس، كان من أكثرها تأثيرا، وأعتبره إعلانا قويا عن بروز موهبة سينمائية جديدة هي موهبة مخرجه، رائد أنضوني، القادم إلى السينما بعد مساهمته في إنتاج واخراج عدد من الأفلام التسجيلية المميزة منها أفلام للمخرج ذائع الصيت رشيد مشهراوي.
فيلم آخر ولكن بروح جديدة، وبرؤية فلسفية نادرة في السينما الفلسطينية، رؤية تسعى، ليس فقط إلى فهم ما يجري على المستوى الخارجي، أي مستوى الحدث السياسي المشتعل المباشر، بل وعلى المستوى الفردي، الذاتي، الشخصي، الجواني، حيث يطرح المخرج- المؤلف- البطل، الذي يظهر في الفيلم بنفسه، الكثير من الاسئلة التي تتعلق بمعنى الوجود نفسه، في مجتمع "غير طبيعي"، وما إذا كان من الممكن أن ينسلخ المرء ولو حينا، عن هذا الصخب والجنون واللامنطق، جنون الاحتلال وجنون الصمود تحت الاحتلال، ويتسامى فوق واقعه، لكي يحلم بأحلامه الفردية الخاصة في النجاة؟
هل هذا ممكن؟ وكيف، ومن الذي يقدر على أن يفعل ذلك؟ وهل بوسع "أنضوني" نفسه أن ينسلخ هكذا، ويخلق عالمه الخاص، أم أن وطاة الذاكرة ، فردية كانت أم جماعية، ستطغى في النهاية علىالعقل، وتسيطر عليه وتدفعه في اتجاه "التذكر"، والمزيد من التذكر، وبالتالي المعاناة التي تولد صداعا دائما هو ذلك الصداع (الحقيقي والمجازي) الذي يدفع المخرج (الذي يقوم بدوره الحقيقي في الفيلم) للبحث عن المساعدة لدى طبيب نفسي، وخوض تجربة الجلوس بين يدي هذا الطبيب خلال ثماني عشرة جلسة من جلسات العلاج النفسي الذي يقوم أساسا، على منهج فرويد المعروف في "التحليل النفسي"؟
يشكو انضوني من "الصداع". ويحاول الطبيب أن يرده إلى التذكر، إلى استدعاء الماضي، كيف نشأ، وكيف كانت علاقته بأسرته، علاقته بالآخرين، بالعالم من حوله، كيف ينظر للأشياء. ويحاول هو بشتى الطرق أن يتجنب الخوض في العام، مركزا بشكل أساسي على "الخاص" أي على الحالة الخاصة به، على علاقته بالإبداع: (يقول للطبيب: أسئلتي عن الإبداع لها علاقة بالملل.. جزء من مولدات الإبداع هو الملل!) وعندما يشكو من الصداع يداعبه الطبيب بقوله: أما الصداع فيمكنك أن تسأل عن سببه عند أولمرت وأبو مازن!
انعدام الوزن
"أنضوني" نموذج للإنسان الذي يريد أن يواجه نفسه، أن يفهم لماذا يشعر بالإحباط، بالعجز أحيانا عن التواصل، ليس مع الآخرين فقط، بل مع نفسه أساسا. هذه الحالة من "انعدام الوزن"، ما سببها، وكيف يمكن علاجها أو حتى مجرد فهمها، وهل يمكن أن ينجح المرء اذا فصل نفسه تماما عن الهم الأكبر القائم في البيئة السياسية والاجتماعية التي تضغط بقوة على البشر فتحيلهم إلى كتلة من المعاناة على نحو ما يعاني أنضوني رائد.. معاناة الوجود نفسه!
في سياق الرغبة في البحث عن إجابات لمثل هذه التساؤلات ذات الشق الوجودي، يذهب المخرج لكي يلتقي بصديق له هو "عمر" الذي كان زميله في السجن، فقد اعتقل بطلنا (اللا- بطل) لمدة 18 شهرا في أوائل الثمانينيات عندما لم يكن يتجاوز تسعة عشر عاما، وأخذ الجنود ليلة اعتقاله، يضربون رأسه في الجدار في سجن الخليل. ربما أرادوا القضاء عليه.. وقد اقتضى الأمر كما يقول للطبيب، سنوات إلى أن عاد إلى طبيعته، لكنه الآن يعاني من الصداع الدائم. وهو أيضا يصنع فيلما عن ذلك "الصداع" في حين تتساءل أمه عما يهم الآخرين من صداعه الخاص!
صديقه عمر الذي اعتقل معه، تعرض أيضا لركلات الجنود الإسرائيليين بقوة في رأسه كما يروي لأنضوني، قائلا إنهم "حاولوا قتلي". وربما أرادوا أن يسببوا له نزيفا داخليا بطيئا في المخ يفضي إلى الموت، ويروي أيضا كيف أن أحد هؤلاء الجنود قال له قبل خروجه إنه سيموت خلال سنة. لكنه لم يمت، بل قاوم وعاش، بالإرادة.
وهو يعمل اليوم كهربائيا في رام الله، لكنه اكتشف منذ ستة عشر عاما تحديدا، أنه مصاب بمرض السرطان: سرطان الدم والغدد الليمفاوية. لكنه يقاوم الموت بالقوة، وبالعزيمة، والإصرار على الاستمرار في الحياة.. وهو ما يجده أنضوني- من خلال حواراته الحميمية والخاصة معه أمام الكاميرا، أمرا مدهشا، لا يمكنه استيعابه ببساطة.
محاولة للفهم
أما زميل السجن الآخر "باسم" فقد تقدم به العمر الآن، وأصبح يعول أربعة من الأبناء، ولكنه لايزال يتحسر على عدم استكمال تعليمه بسبب دخوله المعتقل في ذلك الوقت المبكر وخروجه بعد سنوات متقدما في السن، الأمر الذي لم يمكنه من الاستمرار في الدراسة حتى لا يثقل على أسرته الفقيرة ماديا، واضطر للعمل كسائق سيارة أجرة (تاكسي).
الحوارات التي تدور بين انضوني وباسم، لا تنحصر فقط فيما حل بباسم، بل كأنها حوارات يهدف أنضوني من وراءها إلى أن يفهم نفسه، إلى أن يواجه ذاته أمام مرآة صادقة تتمثل في أصدقائه وزملائه الذين خاضوا مثله تجربة شاقة في الاعتقال، وهو يريد أن يعرف هل يمكنهم أن يتخيلوا لأنفسهم مسارا آخر، شخصيا، ذاتيا، منفصلا عن المسار الجماعي، عن وطأة الذاكرة الجماعية، تلك الفكرة التي تعذبه وتؤرقه، ولماذا لا يمكن للمرء أن يكون فقط إنسانا حرا، وليس بطلا؟ وما معنى الحرية، وهل تنفصل الحرية الفردية عن الحرية الجماعية، وهل يتعين أن يصبح كل الناس أبطالا.. وماذا يفعل الفنان المبدع الذي يريد أن ينجز شيئا، يعبر من خلاله عن نفسه!
"باسم" يتكلم عن حتمية الاندماج بالقضية الكبرى: "لقد ذابت أحلامنا الصغيرة في الحلم الكبير".. وهو لا يمكنه الاقتناع بالفصل بين الإثنين أو بامكانية تحقيق ذلك حتى لو أراد.
أما أنضوني، فهو يصرخ في وجه الطبيب: أنا أشعر بأنني لست في السماء ولا في الأرض.. مشكلتي هي مشكلة رفض.. إنني اشعر بالتميز في التعامل مع غيري، إنني مختلف عنهم.. أريد أن أعيش في بيئة اجتماعية، لكني لا أعرف كيف".
يطلب منه الطبيب أن يقف فوق مقعد، ثم يسأله: هل هذا هو المكان الذي ترى منه الأشياء؟
أنضوني أيضا لا يمكنه أن يتذكر جيدا، كما يتذكر رفاق السجن، فترة السجن وما حدث له فيها، إنه يتذكر بوضوح الفترة التي سبقتها، فهل هذا "ميكانيزم" طبيعي لديه للهرب، شيء ما في داخله يرفض التذكر.
وهو يسأل "عمر" بإصرار: هل هناك شيء ضاع داخل السجن، كيف كان هو يبدو وكيف يراه عمر الآن؟ عمر يقول له إنه تغير بالفعل كثيرا عما كان، لكنه يحاول الآن أن يبعد نفسه تماما خارج المشهد.. إلا أنه لن ينجح.
إنها المعاناة من أجل الفهم: فهم الذات بعد كل تلك التجربة القاسية: في السجن وفي الحياة. إنها رغبة المبدع- الفرد، في التحليق بعيدا عن السرب، في الإحساس بالتميز، بالاختلاف، ورغبته في الإفلات من التصنيف المباشر والبدائي أيضا. إنه يقول للطبيب في إحدى جلسات العلاج النفسي في الفيلم: الناس يشعرون بالراحة أكثر عندما يضعونك في إطار معين.. الفلسطينيون يريدون من صانعي الأفلام أن يفعلوا شيئا يدعم نضالهم.. والإسرائيليون يريدون من الآخرين الاعتراف بهم.. والأجانب يريدون منا أن نكون جسرا بين الثقافات.. وأنا لا أريد أن أكون أيا من ذلك، بل أريد فقط أن أطرح بعض الأسئلة".
مع شقيقته الكبرى العائدة من الخارج، من المنفى الاختياري مع أبنائها، يراجع ملفات الصور القديمة، صور الطفولة والشباب: ماذا تغير، كيف كان وكيف أصبح، هل تتذكر هي ليلة اعتقاله؟
داخل عقل مشوش
والفيلم بأكمله يبدو كما لو كان رحلة، ليس فقط في الذاكرة، بل في عقل رجل فلسطيني "عادي" مشوش بالتساؤلات العديدة (وإن كان هو يؤكد للطبيب أنه طبيعي مائة في المائة) يريد أن يعبر عن نفسه، عن مشكلته الخاصة، بمعزل عن المحيط العام، لكنه عاجز عن هذا كما يعجز عن فهم تلك الصلة التي تبدو حتمية بين الماضي (الذي نسى الكثير منه ربما بشكل إرادي قسري أيضا)، وبين الحاضر بكل ما يذكره فيه بالماضي.
في الفيلم دون شك أيضا، نغمة واضحة تتعلق بعملية الإبداع، بمعاناة المبدع، ولكن في إطار خصوصية الوضع الفلسطيني وقسوته: هناك لقطة عابرة في الفيلم لقطاع صغير في الحاجز الفاصل في الضفة الغربية، يسقط، ولا ندري ما إذا كان هذا يحدث على مستوى الحلم أم الحقيقة، هل هي لقطة متخيلة، أم التقطت في لحظة استثنائية بالكاميرا!

ورغم أن الفيلم يمتد بطول 97 دقيقة، إلا أنه يتميز بإيقاع متماسك ومتدفق، وبناء دقيق يساهم في تجسيد الفكرة الأساسية، من زوايا عدة، رغم تداخله وتكوينه المركب: من الحوارات، إلى اللقطات والمشاهد التي تدور في الطبيعة، والمشاهد التي تعكس أيضا هواجس البطل وإحساسه الخاص بالاختناق، أفراد اسرته وجلسات المناقشة في الأمسيات في شرفة المنزل، مظاهرات تسير من وقت إلى آخر، وأحد المتظاهرين يتوقف فجأة أمام الكاميرا ليسأل الام: ماذا يصور هذا؟ يريد أن يتأكد أنه يصنع فيلما "يؤيد النضال".. وهي لقطة عابرة تكثف تماما ما يرفضه أنضوني الذي يرى أن "السياسة وحدها لم تعد تكفي: وهو يقول في الفيلم بوضوح: "لا أريد للفلسطينيين أن يكونوا أبطالا"، ربما هو يرفض البطولة من أجل البطولة، أو يرفض التنميط، أو القدرية بمعنى البطولة المفروضة التي تؤدي إلى الخسارة باستمرار.
تساؤلات وجودية
في هذا الفيلم يختلط السياسي بالاجتماعي بالنفسي، الفردي بالجماعي، الذاكرة، والواقع، الصمود الذاتي والمقاومة الأشمل، الرغبة في الاستمرار في الحياة، ومجرد البقاء. ويصبح الصداع رمزا للحالة الفلسطينية (أو تيمة مجازية) للوضع الفلسطيني الذي أصبح "مرضا" يصيب الجسد أيضا ويخنق الروح.
ويصور الفيلم كيف يمكن أن يدفع هذا "المرض" الفرد إلى التشكك حتى في جدوى الكثيرمن الأشياء التي كان التصور الشائع عنها أنها من المسلمات: فكرة التضحية بالذات من أجل القضية الجماعية الأكبر مثلا، والقسوة التي يمارسها الفرد على نفسه من أجل البقاء دون أن يفقد عقله بعد كل ما يمارس ضده، خلال بحثه عن هويته الخاصة.
ولعل هذه الأسئلة الوجودية التي تلتقي مع الأسئلة الكثيرة التي يطرحها ميشيل خليفي في فيلمه الروائي "زنديق" أصبحت جزءا من المشهد السينمائي الفلسطيني في الوقت الحالي.
ولكن على الرغم من قتامة الموضوع- ظاهريا- إلا أن رائد أنضوني يجعله عملا ساخرا تشيع فيه روح المرح التي تقربه من المشاهدين، كعمل يستخدم التناقض بين الشخصية والواقع لتوليد الإحساس العميق بالسخرية المجازية irony بل ويصل أحيانا في تجسيده لتيمات موضوعه إلى درجة عالية من السيريالية، ليس من خلال تكوين الصورة، بل من خلال العلاقة بين اللقطات، وداخل المشاهد ايضا، وهي قدرة خاصة يتميز بها المخرج رائد أنضوني بلاشك.

الأربعاء، 20 يناير 2010

بعد 25 عامًا فى المنصب وزير الثقافة يسأل ما مستقبل الثقافة فى مصر؟


بقلم: فاروق جويدة


أخيرا تذكرت وزارة الثقافة أن الثقافة المصرية فى حاجة لمؤتمر يناقش أحوالها ويستعرض قضاياها.. بعد ما يقرب من ربع قرن من الزمان أفاق المسئولون فى وزارة الثقافة على واقع ثقافى هزيل ومترهل يتطلب دراسة أسباب تراجعه وانهياره.. فى هذه السنوات الطوال شهدت الساحة الثقافية المصرية تراجعا مخيفـا تأكدت شواهده وعلاماته فى هذا الجسد الثقافى المريض الذى شاعت فيه أعراض كثيرة ابتداء بالتطرف الدينى الذى اجتاح عقول شبابنا وانتهاء بفوضى الإبداع والنقد فى كل المجالات. هذا المؤتمر تأخر ربع قرن من الزمان ورغم أن البعض يرى أن الأشياء قد يتأخر أوانها ولكن المهم أن تجىء.. فإن هذا المؤتمر يأتى بعد فوات الأوان وإذا كان من الضرورى أن يجىء فإن الأهم أن يحمل رؤى جديدة لا أعتقد أن المناخ الحالى برموزه وشخوصه ومسئوليه قادر على أن يصنع بداية جديدة أو واقعا ثقافيا مختلفا.. أحمل تقديرا عميقـا لا أخفيه لعدد كبير من الرموز التى ستشارك فى هذا المؤتمر أو تضع أوراقه.. ولكننى أشفق عليهم من مؤسسات ثقافية رسمية ترهلت وأهدرت جهودا كثيرة وأضاعت فرصا عديدة وأموالا باهظة على هذا البلد لكى يحافظ على دوره ومكانته ومسئولياته.. وبقدر ما كانت هناك رموز حاولت أن تدفع السفينة للأمام كانت الأغلبية من أصحاب المصالح تبحث عن مصالحها وللأسف الشديد أن السفن حين تغرق لا تفرق بين الطيب والخبيث.

لا أحد يدرى ما الهدف من إقامة مؤتمر عام للمثقفين المصريين فى هذا التوقيت بالذات.. وأين كان هؤلاء المثقفون فيما مر بنا من أحداث وتقلبات وأزمات غابت عنها الثقافة واختفى دور أصحاب الفكر والرأى فى سراديب لجان واجتماعات وأفراح ومهرجانات أجهزة وزارة الثقافة.. أين كان هؤلاء جميعا من قضايا المجتمع وهموم الناس ومعاناة المواطنين.. أين كان المثقفون من التقلبات العاصفة التى شهدتها الساحة المصرية لسنوات طويلة وليس أياما أو شهورا.. أين كان هؤلاء وخفافيش الظلام تتسلل إلى عقول أجيالنا الشابة جيلا بعد جيل؟

عندما أشارت وزارة الثقافة إلى هذه الرغبة سارع الجميع للدراسة والبحث والتنقيب عن مؤتمر جديد حيث تعقد اللجان وتصدر التوصيات وتصرف المكافآت وتدور الفضائيات ونعود من حيث بدأنا لهذا السيناريو السخيف حيث لا ثقافة ولا فكرا ولا دورا أكثر من توزيع العطايا والمنح والهبات على من ترى فيهم الدولة أنهم صوت الثقافة المصرية ودخلت بهم السلطة منذ زمان بعيد إلى ما أطلقت عليه حظيرة المثقفين.

بين ثقافة السلطة وثقافة الشعب
يأتى هذا المؤتمر تحت رعاية وزارة الثقافة ليحدد مستقبل الثقافة المصرية فى السنوات القادمة أين كان هذا المستقبل منذ عشرين عاما وأكثر.. ومن الذى ضيع كل فرص البناء لهذا المستقبل الذى لا يجىء.. ولا أدرى عن أى ثقافة يتحدث هؤلاء.. هل هى ثقافة السلطة أم ثقافة الشعب وما بينهما مسافات بعيدة لأن الشعب يعيش بلا ثقافة منذ زمان بعيد.. ولأن الثقافة فى رأى السلطة ليست أكثر من احتفالات ومهرجانات ولجان واجتماعات.. وما هى الثقافة التى نريدها.. هل هى دور مجموعة من المثقفين الذين اختاروا أن يتحصنوا فى متاريس القرار بحثـا عن مصالح خاصة أم هم المثقفون الذين تجاهلتهم السلطة وأبعدتهم عن كل شىء فماتوا كمدا أو عاشوا على هامش الأحداث والزمن.. منذ زمان بعيد وهذا الانقسام الواضح الصريح أخطر وأسوأ ما أصاب النخبة المثقفة فى بلد الثقافة.

نجحت وزارة الثقافة أن تستقطب فريقـا يغنى على هواها ويقول إن وزير ثقافتنا الفنان فاروق حسنى هو أعظم من تولى هذا المنصب فى تاريخ الثقافة المصرية.. وجلس الحواريون من المثقفين فى بلاط وزارة الثقافة يرددون الدعوات والتجليات ويقرأون الأوراد لهذه المعجزة الثقافية التى يتحدث عنها العالم كل العالم.. وكنت ترى هذه المواكب فى كل المناسبات.. أنها تقف صفوفـا فى اللجان.. وتجلس صفوفـا فى المهرجانات.. وتجرى صفوفـا وراء الهبات وفى زمن اختلت فيه كل القيم والحسابات أصبح من السهل أن يبيع المثقف نفسه للشيطان من أجل سفرية أو منصب أو جائزة أو وفد أو عضوية فى لجنة أو ما بقى من الفتات..
هذه المواكب من المثقفين أطلق عليهم الوزير الفنان فاروق حسنى حظيرة المثقفين ورغم أن اللفظ كان سخيفا وجارحا إلا أنه لم يجد من يعلق عليه رغم أن الحظائر ليست مأوى لأصحاب الفكر والعقول.
هناك الفصيل الثانى من المثقفين الذين أطاحت بهم أجهزة الثقافة فى مصر فهم خارج حسابات الدولة والسلطة والهبات الرسمية.. هذا الفصيل الذى تم إبعاده لم يدخل يوما فى سياق وزارة الثقافة على المستوى الرسمى فلا أحد منهم دخل لجنة.. ولا أحد منهم حصل على جائزة ولا أحد منهم كان محل تقدير على أى مستوى من المستويات..
ومنذ انقسمت مواكب المثقفين المصريين واجهت الثقافة المصرية مرحلة تراجع مخيفة على كل المستويات وطوال هذه الفترة التى اقتربت من ربع قرن من الزمان وجدنا ظواهر غريبة تظهر على الساحة ابتداء بالفساد وخراب الذمم وانتهاء بفقدان الثقافة المصرية لدورها وريادتها..

تراجع العقل المصرى
إن ربع قرن من الزمان لا يمثل فقط عمرا طويلا من التراجع والانحدار ولكنه يمثل شحوب دور ثقافى عريق ومؤثر وقد فرطنا فى هذا الدور وقد كان بكل المقاييس أعرق أدوارنا وأكثرها بريقا.. فى ربع قرن من الزمان شاخت الثقافة المصرية وأصبحت مطمعا للكثيرين رغم أنها لم تكن يوما بهذا الضعف وهذا الهوان. إذا أردنا أن نعرف تأثير هذه السنوات الطوال علينا أن نراجع خريطة العقل المصرى لنرى حجم النكسات والإخفاقات التى لحقت به طوال هذه الفترة.. إن الشاب الذى يبلغ عمره الآن خمسة وعشرين عاما ولد مع هذه البداية المظلمة.. إذا أردنا تقييم أى مشروع ثقافى علينا أن ننظر إلى حصاده.. ومن هنا نستطيع أن نرى حصاد هذه السنوات فى موجات التطرف والعنف الفكرى والدينى والسياسى التى لحقت بالأجيال الجديدة.. علينا أن نراجع مسيرة العقل المصرى متجسدا فى شبابه لنكتشف كيف غاب الانتماء وكيف تراجعت روح الاستنارة وكيف أصبح التخلف دستور سلوكياتنا فى كل شىء..
إذا أردت أن تعرف شعبا ابحث عن دور مثقفيه لنكتشف أن هذا الدور قد تراجع تماما أمام لغة المصالح والانقسامات والمطامع الزائلة وأن الدولة شجعت هذا الانقسام وباركته فى كل شىء.. أين كان مشروع مصر الثقافى فى ربع قرن من الزمان.. وكيف تجسد هذا المشروع فى صورة المجتمع المصرى وما أصابه من موجات التخلف والتراجع ابتداء بالفكر وانتهاء بالأزياء فى الشوارع أن السبب فى ذلك يرجع فى الأساس إلى قصور الدور الثقافى وما أصاب المصريين من موجات التخلف..
لم تكن الظواهر الاقتصادية هى أسوأ ما أصاب المصريين ولكن الانحدار الثقافى الذى اجتاح أجيالا كاملة هو أكبر شاهد على التراجع الثقافى وفشل المؤسسات الثقافية فى الدولة.. لم يكن فقر المال هو المأساة ولكن المأساة الحقيقية هى فقر الثقافة والفكر..

فساد القيادات الثقافية

أين هذا المشروع الثقافى الذى يمكن أن نتحدث عنه فى هذا المؤتمر.. ما إنجازاته.. وما قضاياه ونتائجه ونجاحاته؟ هل تجسد فى قضايا الفساد التى تكشف الجزء القليل منها فى سوء الاختيار وقضايا السرقة والرشوة بين المسئولين فى وزارة الثقافة ومنهم من قضى وقتا فى السجون مدانا بأحكام قضائية ومنهم من تجرى محاكمته حتى الآن وهو خلف القضبان..
هل هى الملايين التى نهبها عدد من الأشخاص الذين سيطروا على الأنشطة الثقافية فنهبوا وسرقوا ودخلوا السجون هل هذا هو نموذج الإدارة الثقافية الناجحة التى يتحدث البعض عنها ويريد المؤتمر أن يقدمها للناس فى كشف حساب؟

أين نجد هذا المشروع الثقافى أمام بؤر التخلف والتطرف الدينى فى الريف المصرى الذى لم يحاول أحد إضاءة شمعة فى ظلامه الطويل خمسة وعشرين عاما.. فى الريف المصرى الآن تستطيع أن ترى عقولا من العصور الوسطى التى عشش الجهل فيها وترك العناكب تعبث فيها من كل لون؟.

غياب المشروع الثقافى

أين هذا المشروع الثقافى والثقافة المصرية غائبة تماما عن عالمها العربى.. ولك أن تسأل عن آخر وفد ثقافى زار عاصمة عربية.. وعن آخر كتيبة إبداعية زارت بلدا عربيا.. لقد اختفى المثقف المصرى تماما عن الساحة العربية ولم يبق إلا قلة تطارد الجوائز النفطية بحثا عن تقدير هنا أو مهرجان هناك؟.. لقد غابت ثقافة مصر تماما عن محيطها العربى أمام بالونات شديدة الإغراء عن هوى يراود البعض أننا يجب أن نتجه شمالا وليس جنوبا وكانت النتيجة أننا خسرنا الماضى والحاضر معا وخسرنا الشمال قبل أن نخسر الجنوب وكانت معركة اليونسكو أكبر دليل على ذلك. أين هذا المشروع الثقافى والمسئولون عن الثقافة المصرية قضوا عامين كاملين يطوفون بلاد العالم من أجل الوصول إلى رئاسة اليونسكو؟.. لقد تفرغت أجهزة الدولة الثقافية بالكامل لمساندة الوزير الفنان فى معركة اليونسكو ورغم هذا لم يحالفنا الحظ ونفوز بالمنصب فهل كان من الحكمة ومن الأمانة ومن المسئولية أن نترك عقل أمة عامين كاملين بحثا عن منصب لم نحصل عليه.. وكم أنفقت ميزانية الدولة على الرحلات والسفريات والعطايا.. ألم تكن عقول شبابنا الضائع فى القرى والنجوع أولى بهذه الملايين.. ألم تكن قصور الثقافة المظلمة أولى بهذه الأموال.. وكيف يترك مسئول شئون ثقافة دولة عامين كاملين بحثـا عن منصب خارجى لم يحصل عليه؟
أين هذا المشروع الثقافى والدولة المصرية لم تحتفل بجوائزها 17 عاما.. لم تشهد القاهرة كما كانت تشهد يوما احتفالا بالمبدعين من أبنائها توزع فيه جوائز الدولة التقديرية والتشجيعية وجائزتى مبارك والتفوق.. كانت وزارة الثقافة تقيم مهرجانات للسينما رغم عدم وجود أفلام مصرية وتقيم مهرجانات للمسرح رغم عدم وجود مسرحيات ويموت المبدعون المصريون الكبار ويتسلم الورثة شهادات التقدير وميداليات الجوائز لأن وزارة الثقافة قررت ألا تحتفل بأحد منهم.. هل يعقل ألا توزع جوائز الدولة 17 عاما فى بلد يدعى أنه الدولة العظمى فى الثقافة والفكر والإبداع؟.. عن أى مشروع ثقافى نتحدث وفى كل يوم لا تخلو صحيفة مصرية من كشف جريمة تهريب أو إتجار أو تخريب فى الآثار المصرية.. والغريب فى الأمر أن ندفع مئات الملايين فى المنشآت بينما التخريب العلنى يدور فى كل المواقع سرقة وتهريبا.

ثقافة العقول وثقافة المبانى
كان الاهتمام الأكبر طوال خمسة وعشرين عاما من عمر الثقافة المصرية يتجسد فى المنشآت والمبانى والمقاولين وتلال الحديد والأسمنت رغم أن المبانى فى كل بلاد الدنيا لا تمثل الرصيد الثقافى الحقيقى.. فما أكثر المسارح فى دول كثيرة ولكن المهم ماذا يقدم عليها من الإبداع الجميل.. ما قيمة المئات من دور السينما وهى تعرض أفلاما رخيصة ساقطة.. ما قيمة مكتبات لا يدخلها أحد ومطبوعات لا تجد من يقرؤها.. إن خطورة هذه السياسة وهذا الارتجال أنه كلف ميزانية الدولة مئات الملايين من الجنيهات ولم يحقق هدفا ثقافيا.. هناك منشآت كثيرة ولكنها افتقدت روح الثقافة والفكر والإبداع.. احترق المسرح القومى أكثر من مرة وهو الآن يعاد إصلاحه بعد أن أكلته النيران.. وما حدث فى محرقة بنى سويف كان مأساة إنسانية دامية قبل أن يكون حدثا ثقافيا مروعا.. فلو أن شهداء هذه المحرقة وجدوا مسرحا يقدمون عليه إبداعهم ما حدثت الكارثة.. ولكننا ننفق الملايين على أسفار المسئولين فى وزارة الثقافة ولا نقدم الملاليم لإصلاح مسرح هنا أو هناك..

كان من الخطأ الجسيم أن ننزع مصر من عمقها الثقافى العربى وأن نتصور أن عرايا المسرح التجريبى وأفلام المقاولات والجرى وراء الموضات سيكون بديلا عن دورنا الثقافى وهو دور تاريخى وحضارى بكل المقاييس. لا أعرف شيئا عن آخر وفد مصرى سافر إلى الجزائر.. أو آخر كوكبة فنية زارت السودان أو آخر لقاء أدبى بين أدباء مصر وأدباء سوريا أو لبنان..
إن غياب مصر عن الساحة الثقافية العربية طوال ربع قرن من الزمان كان جريمة تاريخية ندفع الآن ثمنها سياسيا واقتصاديا وإنسانيا.. وإذا تركنا ذلك كله واتجهنا لنراجع إنتاجنا الثقافى إبداعا وفكرا فسوف نشعر بالخجل أمام ما نرى من ألوان الإبداع المترهل الساذج.. وبعد ذلك كله نتحدث عن مؤتمر للمثقفين المصريين لوضع برنامج للإصلاح الثقافى والفكرى والحوار حول مستقبل الثقافة المصرية.. هل يستطيع أحد من حظيرة المثقفين أن يناقش بوضوح وصراحة كل هذه القضايا.

هل يستطيع أحد أن يسأل المسئولين فى الدولة كم أنفقت مصر على المؤسسات الثقافية طوال خمسة وعشرين عاما وما العائد الذى تحقق على المستوى الثقافى والحضارى والإنسانى.. هل يستطيع أحد فى هذا المؤتمر أن يتحدث عن كارثة مسرح بنى سويف والعشرات الذين ماتوا فى الحريق.. هل يستطيع أحد أن يتحدث عن سوء اختيار القيادات الثقافية ودورها فى تشوية وجه مصر الثقافى.. هل يمكن أن يناقش المؤتمر جرائم الفساد فى وزارة الثقافة ابتداء بحوادث السرقة ونهب المال العام وانتهاء بالرشوة..

ماذا بعد السنوات العجاف ؟

هل يستطيع أحد أن يتساءل عن انهيار المستوى الثقافى للمواطن المصرى ودور الأجهزة الثقافية فى ذلك.. هل يستطيع أحد أن يدين انقسام المثقفين المصريين وتوزيعهم ما بين حظيرة الدولة الثقافية ومواقع المعارضين.. إذا كان من الممكن أن يناقش المؤتمر هذه القضايا بلا حساسيات.. وإذا كان من الممكن أن نطرح كل هذه المشاكل والأزمات.. هنا يمكن أن نخرج من المؤتمر بأشياء مفيدة.. إن السنوات العجاف فى تاريخ الثقافة المصرية وقد طالت حرمت مصر من أبرز مبدعيها وتركت الكثيرين منهم يعانون الجحود والمرض والفقر بينما فتحت خزائنها لحملة المباخر والباحثين عن المناصب والمصالح والمؤتمرات واللجان.. ومن هنا كان تفسخ النسيج الثقافى الوطنى هو أفدح الخسائر وأغلاها ثمنـا. هل يستطيع هذا المؤتمر أن يعيد للمثقفين المصريين توحدهم وإحساسهم بالمسئولية ورغبتهم فى تعديل المسار.. هل يمكن أن تعود مواكب الثقافة المصرية لتضىء القرى والنجوع بعد أن ملأت الخفافيش عقول أبنائنا.. هل تعود الثقافة المصرية إلى ريادتها فى الوجدان والعقل العربى بالإبداع الجميل والفن الصادق.. ليست عندى أى تحفظات على هذا المؤتمر لأن فيه رموزا كثيرة أقدرها وأحترم دورها ولكن المهم أن يكون الهدف إنقاذ الثقافة المصرية وتأكيد دورها ووجودها أما إذا كان الهدف فتح أبواب أكثر لدخول أفواج جديدة إلى حظائر الدولة الثقافية فيكفى ما كان.

(جريدة الشروق المصرية- عدد الأحد 17 يناير)

الخميس، 14 يناير 2010

فيلم "الريل" لسعد سلمان



وثيقة بصرية صادمة


يعتبر فيلم "الريل" (أو القطار) (55 دقيقة) للمخرج العراقي سعد سلمان، تجربة فريدة في تصوير الأفلام، فهو يدور داخل قطار يتجه من بغداد إلى البصرة، يصور ركاب القطار الذين يمثلون الشرائح الاجتماعية المختلفة، بأسلوب سينما الحقيقة cinema- verite،أي من خلال كاميرا تسجل وترصد وتتوقف أمام الشخصيات ربما دون أن يشعروا أصلا بوجودها، بعد أن يضع بينهم خلسة ودون أن يدركوا، اثنان أو ثلاثة من الممثلين، يمتزجون معهم، يحاولون التعرف على أكبر عدد من راكبي القطار، يتبادلون معهم الأحاديث بطريقة تلقائية ومن خلال سيناريو غير مكتوب في معظم الأحوال.
وتكشف هذه التجربة البصرية الشجاعة التي استخدمت في تصويرها كاميرا الفيديو (الرقمية) الصغير، بشاعة مجتمع العراق فيما بعد الحرب.. والآثار النفسية العميقة التي تركتها على نفوس العراقيين، نوع من الضياع والتشتت والمعاناة المستمرة في مجتمع عراق ما بعد صدام.
صحيح أن البعض يضحك، والبعض الآخر يبدو سعيدا بما جرى، إلا أن مظاهر الخراب العام التي ترصدها كاميرا سعد سالمان، على طول الطريق من بغداد إلى البصرة، تكشف لنا كيف أصبح العراق، وما حل به، وما حل بالإنسان العراقي البسيط أيضا، الذي يرغب في الإحساس للمرة الأولى منذ عقود طويلة، بأنه يعيش في بلده عيشا كريما آمنا.
الأحاديث التلقائية غير المعدة سلفا التي يجريها ممثل أساسي في الفيلم، يقدم نفسه باعتباره نحاتا، تكشف لنا أيضا عمق التناقضات التي برزت من تحت السطح، ومدى العجز عن تصور أي مستقبل للعراق ولو بعد 4 آلاف سنة كما يردد أحد الذين يتحدثون في الفيلم من ركاب القطار.
ولعل من أهم سمات هذا الفيلم القدرة الكبيرة على التعامل مع الكاميرا، من زوايا مختلفة، وبحيث لا يشعر ركاب القطار بوجودها. وتتوقف الكاميرا أمامهم وتصورهم في لقطات يغلب عليها اللقطة المتوسطة والقريبة، ووسط الأحاديث التي تدور، يختطف سعد سالمان لقطات اخرى عابرة لكثير من الوجوه، وجوه العراقيين بكل ما تحمله من هم أو وجيع أو إحساس بالاغتراب والغربة والتشتت. صورة صادمة لمجتمع لايزال يتطلع إلى الاقتراب من منطقة الأمان.
"الريل" تجربة جريئة تمثل امتدادا لتجارب سعد سالمان الشجاعة في الإنتاج المستقل، وهي تجربة تكشف عن كم هو مسكون سعد سالمان ببلده وما حل به من دمار وتفتت وصراعات، بعد كل ما سمعه العالم عن "التحرير".
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger