الجمعة، 8 يناير 2010

مع ميشيل وعمر

جلسة رائعة جمعتني في لندن أخيرا رغم البرد القارص، والأشغال الشاقة التي أقوم بها هذه الأيام، مع صديقين من أصدقاء الزمن الجميل: المنتج السينمائي الفلسطيني عمر قطان، والمخرج المعروف ميشيل خليفي.
تمكنت من إيجاد فسحة من الوقت للخروج من العمل لقضاء أكثر من ساعة مع الصديقين في مقهى مجاور من مكاتب بي بي سي حيث أعمل، في ريجنت ستريت بوسط لندن.
جاء ميشيل من بلجيكا التي يقيم بها إلى لندن حيث يقيم منتج فيلمه الأخير عمر قطان، لبحث بعض الأمور الفنية معه على ما يبدو.
أهديت نسخة من كتابي الجديد "الشيخ إمام في عصر الثورة والغضب" إلى ميشيل، ففوجئت بأنه يعرف الشيخ إمام معرفة ربما تفوق معرفة الكثيرين من عشاقه بل والمتخصصين فيه أيضا. وروى لي ميشيل كيف أنه زاره مع رفيقيه أحمد فؤاد نجم ومحمد علي، في البيت القديم الذي كانوا يقيمون فيه جميعا في "حوش قدم" بحي الحسين الشهير في القاهرة عام 1982. وقضى ميشيل وقتا طويلا في صحبة الشيخ إمام، وظل يتردد عليه كثيرا بعد ذلك، بل وأدهشني عندما قال لي إنه المسؤول عن إدخال شرائط الشيخ إمام إلى فلسطيني عام 1982 لكي يغني هناك.. وهي دون شك قصة تستحق أن تروى ون تسجل. وقال إنه استخدم نغمة أغنية "إذا الشمس غرقت في بحر الغمام" في أول أفلامه "الذاكرة الخصبة"، وأظهر معرفة هائلة بالكثير من أغاني الشيخ إمام التي يحفظها عن ظهر قلب ليس فقط بكلماتها بل بألحانها، كما أنه يحفظ الكثير من أشعار الفاجومي (نجم)، ويتذكر محمد علي (ضابط الإيقاع) والرسام الذي رحل عن عالمنا قبل أشهر معدودة، ولم يكن ميشيل يعلم برحيله. وروى لي كيف أنه عندما التقاه سأله: هل انت الفنان التشكيلي، فرد عليه محمد بسرعة بديهة وخفظ ظل قائلا على الفور: لا أشكيلك ولا تشكيلي!
كنت قد التقيت ميشيل أخيرا في مهرجان دبي السادس الشهر الماضي، بعد غياب دام ربما أكثر من عشر سنوات (فراقات عشاق السينما فراقات معذبة فعلا.. تصوروا مثلا أنني لم أكن قد التقيت بالعزيز الناقد عدنان مدانات منذ منتصف التسعينيات إلى أن قابلته أخيرا في مهرجان أبو ظبي السينمائي في أكتوبر!)..
مقالي عن فيلم "زنديق" أحد أفلام ميشيل خليفي الذي حصل على ذهبية مسابقة المهر للأفلام العربية الروائية الطويلة، أعجب ميشيل كثيرا.. وقال لي إنه وجد فيه الكثير مما كان في ذهنه فعلا أثناء كتابة وتصوير الفيلم، فقلت إنني لا أعرف ما إذا كان هذا حقيقيا أم لا ولكني عادة ما أعبر عن "رؤيتي" الخاصة للعمل السينمائي، واستقبالي الشخصي له، دون أي محاولة لتجميع "معلومات" مسبقة عن ظروف صنع الفيلم، وإنني آمل دائما أن يكون المقال النقدي تعبيرا عن علاقتي بالفيلم، وأن يكون أيضا قطعة "أدبية" لا تقل أهمية عن الفيلم نفسه، بل تتماهى معه وتدخل أحيانا أيضا، في سجال وجدل مع أفكاره.
حديثنا عن الفيلم والمقال لم يستغرق ثلاث دقائق انتقلنا بعدها إلى السينما ومهرجاناتها وأحوالها في العالم العربي، وإلى اوضاع النقد والنقاد، وناقشنا أيضا بعض الأفكار التي تصلح للتحول إلى سينما.. وكان عمر قطان يصغي باهتمام، وكنت قد تعرفت على عمر للمرة الأولى في مهرجان فالنسيا السينمائي عام 1991 (على ما أتذكر)، وكان موجودا هناك .. شابا يافعا.. جاء لعرض فيلمه الأول كمخرج وهو بعنوان "أحلام في الفراغ"، وقد كتبت عنه في صحيفة "القدس العربي" التي كنت أعمل بها في ذلك الوقت. وهو أصلا من دارسي السينما في بلجيكا، وأظنه تتلمذ على يدي ميشيل خليفي الذي يقوم بالتدريس منذ سنوات طويلة، في معهد السينما البلجيكي الذي تخرج منه. وكان فيلم ميشيل الأول "الذاكرة الخصبة"(1982) إعلانا قويا عن موهبة كبيرة حقا، وعن تيار حداثي بارز في السينما الفلسطينية.
معا.. ضحكنا ونحن نتذكر تلك الايام، ونتذكر ما دار من معارك بعد ذلك حول الكثير من القضايا والمواضيع، وتطرقنا إلى السفه الذي تمارسه بعض المؤسسات في العالم العربي بدعوى الاهتمام بالسينما فيما هي مهتمة أساسا باستعرض نفسها، والغرق في مستنقع الفساد.. والعياذ بالله!
ولا أريد أن أطيل عليكم.. فسأذهب لتناول الشاي الساخن الآن لعله يمنحني بعض الطاقة في هذا البرد المقيم.. وآخر الأنباء عندنا هنا في لندن، تقول إننا سنشهد هطول الثلوج هذه الليلة بحيث نستيقظ صباحا لنجد المدينة وقد غرقت في كتل الثلج الأبيض.. أي تحولت إلى قرية كبيرة تتعطل فيها حركة المركبات الحديثة، حيث لا يصلح في هذه الحالة ربما سوى ركوب الدواب ذات الحوافر التي تغرز في الثلج، للانتقال، على طريقة الاسكيمو.. ولكن من أين نأتي بها.. عندي قطة واحدة، لا اظن أنها تستطيع القيام بالمهمة!

الخميس، 7 يناير 2010

الحنين إلى "عصر السينما"

مجمع سينما وورنر فيلليج

سينما ريتزي التحفة المعمارية الرائعة في حي بريكستون (لم أزرها بكل أسف حتى الآن)

واجهة سينا بلازا

سينما امباير من الداخل في ليستر سكوير في سالف العصر والأوان قبل تقسيمها

سينما امباير من الخارج حاليا

سينما امباير من الخارج قبل فترة

سينما لندن بافيلون


سينما بيوجراف التي اشار إليها محمد خان وقال انها كانت في فيكتوريا ستريت

واضح إن الموضوع المنشور في هذه الصفحة حول ذكرياتي عن دور العرض اللندنية في الزمن الجميل الماضي (من الثمانينيات) من عصر السينما فعلا (تيمنا بعصر الراديو، وهو عنوان أحد أفلام وودي ألين الجميلة التي أحبها- فنحن الآن كما أظن لم نعد في عصرالسينما بل في عصر الانترنت) أقول إن من الواضح ان الموضوع قد أثار شجونا في نفس صديقي المخرج الكبير محمد خان، وقد سبق أن كتب لي تصحيحا مهما عن سينما "أكاديمي" وكانت من أجمل وأحلى السينمات في لندن واكثرها احتراما، وفيها كنت قد شاهدت عددا من أهم الأفلام منها مثلا فيلم "وتبحر السفينة" لفيلليني عام 1983.
وأتذكر أن عماد الدين أديب، الإعلامي البارز (وكنا نرتبط بصداقة من أيام الجامعة في السبعينيات)، دعاني مع صديقنا الصحفي المصري الرائع حافظ القباني (مازال يقيم ويعمل في لندن) لمشاهدة فيلم في سينما أكاديمي للمخرجة الألمانية الشهيرة مرجريتا فون تروتا اظن كان اسمه (اصدقاء وأزواج).. وكان ذلك في عام 1983، قبل ان آتي للعيش في لندن في العام التالي. وكان عماد وقتها رئيسا لتحرير مجلة "المجلة". وخرجنا بعدها وتوجهنا إلى حيث كان يقطن عماد في حي ماي فير الراقي في لندن لكي نتناقش في الفيلم بينما كان حافظ يعد طعاما شهيا للعشاء.

واجهة سينما جيت نوتنج هيل


المهم أن محمد خان الذي عاش سنوات طويلة في لندن، وسبقني بالطبع كثيرا، تعود ذكرياته بالتالي إلى الزمن الأجمل بلا أي شك، وهي حقبة الستينيات التي غيرت تاريخ الدنيا (هناك بالمناسبة عدد من الكتب المهمة حول تأثير الستينيات وثقافة الستينيات وفنون الستينيات) كما لم تفعل أي حقبة أخرى في القرن العشرين، فقد كانت سنوات للغضب والثورة والتمرد على كل ما هو سائد من فنون، وفيها ظهرت أكبر حركات التجديد في السينما والموسيقى والمسرح وغير ذلك.
أود ايضا أن اقول إنني كنت أريد أن يختتم كتابي "حياة في السينما" بهذا الفصل الحميمي الذي ابتعد فيه عن الهموم المصرية والعربية، وأعود إلى البدء.. أي إلى السينما، وإلى دار العرض السينمائي تحديدا التي ولدنا فيها وتعلمنا في داخلها السينما، أظن أنا ومحمد ايضا، فقد كانت وسيلتنا الأولية لتعلم السينما هي المشاهدة والقراءة والمناقشات سواء في نوادي السينما، أو بعد ذلك في دور السينما الفنية في العاصمة البريطانية التي أحتفظ لها بذكريات رائعة وأعتبرها مدرستي السينمائية بحق.. لكن الاقدار وحدها شاءت الا ينشر هذا الفصل في الكتاب، ربما لكي يصبح متاحا لقراء هذه المدونة بشكل مباشر.
وقد أسعدني أن اتلقى ثلاثة رسائل أخرى من محمد خان يذكرني فيها ببعض دور العرض اللندنية، منها ما أتذكره، ومنها ما لم أعايشه أو الحق به، فقد وصلت بعد أن زال من الوجود أو تحول إلى محلات أخرى.

وأنا أود هنا ان أشيد بذاكرة محمد خان، بل وأتمنى أن يعكف على كتابة مذكراته اللندنية بكل ما فيها من مغامرات في السينما وغير السينما، فسيكون هذا كتابا رائعا لنا جميعا.
المهم.. بعد ان تلقيت رسائل محمد، شعرت شعورا غامضا جميلا، بالرغبة في استعادة كل ما ذكره، بالعثور على صور لدور العرض التي ذكرني بها، كيف كانت وكيف أصبحت، وبدأت رحلة بحث مضنية، وتمكنت من جمع عدد من الصور التي أود ان اقدمها لقراء هذه المدونة من أصدقائي عشاق السينما، وعشاق دور السينما الحقيقية وليس "علب الافلام"، كما أقدمها أساسا، إلى صديقي محمد خان، لدعم هذه الذاكرة المشتركة بيننا، وتزويدها بالجزء المرئي منها، أي الصور. وارجو أن يساعده هذا بل ويحفزه على كتابة ذكرياته. وانا على استعداد لمراجعتها وإعدادها للنشر، والناشر موجود فعلا.
سألني محمد عن الدار السينمائية الملاصقة لسينما امباير في ليستر سكواير، واقول إنها ليست ملاصقة تماما. دار امباير القديمة التي أشار إلى أنها كانت مرقصا في الماضي، لابد أنها قسمت إلى دار عملاقة للسينما (هنا بعض الصور) ومرقص او ديسكو و ربما أيضا كازينو، أما السينما التي تبعد عدة خطوات عن مبنى إمباير فهي تدعى حاليا سينما فيو Vue وكانت من قبل Warner Village بعد أن تم تقسيمها إلى 9 قاعات تحت وفوق الأرض أو ربما 10 أيضا لا أتذكر بالضبط فلست من هواة التردد عليها بعد أن أصبحت مجموعة من العلب، وغالبا كانت تسمى قبل ذلك سينما كلاسيك أي ضمن الشبكة الشهيرة وقبلها كانت جزء من شبكة ABC ايه بي سي. أما سينما بلازا يامحمد فلم يعد لها وجود الآن بكل أسف.. وكذلك السينما الأخرى التي كانت موجودة في شارع هاي ماركيت على ناصية صغيرة، وهي أوديون هاي ماركيت، فقد فوجئت قبل فترة قصير باختفائها من الوجود ايضا، ولاتزال السينما الصغيرة في أول بيكاديللي ستريت موجودة لحسن الحظ.
أنشر هنا رسائل محمد الثلاثة كما وردت.. والصور تجدونها موزعة فوق وتحت هذه الكلمات مع تعليقاتي عليها.
عزيزي محمد: هل هذه هي الدور التي حدثتني عنها في رسائلك؟ رجاء التدقيق والتصحيح إذا وجدت خطأ ما.. وتقبل تحياتي.

لقطة أخرى لسينما بافيلون التي زالت من الوجود قبل ذهابي إلى لندن عام 1984


رسالة (1)
عزيزى أمير
لندن والثلوج أو الضباب أو الأمطار .. هى لندن التى لها وحشة .. فسينماتها من أول زيارة فى ١٩٥٨ تعود فى خيالى .. والبركة فى مقالك.. هل تتذكر السينما التى كانت فى ِإدجوار رود.. على الرصيف المواجه للأوديون ماربل آرش .. هى الآن اعتقد كافيتريا لبنانية لعشاق القهوة التركى والشيشة والشاورما .. بالمناسبة شبكة دور عرض أوديون وقبلها جومونت وبالمناسبة سينما إمباير فى ليستر سكوير قبل ما تقسم كانت اكبر سينما حجما فى لندن وكانت شقيقتها اللازقة بها وناسى اسمها .. ياريت تفكرنى .. المهم إمباير فى الستينات كانت قاعة رقص ضخمة كان لي مغامرات فيها.. أنا طبعا تطرقت للسينمات عموما ومش بالضرورى متخصصة ويمكن لأن السينما عموما كان حالها أجمل بكثير .. سينما ريالتو بقت محل هامبرجر وسينما بافيليون بقت فرع لشبكة محلات الدى فى دى.. وبما انى بقيت فى البيكاديلى منساش السينما الصغيرة على الناصية فى أوائل بيكاديلى ستريت .. أهى دى كانت متخصصة .. وأخيرا كنت من ضمن اللى وقفوا فى الصف الطويل عشان أشوف تحفة هيتشكوك ـ سايكو ـ فى أول عرض وحفلة ظهرا فى السينما اللى لا تزال موجودة فى ليتل ريجنت ستريت "بلازا " وقطعوها حتت زى بقية السينمات .. مقالك تحريض لزيارة لندن .. حتى لما اتقابلنا فى لندن على ما اتذكر فى شيرنج كروس روود كان فيها سينما فى صف مكتبة فويلز متخصصة كذلك .
كفاية سينمات والسلام.
رسالة (2)
ملحق سريع قبل ما أنسى.. شاهدت فيلمين فى نفس البرنامج
Fritz Lang's M
Henri George Cluzot's
Les Diaboliques
هناك سينما كانت مسرحا أصلا وأعتقد عادت لتكون مسرحا.. وهى خلف شيرنج كروس روود ناحية كيمبردج سيركس.
..
أظن كان برنامج مذهل
تحياتي


لقطة أخرى لعل محمد يؤكدها لسينما لندن بافيلون


رسالة (3)
آخر كلام عن السينمات .. الواحد نسى ثلاث سينمات قديمة
Paris Pullman
اكتشافى أنطونيونى بفيلم L'Aventurra
اللى بعده كتبت خطاب الى مجلة films & Filmingونشر عن تأثرى بالفيلم وأيضا كنت مع شادى عبد السلام وعبد العزيز فهمى نتابع عرض "المومياء"، وكان كتابى عن السينما المصرية فى فترينة السينماوده كانت سينما صغيرة وخاصة جدا، وبعدين فيه سينما اكتشفتها فى حى فكتوريا واسمها Biograph ثم فى ويسترن جروف روود كان فيها Roxy أو كانت غيرت اسمها إلى International film Theatre
واكتشفت تروفو فيها وكذلك فيلم نادر لدى سيكا ـ السقف ـ
بقت اعتقد الآن محل بيتزا.. كلهم قفلوا .. وعلى فكرة السينما اللى فى ادجوار روود كان اسمها Gala Royal وتعرفت فيها على بونويل
عشان كده بأعتبر مدرستى الحقيقية كانت سينمات لندن فى الستينات.
تحياتى

سينما ريالتو التي كانت كائنة في كوفنتري ستريت


سينما ريالتو من الداخل التي ذكرها محمد خان ولم أعاصرها

سينما أيماكس أكبر شاشة سينمائية في أوروبا التي تعرض الافلام المجسمة وأحدثها حاليا "افاتار"

الجمعة، 1 يناير 2010

محمد رضا يكتب عن كتاب "حياة في السينما"


حياة في سينما أمير العمري


هذا مقال الزميل الناقد محمد رضا عن كتاب "حياة في السينما" الذي نشره في موقعه "ظلال وأشباح" وفي صحيفة "الخليج".. وأنا سعيد بالمقال، وسعيد بالجدية التي يتناول بها النقاد كتابا ليس في النقد السينمائي بالضرورة، بل فيما يدور حوله، وداخل دروبه، من خلال زاوية شخصية، تخضع بالطبع للتجربة الشخصية. وهو نوع من الكتابات قليل في عالمنا العربي. شكرا لمحمد وهذا هو مقاله:


من يقرأ كتاب الزميل أمير العمري "حياة في السينما" يجد نفسه مشدوداً الى ذكريات لا يجدها المرء في أي مكان آخر. بالطبع هي ذكريات الناقد الغني عن التعريف، وبالتالي فمن الطبيعي أن لا تكون مطروقة لأنها تعبّر عن حضوره الجغرافي والتاريخي وحده، لكن المثير فيها هي أنها تطرح ما يخص المثقّفين والسينمائيين والمراجعين جميعاً. كما يؤكد المؤلّف في المقدّمة، يروي أمير العمري جانباً مهمّاً من حياته الشخصية. كم هي مهمّة؟ مهمّة الى درجة أن من يمسك الكتاب سيجد أن الغاية ليست الحديث عن ولادة المؤلّف ونموّه وظروفه وارتقائه، ولن يدخل سيرة حياة بالمفهوم البيوغرافي للكلمة، بل سيجد أمامه شريط ذكريات مصوّراً يستعرض فيه الناقد شهاداته على وقائع كثيرة حضرها وعايشها. وإذ يفعل تستطيع أن تجد أمامك كاتباً يقترب مما يورده ليس من باب الإستعراض فقط بل من باب القراءة التاريخية ايضاً.

وعلى نحو طبيعي لناقد، يبدأ العمري كتابه بقراءة تحليلية لأول فيلم ترك فيه تأثيراً جعله ينكب على السينما ويغيّر وجهة نظره فيها. الفيلم كان »الترتيب" لإيليا كازان (1969) الذي يسبر المؤلّف غوره جيّداً ولو أنه تجنّب لوم مخرجه لوشايته بزملائه اليساريين، أبّان الحملة المكارثية، متسبباً في منعهم من الكتابة وحبس بعضهم في سجون المكارثية، مكتفيا، وهذا حقّه، بالمرور عابراً على هذه النقطة.

ينتقل بعد ذلك الى فترة ذهبية من فترات الثقافة السينمائية في مصر (وفي العالم العربي) هي فترة السبعينات ليتحدّث في نحو 56 صفحة عن معايشته لجمعية نقاد السينما المصريين ولمن عاصرهم هناك من المرحومين فتحي فرج وسامي السلاموني الى سمير فريد ومصطفى درويش وحسين بيومي، وهذه الأسماء تتكرر في مشاهدات وفصول أخرى عبر الكتاب الذي يضع نقاطاً مهمّة على حروف تلك الفترة ليكتشف، من عاصرها ولم يعايشها مثلي، أن هناك الكثير من جوانبها لم يكن يعرفه او يصل إليه. ليس على صعيد صراعات داخلية فقط، بل على صعيد هيكلة الذوق الثقافي في تلك الفترة. فأمير العمري لا يُحاسب بل يؤرّخ كاشفاً أوراقاً تعكس إتجاهات نقدية مهمّة تبعاً للفترات التي وقعت فيها.

وهو يشرح، خلال مراجعته تلك، موقف نظام السادات من الثقافة، وموقف المثقّفين أنفسهم وقد تشيّعوا موالين او معارضين٠وبحق يسأل (في الصفحة 46) ملاحظاً ظهور واختفاء جريدة سينمائية صدر منها 33 عدداً وخاضت معارك ضد الثقافة المتطبّعة بالخاتم الرسمي، "عما أصاب، ليس فقط النقد السينمائي في مصر، بل وما حل بالذين كانوا من الأقطاب الرئيسيين في تلك الجريدة في السبعينيات"٠سؤال مرير إذ لا يمكن الإجابة عليه من دون الشعور بأن جهوداً مضنية كثيرة بُذلت و.. للأسف ضاعت.

كتاب أمير العمري يحرّك الماء الراكد بحرارته المعهودة، وما يطرحه هو ما يشغل باله الى اليوم٠ في فصل آخر يتحدّث عن ثلاث شخصيات عاصرها وتداول معها هي يوسف شاهين وعبد الفتاح الجمل ورشيد مشهراوي. هنا يكتب عن لقاءاته الأولى مع هذه الشخصيات فينسج بذلك مادّة هي مثار اهتمام القاريء الذي يشعر بالفضول لمعرفة، لا رأي الناقد بمخرجه او بالشخصية الإعلامية المعيّنة فقط، بل أيضاً بكيف اقتربا وتعرّفا وما هو رأي الناقد في كل منهم على حدة٠ويلفت الإهتمام كثيراً، كيف قيّم أمير العمري فيلم شاهين "عودة الإبن الضال" بكلمات تخالها من كتابة الوقت الراهن ما يدل على وميضها الخاص. فالناقد يدل على ما اتفق عليه العديد من النقاد فيما بعد وهو أن تشتت المخرج الفكري "ينعكس في أركان كثيرة من فيلمه، حيث نرى كيف يبدو "علي" (البطل) في بعض المواقف كأنه لا يزال يحتفظ بصدقه وطهارته ورغبته في مساعدة إبراهيم رغم الإدانة القوية التي يوجهها له (المخرج) في الفيلم"٠ نفس الإثارة الذهنية نجدها في الفصل التالي المعنون "في لجان التحكيم والمهرجانات" حيث يسرد تجربتين هما في ذات الوقت طريفتين ودالّتين. واحدة وقعت فصولها في مهرجان أوبرهاوزن الألماني، والثانية في مهرجان طهران. لكني لم أكترث بذات القدر (وهذا رأي شخصي) باليوميات التي سردها عن المهرجانات الأخرى، ربما بسبب اعتماده على صيغة اليوميات التي كنا قرأناها في أماكن أخرى٠

الاثنين، 28 ديسمبر 2009

الساحر و المهرج و خيمة السينما


شهادة شخصية حول "التورط" في السينما ومعنى أن تكون على الهامش


بقلم: عماد إرنست

"كل شيء في النهاية فكاهة
وسأظل شيئا واحدا، وشيئا واحدا فقط، مُهرّج؛
وذلك يضعني على مستوى أعلى يفوق أي سياسي"
شارلي شابلن

غالباً ما يكون المهرج Clown بهلوانا سابقا، أي لاعب حبل أو ترابيز أو آكل نيران أو ممارس للعبة ما خطرة من ألعاب السيرك، ولكن، ونظراً لظرف خاص من الإصابة أو التقدم في العمر أو لظهور لاعب آخر يجيد ذات الوظيفة بطريقة أكثر ملائمة لأغراض استمرار الجذب، يتم استبداله موجهين إياه نحو إضحاك الجمهور بحيل وطرائف، جد جاذبة، وتقدم على فترات لتوفير إيقاع عام لبرنامج الليلة. إلا أنه، وفي حالة إستثناء خاص من هذا، وحين يكون هذا المهرج The Clown جزءا عضويا إستثنائيا من تاريخ السيرك ذاته؛ أي بمثابة خزين لذاكرة السيرك العضوية والثقافية، ويكون قد سبق له الظهور كلاعب ماهر وموهوب في ألعاب كثيرة من ألعاب السيرك السابق ذكرها، حينئذ، وحينئذ فقط، يوظف بإرادته ملكاته تلك التي تكون في إنتظار لحظة يتم فيها الإحتياج لها؛ إما بسبب إعياء مهرج آخر، أو لسقوط بهلوان لسبب ما؛ كخطأ غير متعمد من الغير، أو من الصدفة، أو من الغرور، أو من نسيان أو إهمال للحرفة!
لكنه، عندما يتقدم لتقديم هذه الفقرة، فهو يقدمها في ذات بذلته المرقعة الألوان، مع إضفاء للصفة الهزلية عليها، ودون تكبر على أي فقرة كانت، وذلك لأن عينه دائماً تكون على حيوية الخيمة وعدم تركها لتيار صقيع يأتيها من ثقوب زمنية ضعيفة بفعل أسنان فئران إنطلقت من محض صدفة تاريخية، ليتفاجأ حينئذ الجمهور بمدى أصالة مهاراته ومواهبه واجتهادته، ناهيك عن تكثيف مرحه عبر الإيجاز والإسناد في أي فقرة سيتولى تقديمها.
إنه فنان استثنائي يحيا داخل الخيمة، ولا يطيق الخروج منها، وإن خرج حملها معه ثم عاد إليها، إما أكثر مهارة، أو أكثر صقلاً، أو أكثر وعياً بفكرة السيرك. فنان سينتظره الجميع برغم ما قد يطويه في داخله من مشاعر وأحاسيس نحو حدث وزمان ومكان عالمه الدائري الصغير والواسع في آن.
قد تتعجب أيها القاريء من هذه المقدمة، وربما تتعجب أكثر من جرأة إلصاقي لاحقاً لنفسي بهذه الصفة، والتي قد تكون مثار تندر من البعض من يجلسون في الخيمة على مقاعد مجانية منحت لهم بطريقة ما ـ أحب أن أصفهم بالمتفرجين بالمجان ـ ودون امتلاك لحس متفرج سيرك أصيل، أو حتى رغبة أصيلة في أن يصبحوا لاعبي سيرك؛ فهم، في النهاية، ينظرون للحبل بأعلى ولا يمكن بأي حال، أن يكون لديهم استعمال أخر له سوى احكام غلق "كراتين" ثقافتهم الرثة! بل وقد يثير حفيظة بعض مثقفي اليسار أن أقول إن ثمة نقاط تماس ما بين مفهوم المهرج هذا وبين مفهوم جرامشي عن المثقف العضوي.
متى قررت ارتداء هذه البذلة ؟
أولاً، وقبل الإجابة، علي أن أوضح أنني لا أدعي هنا، بأي حال، أن هذه الصفة لصيقة بي وحدي؛ فثمة من يشاركني فيها في خيمة الثقافة السينمائية. وللتأكد؛ عليكم قراءة كتاب "حياة في السينما" للمثقف والناقد أمير العمري للتعرف على المجهود الذي بذل في السبعينيات من جانب النقاد والسينمائيين والذين كانوا في تعاضد نادر لضخ الحيوية في خيمة السينما المصرية. ولتفسير علاقتي بهذه الفترة علي أن أحيطكم علماً أيضاً بولهي في إكسسوار خاص ينتشر في منازلنا ولكنه يمثل أيضاً جزءا أصيلا من أية خيمة ثقافية سينمائية.
إنه .. الدولاب
وما جعله يلح على ذهني في الفترة الأخيرة كان الكتاب سالف الذكر، فقد استدعى هذا الكتاب ذكرياتي مع دولاب خاص كابي اللون وعتيق ويصعد حتى يلامس سقف خيمته، إنه دولاب نشرات سينما جمعية النقاد في مركز الثقافة السينمائية، والذي تحول في أواخر الثمانينيات أثناء تجولي بين سينمات وسط المدينة ومحال البسبوسة والآيس كريم إلى مزار، مثله في ذلك مثل دواليب مراكز ثقافة دول شرق أوروبا أو غربها أو الهند أو شرق آسيا أو أمريكا. كنت أزوره بشكل دوري حاملاً حقيبة ظهري لكي أغترف من خاناته الضيقة، والتي بدت وكأنها صنعت خصيصاً لتلك النشرات خفيفة الوزن والمستطيلة والصغيرة والمصنوعة من ورق رخيص مصقل قليلاً ومقسم لأعمدة لإتاحة مساحة كافية لأعمدة نقاد لم أتشرف بمقابلتهم ولو لمرة في عمر الشباب. كانوا جميعاً بالنسبة لي فقط أسماء هامة تساعدني على التحصل وعلى المعرفة السينمائية عبر أسماء وأعمال سينمائية لم أكن على صلة بها. وفي الأخير، والأهم، في التعرف على وجهة نظر ذلك الناقد في تركيبة كل ساحر سينمائي أعرفه. والآن، ومن خلال كتاب "حياة في السينما"، أدركت أن هذا الدولاب كان على زوال، وعرفت لماذا كان نهمي في الإستحواذ على أكبر كم من تلك النشرات التي توقف صدور المزيد منها، فقد قبعت خلفه شخصيات لها مواقف، وأخرى كان الصراع أقسى من أن تتحمله؛ فقد مرت بصراعات شخصية، وتناحرات، واحتواءات، واغراءات، وصدامات. وأن ذلك الدولاب كان يمثل لي أحد رموز تاريخ الثقافة السينمائية التي مرت بسطوة سلطة لا تريد لها الصيرورة وتعمل بحذق على فك وصلات ترابط هذا الدولاب.
لكن، لماذا لم يقدم أحد في التسعينيات على رتق ما أكلته الفئران في نسيج الثقافة السينمائية في مصر المحروسة؟ نعم مرت محاولات مخلصة في بث الروح فيها، مثل محاولة إعادة الروح لجمعية النقاد عبر مجلة "السينما الجديدة"، أو عبر جهد فردي من الممثل الموهوب موهبة استثنائية والمثقف والرجل المحترم محمود حميدة، والمتمثل في مجلة "الفن السابع"، والتي سعت لسد فراغ المطبوعة السينمائية المتخصصة، ولكنها أنهكت بمشاكل أعتقد أنها في مجملها تنتمي لسعيها الطموح نحو بريق سينمائي طباعي فاخر يعلن رغبة في أن تكون متخصصة وأن تمثل، في آن واحد، مجمل أطياف السينما حتى التجاري منها، مع أنها إذا كانت صدرت في أرخص شكل متخصص لكنا جميعاً تلهفنا عليها بذات التلهف منذ طبعتها التجريبية الأولى؛ فقد ضمت بين طياتها نقادا محنكين، وواعدين، وكتاب كلمة ينصت لهم.
والآن .. يجب أن أخرج السؤال الأول من ذلك الدولاب..
متى قررت ارتداء هذه البذلة ؟
إنه سؤال يجبرني علي أن أعود بذاكرتي إلى المرة الأولى التي لمست يدي فيها خامات المكياج أمام المرآة. وكان ذلك في أول محاضرة عملية للمكياج في المعهد العالي للسينما. أذكر أني، وبعد تعرفي على خطوات تشكيل وجه المهرج، جلست أمام مرآة غير مصقولة، وتقليدية في شكلها المزروع في ثلاثية، إطارها لمبات صفراء، متناوباً التحديق في خامات الأوان وفي وجهي تساؤل، عما يجب أن يكون عليه مهرجي، وأية خطوط ستمثله، هل سأستعيد خطوط وألوان مهرجي سيرك التلفاز، أم هل ستكون تلك الخاصة بممثلي الكابوكي والذين شاهدتهم في لمحة خاطفة في فيلم قديم، يا إلهي لقد كان من الأبيض والأسود!
أولئك الممثلون المذهلون الذين تعرفت على إبداعهم لاحقاً. أذكر أني صرخت وقتها: أين نصف كرة البنج تلك الخاصة بأنفي !!؟. لم يجبني أحد، بل وعلق استاذي وقتها بأن علي الإنتهاء سريعاً فقد اقترب ميعاد انتهاء المحاضرة، إلا أن ذلك لم يثنيني عن أن أختار، وبدقة، ذلك التحول من وجهي الطبيعي إلى وجهي الثاني؛ وجه "مهرجي".
نعم هناك أقنعة كثيرة نرتديها على مدار يومنا، إلا أن ما كان يجذب ذهني وقتها كانت تلك الأقنعة الأنثروبولوجية التي توالت على مدار تاريخ البشرية بتنوعاتها الثقافية والعرقية، ومن بين أكثر تلك الإقنعة إثارة لذهني كان قناعا الساحر والمهرج، واللذان قفزا بذهني أمام مرآة المكياج، الأول تتطور تركيبته ولا تتغير، وأرتديه منذ ميلادي، ثلثه إنسان وثلثه حيوان وثلثه الأخير فنان/ مخرج، إنه مزيج ثلاثي يتعارك دائماً في الخطوط والملامح. أما الثاني، وهو ما اقتنصته في هذه اللحظة، فقد كان قناع المهرج الغاضب على خيمة السينما؛ ففي وقتها كانت السينما المصرية في تراجع على مستوى الكيف والكم على حد سواء. حدقت في وجهي وأخذت أضع المادة الأساس، ثم بعنف حاد خططت الحزن والغضب على ملامحي.

وبينما كان زملائي يتوجهون سريعاً نحو دورة المياه لإزالة هذه الملامح الإضطرارية كنت أسير بوجهي هذا في المعهد، متنقلاً بين طوابقه الثلاثة، في إعلان صريح عن قناع خرج من داخلي في لحظة غضب واستمر معي إلى الآن. إنه قناع مهرج أعلن غضبه على "مستقبله" في السينما الفنية.
الساحر يبدع حيله في غرف مغلقة، أما المهرج فدوره يكون في الميدان. والإثنان هما دائماً في تعاضد وعملية تكثيف متبادل للخبرة والمعرفة وتنقية دائمة عبر غربال القناعات، يا إلهي ما أضيق ثقوبه الآن!.
ذلك ما مررت به منذ تخرجي من المعهد من قسم الإخراج في عام 1993. لكن ما كان يشغلني وبشكل تام كان الساحر وربط حيله بأفكاره، وكلما ارتبط بالحيل أكثر وزاد استغراقه فيها وتلمسه لكيفية نقل أفكاره للحيل، "للشكل"، كلما زادت حيرته حين يخرج من غرفته المغلقة إلى الميدان، فقد أحس بالمسافة الشاسعة بين الساحر وبين خيمة السينما، وكلما زاد شعوره هذا كلما تقلقل معين الغضب في داخله مجتذباً معه إلى أعلى، الحاجة الماسة لقناع المهرج الغاضب والإيجابي. فكتبت في إبريل 2002 نص "موت البديل" والذي لفت النظر فيه للتماس المتواتر لتجارب كل من يسري نصر الله وأسامة فوزي ومصطفى ذكري وزكي فطين عبد الوهاب مع مصطلح السينما المستقلة. ثم شاركت في سبتمبر 2002 بأفلامي ـ تلك المنتجة ذاتياً منذ 1998 وحتى 2001 عبر دعم تقني بمعدات ورشة مؤسسة بروهيلفيتسا للأفلام المستقلة والتي يعود الفضل في اشتراكي فيها للمخرج الصديق أحمد حسونة ـ في مهرجان الإسماعيلية وذلك في برنامج مصاحب للمهرجان قام بإعداده المخرج أحمد رشوان عن السينما المستقلة، والذي شاركت في مطبوعته الخاصة بنص "موت البديل". وكذلك شاركت في تظاهرات عدة، تحمل أسماء شتى. تظاهرات كانت كلها تعود علي، وقد أدعي، وعلى الآخرين، بفائدة واحدة وهي عرض الأفلام فقط، دون نقاش حقيقي لجوهر جملة سمعتها ترن من خلفي بقاعة مركز الإبداع 19/12/2002 من متفرج مصري يبدو أنه قد قدم من خارجها بعد غياب طال. إن صوته ما زال يرن في أذني "يظهر إنه بقى فيه سينما جديدة في مصر!".
وفي كل نقاشاتي وندواتي كنت أسعى نحو فك طلاسم هذه الجملة التي باتت تؤرقني جمالياً أكثر منها انتاجياً. إلى أن أتى عام 2003 وقررت المساهمة مع شقيقتي المونتيرة هناء ارنست، صاحبة الفكرة، في تأسيس ملتقى الأفلام المستقلة وفك طلاسم هذه الجملة عبره.
" يظهر إنه بقى فيه سينما جديدة في مصر"!
وبصفتي "مستشار فني" ـ إسم جديد ذو بريق خادع لأي مهرج غير أصيل ـ قررت ألا يسيطر الساحر على المهرج أو العكس، وألا يسيطرا، على حد سواء، على هذه الخيمة، والذي كان إختيار اسمها موفقاً للغاية، ملتقى، وأرجعه تحديداً إلى جلستنا، شقيقتي وأنا، مع المثقف المحترم الأب وليم سيدهم مدير جمعية النهضة في جيزويت القاهرة، ذلك المكان الذي استضاف أول دورة للملتقى ثم انتقل بعدها لأربع دورات في استضافة المركز الثقافي الروسي وعبر تعاون حميم من أ. شريف جاد.
نعم أدعي، كساحر مرتقب، أنني أملك خصوصية فنية في علاقتي بوسيط الفيلم، وأنني أحترم صنعتي أيما احترام، وأني مصاب بداء التأني الفني. ونعم أدعي أيضاً بأني لدي، كمهرج، معرفة كافية ومهارات تتعلق بمعظم عناصر الفيلم وثقافته جعلتني، بالإضافة لكوني مخرجا وكاتبا للسيناريو ومصورا ومهندس صوت محترف ويعمل لصالح الغير، أعمل كدراماتورجي حاز على ثقة الآخرين في مجاله، بل وزادني إنغماسي في الملتقي امتلاكاً لمهارات جديدة مثل تصميم الجرافيك والتحرير الداخلي، ومهارات أخرى، أجدها غاية في الصعوبة، كمهارتي توزيع الكتالوجات وغلق الباب بعد دخول كل متفرج يأتي متأخراً! أما الأكثر امتاعاً بالنسبة لي فهي مهارة "البلاسير" عبر ضوء الموبيل وخاصة حين تكون يد ناعمة تبحث عن كرسيها بالظلام. برغم كل هذا، إلا أني قررت، ومنذ اللحظة الأولى، ألا أدع إحترامي للصنعة، أو وجهة نظري تجاه وسيط الفيلم، أو مدى جودة علاقتي بأي فرد تجحف من حقه في ممارسة التجربة الفنية أو حقه في عرضها، وذلك ليس تفضلاً مني بل ينبع من قناعة داخلية في معنى الحرية ومن مقتي لفكرة السلطة القابعة في مكان مظلم وعميق داخل كل إنسان والتي سبق وأن تناولتها في فيلمي القصير "مياهي المظلمة".
لذا، عرضنا على مدار الخمس دورات منذ 2003 وحتى 2007، كل دورة ثلاث أيام، الفيلم الروائي، القصير والطويل، والتسجيلي، القصير والمتوسط والطويل، والأفلام التجريبية، وفنون الفيديو، تعقبها يومياً مناقشات مع صناع الأفلام (2). وحددنا منذ البداية معايير ملتقى الأفلام المستقلة على النحو التالي (3)
(1) عبر أفراد يعشقون السينما سيتخطى هذا الحدث الفني كل إعاقة ناتجة عن أمور مادية أو نفسية.
(2) من يحكم على جودة الفيلم هو المتفرج؛ تأسيساً لعلاقة مباشرة بين صانع العمل الفني والمتفرج.
(3) لن توجد لجنة مشاهدة، إلا فقط من أجل التأكد من جودة نسخة العرض.
(4) لن توجد جوائز؛ للابتعاد عن تداعياتها البغيضة.
(5) لن توجد لجنة تحكيم؛ للتخلص من سلطاتها وتحيزاتها الجمالية والشخصية.
(6) لن نتلقى دعم من أية جهة وستكون التكلفة علينا؛ سداداَ لديننا لمن صنعوا السينما الفنية المصرية.
(7) عرض أفلام مستقلة من خارج مصر؛ للتواصل مع تجارب المستقلين في العالم.
(8) على صناع الأفلام والنقاد والمتفرجين أن ينتجوا مع الزمن تأكيدا لمصطلح الاستقلال الفيلمي المصري أو تبني مصطلح / ات أخر/ يكون/ تكون أقرب ثقافياً وفنياً وإنتاجياً لما يحدث من توجه/ ات.
وتألف فريق عمل الملتقى بشكل أساس من :
هناء ارنست ـ المؤسس والمير الفني
عماد ارنست ـ المستشار الفني
عزة يوسف ـ المدير التنفيذي
وقطعاً ساهم الأصدقاء في انجاز أول نافذة عرض دورية متخصصة للفيلم المستقل بمصر، "ملتقى الأفلام المستقلة"، ذلك الحدث الثقافي الفني الخالص ذو الطابع الأهلي والفردي؛ لذا فيجب توجيه التحية لكل من الأساتذة عادل لطفي ووليد سامي وطارق عزت وحمدي رضا وأحمد خالد وعبد الحكم سليمان ورجائي موسى ورجب هارون وتيجر شتانجل ودميان وإيدا فارووم وأحمد يونس وأمل فوزي و أ. سيد فتحي و د. خالد سرور و أ. مجدي الطيب، وبخاصة، تحية لكل من الأب وليم سيدهم و أ. شريف جاد، وكل من ساند التجربة من صناع أفلام أو جمهور.
وفي الأخير، وبعيداً عن سعي البعض لاستغلال المصطلح للصعود فوقه على تبة عند رصدها ثقافياً وفنياً ستنهار بالضرورة، أو للمرور منه نحو بعد تجاري يكمن، ولكنه حتماً سيظهر. أقول، في الأخير، لقد سعينا في إخلاص نحو بث الحيوية في خيمة الثقافة السينمائية المصرية، دون تربح منها أو حاجة إلى صفة تلصق بنا، ونرجو أن يكون سعينا قد نال بعضا مما أملنا فيه، في هدوء، وفي ترفع عن إنكار الوجود، ودون صدام المراهقين اجتماعياً وسياسياً ومحاولات الاحتواء البائسة والمزرية؛ ففي النهاية تلك خصال بهلوانات وليست في أي حال خصال ساحر/ مهرج أصيل.

هوامش:
(١)سبق أن طلب مني الأستاذ أمير العمري نشر نص "موت البديل" على مدونته لوعيه بالحاجة إلى نقاش معنى مصطلح الإستقلال، وقد أتى هذا النص كمزيج أيضاً بين حاجة داخلية وطلب منه لتوثيق شهادتي عن ملتقى الأفلام المستقلة.
(٢) أغلب صناع الأفلام المستقلة عرضت في الملتقى أفلامها، وعلى سبيل المثال لا الحصر : أحمد حسونة ونادر هلال وأحمد رشوان وكريم فانوس وعماد ارنست ومحمد محسن ومحمود سليمان وأيتن أمين وسلمى الطرزي وأحمد عبد الله وتامر عزت وعبد الفتاح كمال وأمل فوزي ووليد مرزوق وأحمد أبو زيد وحسن خان وإياد طه وابراهيم عبلة ونادين خان وأمير رمسيس ومحمد قابيل ويوسف هشام ويافا جويلي وكريم حنفي ومحمد فتحي وجانيت رزق ودعاء عجرمة وأحمد خالد ومحمد حماد ومحمد نصار ودينا حمزة وهديل نظمي وعماد نعيم ورامي عصمت ومنى مكرم وداليا الرشيدي وهالة المدني وعماد مبروك وعلية البيلي .. ومن فناني التجريب والفيديو، كمثال أيضاً، شادي النشوقاتي وأحمد الشاعر وخالد حافظ وعماد ارنست وهاني الجويلي وصباح نعيم .. وكذلك تم عرض الأفلام الروائية الطويلة "حبة سكر" لحاتم فريد وفيلم "إيثاكا" لإبراهيم البطوط، ولقد أثرى جميع من ذكرت أسمائهم، أو نسيتها بفعل الذاكرة، الملتقى بشرائطهم الفنية .
(٣) تلك المعايير كانت محل نقاش دائم بيننا جميعاً، وتم الإستقرار عليها دون حاجة في إعلانها؛ لأننا كنا بصدد الإنعماس في المجهود، لا البيانات أو ما شابه. تماماً وكما إنغمسنا في الجهد ونسينا، أو لعلنا لم نكن نتقن، التواصل مع الصحف والدعاية عن الحدث، وكما يفعل أخرون أكثر خبرة في تأثير الميديا وكيفية استغلالها لمساندة جهدهم، وهو ما أخذه الكثيرون علينا. ولعل ذلك يعود إلى طابعنا الشخصي جميعاً في عدم حب الظهور او الطلب من قلم يعرف ما نبذله، ولكن ولسبب ما، إلى الآن لا أفهمه ولا أرغب حتى في فهمه، لم يتفاعل بقلمه مع الحدث، بل وأحياناً إنكار لوجوده، رغم وضوح نقائه للجميع من أي غرض في التربح أو الشهرة. وربما، وفي الأخير، لقناعتنا بأن الميديا قد يكون لها أيضاً تأثير سلبي علينا وعلى طابع محاولتنا ذاته.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger