الأحد، 8 نوفمبر 2009

الست سهير ومهرجانها وقوانين الطبيعة

ظهرت "الست" سهير عبد القادر التي تطلق على نفسها لقب "نائبة رئيس مهرجان القاهرة السينمائي" على شاشة التليفزيون المصري الحكومي في حلقة سخيفة من برنامج "البيت بيتك" وهو برنامج يمتليء عادة بالدعاية للدولة، ولرموزه، ويدافع بشكل ممجوج عن "انجازات" حكومة "الخراب الوطني" خاصة عندما يكون مقدمه هو المذيع ثقيل الظل تامر أمين بسيوني (الذي حل على أدمغة المشاهدين بالعافية بنفوذ والده الإذاعجي السابق في إطار توريث النخبة المصرية مناصبها لأبنائها).
ظهرت "الست" سهير عبد القادر لكي تدافع عن نفسها، وعن "مهرجانها" الذي لا يمكن أن تفرط فيه أبدا بل ستبقى كابسة على أنفاسه وأنفاسنا (حتى آخر نفس). ولكي تثير الشفقة بعد أن ارتدت مسوح الملائكة، ووضعت من المساحيق والرموش الصناعية والعدسات البلاستيكية ما لم ينجح في مداراة الفشل الذريع للزمن والطبيعة، أخذت تحدثنا عن مهرجانها الكبير وكيف أنه سيعرض فيلم "المومياء" تحت سفح الإهرامات.. أي في عرض سياحي لابتزاز السياح السذج المنبهرين بفكرة المقارنة بين الفيلم والطبيعة، وهي مهزلة حقيقية، فهل هذا عرض سينمائي رصين يليق بأي مهرجان؟ وكيف يمكن أن يركز اي جمهور وهو يشاهد فيلما بينما حوله هذه المناظر للآثار القديمة، ولعل هذا كان وراء انسحاب المخرج الكبير مارتن سكورسيزي (الذي تحملت مؤسسته انقاذ وترميم نسخة الفيلم وليست وزارة الثقافة المصرية كما يزعم البعض) فقد أعلن سكورسيزي أنه لن يحضر إلى المهرجان بسبب عدم توفر شروط ملائمة لعرض الفيلم. لكن "سهير" تبدو فخورة جدا بأنصاف وأرباع نجوم على شاكلة ممثل أمريكي مغمور يدعى بيرجر أو بيرنجر، وممثلة تليفزيونجية تدعى لوسي لو!
تكلمت الست كثيرا عن مهرجانها على طريقة الرئيس السادات الذي كان يعتبر الجيش المصري "جيشي"، والشعب "شعبي" والجنود "أولادي"، ولو أن السادات كان يتميز على كل الكائنات الموجودة حاليا حولنا، بأنه كان يلهمنا بتأليف النكات، في حين أن إخوانا الكابسين على أنفاس شعبنا حاليا يتميزون بثقل ظل من النوع النادر، ولذلك فهم يختارون للمناصب العليا والاعلامية خصوصا، كل اصحاب الظل الثقيل، وفاقدي روح المرح مهما حاولوا "الاستظراف"، وأخص بالذكر بالطبع، المدعو تامر أمين وأمثاله داخل "الصندوق السحري" أي التليفزيون.. ويمكن لتامر أمين، إذا أراد بالطبع، أن يقاضيني، فسأكون تحت طرف القانون الأسبوع القادم حين أحل ضيفا "أجنبيا" على بلدي.. باعتباري من "السكان الأصليين حملة جوازات السفر الأجنبية"، أي أنني في عرف تامر أمين وأمثاله المتنطعين، من "الخونة والعملاء".. علما بأنه سبق أن وجه له صحفي في صحيفة معارضة تصدر في مصر، من خلال مقال منشور، تهمة العمل النظامي المدفوع كضابط في جهاز مباحث أمن الدولة، وذكر رتبته والعمل الذي يقوم به تحديدا والمرتب الذي يقبضه، دون أن يتجرأ تامر أمين على أن يرد عليه أو ينفي التهمة أو يقاضيه.. فأمثاله يعتبرون العمالة للمباحث، وكتابة التقارير ضد زملائهم "مهمة قومية" تستحق التقدير!
وعموما يمكنني في المحكمة ان أطلب أكثر من 500 شاهد اختاروه على شبكة فيسبوك "أسوا مذيع".. وطبعا، أثقلهم ظلا، مثله في ذلك مثل كل "أحذية النظام" من الصحفجيين والإذاعجيين الذين يوظفون سماجتهم لخدمة أسيادهم!
المهم أن "الست" سهير أخذت تصول وتجول، وتسبل عينيها، وتدافع عن نفسها وعن مهرجانها الذي أتم ثلاثة وثلاثين سنة لكنه لايزال يتعلم.. فعندما انتقد الناقد طارق الشناوي (وكان معها على الهواء) عدم التزام دور العرض ببرنامج عروض المهرجان، أقرت بصحة الأمر، وتعهدت بحل المشكلة، كما لو كانت المشكلة قد ظهرت اليوم فقط وليست مستمرة منذ أن ظهرت المرأة الحديدية في الصورة في مكتب المغفور له سعد الدين وهبه قبل نحو ربع قرن!
طارق الشناوي كان لطيفا ومهذبا، ربما أكثر مما ينبغي، مما دفع الست إلى استثنائه من لسانها، اكتفاء بـ"التلسين" على من حاولت وصفهم ففشلت، فما كان إلا أن أسعفها طارق الشناوي فسماهم لها- على سبيل السخرية بالطبع- "الأشرار" الذين يهاجمون المهرجان (ونسيت أن تضيف... ومصر).
لكن طارق الشناوي كان ينبغي أن يلفت نظرها إلى حقيقة أن وجودها على قمة المهرجان لربع قرن أمر يتعارض مع قوانين الطبيعة نفسها حسب هيجل، وحسب هيكل أيضا، أي انه ضد طبيعة الأشياء، بل وضد علم الفسيولوجي نفسه!
ونسى الشناوي، أو تجاهل تأدبا، أن يقول لها إنها استولت على هذا الموقع الذي تشدقت بالقول إن الوزير (من الوزر) أصدر لها قرارا يكفل حقها فيه وإنه لم يكن هناك مدير للمهرجان سواها من البداية، ولا نظن أن أي وزير يملك اصدار قرار أبدي للست سهير وأمثالها يكفل لها أن تجثم على أنفاس المهرجان للأبد.
لقد تجاهل طارق الشناوي حقيقة أنها مثلها مثل وزيرها الرسام القابع على صدر الثقافة المصرية منذ نحو ربع قرن هو الآخر، وأن هذا هو منطق الأمور في مصر منذ أن رحل عنا "الرئيس المؤمن".. ولاشك أن هذا الوضع سيظل كذلك، طالما ظلت النخبة مستنزفة يوميا، إما في توريث ابنائهم وضمان مستقبلهم في حوض الفساد، وهو أعظم من حوض المتوسط، أو الدفاع عن حرية النقاب والمتنقبات "شرا".. والعياذ بالله!

السبت، 7 نوفمبر 2009

في مهرجان أوسيان للسينما الآسيوية والعربية



كانت تلك هي المرة الأولى التي أذهب فيها إلى الهند، تلك الدولة العظيمة بتاريخها الشامخ، لكي أشارك في حضور الدورة الحادية عشرة من مهرجان أوسيان، الذي خصص برنامجه منذ عامين للسينما العربية والآسيوية في مبادرة هي الأولى من نوعها في العالم غير الناطق بالعربية، أقصد أنها المرة الأولى التي تبدي فيها دولة من الدول الكبرى في مجال صناعة السينما هي الهند (التي تعد الأكبر على الإطلاق) اهتماما بالترويج لسينما أخرى ضئيلة الحجم مقارنة معها، هي "السينما العربية"، أو بالأحرى، الأفلام التي تنتج بشكل متفرق في البلدان العربية (باستثناء مصر).المهرجان أقيم في الفترة من 24 إلى 30 اكتوبر.
وكان المهرجان قد تعرض لبعض المشاكل التي أعاقت انطلاقه في موعده المحدد في شهر يوليو الماضي، فتأجل إلى الشهر الخريفي، وكان هذا مناسبا أكثر لضيوف المهرجان، لأن الطقس أفضل كثيرا بالطبع في هذا الفصل عنه في قمة فصل الصيف، لكن يبدو أن المشاكل المالية التي ترتبت على الأزمة الاقتصادية العالمية ألقت بظلالها على المهرجان بشكل ما، فتقلص عدد المدعوين، خصوصا من الإعلاميين العرب (لم يحضر سوى كاتب هذه السطور والصحفي سعد القرش) كما تقلص حضور السينمائيين العرب أيضا (حضر من سوريا المخر ج حاتم علي دون أي من أبطال فيلمه "الليل الطويل"، كما حضر المخرج التونسي الياس بكار بفيلمه التسجيلي "حائط المبكى").


الجمعة، 6 نوفمبر 2009

المهرجانات العربية والصحافة

يضحكني كثيرا الذين يشتكون من سوء الخدمات الصحفية في مهرجان ما من تلك التي تقام في المنطقة العربية، شرقها وغربها، فلم تعد هذه الناحية تعد "اكتشافا" لأحد بل أصبحت من تحصيل الحاصل، فالمهرجانات "الدولية" في العالم العربي تتحد ضد الصحافة والإعلام منذ أن بدأت تسير خطواتها الأولى، وأنا هنا أقصد "كل" المهرجانات، لا أستثني منها أحدا.
معروف أن هذه المهرجانات التي تتشدق بالدولية والعالية واستقدام النجوم وأفلام العرض الأول وغير ذلك، لا تقيم أي وزن أو اعتبار لفكرة تخصيص عروض خاصة بالصحفيين والنقاد قبل يوم من عروضها الرسمية. وهم على استعداد لمحاكاة وتقليد كل ما يرونه في مهرجان كان مثلا، من بساط أحمر وحفلات افتتاح وختام واستعراض للنجوم وكلمات مفتلعة على المنصة، وغير ذلك، لكنهم لا يحاكونه فيما يتعلق بهذا التقليد الذي يعكس اهتماما بالصحافة والنقد، فهذا الجانب لا يشغل بال القائمين على أمر هذه المهرجانات، بل إن معظمها يتعامل مع النقاد بشكل فظ، ويعاقبهم على ما يكتبونه من آراء ويطالبهم بشكل مباشر أحيانا، وغير مباشر في معظم الأحيان، بالكتابة بشكل إيجابي، خصوصا عن شخصية رئيس المهرجان، وعيون مدير المهرجان، وكيف أنه المعي وذكي ويفهم في السينما رغم أن علاقته بها عادة ما تكون علاقة مستحدثة مثلما كان الحال مثلا في حالة مذيعة المنوعات التليفزيونية ذائعة الصيت نشوى الرويني (مهرجان ابو ظبي)، أو كما هو الحال مع مقدمة برامج التسلية في قناة الجزيرة الدولية أماندا بالمر مديرة مهرجان الدوحة- بالمر، المسمى الدوحة- ترايبيكا!
المهرجانات العربية تتفق جميعها على تهميش دور الصحافة والنقد والإعلام في كونها على سبيل المثال، لا تخصص قاعة حقيقية للكتابة والاتصالات تكون مجهزة بخمسين جهاز كومبيوتر على الأقل، تتوفر فيها أجهزة الطباعة، خاصة بعد أن أصبح كل الصحفيين حاليا يستخدمون البريد الالكتروني في إرسال مقالاتهم إلى صحفهم. وإذا وجد مكتب صحفي فهو يكون مجهزا بثلاثة أو أربعة أجهزة كومبيوتر في أفضل الأحوال، ويقتضي الأمر أن يصطف الصحفيون في انتظار دورهم الذي قد لا يأتي أبدا.
اما عن المطبوعات فلا وجود لها عادة، وأنا أقصد تحديدا ما يسمى بالكتيبات الصحفية عن الأفلام التي توزعها شركات الإنتاج أو الاسطوانات المدمجة.. فهذه غالبا ما يستولي عليها العاملون في المهرجان لحسابهم الشخصي، أو تهمل شركات الإنتاج والتوزيع ارسالها إلى المهرجانات العربية لأن هذه المهرجانات لا تهتم أصلا بان تفرض إرسال كمية مناسبة منها شرطا أساسيا لمشاركة أفلامهم في المهرجان على غرار ما يحدث في كل مهرجانات الدنيا التي تحترم نفسها!
أما ندوات مناقشة الأفلام فلا قيمة لها عادة، ويعد حضورها في معظم الأحوال، مضيعة للوقت، لأن الاشخاص الذين يكلفون بإدارة تلك المناقشات يتحولون، عادة، إلى مديري دعاية وتسويق للأفلام، ويحظرون توجيه أي تساؤلات أو آراء "خارج النص".. وهو ما يعكس غياب الحرية في مجتمعاتنا على نحو فادح، وتصورا معكوسا لدور النقد في توجيه السينما، واعتبار المهرجان حالة عرس لا يصح ان يقف أحدهم لكي يفسده بآراء "سلبية". وهي في النهاية محنة حقيقية، فكيف تقام مهرجانات تريد أن تكون "دولية" في مجتمعات تفرض الرقابة على الفكر والرأي والتعبير، ولاتزال تتعامل مع الفيلم الأجنبي مثلا على أنه "سلاح للغزو الفكري" و"اختراق مقدساتنا" و"القضاء على هويتنا"، وكلها تعبيرات تافهة لا معنى لها في عصر الفضاء المفتوح، ابتكرها في الماضي القوميون و"اليسارجيون" الذين تربوا في مدارس البعث والناصرية المنغلقة وغيرهما، لإقناع الأنظمة التي يعملون في خدمتها بتوظيفهم من أجل "مقاومة الغزو"!

الخميس، 5 نوفمبر 2009

'المسافر' وحديث الجوائز والمهرجانات


ردّاً على مقال أحمد يوسف


أدهشني كثيرا جدا أن يكتب الزميل الناقد أحمد يوسف مقالا (من اليونيسكو إلى فيلم 'المسافر': مؤامرة لقد خدعنا العدو الجبان- القدس العربي 27- 10- 2009) يعلق فيه بثورته المعهودة، على خروج فيلم 'المسافر' (الذي لم يشاهده) من مهرجان فينيسيا السينمائي (الذي لم يحضره)، بدون الحصول على جائزة، ويعتبر أن هذا 'الفشل' فشل لـ'الأمة' و'الدولة' أي مصر، بسبب غياب ما يسميه بـ'النظام' الذي يضبط الأشياء كما تفعل إسرائيل (من وجهة نظره).
ويقارن أحمد يوسف بين عدم حصول 'المسافر' على جوائز، وحصول الفيلم الإسرائيلي 'لبنان' (الذي لم يشاهده أيضا) على الجائزة الكبرى، معتبرا أن هذا يجسد بالضرورة التقدم الكبير الذي حققته السينما الإسرائيلية، بل ويؤكد أن إسرائيل تعرف - حسبما يرى - كيف 'تتآمر' علينا في المجال السينمائي، ويطالب بضرورة أن 'نتآمر' نحن أيضا عليها في نفس المجال، ويلوم الدولة - المؤسسة- وزارة الثقافة - المركز القومي للسينما - لجنة السينما وغيرها، على ذلك الفشل.ويدين أحمد كل من كتبوا عن فيلم 'المسافر' ويتهمهم بالسطحية والتلعثم وعدم القدرة على تبرير لماذا فشل الفيلم.
وليسمح لي أحمد يوسف أن أختلف معه، وأنا دائما مختلف معه في المنهج والطرح والأسلوب والرؤية، فهو ينظر إلى الإبداع السينمائي، وأقصد تحديدا علاقة الفيلم بصانعه أو بصاحبه باعتبارها علاقة أمة بصراعاتها السياسية والفكرية و'الحضارية'، أي أننا عندما نذهب لعرض فيلم في مهرجان ما فإننا نخوض صراعا مع 'الأعداء' على الصعيد الثقافي، ويصبح الفيلم بالتالي ممثلا للمجتمع والشعب والدولة والنظام، وهنا تصبح مهرجانات السينما ساحة صراع مفتوح ذات أبعاد 'قومية' على طريقة منتخبات كرة القدم التي تحولت مبارياتها إلى حروب مستعرة تغذي نيران الحقد والعنصرية والكراهية!
في حين أنني كنت أرى دائما، أن الفيلم عمل إبداعي فردي، أي أنه يعبر عن رؤية مبدعه 'الفرد' وليس عن الضمير الجمعي العام، كما أنه يمثل صانعه، لا المؤسسة التي صنعته أي الدولة أو وزارة الثقافة في حالة فيلم 'المسافر' تحديدا. وربما يكون الدليل على ذلك أن الفيلم يقدم رؤية سوداوية للشخصية المصرية منذ تسلسل النكبات بدءا من 1948، حتى ما بعد 2001 مرورا بـ1973، وهي تواريخ ذات دلالة دون شك، ويرى الفيلم أنه كلما سار التاريخ إلى الأمام، تراجع الإنسان 'المصري' إلى الوراء (وليس النظام ولا السلطة) وتضاءل دوره وأصبح أكثر 'كلبية' بالمفهوم الفلسفي أي cynical لا يقيم وزنا للبشر من حوله حتى عند زيارته للمشرحة التي يرقد فيها جثمان ابنه 'المفترض' حيث يسخر ويلقي نكاتا سخيفة فجة. ولا شك في أن هناك من أوحى إلى وزير الثقافة المصري فاروق حسني أنه بهذه الطريقة السلبية في التناول، يمكن أن يحقق الفيلم مصداقية في المهرجانات الدولية التي تنبذ عادة الأفلام الدعائية ذات الصبغة الرسمية، ولعل هذا أيضا صحيح بشكل ما.
هذا التفسير لمضمون الفيلم هو بالطبع ما كان أحمد ماهر المخرج ـ المؤلف، يأمل في توصيله باستخدام أبجديات السينما الحديثة. ولا بأس في هذه الرؤية، فلست من المعترضين على أي رؤية مهما اشتط بها الخيال، ولكن العبرة بالتجسيد والتعبير والقدرة على الإقناع. وقد أتاحت وزارة الثقافة للمخرج أحمد ماهر فرصة عمره لتحقيق حلمه الكبير، لكنه أهدر الفرصة تماما بسبب مراهقته البصرية والأسلوبية، وعجزه عن تجسيد فكرته بطريقة مؤثرة، يكون فيها من الشعر، ومن مفردات الحداثة البصرية، ما يغري أي مشاهد في العالم باستكمال المشاهدة، والقدرة على الاستمتاع بالصور والمعاني والرموز التي تتداعى من الصور التي يشاهدها.
وقد سبق أن كتبت ونشرت نحو 2500 كلمة في نقد وتحليل لماذا فشل 'المسافر' في الوصول إليّ أنا - على الأقل - كرجل درب نفسه منذ أكثر من ثلاثين عاما، على مشاهدة الأفلام الصعبة، والمغرقة في التجريد والرمزية واللجوء إلى الاستعارات وغير ذلك من أساليب السينما الحديثة، في حين كتب كثير من الصحافيين الذين ذهبوا إلى فينيسيا - على نفقة وزارة الثقافة المصرية جهة الإنتاج - في مهمة 'قومية مقدسة' لتبني الفيلم والدفاع عنه.
إن احمد يوسف يترحم في مقاله على دور الدولة في الإنتاج، وكأن وجود الدولة في حد ذاته (حتى مع وجود ذلك النظام الإنتاجي الذي يرغب في وجوده) سيكفل إنتاج أفلام جيدة.. ألم تكن دولة الستيينات الأبوية تنتج 'الحرام' و'القاهرة 30'، وكانت في الوقت نفسه تنتج 'من أجل حنفي' و'يوميات عازب' و'خذني بعاري'.. وكل ما عرف بأفلام حرف ب الرديئة (الشبيهة بأفلام المقاولات) والتي أوكلت إنتاجها إلى حلمي رفلة!
إسرائيل لم 'تنتصر'- باستخدام التعبيرات العسكرية - في 'معركة فينيسيا' لأننا تخاذلنا كأمة أو كشعب أو كوطن او كدولة أو كوزارة كما يرى أحمد يوسف، بل لأن الفيلم الذي ذهب أساسا لتمثيل مخرجه أحمد ماهر، وهو فيلم من الإنتاج المصري، كان رديئا من الناحية الفنية، وهو ما أجمع عليه كل خبراء السينما والنقاد الكبار في العالم، ومقالاتهم موجودة ويستطيع أحمد يوسف العودة إليها وأنا أعرف مدى اهتمامه بقراءة المجلات الأمريكية والبريطانية.وقد شاهدت بنفسي في العرض الصحافي الخاص بنقاد الصحافة اليومية (وهو يقام في قاعة خاصة) كيف بدأ الانسحاب الجماعي بعد 6 دقائق من بداية الفيلم، في حين أن فيلما مثل 'تيزا' الإثيوبي مثلا، وهو فيلم يبلغ طوله ساعتين ونصف الساعة، ويمتلىء بالمشاهد المتداخلة بين الأزمنة والأماكن، جعل نفس هؤلاء النقاد في الدورة السابقة (2008) يتسمرون في أماكنهم حتى النهاية ثم يصفقون له بحرارة، وجعل الفيلم يحصل على الجائزة الخاصة التي تمنحها لجنة التحكيم الدولية!
لم تكن هناك مؤامرة، ولم يخسر العرب 'حرب فينيسيا'، ولم تربحها إسرائيل، بل فاز فيلم جاء من إسرائيل، بسبب حرفيته العالية، ورسالته السياسية التي تغري بعض محبي السلام بالتصويت له تحديدا بسبب مجيئه من دولة معروفة بمغالاتها في قوتها العسكرية واستخدامها. لإيجاز ما أردت قوله ليسمح لي الأستاذ أحمد يوسف أن اذكره بالنقاط التالية:

* إن 'المسافر' كان لا بد سيفشل حتى لو عرض على لجنة محايدة في مسابقة مثل مسابقة جمعية الفيلم بالقاهرة، وها هو قد فشل في الحصول على مجرد تنويه في مهرجان أبو ظبي السينمائي الأخير.

* إن فوز الفيلم الإسرائيلي ليس فيه مؤامرة إسرائيلية حتى لو أمدته الدولة الإسرائيلية بالدعم والعون، بل لأسباب لم تخطط لها إسرائيل وإن سعت إليها وخدمتها الظروف، وبينما يعد السعي أمرا طبيعيا، فالتآمر والنجاح فيه في مهرجان دولي يصبح نوعا من الفضيحة الكبرى لأي مهرجان. ولماذا لم تتآمر إسرائيل لكي يخرج أي من أفلامها الثلاثة في مهرجان كان الأخير مثلا بجائزة أو أخرى؟ بل وكيف ذهبت إحدى جوائز النقاد الرئيسية (وكنت عضوا في لجنة تحكيم النقاد في كان) إلى الفيلم الفلسطيني 'أمريكا' وليس الإسرائيلي 'عيون مفتوحة تماما'؟ وعموما يمكن القول إن الفيلم الأفضل في مسابقة فينيسيا كان فيلم 'الرأسمالية: قصة حب' لمايكل مور، وليس الفيلم الإسرائيلي، لكن لجنة التحكيم لم تشأ ان تمنح جائزة المهرجان لفيلم 'مناهض' بوضوح للمؤسسة الأمريكية في الوقت الحالي أي بعد مجيء أوباما.
كتبت مقالا وحيدا تفصيليا عن فيلم 'المسافر'، ولم يكن بأي حال يحمل أي نوع من 'الشماتة' وهي الكلمة التي وصف بها أحمد يوسف ما كتبه 'البعض' عن الفيلم دون أن يحدد لنا هوية هذا البعض، ولعلي لم أر ما يوازي مقالي المشار إليه، من حيث التوسع والتفصيل والتحليل ولو في امتداح الفيلم وتفسيره من قبل 'نقاده' المخلصين الذين رشحوه للإنتاج أو من جانب الذين أوفدوا من طرف الوزارة للتمجيد للفيلم، بل قرأت مقالات صحافية سريعة لا تقول شيئا واضحا.. وقد افترضت أن أحمد يوسف لم يقرأ مقالي لذا فقد أرسلته إليه!
المشكلة ليست في تدخل الدولة من عدمه، بل في الثقافة السائدة في المجتمع، وفي النخبة المثقفة التي لا تعرف سوى استدعاء الدولة للبطش بمعارضيها تارة، أو بالرضوخ تحت التهديد لأفكار من القرون الوسطى والانحناء للعاصفة كما يقولون، فهل تشجع الدولة بالفعل الإبداع وتطلق العنان للتعبير الحر الجريء وتملك خطة لدعم الأفكار والسيناريوهات الجيدة المتوفرة بالعشرات في أدراج أصحابها، أم أنها تصادر بانتظام الإبداع، تارة باسم الدين وتجنب إثارة حساسيات طائفية في مجتمع يفاخر رسميا طيلة الوقت بتماسكه الاجتماعي ووحدته الوطنية، وتارة أخرى، باسم المحافظة على النظام الاجتماعي والأخلاق العامة وثوابت المجتمع - التي تتغير باستمرار على أي حال.. أليس كذلك؟
(نشر في "القدس العربي" بتاريخ 4 نوفمبر 2009)
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger