السبت، 7 نوفمبر 2009

في مهرجان أوسيان للسينما الآسيوية والعربية



كانت تلك هي المرة الأولى التي أذهب فيها إلى الهند، تلك الدولة العظيمة بتاريخها الشامخ، لكي أشارك في حضور الدورة الحادية عشرة من مهرجان أوسيان، الذي خصص برنامجه منذ عامين للسينما العربية والآسيوية في مبادرة هي الأولى من نوعها في العالم غير الناطق بالعربية، أقصد أنها المرة الأولى التي تبدي فيها دولة من الدول الكبرى في مجال صناعة السينما هي الهند (التي تعد الأكبر على الإطلاق) اهتماما بالترويج لسينما أخرى ضئيلة الحجم مقارنة معها، هي "السينما العربية"، أو بالأحرى، الأفلام التي تنتج بشكل متفرق في البلدان العربية (باستثناء مصر).المهرجان أقيم في الفترة من 24 إلى 30 اكتوبر.
وكان المهرجان قد تعرض لبعض المشاكل التي أعاقت انطلاقه في موعده المحدد في شهر يوليو الماضي، فتأجل إلى الشهر الخريفي، وكان هذا مناسبا أكثر لضيوف المهرجان، لأن الطقس أفضل كثيرا بالطبع في هذا الفصل عنه في قمة فصل الصيف، لكن يبدو أن المشاكل المالية التي ترتبت على الأزمة الاقتصادية العالمية ألقت بظلالها على المهرجان بشكل ما، فتقلص عدد المدعوين، خصوصا من الإعلاميين العرب (لم يحضر سوى كاتب هذه السطور والصحفي سعد القرش) كما تقلص حضور السينمائيين العرب أيضا (حضر من سوريا المخر ج حاتم علي دون أي من أبطال فيلمه "الليل الطويل"، كما حضر المخرج التونسي الياس بكار بفيلمه التسجيلي "حائط المبكى").


الجمعة، 6 نوفمبر 2009

المهرجانات العربية والصحافة

يضحكني كثيرا الذين يشتكون من سوء الخدمات الصحفية في مهرجان ما من تلك التي تقام في المنطقة العربية، شرقها وغربها، فلم تعد هذه الناحية تعد "اكتشافا" لأحد بل أصبحت من تحصيل الحاصل، فالمهرجانات "الدولية" في العالم العربي تتحد ضد الصحافة والإعلام منذ أن بدأت تسير خطواتها الأولى، وأنا هنا أقصد "كل" المهرجانات، لا أستثني منها أحدا.
معروف أن هذه المهرجانات التي تتشدق بالدولية والعالية واستقدام النجوم وأفلام العرض الأول وغير ذلك، لا تقيم أي وزن أو اعتبار لفكرة تخصيص عروض خاصة بالصحفيين والنقاد قبل يوم من عروضها الرسمية. وهم على استعداد لمحاكاة وتقليد كل ما يرونه في مهرجان كان مثلا، من بساط أحمر وحفلات افتتاح وختام واستعراض للنجوم وكلمات مفتلعة على المنصة، وغير ذلك، لكنهم لا يحاكونه فيما يتعلق بهذا التقليد الذي يعكس اهتماما بالصحافة والنقد، فهذا الجانب لا يشغل بال القائمين على أمر هذه المهرجانات، بل إن معظمها يتعامل مع النقاد بشكل فظ، ويعاقبهم على ما يكتبونه من آراء ويطالبهم بشكل مباشر أحيانا، وغير مباشر في معظم الأحيان، بالكتابة بشكل إيجابي، خصوصا عن شخصية رئيس المهرجان، وعيون مدير المهرجان، وكيف أنه المعي وذكي ويفهم في السينما رغم أن علاقته بها عادة ما تكون علاقة مستحدثة مثلما كان الحال مثلا في حالة مذيعة المنوعات التليفزيونية ذائعة الصيت نشوى الرويني (مهرجان ابو ظبي)، أو كما هو الحال مع مقدمة برامج التسلية في قناة الجزيرة الدولية أماندا بالمر مديرة مهرجان الدوحة- بالمر، المسمى الدوحة- ترايبيكا!
المهرجانات العربية تتفق جميعها على تهميش دور الصحافة والنقد والإعلام في كونها على سبيل المثال، لا تخصص قاعة حقيقية للكتابة والاتصالات تكون مجهزة بخمسين جهاز كومبيوتر على الأقل، تتوفر فيها أجهزة الطباعة، خاصة بعد أن أصبح كل الصحفيين حاليا يستخدمون البريد الالكتروني في إرسال مقالاتهم إلى صحفهم. وإذا وجد مكتب صحفي فهو يكون مجهزا بثلاثة أو أربعة أجهزة كومبيوتر في أفضل الأحوال، ويقتضي الأمر أن يصطف الصحفيون في انتظار دورهم الذي قد لا يأتي أبدا.
اما عن المطبوعات فلا وجود لها عادة، وأنا أقصد تحديدا ما يسمى بالكتيبات الصحفية عن الأفلام التي توزعها شركات الإنتاج أو الاسطوانات المدمجة.. فهذه غالبا ما يستولي عليها العاملون في المهرجان لحسابهم الشخصي، أو تهمل شركات الإنتاج والتوزيع ارسالها إلى المهرجانات العربية لأن هذه المهرجانات لا تهتم أصلا بان تفرض إرسال كمية مناسبة منها شرطا أساسيا لمشاركة أفلامهم في المهرجان على غرار ما يحدث في كل مهرجانات الدنيا التي تحترم نفسها!
أما ندوات مناقشة الأفلام فلا قيمة لها عادة، ويعد حضورها في معظم الأحوال، مضيعة للوقت، لأن الاشخاص الذين يكلفون بإدارة تلك المناقشات يتحولون، عادة، إلى مديري دعاية وتسويق للأفلام، ويحظرون توجيه أي تساؤلات أو آراء "خارج النص".. وهو ما يعكس غياب الحرية في مجتمعاتنا على نحو فادح، وتصورا معكوسا لدور النقد في توجيه السينما، واعتبار المهرجان حالة عرس لا يصح ان يقف أحدهم لكي يفسده بآراء "سلبية". وهي في النهاية محنة حقيقية، فكيف تقام مهرجانات تريد أن تكون "دولية" في مجتمعات تفرض الرقابة على الفكر والرأي والتعبير، ولاتزال تتعامل مع الفيلم الأجنبي مثلا على أنه "سلاح للغزو الفكري" و"اختراق مقدساتنا" و"القضاء على هويتنا"، وكلها تعبيرات تافهة لا معنى لها في عصر الفضاء المفتوح، ابتكرها في الماضي القوميون و"اليسارجيون" الذين تربوا في مدارس البعث والناصرية المنغلقة وغيرهما، لإقناع الأنظمة التي يعملون في خدمتها بتوظيفهم من أجل "مقاومة الغزو"!

الخميس، 5 نوفمبر 2009

'المسافر' وحديث الجوائز والمهرجانات


ردّاً على مقال أحمد يوسف


أدهشني كثيرا جدا أن يكتب الزميل الناقد أحمد يوسف مقالا (من اليونيسكو إلى فيلم 'المسافر': مؤامرة لقد خدعنا العدو الجبان- القدس العربي 27- 10- 2009) يعلق فيه بثورته المعهودة، على خروج فيلم 'المسافر' (الذي لم يشاهده) من مهرجان فينيسيا السينمائي (الذي لم يحضره)، بدون الحصول على جائزة، ويعتبر أن هذا 'الفشل' فشل لـ'الأمة' و'الدولة' أي مصر، بسبب غياب ما يسميه بـ'النظام' الذي يضبط الأشياء كما تفعل إسرائيل (من وجهة نظره).
ويقارن أحمد يوسف بين عدم حصول 'المسافر' على جوائز، وحصول الفيلم الإسرائيلي 'لبنان' (الذي لم يشاهده أيضا) على الجائزة الكبرى، معتبرا أن هذا يجسد بالضرورة التقدم الكبير الذي حققته السينما الإسرائيلية، بل ويؤكد أن إسرائيل تعرف - حسبما يرى - كيف 'تتآمر' علينا في المجال السينمائي، ويطالب بضرورة أن 'نتآمر' نحن أيضا عليها في نفس المجال، ويلوم الدولة - المؤسسة- وزارة الثقافة - المركز القومي للسينما - لجنة السينما وغيرها، على ذلك الفشل.ويدين أحمد كل من كتبوا عن فيلم 'المسافر' ويتهمهم بالسطحية والتلعثم وعدم القدرة على تبرير لماذا فشل الفيلم.
وليسمح لي أحمد يوسف أن أختلف معه، وأنا دائما مختلف معه في المنهج والطرح والأسلوب والرؤية، فهو ينظر إلى الإبداع السينمائي، وأقصد تحديدا علاقة الفيلم بصانعه أو بصاحبه باعتبارها علاقة أمة بصراعاتها السياسية والفكرية و'الحضارية'، أي أننا عندما نذهب لعرض فيلم في مهرجان ما فإننا نخوض صراعا مع 'الأعداء' على الصعيد الثقافي، ويصبح الفيلم بالتالي ممثلا للمجتمع والشعب والدولة والنظام، وهنا تصبح مهرجانات السينما ساحة صراع مفتوح ذات أبعاد 'قومية' على طريقة منتخبات كرة القدم التي تحولت مبارياتها إلى حروب مستعرة تغذي نيران الحقد والعنصرية والكراهية!
في حين أنني كنت أرى دائما، أن الفيلم عمل إبداعي فردي، أي أنه يعبر عن رؤية مبدعه 'الفرد' وليس عن الضمير الجمعي العام، كما أنه يمثل صانعه، لا المؤسسة التي صنعته أي الدولة أو وزارة الثقافة في حالة فيلم 'المسافر' تحديدا. وربما يكون الدليل على ذلك أن الفيلم يقدم رؤية سوداوية للشخصية المصرية منذ تسلسل النكبات بدءا من 1948، حتى ما بعد 2001 مرورا بـ1973، وهي تواريخ ذات دلالة دون شك، ويرى الفيلم أنه كلما سار التاريخ إلى الأمام، تراجع الإنسان 'المصري' إلى الوراء (وليس النظام ولا السلطة) وتضاءل دوره وأصبح أكثر 'كلبية' بالمفهوم الفلسفي أي cynical لا يقيم وزنا للبشر من حوله حتى عند زيارته للمشرحة التي يرقد فيها جثمان ابنه 'المفترض' حيث يسخر ويلقي نكاتا سخيفة فجة. ولا شك في أن هناك من أوحى إلى وزير الثقافة المصري فاروق حسني أنه بهذه الطريقة السلبية في التناول، يمكن أن يحقق الفيلم مصداقية في المهرجانات الدولية التي تنبذ عادة الأفلام الدعائية ذات الصبغة الرسمية، ولعل هذا أيضا صحيح بشكل ما.
هذا التفسير لمضمون الفيلم هو بالطبع ما كان أحمد ماهر المخرج ـ المؤلف، يأمل في توصيله باستخدام أبجديات السينما الحديثة. ولا بأس في هذه الرؤية، فلست من المعترضين على أي رؤية مهما اشتط بها الخيال، ولكن العبرة بالتجسيد والتعبير والقدرة على الإقناع. وقد أتاحت وزارة الثقافة للمخرج أحمد ماهر فرصة عمره لتحقيق حلمه الكبير، لكنه أهدر الفرصة تماما بسبب مراهقته البصرية والأسلوبية، وعجزه عن تجسيد فكرته بطريقة مؤثرة، يكون فيها من الشعر، ومن مفردات الحداثة البصرية، ما يغري أي مشاهد في العالم باستكمال المشاهدة، والقدرة على الاستمتاع بالصور والمعاني والرموز التي تتداعى من الصور التي يشاهدها.
وقد سبق أن كتبت ونشرت نحو 2500 كلمة في نقد وتحليل لماذا فشل 'المسافر' في الوصول إليّ أنا - على الأقل - كرجل درب نفسه منذ أكثر من ثلاثين عاما، على مشاهدة الأفلام الصعبة، والمغرقة في التجريد والرمزية واللجوء إلى الاستعارات وغير ذلك من أساليب السينما الحديثة، في حين كتب كثير من الصحافيين الذين ذهبوا إلى فينيسيا - على نفقة وزارة الثقافة المصرية جهة الإنتاج - في مهمة 'قومية مقدسة' لتبني الفيلم والدفاع عنه.
إن احمد يوسف يترحم في مقاله على دور الدولة في الإنتاج، وكأن وجود الدولة في حد ذاته (حتى مع وجود ذلك النظام الإنتاجي الذي يرغب في وجوده) سيكفل إنتاج أفلام جيدة.. ألم تكن دولة الستيينات الأبوية تنتج 'الحرام' و'القاهرة 30'، وكانت في الوقت نفسه تنتج 'من أجل حنفي' و'يوميات عازب' و'خذني بعاري'.. وكل ما عرف بأفلام حرف ب الرديئة (الشبيهة بأفلام المقاولات) والتي أوكلت إنتاجها إلى حلمي رفلة!
إسرائيل لم 'تنتصر'- باستخدام التعبيرات العسكرية - في 'معركة فينيسيا' لأننا تخاذلنا كأمة أو كشعب أو كوطن او كدولة أو كوزارة كما يرى أحمد يوسف، بل لأن الفيلم الذي ذهب أساسا لتمثيل مخرجه أحمد ماهر، وهو فيلم من الإنتاج المصري، كان رديئا من الناحية الفنية، وهو ما أجمع عليه كل خبراء السينما والنقاد الكبار في العالم، ومقالاتهم موجودة ويستطيع أحمد يوسف العودة إليها وأنا أعرف مدى اهتمامه بقراءة المجلات الأمريكية والبريطانية.وقد شاهدت بنفسي في العرض الصحافي الخاص بنقاد الصحافة اليومية (وهو يقام في قاعة خاصة) كيف بدأ الانسحاب الجماعي بعد 6 دقائق من بداية الفيلم، في حين أن فيلما مثل 'تيزا' الإثيوبي مثلا، وهو فيلم يبلغ طوله ساعتين ونصف الساعة، ويمتلىء بالمشاهد المتداخلة بين الأزمنة والأماكن، جعل نفس هؤلاء النقاد في الدورة السابقة (2008) يتسمرون في أماكنهم حتى النهاية ثم يصفقون له بحرارة، وجعل الفيلم يحصل على الجائزة الخاصة التي تمنحها لجنة التحكيم الدولية!
لم تكن هناك مؤامرة، ولم يخسر العرب 'حرب فينيسيا'، ولم تربحها إسرائيل، بل فاز فيلم جاء من إسرائيل، بسبب حرفيته العالية، ورسالته السياسية التي تغري بعض محبي السلام بالتصويت له تحديدا بسبب مجيئه من دولة معروفة بمغالاتها في قوتها العسكرية واستخدامها. لإيجاز ما أردت قوله ليسمح لي الأستاذ أحمد يوسف أن اذكره بالنقاط التالية:

* إن 'المسافر' كان لا بد سيفشل حتى لو عرض على لجنة محايدة في مسابقة مثل مسابقة جمعية الفيلم بالقاهرة، وها هو قد فشل في الحصول على مجرد تنويه في مهرجان أبو ظبي السينمائي الأخير.

* إن فوز الفيلم الإسرائيلي ليس فيه مؤامرة إسرائيلية حتى لو أمدته الدولة الإسرائيلية بالدعم والعون، بل لأسباب لم تخطط لها إسرائيل وإن سعت إليها وخدمتها الظروف، وبينما يعد السعي أمرا طبيعيا، فالتآمر والنجاح فيه في مهرجان دولي يصبح نوعا من الفضيحة الكبرى لأي مهرجان. ولماذا لم تتآمر إسرائيل لكي يخرج أي من أفلامها الثلاثة في مهرجان كان الأخير مثلا بجائزة أو أخرى؟ بل وكيف ذهبت إحدى جوائز النقاد الرئيسية (وكنت عضوا في لجنة تحكيم النقاد في كان) إلى الفيلم الفلسطيني 'أمريكا' وليس الإسرائيلي 'عيون مفتوحة تماما'؟ وعموما يمكن القول إن الفيلم الأفضل في مسابقة فينيسيا كان فيلم 'الرأسمالية: قصة حب' لمايكل مور، وليس الفيلم الإسرائيلي، لكن لجنة التحكيم لم تشأ ان تمنح جائزة المهرجان لفيلم 'مناهض' بوضوح للمؤسسة الأمريكية في الوقت الحالي أي بعد مجيء أوباما.
كتبت مقالا وحيدا تفصيليا عن فيلم 'المسافر'، ولم يكن بأي حال يحمل أي نوع من 'الشماتة' وهي الكلمة التي وصف بها أحمد يوسف ما كتبه 'البعض' عن الفيلم دون أن يحدد لنا هوية هذا البعض، ولعلي لم أر ما يوازي مقالي المشار إليه، من حيث التوسع والتفصيل والتحليل ولو في امتداح الفيلم وتفسيره من قبل 'نقاده' المخلصين الذين رشحوه للإنتاج أو من جانب الذين أوفدوا من طرف الوزارة للتمجيد للفيلم، بل قرأت مقالات صحافية سريعة لا تقول شيئا واضحا.. وقد افترضت أن أحمد يوسف لم يقرأ مقالي لذا فقد أرسلته إليه!
المشكلة ليست في تدخل الدولة من عدمه، بل في الثقافة السائدة في المجتمع، وفي النخبة المثقفة التي لا تعرف سوى استدعاء الدولة للبطش بمعارضيها تارة، أو بالرضوخ تحت التهديد لأفكار من القرون الوسطى والانحناء للعاصفة كما يقولون، فهل تشجع الدولة بالفعل الإبداع وتطلق العنان للتعبير الحر الجريء وتملك خطة لدعم الأفكار والسيناريوهات الجيدة المتوفرة بالعشرات في أدراج أصحابها، أم أنها تصادر بانتظام الإبداع، تارة باسم الدين وتجنب إثارة حساسيات طائفية في مجتمع يفاخر رسميا طيلة الوقت بتماسكه الاجتماعي ووحدته الوطنية، وتارة أخرى، باسم المحافظة على النظام الاجتماعي والأخلاق العامة وثوابت المجتمع - التي تتغير باستمرار على أي حال.. أليس كذلك؟
(نشر في "القدس العربي" بتاريخ 4 نوفمبر 2009)

الأربعاء، 4 نوفمبر 2009

مرة أخرى: مشكلة مهرجان القاهرة السينمائي

سهير عبد القادر مع عزت أبو عوف

بقلم: أمير العمري

الذين بدأوا يتكلمون – حسب الموسم- عن مشكلة مهرجان القاهرة السينمائي عليهم أن يوفروا كلامهم، فالمهرجان سيستمر كما شاء له مؤسسوه ثم ورثته من سعد الدين وهبة الذي يضرب به البعض المثل في التفاني وحب السينما والادارة الرشيدة، إلى أعضاء جمعية المنتفعين بخراب السينما بل وخراب مصر من المهيمنين على كافة الأمور في المحروسة حاليا.
لم تنبع مشكلة المهرجان بعد رحيل سعد الدين وهبة، بل كانت قائمة منذ بداية المهرجان أي منذ أن أسسه الصحفي الراحل كمال الملاخ في اطار ما يسمى بـ"جمعية كتاب ونقاد السينما" بمباركة وزير "الأمن الثقافي" الساداتي المرحوم يوسف السباعي.
والذين يتباكون على أيام سعد وهبة تنبع مواقفهم بكل أسف، من إحساسهم بـ"العرفان بالجميل، فقد كان رحمه الله يشبه كثيرا عبد الحكيم عامر الذي كان يتصرف على اعتبار أنه "ابن العمدة" الذي يوزع العطايا على كل من يتقرب أو يقترب منه، أما من لا يقيم معه علاقة ولاء شخصي من أي نوع فلم يكن يلتفت حتى إلى وجوده. وكان سعد وهبة عموما يغدق على الكثير من الصحفيين والاعلاميين ويقرب منه المثقفين الذين يأمل في مساندتهم له، باستخدام سلاح الجزرة دون العصا، ودون الحظيرة.. ولعل هذه هي الميزة الوحيدة قياسا بما نشهده منذ 22 عاما على يدي "الوزير الرسام" وحاشيته!
وبكل أسف أيضا أقول إن أحدا في أوساط الانتلجنسيا السينمائية المصرية التي تزعم لنفسها الريادة والتقدم والسبق على أقرانها في العالم العربي، لم يكلف نفسه أبدا التساؤل عن علاقة سعد الدين وهبة أصلا بالسينما، وما إذا كانت كتابته بعض السيناريوهات واشرافه على احدى شركات الانتاج تسمح له بأن يستولي لنفسه على مهرجان القاهرة السينمائي ويضمه إلى خيمة "اتحاد الفنانين العرب" طوال سنوات، قبل أن تأتي الوزارة لتستولي بدورها عليه (منذ 1985) دون أن تعترف به ابنا شرعيا من أبنائها المباشرين (مثل مهرجان الاسماعيلية أو المسرح التجريبي..إلخ) أي دون أن يكون تابعا بشكل مباشر للدولة، ودون أن يكون مستقلا يحصل فقط على دعم من الدولة مثل مهرجان لندن السينمائي الذي لا يفتتحه بالطبع وزير الثقافة ولا أي وزير!
هل كان سعد الدين وهبة مؤهلا لأن يصبح الرئيس المتحكم في كل كبيرة وصغيرة في مهرجان القاهرة السينمائي فقط لأنه "رجل سلطة" ولأن السلطة سمحت له بأن يحصل على "اقطاعيته" الصغيرة داخل الدولة بعد أن خاصمه منصب الوزير؟
الإجابة بكل وضوح واعرف أنها ستغضب حملة لواء سعد وهبة: لا.. لم يكن سعد الدين وهبة يصلح إلا أن يكون ضيفا على المهرجان ربما يجري تكريمه في إحدى الدورات على ما قدمه من جهد في مجال السينما، (من 3 إلى 4 سيناريوهات) بينما أنفق معظم جهده على المسرح كما هو معلوم للجميع.
إذن ما الذي جعل "المرأة الحديدية" سهير عبد القادر على ما هي عليه أو ما أصبحت عليه (وأنا هنا أعلنها بملء الفم أنني أحتفظ بحق الامتياز في إطلاق هذا اللقب على هذه السيدة قبل نحو 5 سنوات في أكثر من مقال نشروا في مصر)، وهل كانت سهير عبد القادر بأي مقياس من المقاييس العلمية والفنية والأدبية، تستحق أن تحصل على لقب نائبة رئيس المهرجان؟
الإجابة أيضا وبكل وضوح: كلا.. فسهير عبد القادر التي كانت موظفة في مكتب سعد الدين وهبة في اتحاد الفنانين العرب (وهو كيان وهمي آخر ارتضت الدولة المصرية أن تركن إلى سعد وهبة مهمة رئاسته الفخرية التي لا يترتب عليها حتى دفع مرتبات من جانب الدولة) لم يكن أحد يعرف أي شيء يتعلق بعلاقتها بالسينما حتى كمتفرجة، ناهيك عن أنها لم تكن ناقدة سينمائية، ولا مخرجة، ولا مسؤولة في مؤسسة السينما السابقة، ولم يسبق لنا حينما كنا نجوب نوادي وجمعيات السينما في مصر طولا وعرضا في السبعينيات، أن عرفنا أصلا بوجود السيدة عبد القادر التي هبطت علينا فجأة بواسطة سلطة سعد الدين وهبة، لكي تصبح نائبة رئيس المهرجان، في حين أن مهمتها الحقيقية لم تكن تتجاوز القيام بأعمال الآلة الكاتبة وقص صور الضيوف و"تدبيسها" في البطاقات الخاصة بالمهرجان، إلى جانب القيام ببعض ما يسمى "التشهيلات".
وفي ظل الفراغ الذي خلقه سعد الدين وهبة حوله، بعد أن صادر المهرجان لحسابه، واستبعد كل من لهم صلة حقيقية وخبرة معروفة في مهرجانات السينما خوفا من منافسته على المنصب وكشف ضحالة معرفته بالسينما العالمية وتياراتها وأعلامها، فرضت سهير عبد القادر نفسها بقوة "البلطجة" والصوت العالي واهانة أشخاص قادرين، وان ارتضوا الوقوف في الظل، وأصبحت هي المديرة الفعلية للمهرجان حتى تخطت سلطتها سلطة الرئيس نفسه، بل انها نجحت حتى في التخلص من الرئيس الذي لم يعجبها ولم يكن يسير على هواها وهو الصحفي شريف الشوباشي، الذي هبط على المهرجان أيضا بسلطة وزير الثقافة الفنان، دون أن تكون له معرفة بالسينما.

سهير عبد القادر

وقد أصبحت السيدة سهير التي يرتجف أمامها عدد من كبار السينمائيين والنقاد والاعلاميين في مصر والعالم العربي، تستعذب أو بالعامية المصرية الأصيلة "تستحلي" حكاية السينما والسفر لمشاهدة واختيار أفلام من مهرجانات مثل كان وبرلين وغيرهما مع المرحوم سعد وهبة أولا قبل رحيله، ثم انفردت وحدها بالساحة، واصبح معروفا عنها أنها توقف أمامها كل صباح طابورا من المساعدين والمساعدات لكي تصدر إليهم هم التعليمات والأوامر بمنتهى الشدة العسكرية.. وكان هؤلاء بكل أسف، يطأطؤون رءوسهم ويطيعون في صمت رغم علمهم جميعا أن وجود هذه السيدة على رأس المهرجان (دعنا من حكاية الرئيس عزت ابو عوف من فضلك فهو "في الخارج لتناول الغذاء" أو كما يقول الانجليز ساخرين out to lunch) أمر مخجل لمصر امام العالم. ثم اقامت المرأة الحديدية علاقاتها الخاصة سواء بـ"القصر" أم بالخارج. وقد قال لي أحد النقاد في تونس العام الماضي متسائلا بسخرية: كيف تأتي هذه السيدة إلى تونس لتسأل سائقي التاكسيات عن أي معلومات لديهم عن الأفلام التونسية الجديدة!
ولكن الذين استيقظوا اليوم "لأسباب شخصية"، لكي يوجهوا انتقادات سبق أن وجهناها بوضوح منذ سنوات، وخصوصا العام الماضي في المقال الذي نشر في جريدة "البديل" القاهرية بعنوان "مشكلة مهرجان القاهرة السينمائي"، لا يقولون لنا شيئا عن ذلك الفساد المنتشر في أروقة الثقافة والسينما والمشروع المستمر لتخريب العقول والأشخاص والمثقفين، بدلا من الحديث عن "قانونية" بقاء بعض الأشخاص في مواقعهم لأسباب شخصية، دون أن يشيروا- لأسباب شخصية- إلى واحد بعينه من أقدم وأبرز المتربعين على عدد من المناصب الأرقى والأكبر نفوذا في وزارة الثقافة بدون وجه حق منذ سنوات!

أود أن أختم هذا المقال بالقول إن مشكلة مهرجان القاهرة السينمائي ليس لها حل فردي بمعزل عن الحل العام بكل أسف، فمهما خلصت نوايا البعض أو وجدنا من نتصور انه "يصلح" للمهمة، فالواقع نفسه سيرفض هذا الحل وذاك "الأصلح"، بل ستخرج من الجحور مئات الأفاعي والثعابين لكي تلدغ وتتهم وتشوه وتقوض وتتصارع من أجل محاصرة اي عمل للإصلاح، فإصلاح مهرجان القاهرة السينمائي يبدأ من حيث يبدأ إصلاح مصر.. التي انسدت ماسورتها تماما بكل أسف منذ سنوات بعيدة واصبحت في حاجة ليس إلى "تسليك" بل إلى "تغيير".. هل هذا الكلام واضح بما فيه الكفاية؟

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger