الخميس، 5 نوفمبر 2009

'المسافر' وحديث الجوائز والمهرجانات


ردّاً على مقال أحمد يوسف


أدهشني كثيرا جدا أن يكتب الزميل الناقد أحمد يوسف مقالا (من اليونيسكو إلى فيلم 'المسافر': مؤامرة لقد خدعنا العدو الجبان- القدس العربي 27- 10- 2009) يعلق فيه بثورته المعهودة، على خروج فيلم 'المسافر' (الذي لم يشاهده) من مهرجان فينيسيا السينمائي (الذي لم يحضره)، بدون الحصول على جائزة، ويعتبر أن هذا 'الفشل' فشل لـ'الأمة' و'الدولة' أي مصر، بسبب غياب ما يسميه بـ'النظام' الذي يضبط الأشياء كما تفعل إسرائيل (من وجهة نظره).
ويقارن أحمد يوسف بين عدم حصول 'المسافر' على جوائز، وحصول الفيلم الإسرائيلي 'لبنان' (الذي لم يشاهده أيضا) على الجائزة الكبرى، معتبرا أن هذا يجسد بالضرورة التقدم الكبير الذي حققته السينما الإسرائيلية، بل ويؤكد أن إسرائيل تعرف - حسبما يرى - كيف 'تتآمر' علينا في المجال السينمائي، ويطالب بضرورة أن 'نتآمر' نحن أيضا عليها في نفس المجال، ويلوم الدولة - المؤسسة- وزارة الثقافة - المركز القومي للسينما - لجنة السينما وغيرها، على ذلك الفشل.ويدين أحمد كل من كتبوا عن فيلم 'المسافر' ويتهمهم بالسطحية والتلعثم وعدم القدرة على تبرير لماذا فشل الفيلم.
وليسمح لي أحمد يوسف أن أختلف معه، وأنا دائما مختلف معه في المنهج والطرح والأسلوب والرؤية، فهو ينظر إلى الإبداع السينمائي، وأقصد تحديدا علاقة الفيلم بصانعه أو بصاحبه باعتبارها علاقة أمة بصراعاتها السياسية والفكرية و'الحضارية'، أي أننا عندما نذهب لعرض فيلم في مهرجان ما فإننا نخوض صراعا مع 'الأعداء' على الصعيد الثقافي، ويصبح الفيلم بالتالي ممثلا للمجتمع والشعب والدولة والنظام، وهنا تصبح مهرجانات السينما ساحة صراع مفتوح ذات أبعاد 'قومية' على طريقة منتخبات كرة القدم التي تحولت مبارياتها إلى حروب مستعرة تغذي نيران الحقد والعنصرية والكراهية!
في حين أنني كنت أرى دائما، أن الفيلم عمل إبداعي فردي، أي أنه يعبر عن رؤية مبدعه 'الفرد' وليس عن الضمير الجمعي العام، كما أنه يمثل صانعه، لا المؤسسة التي صنعته أي الدولة أو وزارة الثقافة في حالة فيلم 'المسافر' تحديدا. وربما يكون الدليل على ذلك أن الفيلم يقدم رؤية سوداوية للشخصية المصرية منذ تسلسل النكبات بدءا من 1948، حتى ما بعد 2001 مرورا بـ1973، وهي تواريخ ذات دلالة دون شك، ويرى الفيلم أنه كلما سار التاريخ إلى الأمام، تراجع الإنسان 'المصري' إلى الوراء (وليس النظام ولا السلطة) وتضاءل دوره وأصبح أكثر 'كلبية' بالمفهوم الفلسفي أي cynical لا يقيم وزنا للبشر من حوله حتى عند زيارته للمشرحة التي يرقد فيها جثمان ابنه 'المفترض' حيث يسخر ويلقي نكاتا سخيفة فجة. ولا شك في أن هناك من أوحى إلى وزير الثقافة المصري فاروق حسني أنه بهذه الطريقة السلبية في التناول، يمكن أن يحقق الفيلم مصداقية في المهرجانات الدولية التي تنبذ عادة الأفلام الدعائية ذات الصبغة الرسمية، ولعل هذا أيضا صحيح بشكل ما.
هذا التفسير لمضمون الفيلم هو بالطبع ما كان أحمد ماهر المخرج ـ المؤلف، يأمل في توصيله باستخدام أبجديات السينما الحديثة. ولا بأس في هذه الرؤية، فلست من المعترضين على أي رؤية مهما اشتط بها الخيال، ولكن العبرة بالتجسيد والتعبير والقدرة على الإقناع. وقد أتاحت وزارة الثقافة للمخرج أحمد ماهر فرصة عمره لتحقيق حلمه الكبير، لكنه أهدر الفرصة تماما بسبب مراهقته البصرية والأسلوبية، وعجزه عن تجسيد فكرته بطريقة مؤثرة، يكون فيها من الشعر، ومن مفردات الحداثة البصرية، ما يغري أي مشاهد في العالم باستكمال المشاهدة، والقدرة على الاستمتاع بالصور والمعاني والرموز التي تتداعى من الصور التي يشاهدها.
وقد سبق أن كتبت ونشرت نحو 2500 كلمة في نقد وتحليل لماذا فشل 'المسافر' في الوصول إليّ أنا - على الأقل - كرجل درب نفسه منذ أكثر من ثلاثين عاما، على مشاهدة الأفلام الصعبة، والمغرقة في التجريد والرمزية واللجوء إلى الاستعارات وغير ذلك من أساليب السينما الحديثة، في حين كتب كثير من الصحافيين الذين ذهبوا إلى فينيسيا - على نفقة وزارة الثقافة المصرية جهة الإنتاج - في مهمة 'قومية مقدسة' لتبني الفيلم والدفاع عنه.
إن احمد يوسف يترحم في مقاله على دور الدولة في الإنتاج، وكأن وجود الدولة في حد ذاته (حتى مع وجود ذلك النظام الإنتاجي الذي يرغب في وجوده) سيكفل إنتاج أفلام جيدة.. ألم تكن دولة الستيينات الأبوية تنتج 'الحرام' و'القاهرة 30'، وكانت في الوقت نفسه تنتج 'من أجل حنفي' و'يوميات عازب' و'خذني بعاري'.. وكل ما عرف بأفلام حرف ب الرديئة (الشبيهة بأفلام المقاولات) والتي أوكلت إنتاجها إلى حلمي رفلة!
إسرائيل لم 'تنتصر'- باستخدام التعبيرات العسكرية - في 'معركة فينيسيا' لأننا تخاذلنا كأمة أو كشعب أو كوطن او كدولة أو كوزارة كما يرى أحمد يوسف، بل لأن الفيلم الذي ذهب أساسا لتمثيل مخرجه أحمد ماهر، وهو فيلم من الإنتاج المصري، كان رديئا من الناحية الفنية، وهو ما أجمع عليه كل خبراء السينما والنقاد الكبار في العالم، ومقالاتهم موجودة ويستطيع أحمد يوسف العودة إليها وأنا أعرف مدى اهتمامه بقراءة المجلات الأمريكية والبريطانية.وقد شاهدت بنفسي في العرض الصحافي الخاص بنقاد الصحافة اليومية (وهو يقام في قاعة خاصة) كيف بدأ الانسحاب الجماعي بعد 6 دقائق من بداية الفيلم، في حين أن فيلما مثل 'تيزا' الإثيوبي مثلا، وهو فيلم يبلغ طوله ساعتين ونصف الساعة، ويمتلىء بالمشاهد المتداخلة بين الأزمنة والأماكن، جعل نفس هؤلاء النقاد في الدورة السابقة (2008) يتسمرون في أماكنهم حتى النهاية ثم يصفقون له بحرارة، وجعل الفيلم يحصل على الجائزة الخاصة التي تمنحها لجنة التحكيم الدولية!
لم تكن هناك مؤامرة، ولم يخسر العرب 'حرب فينيسيا'، ولم تربحها إسرائيل، بل فاز فيلم جاء من إسرائيل، بسبب حرفيته العالية، ورسالته السياسية التي تغري بعض محبي السلام بالتصويت له تحديدا بسبب مجيئه من دولة معروفة بمغالاتها في قوتها العسكرية واستخدامها. لإيجاز ما أردت قوله ليسمح لي الأستاذ أحمد يوسف أن اذكره بالنقاط التالية:

* إن 'المسافر' كان لا بد سيفشل حتى لو عرض على لجنة محايدة في مسابقة مثل مسابقة جمعية الفيلم بالقاهرة، وها هو قد فشل في الحصول على مجرد تنويه في مهرجان أبو ظبي السينمائي الأخير.

* إن فوز الفيلم الإسرائيلي ليس فيه مؤامرة إسرائيلية حتى لو أمدته الدولة الإسرائيلية بالدعم والعون، بل لأسباب لم تخطط لها إسرائيل وإن سعت إليها وخدمتها الظروف، وبينما يعد السعي أمرا طبيعيا، فالتآمر والنجاح فيه في مهرجان دولي يصبح نوعا من الفضيحة الكبرى لأي مهرجان. ولماذا لم تتآمر إسرائيل لكي يخرج أي من أفلامها الثلاثة في مهرجان كان الأخير مثلا بجائزة أو أخرى؟ بل وكيف ذهبت إحدى جوائز النقاد الرئيسية (وكنت عضوا في لجنة تحكيم النقاد في كان) إلى الفيلم الفلسطيني 'أمريكا' وليس الإسرائيلي 'عيون مفتوحة تماما'؟ وعموما يمكن القول إن الفيلم الأفضل في مسابقة فينيسيا كان فيلم 'الرأسمالية: قصة حب' لمايكل مور، وليس الفيلم الإسرائيلي، لكن لجنة التحكيم لم تشأ ان تمنح جائزة المهرجان لفيلم 'مناهض' بوضوح للمؤسسة الأمريكية في الوقت الحالي أي بعد مجيء أوباما.
كتبت مقالا وحيدا تفصيليا عن فيلم 'المسافر'، ولم يكن بأي حال يحمل أي نوع من 'الشماتة' وهي الكلمة التي وصف بها أحمد يوسف ما كتبه 'البعض' عن الفيلم دون أن يحدد لنا هوية هذا البعض، ولعلي لم أر ما يوازي مقالي المشار إليه، من حيث التوسع والتفصيل والتحليل ولو في امتداح الفيلم وتفسيره من قبل 'نقاده' المخلصين الذين رشحوه للإنتاج أو من جانب الذين أوفدوا من طرف الوزارة للتمجيد للفيلم، بل قرأت مقالات صحافية سريعة لا تقول شيئا واضحا.. وقد افترضت أن أحمد يوسف لم يقرأ مقالي لذا فقد أرسلته إليه!
المشكلة ليست في تدخل الدولة من عدمه، بل في الثقافة السائدة في المجتمع، وفي النخبة المثقفة التي لا تعرف سوى استدعاء الدولة للبطش بمعارضيها تارة، أو بالرضوخ تحت التهديد لأفكار من القرون الوسطى والانحناء للعاصفة كما يقولون، فهل تشجع الدولة بالفعل الإبداع وتطلق العنان للتعبير الحر الجريء وتملك خطة لدعم الأفكار والسيناريوهات الجيدة المتوفرة بالعشرات في أدراج أصحابها، أم أنها تصادر بانتظام الإبداع، تارة باسم الدين وتجنب إثارة حساسيات طائفية في مجتمع يفاخر رسميا طيلة الوقت بتماسكه الاجتماعي ووحدته الوطنية، وتارة أخرى، باسم المحافظة على النظام الاجتماعي والأخلاق العامة وثوابت المجتمع - التي تتغير باستمرار على أي حال.. أليس كذلك؟
(نشر في "القدس العربي" بتاريخ 4 نوفمبر 2009)

الأربعاء، 4 نوفمبر 2009

مرة أخرى: مشكلة مهرجان القاهرة السينمائي

سهير عبد القادر مع عزت أبو عوف

بقلم: أمير العمري

الذين بدأوا يتكلمون – حسب الموسم- عن مشكلة مهرجان القاهرة السينمائي عليهم أن يوفروا كلامهم، فالمهرجان سيستمر كما شاء له مؤسسوه ثم ورثته من سعد الدين وهبة الذي يضرب به البعض المثل في التفاني وحب السينما والادارة الرشيدة، إلى أعضاء جمعية المنتفعين بخراب السينما بل وخراب مصر من المهيمنين على كافة الأمور في المحروسة حاليا.
لم تنبع مشكلة المهرجان بعد رحيل سعد الدين وهبة، بل كانت قائمة منذ بداية المهرجان أي منذ أن أسسه الصحفي الراحل كمال الملاخ في اطار ما يسمى بـ"جمعية كتاب ونقاد السينما" بمباركة وزير "الأمن الثقافي" الساداتي المرحوم يوسف السباعي.
والذين يتباكون على أيام سعد وهبة تنبع مواقفهم بكل أسف، من إحساسهم بـ"العرفان بالجميل، فقد كان رحمه الله يشبه كثيرا عبد الحكيم عامر الذي كان يتصرف على اعتبار أنه "ابن العمدة" الذي يوزع العطايا على كل من يتقرب أو يقترب منه، أما من لا يقيم معه علاقة ولاء شخصي من أي نوع فلم يكن يلتفت حتى إلى وجوده. وكان سعد وهبة عموما يغدق على الكثير من الصحفيين والاعلاميين ويقرب منه المثقفين الذين يأمل في مساندتهم له، باستخدام سلاح الجزرة دون العصا، ودون الحظيرة.. ولعل هذه هي الميزة الوحيدة قياسا بما نشهده منذ 22 عاما على يدي "الوزير الرسام" وحاشيته!
وبكل أسف أيضا أقول إن أحدا في أوساط الانتلجنسيا السينمائية المصرية التي تزعم لنفسها الريادة والتقدم والسبق على أقرانها في العالم العربي، لم يكلف نفسه أبدا التساؤل عن علاقة سعد الدين وهبة أصلا بالسينما، وما إذا كانت كتابته بعض السيناريوهات واشرافه على احدى شركات الانتاج تسمح له بأن يستولي لنفسه على مهرجان القاهرة السينمائي ويضمه إلى خيمة "اتحاد الفنانين العرب" طوال سنوات، قبل أن تأتي الوزارة لتستولي بدورها عليه (منذ 1985) دون أن تعترف به ابنا شرعيا من أبنائها المباشرين (مثل مهرجان الاسماعيلية أو المسرح التجريبي..إلخ) أي دون أن يكون تابعا بشكل مباشر للدولة، ودون أن يكون مستقلا يحصل فقط على دعم من الدولة مثل مهرجان لندن السينمائي الذي لا يفتتحه بالطبع وزير الثقافة ولا أي وزير!
هل كان سعد الدين وهبة مؤهلا لأن يصبح الرئيس المتحكم في كل كبيرة وصغيرة في مهرجان القاهرة السينمائي فقط لأنه "رجل سلطة" ولأن السلطة سمحت له بأن يحصل على "اقطاعيته" الصغيرة داخل الدولة بعد أن خاصمه منصب الوزير؟
الإجابة بكل وضوح واعرف أنها ستغضب حملة لواء سعد وهبة: لا.. لم يكن سعد الدين وهبة يصلح إلا أن يكون ضيفا على المهرجان ربما يجري تكريمه في إحدى الدورات على ما قدمه من جهد في مجال السينما، (من 3 إلى 4 سيناريوهات) بينما أنفق معظم جهده على المسرح كما هو معلوم للجميع.
إذن ما الذي جعل "المرأة الحديدية" سهير عبد القادر على ما هي عليه أو ما أصبحت عليه (وأنا هنا أعلنها بملء الفم أنني أحتفظ بحق الامتياز في إطلاق هذا اللقب على هذه السيدة قبل نحو 5 سنوات في أكثر من مقال نشروا في مصر)، وهل كانت سهير عبد القادر بأي مقياس من المقاييس العلمية والفنية والأدبية، تستحق أن تحصل على لقب نائبة رئيس المهرجان؟
الإجابة أيضا وبكل وضوح: كلا.. فسهير عبد القادر التي كانت موظفة في مكتب سعد الدين وهبة في اتحاد الفنانين العرب (وهو كيان وهمي آخر ارتضت الدولة المصرية أن تركن إلى سعد وهبة مهمة رئاسته الفخرية التي لا يترتب عليها حتى دفع مرتبات من جانب الدولة) لم يكن أحد يعرف أي شيء يتعلق بعلاقتها بالسينما حتى كمتفرجة، ناهيك عن أنها لم تكن ناقدة سينمائية، ولا مخرجة، ولا مسؤولة في مؤسسة السينما السابقة، ولم يسبق لنا حينما كنا نجوب نوادي وجمعيات السينما في مصر طولا وعرضا في السبعينيات، أن عرفنا أصلا بوجود السيدة عبد القادر التي هبطت علينا فجأة بواسطة سلطة سعد الدين وهبة، لكي تصبح نائبة رئيس المهرجان، في حين أن مهمتها الحقيقية لم تكن تتجاوز القيام بأعمال الآلة الكاتبة وقص صور الضيوف و"تدبيسها" في البطاقات الخاصة بالمهرجان، إلى جانب القيام ببعض ما يسمى "التشهيلات".
وفي ظل الفراغ الذي خلقه سعد الدين وهبة حوله، بعد أن صادر المهرجان لحسابه، واستبعد كل من لهم صلة حقيقية وخبرة معروفة في مهرجانات السينما خوفا من منافسته على المنصب وكشف ضحالة معرفته بالسينما العالمية وتياراتها وأعلامها، فرضت سهير عبد القادر نفسها بقوة "البلطجة" والصوت العالي واهانة أشخاص قادرين، وان ارتضوا الوقوف في الظل، وأصبحت هي المديرة الفعلية للمهرجان حتى تخطت سلطتها سلطة الرئيس نفسه، بل انها نجحت حتى في التخلص من الرئيس الذي لم يعجبها ولم يكن يسير على هواها وهو الصحفي شريف الشوباشي، الذي هبط على المهرجان أيضا بسلطة وزير الثقافة الفنان، دون أن تكون له معرفة بالسينما.

سهير عبد القادر

وقد أصبحت السيدة سهير التي يرتجف أمامها عدد من كبار السينمائيين والنقاد والاعلاميين في مصر والعالم العربي، تستعذب أو بالعامية المصرية الأصيلة "تستحلي" حكاية السينما والسفر لمشاهدة واختيار أفلام من مهرجانات مثل كان وبرلين وغيرهما مع المرحوم سعد وهبة أولا قبل رحيله، ثم انفردت وحدها بالساحة، واصبح معروفا عنها أنها توقف أمامها كل صباح طابورا من المساعدين والمساعدات لكي تصدر إليهم هم التعليمات والأوامر بمنتهى الشدة العسكرية.. وكان هؤلاء بكل أسف، يطأطؤون رءوسهم ويطيعون في صمت رغم علمهم جميعا أن وجود هذه السيدة على رأس المهرجان (دعنا من حكاية الرئيس عزت ابو عوف من فضلك فهو "في الخارج لتناول الغذاء" أو كما يقول الانجليز ساخرين out to lunch) أمر مخجل لمصر امام العالم. ثم اقامت المرأة الحديدية علاقاتها الخاصة سواء بـ"القصر" أم بالخارج. وقد قال لي أحد النقاد في تونس العام الماضي متسائلا بسخرية: كيف تأتي هذه السيدة إلى تونس لتسأل سائقي التاكسيات عن أي معلومات لديهم عن الأفلام التونسية الجديدة!
ولكن الذين استيقظوا اليوم "لأسباب شخصية"، لكي يوجهوا انتقادات سبق أن وجهناها بوضوح منذ سنوات، وخصوصا العام الماضي في المقال الذي نشر في جريدة "البديل" القاهرية بعنوان "مشكلة مهرجان القاهرة السينمائي"، لا يقولون لنا شيئا عن ذلك الفساد المنتشر في أروقة الثقافة والسينما والمشروع المستمر لتخريب العقول والأشخاص والمثقفين، بدلا من الحديث عن "قانونية" بقاء بعض الأشخاص في مواقعهم لأسباب شخصية، دون أن يشيروا- لأسباب شخصية- إلى واحد بعينه من أقدم وأبرز المتربعين على عدد من المناصب الأرقى والأكبر نفوذا في وزارة الثقافة بدون وجه حق منذ سنوات!

أود أن أختم هذا المقال بالقول إن مشكلة مهرجان القاهرة السينمائي ليس لها حل فردي بمعزل عن الحل العام بكل أسف، فمهما خلصت نوايا البعض أو وجدنا من نتصور انه "يصلح" للمهمة، فالواقع نفسه سيرفض هذا الحل وذاك "الأصلح"، بل ستخرج من الجحور مئات الأفاعي والثعابين لكي تلدغ وتتهم وتشوه وتقوض وتتصارع من أجل محاصرة اي عمل للإصلاح، فإصلاح مهرجان القاهرة السينمائي يبدأ من حيث يبدأ إصلاح مصر.. التي انسدت ماسورتها تماما بكل أسف منذ سنوات بعيدة واصبحت في حاجة ليس إلى "تسليك" بل إلى "تغيير".. هل هذا الكلام واضح بما فيه الكفاية؟

الثلاثاء، 3 نوفمبر 2009

فيلم "الزمن الباقي": قراءة جديدة


(( يسعدني أن أستضيف هنا الصديق العزيز الكاتب والمفكر الدكتور مصطفى نور الدين عطية مؤسس ومدير تحرير مجلة Cahiers de l’Afrée Naissances الفصلية المتخصصة في شؤون الطفولة والبيئة المحيطة التي تصدر منذ 1991 عن جمعية البحوث والتأهيل حول الطفل وبيئته AFREE في مونبلييه. وهو مثقف موسوعي ومحلل سياسي لا يكتب عادة في السينما لكن فيلم إيليا سليمان دفعه لكتابة هذا المقال الذي أجده إضافة حقيقية إلى النقد السينمائي الجاد والعلمي، ويصدر مصطفى أيضا موقعا الكترونيا باسم هوامش عنوانهhttp://www.haoamish.com/)).


بقلم: مصطفى نور الدين عطية


عرض فيلم "الزمن الباقي: سيرة الحاضر الغائب" لكاتبه ومخرجه إيليا سليمان في رام الله والناصرة، في النصف الأول من يوليو، حيث تم تصوير الفيلم إلى جانب أن الناصرة مسقط رأس "سليمان". وقد بدأ عرض الفيلم في فرنسا يوم 12 أغسطس بعد أن شارك في مهرجان "كان 62" في 22 مايو الماضي.
واستقبل الفيلم بحفاوة في فرنسا حيث تعرضه 31 صالة في باريس وحدها. وعبرت عناوين مقالات نقاد السينما ما يقدمه سليمان من جديد في السينما الفلسطينية وعما يعكسه من حجم المأساة الفلسطينية وكأنه اكتشاف. فصحيفة "لو فيجارو" عنونت مقالها "الوقت الباقي : يوميات الكارثة الفلسطينية" وصحيفة "لا تريبن" : "فيلم مؤلم عن فلسطين" وصحيفة "لوموند": "الوقت الباقي : الجمع بين المضحك والظريف على خلفية حزينة إلى ما لا نهاية".
واحتفى الكثير من نقاد السينما العرب بالفيلم وقت عرضه في "مهرجان كان للسينما" وبعدها ومن بينهم صلاح هاشم وأمير العمري اللذين رشحاه لنيل "السعفة الذهبية" وافرد "العمري" تحليلا متميزا للفيلم اظهر فيه البعد الحداثي في معالجته (ونالت مقالته جائزة القلم الذهبي لهذا العام في مهرجان وهران السينمائي).
إن إيليا سليمان أبدع سينما من نوع جديد. فبعد "وقائع اختفاء" و"يد إلهية" قفز بالفن السينمائي العربي خطوة جديدة لتعكس حالة القلق الفلسطيني وليكون كل مشهد من مشاهد الفيلم فيلما بذاته. ومن هنا يصعب قص حكاية الفيلم حيث تتداخل حياة أسرة سليمان وتاريخ فلسطين منذ النكبة إلى موت جمال عبد الناصر وتفجر انتفاضة الحجارة ثم بناء حائط الفصل العنصري. فاللقطات هي لوحات بتوقف العدسة للتأمل ولتحكي حكاية بذاتها كجزء من الكل الذي بتجميعه تتجسد الدراما الفلسطينية. فالحوار في كلمات بين أفراد لا يشكل استمرارية لحكاية ولكن بيت شعر من مرثاة. والمشهد بين أشخاص لا يشكل تواصلا لمتابعة تطور درامي لقصة وإنما لاكتشاف حالة عقلية للأشخاص وللأوضاع معا. هذه اللغة السينمائية جديدة على السينما العربية لأنها مصاحبة لوجود جسدي لسليمان كممثل والصامت والناظر لكل حدث كما لو كان هو ذاته أحد المتفرجين.
وهذه الجدة لها جذورها كامتداد "لشارلي شابلن" و"جاك تاتي" و"باستر كيتون". فهي تجمع بين الصمت والفكاهة اللاذعة السوداء. هي تفتيت للفن السينمائي في شكله الخطي المنساب التقليدي بإدخال التفكيك "للقصة- التاريخ" وتحويلها إلى لوحات يلزم البحث فيها عن التفاصيل الخفية المضمرة وحيث الصمت هو اللغة التي تفرض نفسها على المشاهد. فالصمت بحسب "إيليا سليمان" هي لغة المقاومة الأكثر فاعلية في ظل المأساة الجارية. فمع كل لقطة أو حوار يلزم التوقف للفهم عند الدرجة المباشرة الأولى المعطاة كما هي ولكن القراءة الأكثر متعة هي في البحث عن مغزاها البعيد أي القراءة غير السطحية التي تقول الكثير عن الذات وعن الآخر أيا كان الآخر الفلسطيني أو الصهيوني. أي كيف يرى الفلسطيني نفسه في قلب التاريخ في صيرورته والتحول الذي يطرأ عليه من المقاوم الذي لم يلق السلاح ولو كان حجرا أو الذي أختار الرضوخ واللامبالاة يأسا والمتهكم ممن ينتظرون في مقاعدهم بصمت معجزة لن تأتي. فالتاريخ الفعلي لما حدث وقت "النكبة" هل هو كما تم سرده بدقة؟
هل استسلمت المدن واحدة تلو الأخرى أم سقطت بعد مقاومة؟ وما سبب استمرار "النكبة" إلى اليوم؟ إن استخدام الصمت كلغة سينمائية هو "انتفاضة عقلية" تفرض على المشاهد أن يستنتج بنفسه ما لا يقله "سليمان" حين يلعب دوره في الفيلم كجزء من تاريخ أسرته وتاريخ فلسطين بعد عودته من المنفى الذي فرضته عليه إسرائيل وهجرته لأمريكا.
وللسخرية أيضا مغزاها السياسي العميق. فسليمان يعيد تكرار ذات المشهد بذات الأشخاص في أوقات مختلفة في نفس الديكور ليعمق الفكرة التي أراد إيصالها للمشاهد. إن التكرار مرة بعد الأخرى في لحظات مختلفة من الفيلم هو لتجسيد التحول الحادث في الموقف السياسي والعقلي للفلسطينيين أنفسهم الذين يعاودون الظهور لكن من ناحية بثبات وصمت وانتظار لا نهائي لمن بقى من جيل النكبة وتحول لمن جاءوا بعدها ليصبح الثبات والتحول وكأنهما عملة واحدة بوجهيها.
فمشهد الشاب الذي يحي من يجلسون على مقهى من جيل "النكبة" بأن يمد يده ثم يسحبها ويفرقع أصابعه عندما يمد الآخر يده ليست للضحك وإن أضحكتنا. ومشهد ذات الشاب يمر أمام نفس الصحبة الجالسة في نفس الأوضاع فيلقي عليهم التحية بيده وفي المرة التالية عندما يمر يلقي عليهم التحية مرة ثم يلتفت إلى الاتجاه المعاكس ليلقي التحية على الحائط المواجه ثم عليهم ثم على الحائط وهكذا هو تعبير دون كلمات عن الصورة الذهنية لهم في ضميره... فقراءة لهذه المشاهد تعكس الانفصال الذي بدء يمس بعض من الجيل الجديد عن القضية التاريخية بالتهكم من الجالسين من بقايا الماضي.
والمشهد الأكثر دلالة والذي يجمع الفكاهة والمأساة معا هو ذاك الشاب الذي يخرج من منزله ليلقي شيئا في صندوق القمامة في مواجهة منزله وأمامه دبابة إسرائيلية تتابعه فوهتها في حركته من المنزل إلى صندوق القمامة دون أن يهتم وكأنه لا وجود لها ثم يرن هاتفه الجوال فيتحدث مع مخاطبه بالسير ذهابا وإيابا بعرض الطريق ومدفع الدبابة يتابع حركته. ويطلب من محدثه الحضور إلى للرقص في حفلة منظمة في المساء. وفي المساء يرقص الشباب على موسيقى معاصرة صاخبة بينما في الخارج تنبه عربة جنود إسرائيلية بمكبرات الصوت مرات متتابعة حذر التجول. ولكن انشغال الشباب هو العيش مجرد العيش كأفراد في مكان ما وان كان يضيق عليهم بحائطه العازل وينغمسون في الرقص كما لو كانوا في "حلقة زار" فهم ليسو موضوعا لحظر التجول. والجنود الإسرائيليون يدركون ذلك حينما يرقصون في عربتهم على ذات الموسيقى المنبعثة من الصالة تاركين الشباب في حالهم.
هنا تجسيد لنقيضين للتاريخ فالمقاومة في انتفاضة الحجارة أصبحت وحدها المقاومة الفعلية وتجسد النزع الأخير لوطن. والمقاومة كمخرج يمثلها في الفيلم الإيحاء بتقديم ما هو مشابه كما يجسد ذلك مشهد من فيلم "سبارتكوس" الذي يعرض في الفيلم على فصل دراسي لأطفال فلسطينيين. ولكن لا ينسى سليمان التشديد على ازدواجية في الثقافة العربية ذات طعم خاص ويعكسها الحاضر. فمحرر العبيد هو دعوة للثورة ولكن في لحظة تقبيل "سبارتكوس" لحبيبته تقف المدرسة لحجب المشهد عن التلاميذ بجسدها وتقول : "إنها أخته يا أولاد.. إنها أخته"! هنا طمس حقيقة المشاعر لا يختلف عن طمس الحقيقة في ذاتها التي تعم التاريخ العربي.
ولكن المقاومة في شكلها الأسطوري هي قفزة "إيليا سليمان" من فوق "حائط الفصل" بعصا "زانة" كرياضي يقوم بالقفز العالي. وهنا معنى خاص إذ يعتبر أن من بين الإسرائيليين فئة صادقة في مناصرتها للفلسطينيين لا معنى لمقطعتها والتواصل معها هو استمرار في المقاومة.
وأكثر ما يلفت الإنتباه في الفيلم كان هو صمت سليمان فظهوره كمشاهد في القسم الثاني من الفيلم يسجل بصمت ما يرى ويدعو المشاهد لمشاركته الرؤية. أي وجود ينفي فكرة التمثيل كلعب لحدوته خيالية. فلا داعي للكلمات لتصف نهب قوات "الهجاناه" الصهيونية لمنازل الفلسطينيين الفارين بعد هزيمة الجيوش العربية. ولا تعليق على تخفي هؤلاء الجنود بالكوفيات الفلسطينية لإيهام المواطنين بان العرب انتصروا في دخولهم المدن لكي يغتالوا من بقى منهم. ولا تعليق على إطلاق احد الجنود الرصاص على فلسطينية أطلقت "زغرودة" لتوهمها أن المقنعين الصهاينة هم المقاومة العربية. ولا تعليق على المواجهة بين أطفال الحجارة والجيش الصهيوني. دمعات ترقرقت في عيون الأسرة الفلسطينية دون نبس كلمة لحظات إعلان أنور السادات في التلفزيون نعي وفاة جمال عبد الناصر.
المبالغة مقصودة في الظهور الصامت لمخرج الفيلم وكاتب حكاية فلسطين بدءا من مذكرات أبيه المقاوم وخطابات متبادلة بين أفراد الأسرة وسماع روايات الذين عاشوا نكبة 48 قبل مولد إيليا عام 1960
وهذا الصمت ذاته يلعبه في علاقته بالآخرين مثل التواصل مع أمه إلي أسكتها المرض ولا تكاد تدرك ما حولها بإسماعها أغنية قديمة أحبتها فبدأت قدماها تعيد اللحن بدبدبة خفيفة.
ويتم التواصل مرة أخرى عندما يضع سليمان على أنف تمثال يمثل "السيدة مريم" أم المسيح فتبتسم الأم وتتخذ قرارها الذي لا يعارضها فيه سليمان بكلمة بنزع الأجهزة الطبية في العناية المركزة. وكأن وقتها مضى والوقت الباقي هو للآخرين.

الأحد، 1 نوفمبر 2009

نكتة مؤتمر المثقفين

((يسعدني أن أستضيف في هذا الموقع اليوم الصديق العزيز الكاتب الصحفي الكبير خالد السرجاني في مقال يعبر تماما عما أردت التعبير عنه، وربما أفضل مما كنت سأفعل، وهو يتعلق بالدعوة "المشبوهة" التي أطلقها مؤخرا الوزير- الرسام فاروق حسني في مصر لإقامة مؤتمر للمثقفين، وهي فكرة أوحى له بها فيما يبدو، أحد أتباعه في الوزارة، من الذين اطلعوا على سلسلة المؤتمرات التي عقدها وزير الثقافة الأسبق ثروت عكاشة في اواخر الستينيات وقت أن كانت مصر تشهد مخاضا هائلا وحركة تغيير تمور تحت السطح وفوقه، في السينما والمسرح والأدب والشعر والإبداع عموما. وشتان ما بين الفترتين، وشتان أيضا بين الوزيرين)).

بقلم: خالد السرجانى

دعا وزير الثقافة إلي عقد مؤتمر للمثقفين، من أجل عرض أفكارهم وطرح برنامجه الذي عرضه علي المجلس التنفيذي للمنظمة الدولية من أجل أن يكون هو خطة العمل في وزارة الثقافة في مصر. وبالطبع فإن هذا المؤتمر ما هو إلا محاولة من الوزير لتأمين دخول المثقفين إلي الحظيرة، وحتي يضمن ألا يعارضه منهم أحد في هذه الفترة الحساسة التي تعقب هزيمته في اليونسكو، ولضمان بقائه في منصبه مدي الحياة.
ولابد من الإشارة أولا إلي البرنامج الذي قدمه إلي المجلس التنفيذي لليونسكو والذي لم يحظ بدعم من الأعضاء، حيث كتب سمير العطية في الطبعة العربية من «اللوموند دبلوماتيك» في مقال لم ينشر في الطبعة المصرية التي تصدر كملحق لجريدة الأخبار «أجمع كلّ من حضر المرافعة التي قدّمها السيّد حسني أمام المندوبين أنّها كانت أدني من المتوسّط»: دون خطّة لإصلاح المؤسّسة، في حين ظهرت انتقادات واضحة تتعلّق بسوء الإدارة السابقة، ودون توجّهات واضحة حول محاور التنمية في مجالات التربية والعلوم والثقافة وغيرها، تأتي بانطلاقة جديدة. هذا في حين لا تخلو مصر ولا البلاد العربيّة ولا حلفاؤهم من اختصاصيين في هذه المجالات، كان يمكن أن يكوّنوا طاقماً حول المرشّح ليقدّم مشروعاً بنّاءً وقويّاً لإدارة احترافيّة. وهكذا كان يُمكن للسيّد حسني أن ينجَح قبل ألاعيب الدورة الرابعة من التصويت. إلاّ أنّه، وللأسف، لم يصنع الفرق منذ المرافعة الأساسيّة من حيث وضوح الرؤية لمؤسّسةٍ تعاني من مشاكل عديدة».
ويضيف العطية: «المعركة كانت إذاً هنا علي الأرض، علي التفاصيل، علي البرامج، علي حسن الإدارة، وعلي هذه الأرضيّة كان تقييم مشروع المرشّح العربي: «أقلّ من الوسط». فلماذا قامت مصر بخوض هذه المعركة دون أسلحة؟ ثمّ اكتشفت بعد المعركة أنّ لها وللعرب أعداء؟ ولماذا لم ينجَح هؤلاء الأعداء في حالاتٍ أخري، كما بشأن السيّد محّمد البرادعي، الرئيس المصري السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية؟
ويختم كلامه بالقول: «الموضوع يتعلّق بأنّ الترشيح والمعركة لم يرافقهما طرحٌ محاور أساسيّة كان يُمكن أن تهزِم «وبسهولة» الابتزاز الأمريكي والإسرائيليّ «وعنصريّة بعض وسائل الإعلام الغربيّة النافذة» «وتخلق تضامناً قويّاً من العرب والأفارقة وأمريكا اللاتينيّة وغيرها.فحتّي لو تمّت خسارة المعركة حينها، فإنّها علي الأقلّ كانت لتكون خسارةً حول المبادئ والبرامج».
فهل يريد الوزير أن يطبق هذا البرنامج دون المتوسط في مصر، أم أن المؤتمر يتجاوز ذلك. وكيف يطبق برنامج أعد لكي يكون عالمياً يدعو إلي حوار الحضارات، في وزارة ذات طابع محلي. أم أن المؤتمر ما هو إلا خطوة من الوزير لكي يؤكد أنه مازال يستطيع أن يجمع «كل» المثقفين من ورائه علي النحو الذي سار عليه في بداية عهده عندما جمع له الأستاذ أحمد حمروش المثقفين في جامعة الدول العربية تحت مظلة اللجنة المصرية لتضامن الشعوب الأفريقية الآسيوية لكي يعرض عليهم استراتيجية لم ينفذ منها شيئا حتي الآن.
ولنا أن نسأل الدكتور جابر عصفور ما المعيار الذي سيعتمد عليه لتعريف المثقف وهناك تعريفات متعددة لهذا المصطلح، أم أنه سيعتمد علي دعوة الكتاب وأعضاء لجان المجلس الأعلي للثقافة؟ وهل سيجد مثقفين يوافقون علي الجلوس مع ممثل لسلطة تعتقل «المثقف» مسعد أبو فجر علي الرغم من عشرات الأحكام القضائية التي قضت بالإفراج عنه، ولسلطة ترفض الإفراج عن «كريم عامر» بعد قضائه ثلاثة أرباع المدة وهو سجين رأي ومعتقد ولا تريد أن تساوي بينه وبين تجار المخدرات والسجناء الجنائيين.

ولنا أيضا أن نسأل هل استمع الوزير من قبل لآراء المثقفين ونفذ بعضا منها، حتي يعقد مؤتمرا لهم لكي يعرضوا تصوراتهم حول المستقبل وحتي لو كان سيعرض هو نفسه تصوره فهل هو مستعد للاستماع إلي تحفظاتهم أو تصوراتهم المضادة وتنفيذها؟
بالطبع لا، لأن الأمر لو كان يتعلق بديمقراطية الثقافة لكان السيد فاروق حسني هو آخر من يطبقها وتجربته علي مدي 33 عاماً تؤكد ذلك وتعييناته لكبار مسئولي الوزارة التي تتخذ طابعا شخصيا وعدم تطبيق القانون فيما يتعلق بخروجهم إلي التقاعد تؤكد ما نذهب إليه حول ديكتاتورية الوزير وشخصنته لوزارته، وعدم مشاركة «المثقفين» الحقيقيين في أي من قراراته واستخدامه الشكلي لهم تؤكد أن الهدف من المؤتمر هو الإيحاء لبعض المثقفين أنهم مشاركون في القرار والأهم هو تأكيده لمن يعين الوزراء أو يقيلهم أنه مازال يضع المثقفين في حظيرته. وذلك أحد المسوغات الضرورية لبقائه في منصبه.
إن دعوة الوزير لمؤتمر المثقفين لا تتعد أن يكون نكتة سخيفة طالما سمعنا منه العديد منها، وكلها تسعي إلي تدجين المثقفين وضمان ولائهم له، ولم نسمع منه أي حديث حول استقلالية الثقافة وإدارة المثقفين لأمورهم ومؤسساتهم، وعن استقلال المؤسسات الثقافية، لأنه لن يرضي الدولة التسلطية التي يعمل الوزير في إطارها. ففي كل دول العالم المتقدم، ماعدا فرنسا ذات التراث اليعقوبي المركزي لم تعد هناك وزارة للثقافة، تتبعها المؤسسات الثقافية، ولا يعني ذلك تخلي الدولة عن دعم الثقافة، وإنما عادة ما تكون هناك مؤسسات مستقلة تحصل علي دعم غير مشروط من الدولة. ولدينا في مصر مؤسسات من المفترض أن تكون مستقلة لكنها للأسف مستقلة اسما لا فعلا بسبب تدخل الدولة في شئونها، وعادة ما تتدخل الدولة من أجل إجهاض أي محاولة للاستقلال، ويكفي أن نشير إلي ما فعلته من أجل ألا يشكل الكتاب اتحادا أو نقابة مستقلة لهم، وسنت قانوناً جعل اتحاد الكتاب أسيرا لدي الوزير المختص وهو وزير الثقافة.
أما الجمعيات الثقافية العريقة فهي أسيرة لدي وزارة التضمن الاجتماعي التي تتحكم فيها عبر قانون الجمعيات، والمجلس الأعلي للثقافة الذي تأسس ليكون بديلا عن الوزارة في فترة ألغيت فيها الوزارة، مشكل من موظفين أكثر عددا من المثقفين والكتاب.
إن الاستراتيجية التي يجب علي المثقفين أن يبحثوها، ومن خارج إطار الوزارة هي كيفية الاستقلال عن الوزارة ذاتها، ولابد وأن تكون الأطر المعنية بذلك هي الأطر المختصة مثل اتحاد الكتاب، واتحاد الناشرين، و جمعية نقاد السينما، وجمعية الفيلم، واتحاد السينمائيين التسجيليين، وأتيليه القاهرة، ونادي القصة ونقابة التشكيليين، ونوادي هيئات التدريس بالجامعات. وغيرها من الأطر الثقافية المفترض أن تكون مستقلة. وعلي كل هذه المؤسسات أن تبحث فيما يعنيها أولا، كأن يبحث اتحاد الكتاب ما يتعلق بحرية التعبير والحريات الفكرية، وأن يبحث اتحاد الناشرين مستقبل صناعة الكتاب وعوائقه المتعلقة بالتصدير والاستيراد، فيما تبحث نوادي هيئات التدريس ما يتعلق بالحريات الأكاديمية، والجمعيات السينمائية تبحث في مستقبل صناعة السينما والعوائق الرقابية التي تعترض صناعة السينما في مصر.
ولابد من أن يبحث الجميع عن كيفية تحويل دور وزارة الثقافة من مهيمن علي العملية الثقافية إلي منسق لها، من دون صلاحيات كبري. فهل الوزير علي استعداد لمثل هذا السيناريو العملي المنتج البديل عن سيناريو تحويل مؤتمر المثقفين إلي مظاهرة لتأييده؟

(عن "الدستور" المصرية اليومية)
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger