الأحد، 27 سبتمبر 2009

فاروق حسني ضحية الموساد!


"فاروق حسني ضحية مؤامرة شارك فيها 8 من ضباط المخابرات الاسرائيلية (الموساد) ذهبوا إلى باريس وأخذوا يضغطون على الوفود التي ستدلي بأصواتها في انتخابات رئيس اليونسكو الجديد".

"فاروق حسني ضحية إسرائيل التي جندت خبيرين من خبراء العلاقات العامة والدعاية من شركة "ساتشي آند ساتشي" المعروفة لكي يقودا حملة تشويه في الصحافة الفرنسية ضد المرشح المصري فاروق حسني".

هذه الأقوال وغيرها أبرزتها أجهزة الإعلام المصرية خلال اليومين الماضيين استنادا إلى ما ورد في مقال لصحفي فرنسي كان أساس اهتمامه في الحقيقة إبراز ذلك الشرخ في العلاقة القائمة بين رئيس الوزراء الفرنسي كوشنير (وهو على الأغلب يهودي ومتعاطف مع اسرائيل) ورئيس الجمهورية الفرنسية ساركوزي (وهو ايضا يهودي ولكنه متعاطف أكثر مع حسني وربيبه فاروق في هذه القضية بالذات)!

هذا هو موجز بسيط لتلك الحملة المضادة التي بدأها الاعلام المصري بقيادة سدنة فاورق حسني من المثقفين والمتثاقفين، الصحفيين والمتصاحفين، من صحف الحكومة وعشيقتها المعارضة، وخصوصا جريدة الحزب الناصري المسماة (العربي) والمعروف أن توزيعها لا يزيد عن 60 نسخة (توزع غالبا على المشتغلين بالجريدة من قوى الشعب العامل)!

وقد توعد الكاتب محمد سلماوي (الذي كان مرشحا لخلافة فاروق حسني في وزارة الثقافة لأسباب كثيرة يعود بعضها إلى التشابه بينهما في السلوك والتفكير) بأن يكشف لنا "مؤامرة الموساد" ضد وزيره الحبيب، ولكي يثبت للجميع كيف تدخلت الدولة الإسرائيلية لاسقاط فاروق حسني. والهدف الواضح حتى للعميان، محاولة تبرير استمرار فاروق حسني على رأس وزارة الثقافة إلى أن يأتي الله أمرا كان مفعولا. فبعد هزيمته في اليونسكو أشارت كل الاستطلاعات حتى بعض ما أجرته صحف وبرامج تليفزيونية في قنوات مصرية مثل "الحياة" وغيرها إلى رفض شعبي كبير لاستمرار فاروق حسني على رأس وزارة الثقافة، وطالبته بالرحيل، تعبيرا عن رفض الشارع استمرار سياسة الرجل الواحد التي تشل الحياة السياسية والثقافية في مصر منذ 30 عاما.طبيعي أن تستعين إسرائيل لتحقيق هدفها بعدد من العاملين في سلكها الدبلوماسي أو غير الدبلوماسي بما في ذلك المخابرات، وهو نفس ما فعلته الحكومة المصرية بالضبط حين خصصت وفدا هائلا من العاملين بالخارجية والمخابرات والعلاقات العامة، لكي يقيموا لمدة شهرين في باريس للدعاية لفاروق حسني، والحديث إلى الوفود والصحف والمسؤولين الفرنسيين وغير الفرنسيين. وقد ظهرت رئيسة هذا الوفد أكثر من مرة على شاشة التليفزيون لتتفاخر بأن أعضاء الوفد لا ينامون الليل بل يواصلون عملا شاقا على عدة جبهات من أجل إنجاح المرشح المصري.

هذا النوع من النشاط جزء لاشك فيه من "الحملات" التي تدور قبيل أي انتخابات في أي مكان في العالم. فهل الحملة بكل ما يستخدم فيها من أساليب، سواء كانت أخلاقية أم غير أخلاقية، موسادية أم ملوخية، تعتبر نوعا من التآمر.. والمؤامرة.. والعيب، أم أن هذه هي طبيعة الأمور؟

الواضح أن كلمة "الموساد" بكل ما تمثلها في الضمير العربي تستخدم هنا لإشاعة نوع من الإثارة الشديدة التي يترتب عليها أن يصبح كل من يعارض فاروق حسني "خائنا للوطن"، وربما أيضا عميلا للموساد.

ولكن.. أليست إٍسرائيل هذه التي يحملون عليها اليوم صديقة لهم بحكم المعاهدة.. والكويز.. والغاز.. والتنسيق الأمني والاستخباراتي.. والملف الغزاوي.. وأشياء أخرى!أليست أمريكا ربيبة اسرائيل هي الحليف الاستراتيجي لكم، وهي التي قادت الحملة ضد فاروق، بينما أعلنت إسرائيل من البداية أنها ضد ترشيحه ثم تظاهرت بأنها تنازلت عن المعارضة وانضمت إلى الحكومة بعد أن ناشدناها على طريقة (والنبي سيبوا لنا فاروق المرة دي يعدي لليونسكو ياخويا الله يخليك!).

فلما فشل فاروق نتيجة لمحصلة حملات سياسية متبادلة من جانب مؤيديه ومعارضيه، جاء موسم العويل والبكاء وتصويره باعتباره بطلا وضحية للموساد أيضا مما يستوجب بقاءه في السلطة حتى الموت الزؤام.ولذا لزم التنبه والتحذير أيضا من الوقوع في الفخ!

رحلة بالكاميرا داخل عقل الإرهاب


تتناول عناوين الأخبار كثيرا موضوع الإرهاب والجماعات الإرهابية وما يكتنفه من غموض، وما يحيط به من طقوس وأساليب وطرق خاصة خفية، خاصة ما يتعلق منها بتجنيد عناصر يكون لديها الدافع من البداية للتورط في عمليات ترويع للآمنين من الناس.
وتتناول الأفلام التسجيلية والوثائقية المصورة للسينما والتليفزيون جوانب كثيرة تتعلق بموضوع الإرهاب، سواء من خلال أسلوب "التحقيق" الشهير وإعادة ترتيب الوقائع والمعطيات المتوفرة وتحليلها واستقراء الآراء المتباينة فيها، أو الاعتماد على المزج بين المواد المصورة وتقليب النظريات المختلفة ودعمها بآراء الخبراء والقريبين من الأحداث والاستعانة بمواد الأرشيف وغير ذلك.
غير أن الخيال السينمائي نادرا ما يتعامل بموضوعية مع موضوع الإرهاب والإرهابيين، فإما أنه يلجأ إلى الصور النمطية الكاريكاتورية للشخصيات التي تمارس العنف بغرض دفع المشاهدين إلى النفور منها، أو جعل الموضوع مسيسا تماما واستخدامه لطرح رسالة سياسية تتفق وأغراض صناع الفيلم.
وأحيانا ما تتعامل السينما مع الإرهاب من خلال منهج التحليل النفسي في محاولة للتعرف على الدوافع "المَرَضية" للإرهابيين، مع مزجه باستعراض الدوافع الاجتماعية المحتملة.
ولعل الفيلم الفلبيني "مدينة كافيتي" يتجاوز بجرأة يحسد عليها مخرجاه: إيان جامازون ونيل ديلا لانا، الخط التقليدي الذي يفصل عادة بين التسجيلي والروائي، وينتقلان في رحلة مثيرة بالكاميرا بهدف إعادة اكتشاف آلية الإرهاب من خلال عمل ربما يصلح أن يندرج في نوع أقرب إلى "سينما العصابات" على غرار "حرب العصابات".



دراسة بالصورة
هذا فيلم روائي (أي يفترض أنه خيالي) لكنه يعتمد على دراسة دقيقة موثقة للأماكن والشخصيات والأساليب التي تتبعها الجماعات الموسومة بالإرهاب في تجنيد العملاء واللجوء خلال ذلك السعي المحموم - إلى أكثر الوسائل تطرفا وانعداما للإنسانية.
تدور أحدث هذا الفيلم الصاخب في مدينة كافيتي الساحلية الواقعة إلى الجنوب من العاصمة الفلبينية مانيلا. هذه المدينة التي تمتلئ بمظاهر الفقر المدقع هي أبعد ما تكون عن الصورة السياحية التي تقدمها عادة الأفلام التي تدور في الفلبين. وصور أطفال الشوارع الفقراء في أسمالهم البالية والتكدس السكاني والمواصلات البدائية وتردي الخدمات والأحياء القصديرية ، كلها تختصر الوعاء الحاضن للإرهاب حسب ما يعتقد صناع الفيلم.
بطل الفيلم شاب في الثانية والثلاثين من عمره، فلبيني ولد ونشأ في الولايات المتحدة، عاد لتوه في زيارة إلى بلده الأصلي الذي لا يعرفه بل ولا يستطيع الحديث بلغته وإن كان يفهمه.
هذا الشاب (آدم) يفاجأ منذ وصوله بأنه أصبح مختطفا عن طريق هاتفه المحمول، فهناك من تمكن من الوصول إليه ومحاصرته طوال الوقت، من خلال الهاتف، بعد ان يخبره أن والدته وشقيقته اختطفتا وأصبحتا محتجزتين كرهينتين.
والمفترض أن عناصر تابعة لجماعة أبو سياف هي التي اختطفت والدته وشقيقته، وأن زعيم الجماعة هو الذي يخاطبه عبر الهاتف، يصدر له تعليمات صارمة يتعين عليه أن ينفذها في الحال وإلا قتلت الرهينتان.
والفيلم مصور باستخدام كاميرا حرة محمولة على اليد، ونحن نشاهد الأحداث من وجهة نظر (آدم) الذي يبدو وقد اصبح سجينا داخل إطار الصورة، يحاول طيلة الوقت الإفلات والتذرع بشتى الذرائع، ولكن دون جدوى.
يطلب (الزعيم) منه أن يتبع رجلا يسير في الشارع، إلى أن يشاهد ما يحدث للرجل الذي يذبحونه في أحد الشوارع الخلفية، ويقال له إنه قتل لأنه لم ينصاع لتعليمات الجماعة، ويحاول آدم الفرار لكنه يجد نفسه محاصرا، يختطف طفل حقيبة يده ويهرب، يتابعه آدم محاولا استعادتها، لكن "الزعيم" يحذره بقوله: أنت لست في حاجة إليها.
يطلب منه أن يشتري بيضة ويكسرها ويشرب ما في داخلها، يشعر بالقرف الشديد والغثيان، ثم يتوغل في حي من الأحياء الهامشية التي لم يسبق أن دخلتها كاميرا سينمائية من قبل، يطلبون منه التوجه إلى البنك وسحب مبلغ 75 ألف دولار، هي كل ما تركه له والده الذي قتل لأنه رفض الانصياع للجماعة.
ويكتشف أنهم يعرفون كل شئ عنه وعن أسرته بل يقال له إن والده كان عضوا في الجماعة، وإنه قام بتفجير حافلة في مانيلا راح ضحيتها 28 شخصا. يرفض مذهولا تصديق ذلك، يحاول التمرد والنكوص، يتوسل بكل طريقة أن يعفونه من المهمة وأن يرحما والدته وشقيقته، يلومه الزعيم على إهماله للدين، واستغراقه في المجتمع الأمريكي الذي أنساه أصله وثقافته ودينه.


غسيل مخ
آدم يقول له إن الإسلام الذي يتحدث عنه هو دين الرحمة والتسامح والمغفرة، وإن أمثاله هم الذين يسيئون إلى الإسلام. يأمره الزعيم بشراء تذكرة لمشاهدة مصارعة الديوك التي تجري في أماكن بدائية بطريقة وحشية. يقول له إنهم قتلوا والده لأنه وشى بهم للسلطات.
إنها عملية غسيل المخ المنظم التي تتبعها الجماعة.
يتمكن آدم من سحب المبلغ بالفعل، يأمرونه بالحصول على حقيبة من طفل يلتقطها ويذهب، يعتقد أن في داخلها قنبلة، ويطلبون منه التوجه إلى بلدة قريبة لوضعها داخل كنيسة.
يرفض ويصر ويتشدد في الرفض: لا أستطيع أن أفعل ذلك.. ليس ممكنا.. بطارية الهاتف المحمول فرغت من الشحن، يختطف هاتفا من يد فتاة في الشارع ويتكلم مع الزعيم، يقول له الأخير إنهم قتلوا والدته لأنه لم ينفذ التعليمات. يصرخ غضبا وحنقا وإحباطا: لقد ماتت البطارية.. كنت أبحث عن هاتف. يبكي من شدة التأثر، يوشك على الانهيار التام.
لم تُقتل والدته لكنهم قطعوا لسانها، كما يسمع عبر الهاتف وسيقتلون الرهينتين إذا لم ينفذ المطلوب. هذا ما يخبره به الزعيم. يوافق في النهاية مضطرا راضخا.
الزعيم يحدثه عن المذابح التي ترتكبها الحكومة ضد المسلمين وقيامها بتدمير آلاف من منازلهم. "لقد قتلوا 69 مسلما داخل مسجد و يأمره بدخول مبنى كنيسة قديمة في البلدة، يصر على البقاء إلى جوار الحقيبة التي بداخلها القنبلة. الزعيم يأمره في إلحاح مشوب بالتهديد الحاد بتركها ومغادرة الكنيسة.
يغادر الكنيسة.. لا نرى الانفجار.. موسيقى الناي الحزينة تغلف المشهد.. يقول له الزعيم عبر الهاتف: "اذهب وتطهر من ذنوبك.. اعتتنق الجهاد".

يتذكر الفتاة التي أراد الزواج منها في أمريكا وهي تقول له: "لا أستطيع أن أنجب ابنا مسلما".
يتجه في النهاية يتوضأ ويصلي، وينتهي الفيلم الغريب ويتركنا مع تساؤلات عن مصير بطله: هل يصلي ندما وتوبة على ما اقترفت يداه، أم نزولا على ما نصح به "الزعيم"؟ هل آدم في طريقه للانضمام إلى الجماعة والانسلاخ من ثقافته الأخرى "الأمريكية"، هل جذبته التربة الفلبينية وعاد إليه وعيه وانتماؤه، أنه فقد حريته وأصبح آلة في يد عصابة لا تعرف الرحمة.
الفيلم بأكمله يبدو مصورا في لقطة واحدة ممتدة، واللقطات إما قريبة للشخصية الحبيسة، أو عامة لتحقيق الإحاطة بالمكان من جهة، وخلق التناقض الحاد مع اللقطات القريبة من جهة أخرى.
ويجعل مخرجا الفيلم بطله القادم من الخارج، من الثقافة الأخرى، يتحدث بالإنجليزية، بينما يخاطبه "الزعيم" باللغة المحلية.

واقعية تسجيلية
ويعتمد الفيلم على الإيقاع السريع اللاهث، وعلى الكاميرا الحرة اتي تجعل المنظور يهتز، والصورة تتأرجح لكي تعكس حالة الاضطراب الشديد التي يعاني منها البطل.
ويستخدم المخرجان طريقة كتابة التوقيت والتاريخ والمكان على الشاشة في كل مشهد، لمزيد من إضفاء الواقعية التسجيلية على الأحداث.
ورغم الواقعية الصارمة في بناء وتصميم المشاهد واللقطات، لا يكشف الفيلم عن آلية الإرهاب من خلال مشاهد التفجيرات والشخصيات الشيطانية التي تظهر عادة في الأفلام، بل من خلال الكشف عن القناعات الثابتة من خلال الحوار، وعملية غسيل المخ القاسية التي يتعرض لها البطل.
ويبتعد الفيلم عن تصوير مشاهد العنف باستثناء لقطة واحدة لذبح رجل في الطريق، فاهتمام الفيلم ينصب أكثر على سيكولوجية الإرهاب وليس على أشكاله المباشرة. وهو درس في البلاغة لمن يريد أن يرى ويتعلم.
((تحذير: جميع الحقوق محفوظة ولا يجوز اعادة نشر هذه المادة دون إذن من ناشر المدونة))

الخميس، 24 سبتمبر 2009

حول الفيلم التونسي الجديد "الدواحة" أو "أسرار مدفونة"


هذا رابط إلى مقالي عن الفيلم التونسي "الدواحة" أو (أسرار مدفونة" الذي شارك في قسم "آفاق" في مهرجان فينيسيا السينمائي الأخير كما نشر في موقع "الجزيرة الوثائقية" وهو موقع متميز يهتم بالسينما بكل أنواعها وليس بالأفلام الوثائقية فقط، كما يقدر نقاد السينما ويهتم بابراز مقالاتهم وكتاباتهم ويسلط الأضواء على النشاط السينمائي في العالم العربي والعالم، وينشر مجلة شهرية مخصصة للسينما التسجيلية تهتم بالدراسات والأبحاث الجادة. موقع لا غنى عنه لكل المهتمين بالسينما من القارئين بالعربية.

الأربعاء، 23 سبتمبر 2009

الفيلم الإسرائيلي "لبنان" الفائز بالأسد الذهبي في فينيسيا


بقلم: أمير العمري

أعترف بداية أنني لم أنبهر بالفيلم الإسرائيلي "لبنان" Levanon الذي عرض في مسابقة مهرجان فينيسيا السينمائي وحصل على جائزة الأسد الذهبي لأحسن فيلم.
صحيح أن زاوية الرؤية جديدة، إذا جاز التعبير، إلا ان الفيلم لا يقدم موضوعا جديدا، بل يدور داخل نفس الدائرة "الذاتية" التي يدور فيها كثير من الأفلام الإسرائيلية منذ سنوات طويلة قد ترجع إلى عام 1982 عندما قدم آموس جيتاي فيلم "يوميات حملة" الذي يعد حتى الآن أفضل تلك الأفلام وأقواها وأكثرها إدانة للمؤسسة العسكرية الإسرائيلية، رغم أن جيتاي عاد بعد سنوات من فيلمه هذا وأفلام أخرى كانت تشي على الأقل، بموقف متوازن في تناول موضوع الصراع العربي الاسرائيلي أو تقديم الجانب "الآخر" منه مثل "بيت" و"وادي" وغيرهما، عاد لكي يأخذ بدوره دفة التبرير والتباكي بعد أن كان قد أعلن بوضوح "موت الحلم الصهيوني والحاجة إلى تجاوزه"!
أما فيلم "لبنان" فيقترب أكثر من فيلم السيرة التبريرية- إذا جاز التعبير المسمى "الرقص مع بشير"، وهو فيلم الرسوم الذي حقق أصداء كبيرة قبل أقل من عامين، وكان يسترجع تجربة صانعه ومخرجه آري فولمان، خلال الحملة العسكرية الإسرائيلية على لبنان في 1982 وخصوصا الجريمة الكبرى التي وقعت في صابرا وشاتيلا والتي تولى الفيلم تبرئة صانعه وزملائه منها والقائها بالكامل على عاتق ميليشيات حزب الكتائب اللبناني.
كان "الرقص مع بشير" مبتكرا في طريقة صنعه وأسلوب صانعه في التعبير عن ذكرياته بل وفي روايته لكيف نشأت الفكرة في ذهنه أصلا، فكرة عمل الفيلم. وكان أهم عنصر في هذا الفيلم يتعلق بفكرة "السينما العلاجية" أو الفيلم كوسيلة للعلاج therapeutical عن طريق استرجاع الذكريات ومواجهتها وبالتالي التخلص من كوابيسها للأبد.
فيلم " لبنان" بدوره مستمد من ذاكرة مخرجه وصانعه شاموئيل ماعوز Samuel Maoz الذي وجد نفسه داخل دبابة إسرائيلية مع ثلاثة من زملائه الشباب وهم في أوائل العشرينيات من عمرهم، في السادس من يونيو 1982، مطلوب منهم التوجه إلى بلدة لبنانية في الجنوب لمواجهة فصيل من المقاتلين الفلسطينيين.
تفاصيل المشاهد واللقطات ليست مهمة كثيرا لأنها عبارة عن تناسخ من بعضها البعض، أو عزف على النغمة نفسها، أي نغمة الحرب القاسية اللعينة التي تنتهك براءة هؤلاء الفتيان في عمر الزهور، وكيف أن القيادة مجرمة بينما الجنود ضحاياها فهم عاجزون عن التعامل مع الواقع الميداني بالعنف المطلوب لأنهم مجرد أولاد لم يشبوا عن الطوق بعد، لا يعرفون القتل، ولم يمارسونه من قبل، بل ويحجمون الآن عن ممارسته في مواجهة الطرف الآخر "العدو"، مما يتسبب في مقتل أحد زملائهم.
ويصورالفيلم كيف أصبح المدنيون اللبنانيون ضحايا لقوات المقاومة الفلسطينية التي تستولي على منازلهم وتحولها إلى مواقع قتالية مما يجعل الإسرائيليين يضطرون إلى قصفها على مضض، مع التأكيد على "تفادي المدنيين"، وكيف يسارع جندي اسرائيلي إلى إنقاذ امرأة لبنانية بعد أن اشتعلت النيران بثوبها، ثم كيف يدفعها دفعا بعيدا عن مرمى النيران.
في مقابل الواقع الذكوري الخشن، القاسي، العنيف، في ساحة حرب يصورها الفيلم باعتبارها حربا "عبثية لا هدف لها، يتذكر أحد أفراد طاقم الدبابة الإسرائيلية كيف يمكن أن تكون أمه الآن واقفة أمام صورته وهو طفل، تتأملها في يأس وتمزق، قبل أن تتناول حبة الفاليوم (دواء مهديء) لكي يساعدها على النوم بينما هو بعيد عنها لا تدري أي مصير ينتظره.
جندي آخر يتذكر كيف أن أمه كانت تحتضنه وهو صغير فيشعر بالرغبة الجنسية، وكيف أنها من فرط حبها له وإحساسها بلوعته، كانت تساعده على التخلص من الرغبة عن طريق حك جسده بجسدها إلى أن تنقضي فورة الرغبة عنده!
لقد أصبح طاقم الدبابة التي توغلت في منطقة سكنية ثم بدا لبعض الوقت أنها أيضا تعطلت، سجناء داخل تلك الدبابة وقد انقطعت بهم السبل، فلا هم يستطيعون التحرك للخروج من المأزق، ولا تستطيع قيادتهم الاستجابة لهم بارسال طائرة مروحية لانقاذهم. لأن "هناك بعض السوريين في المنطقة" كما يقولون.
أحد هؤلاء الجنود السوريين يتم أسره بعد أن يطلق قذيفة تصيب الدبابة دون أن تعطبها تماما. يمسكون به ويضعونه معهم داخل الدبابة. يهدأون من روعه، يحاولون التحدث إليه، لكنه لا يستطيع فهم العبرية، وهم لا يمكنهم الحديث بالعربية.
وعلى غرار ما نراه على نطاق أوسع في فيلم "الرقص مع بشير" تتكرر الفكرة هنا أيضا عندما يأتي أحد مقاتلي الكتائب، يهبط إلى الدبابة الإسرائيلية هكذا بكل بساطة، ويأمر الإسرائيليين بالخروج فورا من هذه المنطقة، ويصر على أن يتحدث إلى الأسير السوري موهما الاسرائيليين أنه عقد صفقة مع السوريين على تسليمهم إياه مقابل السماح لهم بالخروج.
وينفرد الكتائبي بالسجين السوري وهنا يتحدث إليه بالعربية، يهدده ويتوعده ببئس المصير: سأربط ساقيك إلى عربتين ثم أمزق جسدك تمزيقا، سأتبول عليك قبل أن أحرق جثتك..إلخ
يرفض الإسرائيليون تسليم السوري له، وينصرف اللبناني على وعد بانتظارهم عند نقطة ما. أحدهم يحاول أن يعطي الجندي السوري سيجارة، لكنه يرفض بل ويأخذ في الدق برأسه على جسم الدبابة مرددا كلمات تعكس هلعه وفزعه من المصير المنتظر، إلا أن الجنود يهدئون من روعه بل ويحقنونه بمادة مهدئة تساعده على الاسترخاء والنوم.
هذه هي الصورة التي يريد الفيلم توصيلها إلى جمهوره في الغرب عن الجندي الإسرائيلي: إنه ضحية قياداته التي تستخدم أسلحة محظورة مثل قنابل الفسفور رغم معارضته، وهو لا يريد سوى النجاة والعودة إلى أسرته، معاملته للعدو تتصف بالإنسانية والرقة والرفق، بل ويصور الفيلم في أحد مشاهده الرئيسية نوعا من "التمرد" من جانب الجنود على رئيسهم الضابط عندما يصر على ضرورة تحرك الدبابة فيما الفزع وانعدام الخبرة يجعل الجنود يعتقدون أن الدبابة لم تعد قادرة على التحرك.
ولاشك أن الفيلم مصنوع بشكل مؤثر: التصوير المتميز داخل ديكور دبابة بكل تفاصيلها الذي صنع خصيصا من أجل الفيلم، وفكرة تحويل الجنود إلى سجناء داخل الديكور الحديدي الضخم، حتى يصبحوا منعزلين تماما عما يجري خارج الدبابة، بل إن كل المناظر التي تحدث في الخارج نراها من خلال منظار الرؤية في الدبابة، أحيانا باستخدام الأشعة تحت الحمراء التي تتيح القدرة على الرؤية الليلية.
ولاشك أن هناك قدرة واضحة لدى المخرج على التحكم الكبير في أداء الممثلين، الذين تدربوا طويلا على الأداء، كما سمح لهم بنوع من الارتجال المحسوب خصوصا في المشاهد التي تنفجر بالصياح والمشاجرات والسباب، بعد أن حبسهم المخرج داخل الديكور لفترة طويلة، وأخذ يمارس عليهم نوعا من الضغوط العنيفة كما كشف خلال المؤتمر الصحفي للفيلم.

لكنه خلال نفس المؤتمر الصحفي لمناقشة فيلمه في فينيسيا فشل في تقديم إجابة مقنعة ردا على سؤال بشأن المشهد الخاص بالأسير السوري مع رجل الكتائب: هل ستترجم ما يقوله جندي الكتائب للجندي السوري في الفيلم عند عرضه في إسرائيل، إلى العبرية أم سيبقى بالإنجليزية.
مغزي السؤال واضح تماما وهو هل تريد للجمهور الإسرائيلي أن يعرف ما يقوله الكتائبي للسوري وما يوجهه له من إهانات بشعة وما يمثله المشهد من تحالف بين هؤلاء "القتلة"- من الكتائب- وهؤلاء "الأبرار" من الإسرائيليين؟!

صاموئيل ماعوز أجاب عن هذا السؤال قائلا إنه لا يعرف، وإن هذا الجانب يمثل مأزقا بالنسبة له ولصناع الفيلم. أي مأزق.. لا نعرف!
أما بعد فوزه بجائزة فينيسيا الكبرى فلم يذكر ماعوز في الكلمة التي ألقاها أي شيء يشير من أي زاوية، إلى معارضته الغزو والحروب التي يشنها الجيش الإسرائيلي، أو معارضة قتل المدنيين، والدعوة إلى السلام في رد واضح على الذين روجوا للفيلم باعتباره من الأفلام التي تدعو للسلام وتدين الحرب الإسرائيلية.
بدلا من ذلك قال ماعوز التالي: "لقد كنت في وضع لا مخرج منه. لكني مازلت أحمل مسؤولية التعامل مع ما حدث. بالنسبة لي، كان صنع الفيلم خطوة مؤلمة في التعامل مع المشكلة بدلا من إخفائها تحت البساط". لقد كان إذن يحاول حل مشكلة ذاتية تتعلق بجرح كائن في ذاكرته.
ثم يقول: "إنني أهدي هذا الفيلم إلى كل الذين اشتركوا في الحروب في العالم وعادوا منها سالمين". هذه رسالة إلى كل المحاربين في العالم الذين عادون سالمين، فالنجاة هي ما يهم!
وفي تصريح للقناة الأولى في التليفزيون الإسرائيلي قال ماعوز: "أتمنى أن يفهم الناس بلدنا أكثر، ويفهمون مجتمعنا أكثر، وتعقيد مجتمعنا أكثر". إذن الفيلم سيساهم في "تجميل" صورة إسرائيل وفهم أن المجتمع الإسرائيلي معقد أي أن فيه الكثير من الضحايا وليس كما يتصور البعض، مجرد معتدين!
ولعل تقرير مارتن نيلمان الذي نشرته مجلة "سكرين" كان متسقا تماما مع هذا التفسير حينما قال "ربما تظن أن الحكومة الإسرائيلية لن تدعم كثيرا فيلما يقدم بيانا مرعبا كهذا لما حدث في لبنان عام 1982، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار بعض الإشارات إلى أن إسرائيل ترغب في استخدام الثقافة كوسيلة لتبييض ماضيها".
ويمضي التقرير قائلا: "لكن الحقيقة أن الحكومة الإسرائيلية دعمت هذا الفيلم، تماما كما دعمت فيلم "الرقص مع بشير" لآري فولمان العام الماضي عندما عرض في مهرجان تورنتو قبل أن يرشح لجوائز جولدن جلوب".
((تحذير: يحظر إعادة نشرهذا المقال دون إذن مسبق من الناشر، جميع الحقوق محفوظة))
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger