الجمعة، 28 أغسطس 2009

الشام : ذهاب ، غياب ، وإياب

((هذا البيان- الرسالة- المقال التفصيلي وصلني من الصديقة الشاعرة ظبية خميس عن تجربتها الأخيرة في محاولة حضور "مهرجان" أدبي في سورية، أنشره هنا كاملا كشهادة من مثقفة عربية بارزة على ما وصل إليه الحال الثقافي في بلادنا من تدهور وصراعات شخصية سخيفة))




بقلم: ظبية خميس


ثمة تحولات اليوم في الأماكن والأفراد تدعو للذهول. ولا ثبات للحال. فما بالك لو طال الغياب لربع قرن أو أكثر عن المكان وناسه .. لابد آئنذاك أن يكون التحول أعمق من إدراك المرء لتفاصيله.
غبت عن الشام لزمن طويل .. وهي البلاد التي شاهدتها لأول مرة مع عائلتي في طفولتي .. ولطالما زرتها خلال النصف الأول من ثمانينات القرن العشرين وخالطت أدباءها وأهلها وتمتعت بأنس بلادها ورقي مثقفيها وأدباءها.
ذلك الإخضرار الذي جعلها جنة صغيرة في عين إبنة الصحراء برمانة والزبداني وبلودان ومياه بردي التي كان الدراق والبطيخ واللوز الأخضر يوضع في سلال ليبرد تحت شلالات مائه في عز القيظ. وإخضرار الروح الذي رافق مراهقتي وأنا أقرأ كتب غادة السمان وأشعار نزار قباني وروايات كوليت خوري. ثم ذلك الزمان القصير الذي إمتد إلى ما بعد وأنا أقرأ كتب محمد الماغوط ، وممدوح عدوان ، ونزيه أبو عفش ، وإحسان مراش، وسعد الله ونوس ، وعلي الجندي وشعراء وأدباء فلسطين الذين أقاموا فيها يحيى يخلف وأحمد دحبور ورشاد أبو شاور وغيرهم. بل أنني إلتقيت في طرقاتها بأدباء لاجئين فيها مثل منعم الفقير آئنذاك قبل أن يهاجر إلى الدانمارك ، وقاسم حول ، بالإضافة إلى أهل السياسية فارين إليها من حركات ثورية كانت آئنذاك من البحرين ، والسعودية ، وغيرها من الدول العربية.
هذه هي الشام التي عرفتها مخلوطة بآثار إبن عربي ، وأبو فراس الحمداني والمعري والنعمان بن المنذر وزنوبيا وحجر أوغاريت والتاريخ الممتد إلى أغوار أغوارها.
العودة إلى الشام بعد غياب هي مثل عودة المرء إلى بيت جده الكبير وتشمم رائحة ثياب جدته .. عودة إلى أصل وجذر.
لذلك وعندما تلقيت دعوة بالبريد الإليكتروني من السيدة رشا عمران لحضور مهرجان السنديان الذي أسس له والدها محمد عمران وهو شاعر قابلته منذ زمن طويل وأكملت هي مسيرته بعد وفاته تحمست للسفر إلى الشام رغم أنها شرحت أنها تعتذر لتأخرها في الدعوة وأنه أول مهرجان أهلي في الشام تقيمه على حسابها ولا قدرة لها على على دفع تكاليف السفر ولكنها تتكفل بالإقامة. وطلبت إستضافتي لمدة تطول عن عشرة أيام من 2 أغسطس وحتى 14 أغسطس في قريتها الملاجة في طرطوس. وذكرت لي أسماء بعض المشاركين فتحمست للمشاركة لأرى الشام أولاً ولأشجعها وأشجع مهرجانها الأهلي ثانياً ولأتعرف على تطورات الجيل الجديد من شعراء سوريا عبر هذا الملتقى وإعتذرت عن تلك الأيام الطويلة وذكرت لها بأنني سأأتي إلى الشام وأقضي ثلاثة أيام في دمشق التي إشتقت إليها ثم فلتستضيفني هي لمدة ثلاثة أيام أخرى في قريتها لأعود بعد ذلك إلى القاهرة. وإتفقنا على اللقاء في دمشق عند وصولي هناك.
لم أكن أعرف رشا عمران ولا عن مهرجانها قبل ذلك. وقرأت لها نصوص نثرية في موقع كيكا الإليكتروني عبرت لها عن إعجابي بها وكذلك قرأت أنثولوجيا عن شعراء سوريا الشباب على موقع جهات الشعر تسببت في خلاف كبير بين عدد من شعراء سوريا وبينها بسبب تجاهلها لعدد كبير من شعراء الشام وإقتصار الأنثولوجيا على معارفها وأصحابها على حد قولهم بالإضافة إلى مشاكل صغيرة حدثت بينها وبين بعض ضيوفها في الماضي منهم أديب سعودي لم أعد أذكر إسمه.
وفي السابع من أغسطس غادرت القاهرة إلى الشام ببهجة كبيرة وشوق عارم. ومن السماء لفت إنتباهي ذلك التصحر الذي أحاط بدمشق وفي المطار لفت إنتباهي كل ذلك السواد من الحجاب والنقاب الذي لف معظم الشاميات في المطار. ألم أقل إنه غياب تجاوز الربع قرن.
إخترت النزول في فندق الشام في قلب دمشق لأنه يذكرني بجلساتي مع محمد الماغوط زمان. وهناك إلتقيت صديقتي الدبلوماسية كوكب الريس شقيقة الناشر رياض الريس التي أتت خصيصاً من بيروت إلى دمشق لترحب بي وتقضي تلك الأيام في صحبتي متجاورتان هي في فندق أمية وأنا في فندق الشام.
وفي مقهى البرازيل في فندق الشام لاحظت التغير ، أيضاً ، فلا وجوه أتذكرها هنا.. ولا رائحة لحوارات المثقفين. سألت عن طاولة محمد الماغوط .. وعن من ما لا يزال يزور المكان من الشعراء فقيل لي لا أحد. وسألت عن الشاعر علي الجندي إن كان ما لا يزال حياً .. لأصعق بخبر وفاته في ليلة وصولي. وداعاً لهم ، إذن ، ذلك الجيل المعتق بالحلم والحبر .. والوصول إلى ما هو أبعد.
سألت عن مقهى أبو علي في الربوة حيث كان الماغوط يحب الجلوس والتأمل نهاراً فقيل لي أنه أغلق وتم هده. سألت عن مقهى اللاتيرنة فقيل إلي أنه تحول إلى ديسكو وقد كان مقهى ومطعم يجمع شمل شعراء وأدباء أيام زمان. إذاً الأشخاص والأماكن المألوفة أيضاً لم تعد هناك.
توجهنا في اليوم التالي لزيارة قبر صلاح الدين الأيوبي والصلاة لروحه .. ثم إلى الجامع الأموي الذي ما أن هممت بدخول بابه حتى أحاط بي الزبالين : غطي يامرة .. غطي يا مرة دون إعطائي فرصة لخلع الحذاء ووضع غطاء على رأسي فقررت عدم دخوله ما دام الزبال هو موجهي لكيفية الخشوع في حوش الجامع. ودلفنا إلى سوق الحميدية المكتظ بالمنقبات والمحجبات ومجلات قمصان النوم الحمراء والشفافة التي نافست ما قد كان منذ زمن محلات للمشغولات اليدوية الشامية.
كنت قد إتصلت برشا عمران حال وصولي للشام يوم الجمعة وقالت أنها ستأتي للسلام علي يوم السبت غير أنها لم تتصل ولم تأت رغم إنتظاري لها طوال المساء وبتكرار الإتصال بها قالت أنها ستأتي يوم الأحد وإعتذرت لإنشغالها.


زرت معرض الكتاب على أطراف دمشق وتجولت بين قاعات الكتب وإشتريت بعض الكتب التي ذكرتني بمن أحبهم وأولهم محمد الماغوط وغادة السمان ومحمود درويش. وفي اليوم التالي أبكرت الإرتحال إلى أديرة وكنائس معلولة وصيدنايا وحضرت قداس الأحد في معلولة وأفطرت من نبت أرضها وكنت أشعر بقداسة تلك الجبال والوديان وأصغيت إلى اللغة الآرامية من حولي.
وفي طريقي بعد الظهر إلى الفندق وجدت إتصالاً من رشا تبلغني فيه بأنها في مقهى البرازيل في الفندق فذهبت للقاءها هي وأصدقائها هناك. ثم إصطحبتها إلى جناحي في الفندق وأهديتها كتبي وهدية لها وأدوية طلبت مني إحضارها لها من أجل أمها. ودردشنا حول الأدب والحياة وتعارفنا قليلاً. وسألتها عن ضيوف المهرجان فقالت أنه لم يصل منهم غير 6 أشخاص فقط وأن بعضهم يصل الليلة وأنها تتصل بالشاعر العماني زاهر الغافري ولا يرد فلعله لن يأتي وأن الشاعر المصري أحمد الشهاوي قد يصل متأخراً للمشاركة في معرض الكتاب وإنه قد لا يتمكن من المشاركة في لقاءها وأن شاعراً إنجليزياً إسمه جيمس يصل الليلة وستذهب للمطار لإستقباله وغير متأكدة أين ستأخذه ليبيت الليلة فهي لم تحجز له فندقاً في دمشق وتلك هي زيارته الأولى إلى العالم العربي.
أخبرتها نصف مازحة بأنني أشتم رائحة عدم تنظيم للمهرجان وأنني إذا لم يعجبني الحال فلن أشارك فأنا لا أحب العشوائية عموماً ولابد أن يكون مكان إقامتي في طرطوس مقبولاً لأقضي تلك الأيام التي دعتني إليها وطمأنتني بأنها قد تبدو غير منظمة لكنها منظمة جداً. ثم مضت رشا لإنشغالاتها.
وفي منتصف الليل فاجأتني بدعوتها لي لأأخذ تاكسي وأنضم إليهم في مطعم "عندنا-شي نو" حيث تحتفل هي وأصدقاءها وجيمس الشاعر الإنجليزي الضيف فذهبت وسهرت معهم حتى وقت متأخر وقبل العودة إلى الفندق سألتها عن موعد السفر غداً إلى طرطوس فأجابت أنها لا تعرف ربما مساءاً .. ربما ليلاً .. ربما بالقطار .. ربما بالباص. فتوجست من ذلك وطلبت عنوان الفندق هناك وأخبرتها بأنني سوف أستأجر ليموزين للسفر إلى هناك والذهاب إلى الفندق مباشرة لأن موعد المغادرة من فندق الشام هو 12 ظهراً فأعطتني إسم الفندق وعنوانه. وللوهلة الأولى كان علي أن أعيد التفكير فإسم الفندق نفسه لا يدعو للطمأنينة. فندق الغابة.
مضيت في الصباح التالي مع السائق أبو إبراهيم إلى الأوتوستراد ومنه إلى طريق طرطوس .. تحيطنا الجبال الجرداء والصحراء والقرى الصغيرة من كل مكان. وتأملت المشهد الذي بقى في رأسي جميلاً رغم كل شيء فتلك الجبال والهضاب الجرداء تبدو لي مغلفة لأسرار التاريخ الطويل الذي شهدته هذه البلاد. ولم نتوقف إلا في بلدة النبك في الطريق .. حيث لمحت ديراً على أطرافها .. وفي داخلها بيوت تبدو معظمها مغلقة ومهجورة ووضح لي السائق أن أهلها معظمهم مهاجرين إلى السعودية وأمريكا اللاتينية وغيرها وتوقفنا في سوقها لشراء الدراق واللوز والفستق والجوز والبندق ثم أكملنا الطريق الذي طال خمسة ساعات قبل الوصول إلى طرطوس.


ولم أر البحر. " يا عم أبو إبراهيم أين البحر ؟ " ..
- " إنه هناك ". وإستدار إلى شواطئ ترتمي عليها أكوام الزبالة وتتزاحم العشش وسفن الميناء. الأبنية القديمة .. وآثار تاريخية متداعية. فأين فندق الغابة ، إذن ؟ سألنا .. ودخلنا إلى أحياء المدينة حتى وصلنا إلى شارع سكني صامت. وفي الزاوية مبنى من عدة أدوار ولافتة صغيرة على الدور الثالث منه تحمل إسم الفندق. طلبت من السائق الإنتظار. ودخلت باب المبنى وسألت فقال لي رجل هناك ، ربما كان الحارس ، إنه في الدور الثالث وبقية الأدوار شركات أخرى ثم سألني إذا ما رغبت في أن يرافقني في المصعد لأن المصعد قد يتوقف بي بسبب إنقطاع الكهرباء المفاجئ والمحتمل.
وصعدت إلى الفندق الذي يشبه غرف مستشفى القصر العيني في القاهرة .. شقة صغيرة وآنسة في زاوية الإستقبال وراء ورود صناعية مغبرة تحمل اللحاف والمخدة وتستقبلني لتريني غرفتي في زاوية وراءها. الغرفة بها حوض إغتسال كأي فندق صغير من فنادق العتبة في القاهرة والشباك يطل على حوائط سد. كيف لي أن أقضي ثلاثة ليالي في مكان كهذا يبعد عن مكان المهرجان حوالي 40 كيلومتراً ؟
إتصلت بي رشا عمران وأخبرتها أنني وصلت إلى طرطوس وإنه يصعب علي قبول النزول في مكان كهذا. أخبرتني أنها لا تزال في دمشق وأنها تقترح علي فندق للمغتربين في ضيعة على مقربة من قريتها ولكنها لن تدفع للفندق وعلي أن أتحمل تكلفة إقامتي هنا وأنها سترسل إلي بقريبها الدكتور ليدلني على ذلك المكان. وبالفعل جاء الدكتور وتبعناه بسيارة الأجرة وهو يرتقي جبال طرطوس ويدور في محاورها وعلى بعد 22 كيلو وجدنا ضيعة صغيرة لا يتعدى سكانها ربما المائة ومبنى صغير يحمل إسم فندق هناك. المصعد خارج المبنى ونصعد به إلى السطح ثم ننزل على الأقدام ليقول لي رجل الفندق أنهم سيرونني أجمل غرفة لديهم – غرفة شهر العسل للعرسان ليفتح الباب فأفاجئ بمشهد من مشاهد سلفادور دالي: مرحاض وبانيو وشطاف وسرير ضخم في غرفة واحدة ونافذة تطل على حائط. ضحكت كثيراً بالطبع فلم يسبق لي أن رأيت مرحاض نوم من قبل وسألته لماذا الغرفة هكذا فأجابني لأن العرسان لا يحتاجون إلى أكثر من ذلك وحمدت الله أنني لست عروساً تقضي شهر العسل في ذلك المكان. إعتذرت عن الإقامة في ذلك المكان وذهبنا بصحبة الدكتور لنشاهد الملاجة وعلى بعد 22 كيلو متر آخر فوق الجبل توقف الدكتور فجأة أمام أحجار مبعثرة وقال أن هذا هو المسرح الذي بنوه بأيديهم وسألته أين القرية فأشار إلى منطقة بعيدة حوالي 10 كيلو مترات بها عدة بيوت على رأس الجبل وقال أنها تلك. وإنه لابد من المضي بالسيارة إليها من هنا. كان المغرب قد إقترب وأردت العودة إلى دمشق وخصوصاً أن هناك سيارة معي يحسب صاحبها ساعاته بالدولارات وهو ينتظر لذلك إعتذرت عن دعوة الدكتور لزيارة منزله لكنني سألته لماذا لا تحضرون ضيوفكم للإقامة في القرية ما دامت بعيدة هكذا بدلاً من تجشم المشقة من طرطوس إلى هنا فرد بأن منازلهم لا تتسع للضيوف لقلتها وضيقها. خمسة ساعات أخرى من الطريق وعدت إلى دمشق في ليلة الإثنين ولم تتصل رشا عمران أبداً بي لا تلك الليلة ولا بعد ذلك وأنا تناسيت الموضوع وقررت أن أكمل تجوالي في دمشق وما حولها رغم إنني مرضت في اليوم التالي ولازمت السرير بسبب إجهاد السفر ذهاباً وإياباً في نفس اليوم إلى طرطوس.
زرت أسواق الحمراء والصالحية وجامع السليمانية ومتحف دمشق وبلودان والزبداني وقبر قابيل على جبال بردى ومنبع بردى وتجولت وتمتعت بصحبة صديقتي كوكب في دمشق. ثم تحضرت لمغادرة الفندق ظهر يوم الجمعة 14 أغسطس وأثناء محاسبتي لفواتير الفندق في الإستقبال فوجئت بالشاعر أحمد الشهاوي آتياً للسلام علي فقد وصل في الليلة السابقة وأخبرني أن وزير الثقافة السوري السيد رياض نعسان الآغا موجود في اللوبي ويود السلام علي فمضيت معه للسلام عليه وخصوصاً إنني أعرفه منذ زمن فقد أجرى لقاءاً تليفزيونياً معي منذ عشرين عاماً وكان سفيراً لسورية في الإمارات فيما بعد ثم وزيراً للثقافة اليوم وهو للحق شخصية دمنة ورجل إعلامي مثقف لطالما أطل على الجمهور العربي وله الكثير من المعارف والأصدقاء في الوسط الثقافي العربي.
وفي اللقاء الخاطف ذلك رحب بي وذكر أنه لم يعرف بوجودي في دمشق وأنه كان سيحتفي بي لو عرف ذلك وسألني عن مهرجان السنديان فذكرت له إنني لم أشارك بسبب عدم وجود مكان لائق للإقامة أثناء فترة المهرجان وإن إنطباعي أن التنظيم ليس جيداً بما يكفي ثم ودعتهم وسافرت إلى القاهرة.
وصلت ليلاً إلى القاهرة وفي منتصف الليل فوجئت بإتصال على الأنسرماشين من رشا ورسالة بأنها زارتني ذلك الصباح في الفندق ولم تجدني. إستغربت بالطبع فهي لم تتصل ولم تسأل منذ الإثنين وها هي ليلة وصولي للقاهرة – الجمعة – تتصل. أرسلت إليها في اليوم التالي بأنني سررت بلقائها وإعتذرت لأن المكان لم يناسبني. وإنهالت علي بعدد من الرسائل والتهديدات بأنها ستكتب في الصحف وبأنني شاعرة فنادق .. إلخ فإضطررت للإتصال بها لإيقافها عند حدها وشرحت لي بأن الوزير ذهب إلى طرطوس وأقام مؤتمراً صحافياً إتهم فيه مهرجانها بأنه مهرجان فقاعات ثقافية. شرحت لها أن هذا أمر داخلي لاشأن لي به فالوزير كي يصرح بمثل ذلك التصريح لابد أنه مبني على أمور تتجاوز قضية إستضافتي وذكرت لها بأنني لا أريد الدخول في معارك إعلامية معها وتمنيت لها التوفيق.
وللحقيقة فقد عدت مريضة من سوريا ولا أزال فقد وقعت طريحة الفراش لمدة أسبوع غير أن ذلك السيل الإعلامي والبيانات التي أصدرتها – رشا عمران مورطة ضيوفها معها فيها ومتهمة إياي بأمور تشوه صورتي وتسيء إلي دعتني لكتابة كل هذه التفاصيل. جزئياً للتوضيح .. وجزئياً لذهولي مما آلت إليه سلوكيات بعض المثقفين والمثقفات العرب في سياق مهرجاناتهم وملتقياتهم وشلليتهم. وأنا أنأى بنفسي عن كثير من الملتقيات لا لشيء سوى أنني أجد معظمها تفتقر إلى أدنى شروط العمق الثقافي وسلاسة التواصل الإنساني وللمتاجرة البينة في أخذ المساعدات أو التلميع الإعلامي سواءاً للجهات الرسمية أو بعض الأفراد القيمين عليها. إنهم يستغلون أسماءنا لا لصنع المزيد من الثقافة ونشرها بل للإتجار بها ضمن منجزاتهم والحصول على المزيد من الأموال التي لا ندري إلى أين تذهب تحت مسميات مهرجانات الشعر والأدب المحلي والدولي. رحم الله الماغوط وونوس وممدوح عدوان وإحسان مراش ومحمود درويش الذي أحب دمشق كثيراً في قصائده ونزار قباني الذي جعلنا نشم رائحة ياسمينها دون أن نزورها وأطال الله في عمر غادة السمان التي لا زالت كتاباتها مضمخة برائحة جدران دمشق القديمة.

ظبية خميس

dhabiya@hotmail.com
القاهرة
20/8/2009

الأحد، 16 أغسطس 2009

المعالجات الفيلمية تلتهم بعضها البعض شاء السيناريست أو لم يشأ


توسيع دائرة التشابك بين مريم ومحمود

بقلم: علي عوض الله كرار
((هذا أحد مقالات الكاتب علي عوض الله كرار التي منع صلاح عيسى رئيس تحرير جريدة "القاهرة" نشرها لديه، وأرسلها لي كاتبها ننشرها كما كتبها احتراما لرأيه ومدخله الخاص للموضوع)).

" أنا شخصيا"ً أكتشفت أن فيلم "واحد صفر" مسروق من ألف فيلم ".. هذا ما قالته كاتبة السيناريو مريم نعوم عن فيلمها فى معرض ردّها على مقال الناقد محمود قاسم الذى أتهمها بالسرقة من فيلم واحد ذكره أسماً وجنسية . وهو معذور، ذلك أن الفساد ومنه السرقة قد شاع أمره فى كافة المجالات ، وعلى كل الاصعدة ، حيث أنه تطور من سرقة الغسيل المنشور على حبال البلكونات ، إلى سرقة ما فى جوف الإنسان من أعضاء حيوية ، ومن سرقة مقال أو قصة أو قصيدة أو رسمة إلى سرقة رسالة دكتوراه ، وهكذا.
على السيناريست مريم أن تعذر الناقد محمود . ألم تسمعى عن التعبير الشائع
فى مصر، منذ سنوات طويلة : ( أصبح الواحد يشك فى نفسه ، مش فى غيره وبس) فما بالنا اليوم ؟ وأيضاً ألم تسمع يا محمود المثل الشعبى المصرى القائل "يخلق من الشبه أربعين" .
ومن ناحية أخرى كنت أتمنى أن يكون خطاب مريم موجهاً للقارئ من خلال ردّها على الناقد محمود ، حتى لأ يُساء فهم هذا التعبير الذى قالته ضمن كلامها ، فالقارئ مشغول بمشاغله ، متعجل ، ليس لديه وقت ليفكر فيما يقرأه ، مُقلباً إياه على كافة وجوهه ، خاصة وأنه مقال فى فيلم أو عنه أو حوله ، وقد درج القراء على أن هذا النوع من الكتابة صدره كظهره كأجنابه ، وبالتالى رأيت أن توضيح عبارتها سالفة الذكر هو الأهم فى الموضوع، والمكسب الذى سأخرج به كقارئ مهتم بالثقافة الشعبية للوجدان ( = السينما ) ، وأيضاً حتى لا تصبح مريم مثل الواثقة من براءتها التى ترد على ضابط المباحث الذى يتهمها بسرقة بنك ، فتجيبه : لا ياسعادة الباشا أنا سرقت ألف بنك ( المبالغة هنا تعنى عدم حدوث سرقة حقيقية أصلاً ) لكن فى حالة الفيلم فهو حقيقة مجازية ، فكل ما يلتهمه المرء ويشربه ويتنفسه ويتعلمه هو وراء كل فتفوتة عمل يقترفها بشكل حسن أو سئ . كما أن هذا الرد فيه استفزاز حتى ولو قيل بشكل ( شيك) ودبلوماسى . إنه مثل رد نبيلة عبيد على ضابط البحث الجنائى فى فيلم ( التخشيبة ) للمخرج عاظف الطيب، فما كان من الضابط سوى أن عاملها كأى متهمة عادية ، وأكمل إجراءاته، ولم يشفع لها كونها طبيبة ذات سمعة مهنية وأخلاقية جيدة .
والآن أدخل إلى ما أراه مهما فى هذا الموضوع :
هناك فيض من أفلام أنتجت خلال 114 سنة تقريباً ، يوازيه فيض آخر من القنوات الفضائية ، وبالتالى أصبح المرء ينام إلى جوار أفلام ، ويصحو على أفلام ، ويفطر مع أفلام ، ويتناول غداءه فيما عيناه تلتهم فاتنات الفيلم وأحداثه المسبوكة.
وبالتالى أصبحت العين مشحونة لآخرها بمكتبة فيلمية متعددة الجنسيات والتوجهات والمستويات الفنية . وفيما العين تجرى مع سيل الأفلام التى لاتتوقف يكتشف المتفرج أنها تشبه البطاطس التى تعُدها له زوجته . مرة : تقدمها له على هيئة أصابع محمرة، ومرة : على هيئة حلقات فى صينية بالفرن ، ومرة : مسلوقة ومهروسة بالزبد والبيض ، ومرة : تسلقها وتهرسها وتفرد نصفها فى الصينية ثم تضع فوقها عصاج اللحم ثم تغطيه بالنصف الآخر ، ومرة تقشرها وتحدث فى وسطها حفرة تملأها بعصاج من اللحم ثم ترصها فى صينية توضع بالفرن ، ولاننسى سلاطة البطاطس والشيبسى وعشرات الأكلات الأخرى التى أبتكرتها كل أمة من الأمم ، ولاننسى أن البطاطس ذاتها عدة انواع ،وهكذا مع المواد الغذائية الأخرى . وإذا كنا نقول أن الطبيخ نََفَس ، فإن العمل الإبداعى رو ح،وليس جسداً ، وهذه الروح تطل علينا من خلال عدة أفلام للمخرج الواحد مثل أفلام عاطف وخيرى وخان وداوود . إن وضعت أفلام كل واحد منهم إلى جوار بعضها تستطيع أن تحس بروح واحدة تجمع تلك الأفلام التى قد تتشابه من الظاهر أو تختلف ، وحتى فيلم ( مستر كاراتيه) لمحمد خان ، رغم ما يبدو أنه الخروج الكبير على مسيرة أفلامه ، إلا أنه بالتعمق فيه لا أرى ذلك . وكذلك ( أيس كريم فى جليم ) لخيرى ، و( مواطن ومخبر وحرامى ) لداوود .
ومن شاهد فيلم (عطر امرأة ) بطولة آل باتشينو، وشاهد فيلم ( الكيت كات ) لداوود، يرى مشهداً متشابهاً : محمود عبد العزيز الضرير يقود موتوسيكلاً ، وآل باتشينو الضرير هو أيضاُ يقود سيارة . فمن سرق الآخر ؟. سؤال ساذج طبعاً . ما المانع فى أن تنتاب أى أعمى ، فى أى مكان، الرغبة فى أن يظهر لآخرين أنه يبصر الدنيا والناس وما يفعلون بأوضح ممن يمتلكون عيون صقر ( 6 على 6 ) ، إنها مثل الرغبة التى تنتاب جائعاً فيرى البصلة خروفاً ، والفول لحماً ، وفيما هو نائم يحلم بسوق العيش ، مثل الرغبة التى تنتاب محروماً فيرى المخدة ليلى علوى ، أو ماشاء من النجمات . إنه إحساس إنسانى ، سوىّ أو مضطرب ، موجود فى كل مكان .
ومرة أخرى هو سؤال ساذج فى هذا المقام الجامع بين فنانين كبار.
ومن ناحية أخرى :
الأفلام تشبه لعبة الميكانو التى تستطيع أن تفكها وتعيد بناءها لتصبح شيئاً مختلفاً ، ثم تعيد الفك والتركيب لخلق أشياء شديدة التباين ، رغم تماثل وتشابه الوحدات المستخدمة . بل أننى أتطرف وأقول أنه يمكن لمخرج مجنون بالسينما ، مخه طاقق بالإبداع ، أن يستولى على فيلم أعجبه ، ويفكه إلى لقطات ، ويُبعد عنه مؤثراته وموسيقاه التصويرية ، بل وديكوراته ، ثم يعيد بنيانه من جديد . فى هذه الحالة هو مخرج عبقرى إذا كان وراء ما فعل فلسفة معينة ، وبالتالى يحُسب له الفيلم ، بالضبط مثلما يذهب الفنان التشكيلى إلى سوق الجمعه بالإسكندرية ، ويشترى أشياء قديمة ( قد يكون بينها رابط أو لايكون ) ومنها يخلق لوحة جديدة ( قد تكون عبقرية ، وقد لا تكون ) .
ومع هذا فإن التشابه هو إشكالية السينما منذ وقت ليس ببعيد ، وقد نجت منها أمريكا لا من خلال نفيها ، بل من خلال تجديد طرائق التعامل معها مستعينة بــ :
* التقدم التكنولوجى فى أدوات السينما ( تصنيع وعرض )
* التعامل مع الأحداث الآنية أولاً بأول ، وقبل أن تصبح تاريخاً ماضياً
* الجرأة التى تزداد عاماً بعد عام فى تناول الموضوعات خاصة فى السياسة والمعتقدات الدينية والجنس بكل أنواعه السويّة وغير السويّة .
وطبعاً لست محامياً للشيطان ، فهناك لصوص ربما يحتمون بكلام مثل الذى قلته ، ولكن سلسلة أفلامهم هى التى ستكشف زيفهم ، حال فقدها للروح الجامعة لها .

الخميس، 13 أغسطس 2009

الكاتبون للآخرين والأخريات: بين بطش الحكام وإغراء السلطة الناعمة

لا يكتب كبار القادة والحكام والمسؤولين خطاباتهم أو كلماتهم الموجهة لعموم الناس، بل دائما هناك كتاب متخصصون في هذا النوع من الكتابة، توكل إليهم مهمة متابعة الشخصية الكبيرة أينما ذهبت، والاستعداد للحدث الذي ستحضره بتدبيج الكلمات والخطابات التي سيلقيها المسؤول أو الحاكم بل والرسائل التي يبعث بها إلى رؤساء الدول الأخرى في مختلف المناسبات.
هذه هي طبيعة الأمور، فالكتابة ليست مهنة الحكام ولا المسؤولين، خاصة اذا كانوا مثل معظم الحكام العرب أي: إما شبه أميين، ورثوا الحكم في غفوة من التاريخ، أو مجموعة من "الأومباشية" – على حد تعبير الشاعر الكبير أحمد فؤاد نجم- يقصد مجموعة من العسكر غير المؤهلين للاشتغال بالفكر أو بالسياسة ناهيك بالطبع عن فن الكتابة!
وحتى جمال عبد الناصر الذي كان عسكريا متميزا عن أقرانه دون شك بما كان يبذله من جهد منذ شبابه لتثيقف نفسه عن طريق البحث والقراءة ومقابلة شخصيات لها وزنها السياسي وتدوين الملاحظات، كان يعرف حدود قدراته، وأنها لم تكن تشمل القدرة على الكتابة فكان يعهد بكتابة رسائله وبياناته وخطاباته إلى الكاتب والصحفي المعروف محمد حسنين هيكل.
أما خليفته أنور السادات فقد لجأ إلى صحفي من نوعية أدنى هو موسى صبري بعد خلافه مع هيكل. وعندما كان السادات "يخرج عن النص" أي يرتجل في الخطابة، كان يقول أشياء يموت الناس ضحكا عليها وسخرية منها، بل سرعان ما كان الكثير منها يتحول في اليوم التالي إلى نكات يرددها العامة!
مفهوم طبعا أن الحاكم يملك أن "يكلف" كاتبا بكتابة خطاباته، سواء بأمر تكليف مباشر، تحت تهديد الدبابات، أو تحت سطوة "الإغراء" بحكم ما يمكن أن يعود من فوائد على الصحفي أو الكاتب المكلف بكتابة خطابات "الريس" مثلا. ولكن الطريف أيضا أن الحاكم يحب دائما أن يتظاهر أمام الجميع بأنه هو الذي يكتب خطاباته بنفسه، وأن الكلمات الواردة فيها هي كلماته، رغم أنه يبدو أحيانا وكأنه لا يفهم الكثير مما يرد في سياق تلك الخطابات. ومن تلك مثلا أن السادات أخذ يردد في أحد خطاباته التي كتبها له هيكل في بدايات عهده قبل أن يفترق الرجلان، كلمة انجليزية هي catalyst وأخذ يعيد ويزيد فيها كثيرا.. وكلما حاول أن يشرحها ارتج عليه الأمر، وقال كلاما لا يبدو أنه يفهمه تماما فكان يقول إن الكلمة معناها "العامل المساعد واحنا ما في عندنا عامل مساعد ولا catalyst".. وكانت الكلمة قد وردت على لسان مسؤول أمريكي هو وليم سكرانتون مساعد وزير الخارجية روجرز، عندما كان يعرض استعداد بلاده للتوسط أو القيام بدور الـ catalyst في حل أزمة الشرق الأوسط عام 1971!
والطريف أيضا أن خطاب عبد الناصر الشهير الذي أعلن فيه تنحيه عن الحكم بعد هزيمة 1967 أصبح مقررا في العام التالي 1968 على طلاب الثانوية العامة، يدرسونه كلمة كلمة، كمثال على البلاغة اللغوية، باعتبار أن عبد الناصر هو كاتبه، أي صاحب أسلوبه البليغ.. فهل كان أحد يملك الاعتراض!
في المجال السينمائي هناك الكثير من "الناقدات السينمائيات" اللاتي ظهرن فجأة خلال السنوات الأخيرة وأصبحن يرغبن بشدة في الظهور، دون أن تكون "الموهبة" ناهيك عن القدرات، موجودة أصلا لديهن. أليست السينما كتابة عن النجوم والممثلين والمخرجين المشاهير، وتتيح الفرصة لمجالسة هؤلاء والحديث معهم؟
المشكلة أن القدرات أقل كثيرا من الطموحات.. وهنا ظهر من هو على استعداد لأن يكتب لهذه أو لتلك وينشر لها ويساهم في تلميع صورتها خضوعا لتلك "السلطة الناعمة" التي يمكن اعتبارها أحيانا أقوى من بطش كل السلطات!
ولكن لأن الكتابة اليومية والأسبوعية إلى جانب الكثير من الأعباء الأخرى قد تستغرق الكثير من الجهد والوقت، فقد أصبح أولئك الذين يكتبون لبعض الكاتبات في الصحافة المصرية، حكومية كانت أم معارضة، يلجأون أحيانا، بغرض اختصار الوقت، إلى سرقة ما ينشر من مقالات الآخرين أو اقتباس عبارات مما نشر في مقابلات صحفية مرتبة ومنظمة مع كاتب أو ناقد يعرف عادة ما يقول ويحسبه بالكلمة والمسطرة!
وعندما تواجه الكاتبة المسكينة وهي متلبسة بهذا الفعل الفاضح الفادح، تبكي وتنوح، وربما تقسم لك أيضا، أنها لا تعرف كيف وقع ما وقع، وإنها لم تكن تقصد سرقة أي شيء.. وهذا كله مفهوم وواضح، فقد فوجئت المسكينة على ما يبدو بانفضاح الأمر، في حين أنها لم تكتب شيئا بالفعل، بل وأغلب الظن أنها أيضا، لم تقرأ ما كتب باسمها، فيكفي ظهور الإسم لكي تزداد هي نفوذا وحضورا في الساحة ويرتفع سعرها!
زميلنا الكاتب اللامع الساخر سليم عزوز له قول بديع أعجبني كثيرا في هذا المقام. فهو يقول: "عهدي بمن يكتبون للآخرين، أنهم لا يكتبون بجودة عالية، حتي وان كانوا كتابا كبارا يكتبون لكتاب كبار، فضلا عن أن من يكتب للغير سرعان ما يصاب بالملل، لاسيما اذا كانت "المكتوب لها" ليست لها سلطة، ربما سلطة واحدة، إن وجدت، ونحن قوم نتميز بالملل".
صدق سليم عزوز وصدق.. وسنراهن على حدوث هذا الملل فربما توقفوا عن سرقة ما نكتبه لحساب "السلطة الناعمة" على الأقل لحين العثور على غيرها!

الثلاثاء، 11 أغسطس 2009

"جرائم الشرف" وغياب العقل: جماعة قتل الزوجات



بقلم: أمير العمري

في الأدب العربي الكثير من النماذج البارزة المحفورة في الذاكرة عن الهوس بالمرأة كهدف للجنس فقط، عن اعتبارها نوعا من الملكية الخاصة للرجل، يفعل بها ما يشاء، يبقيها دائما تحت رحمته، يختار لها كيف ومن تتزوج، ويحدد لها الطريق الذي يجب أن تسلكه، بل ويلقي على عاتقها أيضا بضرورة تحمل ما لا تطيق من أجل إنقاذ العائلة، والحفاظ على "شرف العائلة"، فهذا "الشرف" يرتبط أساسا بتصرفات المرأة، وتقييد هذه التصرفات هو الضمان للحفاظ على هذا الشرف، أما الرجل فله مطلق الحرية بالطبع.
وعندما يبلغ شك الرجل في المرأة مبلغه، يكون قتلها عقابا عادلا لا يحاسب عليه الرجل ولا يجب أن يحاسب، فهو "غسل للعار"، واسترداد للكرامة وشرف العائلة.
هل هو "ميكانيزم" دفاعي موروث، عن نظام القبيلة، أو مداراة ضعف أصيل في هذا النظام الذي انتقل إلى الأسرة في المجتمعات الشرقية، حتى أصبح ذلك العدوان على النساء يتم أيضا بمبادرة وأوامر عليا من المرأة- الأم أحيانا، وليس فقط من الأب- البطريرك.

في الثقافة الأخرى
أعمال أدبية مثل رواية "البوسطجي" ليحيى حقي، و"حادثة شرف" ليوسف إدريس، و"دعاء الكروان" لطه حسين وغيرها، تناولت جوانب من هذا الموروث وصورته.
غير أن الأمر لا يقتصر على ثقافة ذات ملامح محددة هي الثقافة العربية أو الإسلامية كما يشاع، بل تمتد أيضا إلى الثقافة الأخرى، المسيحية، فمن المعروف أن الروائي الكولومبي الشهير جابرييل جارثيا ماركيث، استمد روايته ذائعة الصيت "وقائع موت معلن" من حادثة حقيقية وقعت لصديق له هو جايتيانو جنتيلي في بوليفيا عام 1951. وكان هذا الرجل قد أقام علاقة مع فتاة تدعى مرجريتا شيكا سالاس ثم هجرها. وفي يوم زفافها إلى رجل آخر علم الأخير أن الفتاة التي يوشك على الزواج منها فقدت "عذريتها"، فأعادها إلى أسرتها حيث قام أشقاؤها بتدبير قتل جنتيلي وتمزيق جسده. وقد أرجع ماركيث الجريمة البشعة إلى تسلط الكنيسة الكاثوليكية بمفاهيمها الأخلاقية المتزمتة على مقدرات الناس في تلك البلدان.
سلسلة الجرائم التي تقع وتعرف بـ "جرائم الشرف" لا تعرف حدودا، لا في الزمان ولا في المكان. ففي بريطانيا العظمى، في منطقة ساري القريبة من لندن، وقعت قبل بضع سنوات، جريمة قتل بشعة راحت ضحيتها فتاة كردية شابة تدعى بناز محمد، بعد أن رفضت قبول الزوج الذي أرادت أسرتها فرضه عليها، وأرادت أن ترتبط برجل آخر (كردي، مسلم ايضا) في حين رأت أسرتها ان هذا الرجل "ليس مناسبا". وكان أن أصدر الأب (البطريرك) أوامره بالتخلص منها فقتلها ثلاثة من شباب العائلة.
أما يشو يونس، وهي فتاة باكستانية (16 سنة) كانت تقطن في غرب العاصمة لندن، فقد لقيت مصيرها على يدي والدها بعد ان أقامت علاقة عاطفية بشاب من خارج المجتمع الكردي في بريطانيا، وكان عليها أن تدفع الثمن: حياتها، فقد طعنها والدها 11 طعنة ثم أراد أن ينتحر.
وقضت نوزيات خان، وهي امرأة متزوجة في جنوب لندن، مصرعها على يدي زوجها بعد أن خنقها، لا لسبب إلا لأنها طلبت منه الطلاق بعد أن أصبحت حياتها معه مستحيلة. وقد فر الزوج بعد ارتكابه الجريمة إلى باكستان ولايزال مطلوبا.
وتقدر السلطات البريطانية عدد النساء اللاتي يقتلن في إطار ما يعرف بـ "جرائم الشرف" بأكثر من 5 آلاف امرأة سنويا، أو بمعدل 13 امرأة في اليوم الواحد. هنا يجب أن نعرف أن مجرد أن ترغب المرأة في الحصول على الطلاق لدى معظم الأسر الباكستانية، يعتبر من الأمور الماسة بالشرف.
أما الشك في حمل الفتاة نتيجة علاقة عاطفية خارج نطاق الزواج فهو بالطبع كبرى الخطايا، هنا ربما تكون الأم هي التي تصدر الأمر بالخلاص من العار، أو تشترك بنفسها في الجريمة.
وتقضي شاكيلا ناز حاليا عقوبة السجن المؤبد في باكستان بعد أن اشتركت مع ابنها في قتل ابنتها المراهقة الصغيرة شازاد بعد الشك في أنها أصبحت حامل من علاقة جنسية.
أفكار طارق علي
المفكر اليساري الشهير طارق علي، وهو بريطاني من أصل باكستاني، والذي كان زعيما للحركة الطلابية في بريطانيا في اواخر الستينيات وأوائل السبعينيات والمنتمي لعائلة "أرستقراطية" باكستانية مسلمة، كتب مؤخرا يروي كيف أن حفيدة عمه "زينب" (18 سنة) قتلت بطريقة وحشية في أكتوبر الماضي على أيدي أشقائها بسبب ارتباطها بشاب أرادت أن تتزوجه، رغم معارضة أهلها ولما استمرت في علاقتها به، أطلقوا عليها سبع رصاصات.
يقول طارق علي إن هناك 1262 جريمة من جرائم "الشرف" ارتكبت في باكستان عام 2006 فقط، إلا أن العدد الحقيقي يتجاوز ذلك لأن الكثير من الجرائم لا يتم رصدها أصلا.
ويضيف طارق علي في عرضه للموضوع بالتفصيل على صفحات "لندن ريفيو أوف بوكس": "تخيل المشهد التالي: يحلم رجل بأن زوجته تخونه، ثم يستيقظ من النوم فيجدها نائمة إلى جواره. وفي فورة غضبه يقوم بقتلها. لقد وقع هذا فعلا في باكستان ولم ينل الزوج القاتل أي عقاب".
ويتساءل: "إذا كان الحلم يمكن أن يصبح مبررا لجرائم الشرف فمن من النساء بمنأى عن الاتهام؟ وطالما أن الشرطة والنظام القضائي يعتبران الجرائم التي تقع داخل الأسرة شأنا خاصا فمعظم حالات القتل لا تنظر أمام القضاء حتى بعد أن يتم التحقيق فيها وتسجيلها".
تقرير مركز الأرض الذي نشر في مارس الماضي عن العنف ضد المرأة المصرية تلفت الفقرة التالية فيه النظر:"كشف التقرير عن مقتل 384 امرأة خلال العام الماضي الذي شهد 478 حادث عنف ضد المرأة، ورصد التقرير تنامي ظاهرة جرائم الاختطاف والاغتصاب. وقال التقرير الذي صدر بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، إن 145 سيدة لقين مصرعهن نتيجة العنف، و48 تعرضن لحوادث اختطاف واغتصاب، وإن 34 سيدة توفين بسبب العنف داخل الأسرة، فيما توفيت 11 سيدة بسبب الإهمال الطبي، وأضاف أن العام الماضي شهد 23 محاولة انتحار أسفرت عن وفاة 16 سيدة، وأن 23 امرأة لقين مصرعهن في حوادث طرق، ولفت إلي أن 56 حالة وفاة نتجت عن جرائم قتل عمد بينها 33 حالة داخل محيط الأسرة".
كذلك يجب التوقف أمام الفقرة التالية من التقرير: "وتصدرت ربات المنازل قائمة الضحايا بعدد 38 سيدة ثم الموظفات والخادمات والطالبات والعاملات، وكان الجناة في غالبية الجرائم من الأزواج، أو المطلقين أو ممن تم تحريضهم من جانب الزوج، وهذه الجرائم شهدت استخدام وسائل الذبح أو التشويه بمواد حارقة أو الماء المغلي أو الحرق بالكيروسين حتي داخل الأسرة، وشهدت الجرائم كذلك الضرب المبرح أو تهشيم الرأس أو الخنق".

في الغرب
ولا يجب ان يعتقد البعض أن "جرائم الشرف" قاصرة على الشرق فقط، بل إنها منتشرة أيضا بكثرة في الغرب رغم كل ما يقال عن الحريات واللامبالاة الاجتماعية وانعدام فكرة "الغيرة" أصلا في عقل الرجل الغربي.
القانون البريطاني مثلا لايزال يتسامح كثيرا في حالة ما يسمى بـ"جرائم الشرف". وفي 2003 مثلا صدر حكم بالسجن لسبع سنوات على رجل قتل زوجته بعد أن اعترفت بأنها على علاقة بمدرب الكاراتيه الخاص بها، وقد وقعت الجريمة أمام ابنتيهما الصبية عندما أخذ الزوج بوجه لزوجته طعنات متكررة. وقال الرجل في المحكمة إنه أصيب بنوع من العمى من شدة شعوره بالغضب.
ويعتبر القانون البريطاني جريمة الشرف قتلا على سبيل الخطأ، ولا ينال مرتبكها أحكاما مشددة مثل السجن المؤبد مثلا، كما يمكن أن يبرؤه القاضي تماما ويلتمس له العذر.

جرائم العار


في الأدب الغربي الكثير من الأعمال عن "جرائم الشرف" أو العاطفة، والتي يرى المستنيرون أنها تجلب "العار" لا الشرف، وأن الحل الأمثل لما يمكن أن يعتبر مساسا بالشرف في هذه الحالة هو الطلاق.
أما فيلسوف الوجودية الفرنسي الراحل جان بول سارتر فلم يكن يعترف بشيء يدعى "جرائم العاطفة". وفي مسرحية له بهذا العنوان يحول الموضوع من قضية تتعلق بالغيرة الشخصية بسبب الخيانة الزوجية مثلا، إلى الغيرة " السياسية، إذا جاز التعبير، بسبب الانحراف عن الهدف الأيديولوجي. فهو يصور كيف يٌكلف شاب باغتيال زعيم الحزب الشيوعي بعد أن انحرف عن الخط السياسي للحزب. لكن الشاب يصادق الزعيم، ويقترب منه، ويتفهم طبيعة أفكاره، ويتردد يالتالي في تنفيذ ما كلف به، ويصبح مثل "هاملت" حائر بين الواجب والمشاعر. ولكنه يحسم أمره عندما يدخل ذات يوم على الزعيم في مكتبه فيجد زوجته في أحضان الزعيم، فيجذب المسدس ويقتله. ويقضي القاتل فترة في السجن ثم يخرج ويختبيء في منزل عشيقته، ويرسل الرفاق رجلا لتصفيته، وتطلب منه الفتاة أن يفصل بين الشخصي والسياسي، أي أن يعترف بأنه قتل الزعيم انتقاما لشرفه المهدور، لكنه يرفض ويصر على اعتبار ما قام به عملا سياسيا ويخرج لملاقاة القاتل الذي يتربص به وينال منه بالفعل فيموت معتقدا أنه بطل من أبطال الحزب، في حين أن رؤساءه في الحزب يقومون باعتماد الرواية التي يريدون ترويجها والتي تتلاءم مع التوجه الجديد الذي يقضي بتبني الخط السياسي للزعيم الراحل أي يتبنون قصة أنه قتل انتقاما لشرفه.
سارتر يرى أن المغتال لا يحقق شيئا من وراء بطولته الزائفة الانتحارية، وأنه كان مسؤولا عن اختياره وقد دفع ثمن هذا الاختيار، فهو يرى عموما، أن الإنسان مسؤول بالكامل عما يفعل، وليس هناك مجال لتبرير ما يفعله بأنه كان واقعا تحت تأثير الانفعال أو الغضب، كما لا يعترف بتأثير الأحلام على الإنسان لأن الأحلام من خارج الواقع. وكان سارتر يستخدم المسرحية لتجسيد ذلك المأزق الوجودي.
وقد أصر سارتر على أن القصد من المسرحية، التي أغضبت في البداية الحزب الشيوعي الفرنسي، لم يكن إدانة الحزب، بل وحظر سارتر عرضها في أعقاب ما وجه إليه في صحف الحزب من انتقادات، على ألا تعرض إلا بعد موافقة الحزب.
جرائم الشرف كارثة اجتماعية بلاشك، لأنها تلغي الدولة والقانون، وتحكم شريعة القبيلة، وتكتفي عادة بمعاقبة طرف واحد. إنها جريمة لا تخضع أساسا لأي منطق أو عقل. وكما قال ألبير كامي فهناك "جرائم الشرف، وجرائم المنطق".
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger