السبت، 23 مايو 2009

يوميات مهرجان كان 11

* أود فقط أن أستدرك واضيف إسم الممثل النمساوي العظيم كريستوف فالتز الذي قام بدور الجنرال في المخابرات النازية في فيلم "أوغاد مجهولون" Inglorious Basterds لتارانتينو، منتقلا بين اللغات الثلاث الانجليزية والألمانية والفرنسية بطلاقة وقدرة هائلة على التلاعب باللغة، وبالشخصيات التي يستجوبها ويناور معها وهو بلا أدنى شك النجم الحقيقي الأكثر برزوا في الفيلم. إنني أضعه على قمة قائمتي لأفضل الممثلين في هذه الدورة. إن أداءه في هذا الفيلم الذي لا يتمتع بميزات كثيرة، نموذج للأداء الساحر الذي لا ينسى.
* انتهينا في لجنة التحكيم الدولية لنقاد السينما (9 نقاد) التي يشكها الاتحاد الدولي للصحافة السينمائية(فيبريسي) من تحديد الجوائز الثلاث التي سيعلن عنها في حفل يقام مساء اليوم في بقعة ساحرة على شاطيء الكروازيت، ويصدر بهذه المناسبة بيان صحفي عن اللجنة يوزع على الصحفيين ووكالات الأنباء. لم يكن الأمر سهلا طوال فترة المهرجان، ولكننا توصلنا إلى النتائج باتفاق الجميع. لم تكن هناك مناقشات طويلة مفتوحة كما كانت تجربتي في اللجنة نفسها عام 2002، بل كانت تعتمد نظام تقسيم العمل والتوصل إلى التصويت السريع بعد أن استبعدنا الكثير من الأفلام التي لم تحصل على أصوات كافية. سأعلن النتائج بعد إعلانها رسميا.
* حضرت مساء أمس اختتام "نصف شهر المخرجين" وتأكدت بالفعل أن الفرنسيين لا يقلون ولعا بالكلمات الكبيرة والخطب العصماء وكلمات التحية والمجاملات والإسهاب في الثناء على دور المسؤول عن العرب. فالأخ أوليفييه بير مدير هذا البرنامج الموازي للمهرجان الرسمي والذي أكمل أربعين عاما منذ تأسيسه، أقصد البرنامج أو القسم وليس أوليفييه بالطبع، فالأخير أنهى ست سنوات في إدارة "نصف شهر المخرجين"، وانتهت مدته، وكان لابد من كلمات توديع وخطب تشكر وتثني، بل وكانت هناك أيضا دعوة لوقوف كل الحاضرين في القاعة (حوالي 1000 شخص) لتحية أوليفييه على جهوده، تماما كما لو كنا نحيي وزيرا في حكوماتنا الفاسدة!
المهم أن الوقت ضاع في التكريم والتحية، ومنح جهات فارغة تدعم هذا القسم ماليا، جوائز في حين أن القسم نفسه لا يمنح تقليديا أي جوائز بل يعتبر عرض الأفلام فيه بمثابة جائزة لأصحابها. لكن ماذا تفعل وأنت في حاجة إلى الدعم المالي من جهات مثل شركة فيات وشركة شمبانيا فرنسية وما شابه، وكل منها تود الظهور والدعاية لنفسيها وتشكيل لجنة تحكيم مصغرة، تصعد على المنصة وتعلن عن جائزتها!
بعد ضياع ساعة من الوقت، بدأ فيلم الختام أخيرا وهو الفيلم الإسرائيلي "عجمي" Ajamai الذي أخرجه مخرجان، الفلسطيني (من عرب الداخل) اسكندر قبطي، والإسرائيلي يارون شاني، و"عجمي" هو أحد أحياء مدينة يافا، يعيش فيه عدد كبير من العرب. وقد يكون لنا وقفة فيما بعد مع الفيلم الذي كان ثالث الأفلام الإسرائيلية التي عرضت في المهرجان والتي شاهدتها جميعا.
* إعلان الجوائز الرسمية لهذه الدورة سيكون غدا مساء، والتكهنات زادت، لكن لا شأن لي بها، والأفضل أن يتمسك المرء بالقول الصواب "كذب المنجمون ولو صدقوا"!

فيلم "الانتصار" مفاجاة سارة في مسابقة مهرجان كان



مفاجأة سارة تماما داخل المسابقة الرسمية من السينما الإيطالية العريقة لم نشهدها منذ سنوات، لأحد أبناء جيل المخرجين المخضرمين الذين عملوا في فترة الازدهار الكبير لهذه السينما في الستينيات والسبعينيات، أي المخرج الكبير ماركو بيللوكيو (70 عاما) صاحب "الأيدي في الجيوب" (1965)، و"الصين قريبة" (1967)، و"باسم الأب" (1972).
فيلم "الانتصار" فيلم سياسي أيضا من زاوية اهتمامه الكبير بإعادة تسليط الأضواء على الحقبة الفاشية في إيطاليا من خلال التركيز على شخصية موسوليني منذ بداياته الأولى وقت أن كان ينتمي في 1907 إلى الحزب الاشتراكي، ويقود مظاهرات العمال ثم تحوله مع إعلان قيام الحرب العالمية الأولى، من موقف المناويء للحرب ولدخول إيطاليا فيها، إلى تأييد الحرب تحت دعوى أنها ستخلق واقعا جديدا في أوروبا يمكن إيطاليا أن تلعب دورا بارزا في رسم سياسياتها.
ويصور الفيلم تحول موسوليني إلى الفاشية كحل "مناسب" لمواجهة حركة اليسار عموما، وتحت دعوى أنها كفيلة باستعادة دور روما التاريخي، والأمجاد الزائلة للامبراطورية الرومانية.
ويبدأ الفيلم بمشهد ينكر خلاله موسوليني وجود الله علانية، ويضطر للفرر من غضب المتدينين. ولكننا سنرى فيما بعد كيف يقيم موسوليني تحالفا قويا مع الفاتيكان ويستخدم الكاثوليكية لخدمة مآربه السياسية.
غير أن موسوليني رغم أهمية وبروز دوره في الفيلم، ليس هو الشخصية الرئيسية هنا، بل شخصية سيدة شابة حسناء تدعى إيدا داسلر، تعجب بالنجم الجديد الصاعد، وتقيم معه علاقة جنسية ملتهبة، ثم تبيع كل ممتلكاتها من أجل أن تساعده بالمال على افتتاح صحيفة "شعب إيطاليا" الناطق بلسان حزبه الجديد.
وتستمر علاقة إيدا بموسوليني حتى بعد أن يتزوج، ثم تنجب منه ولدا تطلق عليه بنيتو ألبينو موسوليني، يعترف بأبوته له رسميا عام 1915 إلا أنه يرفض أي اعتراف بزواجه منها بينما ستظل هي طوال حياتها تصر على أنه تزوجها بعقد سرقه أعوانه منها، ولكن دون أي دليل على صحة ذلك.
وعندما تبد في مطالبته بالاعتراف بها كزوجة والاعتراف بابنه يختفي موسوليني الإنسان من الفيلم ويبقى موسوليني الرمز السياسي والزعم، الذي لا نراه سوى من خلال لقطات الأرشيف القديمة، في خطاباته الصارخة التي يثير حماس الشعب الإيطالي من خلالها، وبتفاصيل قريبة لم يسبق استخدامها في السينما الروائية، حتى أن موسوليني يبدو في تلك اللقطات الحقيقية أقر إلى مهرج، يستخدم حركات وجهه، وطريقته الخاصة في مط شفتيه، ويهز يديه بطريقة مبالغ فيها تثير الضحك أكثر مما تثير الغضب. تستمر محنة إيد داسلر، التي توضع في بيت شقيقتها تحت الرقابة المشددة في البداية، ثم تتنقل إلى مصحة عقلية بينما يبعد ابنها إلى مدرسة كاثوليكية دخلية ويحرم من رؤية أمه.
وفي أسرها تكتب إيدا خطابات إلى البابا والملك ورئيس الحكومة والنائب العام والوزراء، تطالبهم بتحري الحقيقة اطلاق سراحها واسماح لها برؤية ولدها.
أحداث الفيلم تتصاعد في إيقاع هاديء لكنه متدفق بالحيوية، يسير في خطوط أقرب إلى حركات الأوبرا، خاصة مع الاستخدام المذهل لشريط الصوت والموسيقى التصويرية المصاحبة التي كتبها كارلو كريفيللي، والتصوير الذي يمزج جيدا النغمات البنية الداكنة مع الأبيض والأسود، ويستخدم المناطق المضيئة، والظلال، والضوء الخافت غير المباشر، لإضفاء جو خاص على الصورة يتناسب أولا مع أجواء الفترة، وثانيا يؤكد على تدهور الحالة العقلية للشخصية الرئيسية.
"إيدا داسلر" تضطرب نفسيا بالتدريج، لكنها تظل مصرة على روايتها، غير مستعدة لتراجع تحت أي ضغوط أو حرمان أو حتى تعذيب.
وفي الفيلم مشاهد لا تنسى مثل مشهد المشاجرة التي تنشب داخل إحدى دور العرض السينمائي بين مجموعة يشارية وجماعة فاشية بقياة موسوليني، بينما تعرض على الشاشة جريدة سينمائية تحتوي لقطات من المعارك، على نغمات البيانو المصاحبة للفيلم الصامت، ويظل عازف البيانو حتى اللحظة الأخيرة، مصرا على مواصلة العزف رغم شيوع الفوضى داخل السينما.
وهناك المشهد الذي يحمل دلالة خاصة داخل مصح الأمراض العقلية حيث نرى عددا من النساء اللاتي أدخلن المصحة لأسباب لها علاقة بنشاطهن السياسي المعارض، وإحداهن راقصة باليه تسر لإيدا أنها كانت صديقة مقربة من راقصة شهيرة في باليه البولشوي الروسي (وقت الحكم الشيوعي).
وهناك المشهد الذي تقوم لجنة قضائية باختبار قدرة إيدا على التعامل مع المجتمع والحياة والناس، وينتهي الاختبار بالتأكد من سلامتها العقلية، إلا أن القاضي المكلف باستجوابها ينصحها بنسيان قصة علاقتها بموسوليني. وينتحي بها طبيب في المصحة يقول أنه يريد أن يجعلها تغادر المسيتشفى وينصحها بأن تغير من سلوكها، وتتظاهر بأنها مثل كل النساء الفاشيات الطيبات، ربات البيوت اللاتي يدعمن قضية الفاشية.

ويقول لها إنه يتعين عليها أن تنحني للتيار، وإن الفاشية مرحلة لن تستمر في إيطاليا، وإنها يمكن أن ترى ولدها وتعيش معه في حالة قبولها بالاندماج في الواقع ونسيان ما مضى.
على صعيد آخر يعيش ابن موسوليني حياته ويكبر تحت الرقابة، ويكبر ويصبح طالبا لكنه يسخر من والده ويتخصص في محاكاته بسخرية أمام زملائه.
ويشير الفيلم من خلال لقطاته الموجزة البليغة إلى نهاية الحر ونهاية موسوليني (من خلال لقطة لتمثال ضخم للديكتاتور الإيطالي يتم سحقه بين فكي آلة عملاقة).
ونعرف أن إيدا توفيت قبل أن ينتهي موسوليني، كما فقد ابنها عقله ثم توفي أيضا قبل نهاية الحرب الثانية. لاشك في سيطرة بللوكيو المثيرة للإعجاب على كل فيلمه، وقدرته على التحكم في إيقاعه، وتوظيف كل صورة، وكل تفصيلة من تفاصيل الصورة لخدمة الموضوع: الفاشية التي تقود الأمة إلى الدمار، المرأة المعذبة المعتقلة الخاضعة، التي يمكن اعتبارها "معادلا" سينمائيا ودراميا لاعتقال الأمة.
وهناك أيضا استخدام رائع ومميز لإيقاعات الأوبرا سواء في توظيف الأصوات الطبيعية على شريط الصوت، أو في التحكم في الحركة والأداء في إطار المحيط بطريقة قد تشوبها بعض المبالغة المسرحية كما في مشهد محاكاة الإبن لوالده في طريقته في الخطابة.
أخيرا "الانتصار" كلمة مستمدة من أحد خطب موسوليني في إطار الشحن المعنوي للشعب الايطالي. الفيلم في النهاية أحد أفضل الأفلام في مسابقة كان 2009 ومن الممكن جدا أن يحصل على إحدى الجوائز الكبيرة.

الجمعة، 22 مايو 2009

"الزمن الباقي": مفاجأة الفيلم الفلسطيني في مسابقة كان


استطاع المخرج الفلسطيني إيليا سليمان أن يقدم مرة أخرى، مفاجأة كبرى في مهرجان كان السينمائي بفيلمه الذي عرض أخيرا في مسابقة المهرجان ويحمل عنوان "الزمن الباقي: سيرة الحاضر الغائب".
وقد استقبل الفيلم من جانب النقاد والصحفيين الذين شاهدوه استقبالا حماسيا، واتفق الكثيرون على اعتباره "تحفة" حقيقية وعملا كبيرا من أعمال الفن السينمائي.
الفيلم يروي قصة حياة مخرجه ومؤلفه (إيليا سليمان) الذي سبق أن قدم مفاجأة بفيلمه السابق "يد إلهية" الذي حصل على جائزة خاصة من لجنة التحكيم في مهرجان كان 2002 كما حصل على جائزة اللجنة الدولية للنقاد.
إلا أن "الزمن الباقي" يتجاوز كثيرا ما حققه إيليا سليمان في فيلمه السابق، وفيه يعلو بلغته وأسلوبه ليقدم عملا سينمائيا حداثيا خالصا، يربط من خلاله بين قصة حياته الخاصة وحياة أسرته، وبين الأحداث التي شهدتها بلاده منذ عام 1948 حتى اليوم.

بناء الفيلم
يتكون الفيلم من عدة أجزاء، يتضمن كل منها مجموعة من الصور والمشاهد التي تلخص فترة زمنية معينة في حياة المخرج- المؤلف، يفصل بينها سليمان باستخدام أسلوب الإظلام التدريجي ثم الشاشة الخالية لبرهة، قبل ان يعود للضوء تدريجيا مع ظهور مشهد يدور في فترة زمنية أخرى تالية.
اللغة السينمائية التي يستخدمها تحمل ملامح أسلوب إيليا سليمان سواء في اعتماده على الصورة اعتمادا اساسيا، وعلى السخرية التي تتفجر من الجدلية الكامنة في العلاقة بين الصور واللقطات، أو من خلال التعليقات الموحية والأداء التمثيلي الذي قد يتخذ أحيانا أبعادا "كاريكاتورية".

الطابع الساخر
المشهد الأول في الفيلم يلخص أسلوب إيليا سليمان الساخر، ففيه يظهر جندي عراقي من المشاركين في الحرب في بلدة فلسطينية في الجليل، يتطلع إليه ثلاثة من الشباب الفلسطيني وهو يبحث عن طريقه، بينما تلقي طائرة إسرائيلية منشورات تحث السكان على الاستسلام والقاء السلاح.
الجندي لا يعرف إلى أين يتجه، وكلما ذكر اسم مدينة أو بلدة ما، يقول له الجالسون على المقهى في استرخاء وهدوء: لقد سقطت.
وفي مشهد هائل تطارد طائرة إسرائيلية سيارة بداخلها رجل يرتدي طربوشا، وشاب يلوح بعلم أبيض من خارج النافذة.
الطائرة تحلق فوق السيارة مباشرة، وتتابعها أثناء سيرها بسرعة شديدة في طريق ريفي إلى أن تصل إلى مبنى قديم لعله مبنى بلدية مدينة الناصرة.
وفي إحدى القاعات في الداخل، مجموعتان من الرجال: العسكريون الإسرائيليون على جانب، والعرب المدنيون على الجانب الآخر.
والرجل القادم ذو الطربوش هو رئيس البلدية، والإسرائيليون أعدوا وثيقة الاستسلام، ويطالبون بتوقيعها، ثم يطلبون التقاط صورة تذكارية للجميع معا في "هذه المناسبة التاريخية العظيمة"!
والد إليا، فؤاد سليمان، شاب في تلك الفترة، متزوج من نادية وهناك أيضا شقيقته أولجا، أما شقيقة نادية ثريا فقد لجأت إلىة الأردن.
ولكن فؤاد لا يريد الاستسلام ولا الفرار، ويخفي سلاحا لديه، ويتعرض للاعتقال والتنكيل به، بل والقائه من فوق ربوة عالية بغرض قتله إلا أنه ينجو.
مقاتلون فلسطينيون يفرون أمام الهجمات الإسرائيلية بالمصفحات والمدافع، يخلعون ملابسهم العسكرية ويلقون بها ويفرون.
الإسرائيليون الذين يراقبون المشهد من بعيد، يتقدمون ويستولون على الملابس الفلسطينية بما فيها الحطة التي يخفون بها وجوههم.
امرأة فلسطينية تراهم قادمين تطلق زغاريد النصر. يطلقون عليها الرصاص ويواصلون تقدمهم.
يتمكنون من خداع باقي المقاتلين ويقبضون عليهم، ونراهم وقد تراصوا بجوار أحد الجدران تمهيدا لإطلاق النار عليهم.
الإسرائيليون يصادرون بعض محتويات منزل سليمان بما في ذلك الجرامافون وحتى صورة كبيرة وساعة الحائط.
فؤاد يراقبهم من مكمنه على أنغام أغنية ليلى مراد (أنا قلبي دليلي) التي سيعود إيليا سليمان لاستخدامها أكثر من مرة في فيلمه.

واقع الاحتلال
القسم الأول من الفيلم يعكس الوضع الذي نشأ فيه المخرج: واقع احتلال، تشتت الأسرة، الرسائل المتبادلة بين فرعي الأسرة في عمان والناصرة.
لقطات التنكيل الذي يتعرض له فؤاد سليمان (والد المخرج) حينما يضربه جنديان إسرائيليان بكعوب البنادق بقسوة، يبدو في تفاصيله (مصور من زاوية بعيدة) وكأنه لقطة حديثة من تلك التي نشاهدها كثيرا في نشرات الأخبار اليوم للوضع في الأراضي المحتلة.
وبين حين وآخر، وعبر أجواء الفيلم، يحاول فلسطيني كبير متقدم العمر أن ينتحر بإشعال عود ثقاب، أحيانا بعد أن يصب الكيروسين على جسده، وحينا آخر بعد أن يضع وعاء مملوء بالكيروسين إلى جواره. لكنه يفشل دائما في إشعال عود الثقاب.
فؤاد يراقبه هو وغيره من الجيران في صمت، ثم يقوده من يده بعيدا، والرجل مستسلم له تماما.

إنها صورة بليغة موجزة تلخص العجز عن تحقيق الخلاص حتى ولو بالانتحار! وفي مدرسة ابتدائية بالناصرة حيث نشأ بطلنا، نشهد كيف تنشد التمليذات الفلسطينيات الأناشيد التي تمجد دولة إسرائيل، بالعبرية تارة وبالعربية تارة أخرى. مسؤول إسرائيلي يثني على "كورس" الأطفال ويمنحهم جائزة خاصة.
المدرس في الفصل يتحدث عن قدرة الديمقراطية الاسرائيلية على استيعاب الأقلية العربية.
إيليا يراقب في صمت، حالة الاغتراب تتصاعد. مدير المدرسة يوقفه في الممر ويعنفه بشدة: من قال لك أن أمريكا دولة إمبريالية؟
هذا المشهد بين المدير وإيليا يتكرر عدة مرات في سياق الفيلم، والمقصود منه تصوير تمرد الصبي مبكرا على الأفكار السائدة حوله. شخصية الجار العبثي شخصية أخرى تضيف إلى النسيج اللامنطقي- اللاواقعي، الذي يغرم به إيليا سليمان ويستخدمه في التلاعب بالموضوع، وروايته بحيث يفجر أكبر شحنة من السخرية، ويقدم تعليقا سياسيا بليغا وموجزا بلغة السينما الخالصة، بعيدا عن الخطابة، وبعيدا عن لغة البيانات والبلاغات السياسية التي سادت السينما الفلسطينية طويلا. الجار يخرج بين أونة وأخرى، يخاطب فؤاد أولا، ثم يتكرر ظهوره بعد أن يكبر إيليا، أو لعله يصبح جارا آخر مستنسخا من الشخصية الأولى.
يقول له ذات مرة على سبل المثال: أفضل حل للخلاص من كل من لبنان وإسرائيل هو أن تتورط لبنان في حرب ضد إسرائيل، فتقضي إِسرائيل على لبنان، ثم تتدخل فرنسا لتقضي تماما على إسرائيل.. ما رأيك؟
يتمهل إيليا قليلا قبل أن يجيب: لم أفكر في هذا من قبل!
أو أن يقول الجار إن مشكلة العرب إنهم لا يشربون الكحول فلو كانوا يشربون لأقدموا بكل شجاعة على مواجهة الإسرائيليين!

في السينما
يصور إيليا سليمان أيضا علاقته بالسينما، ويعود إلى الستينيات ومشاهدته فيلم سبارتاكوس في قاعة السنما المدرسية.
وعندما يصل الفيلم إلى المشهد العاطفي الذي يتبادل فيه سبارتاكوس القبلات مع حبيبته، تقف المعلمة أمام الشاشة لتجحب الرؤية وتقول للتلمذات: إنه يابنات أخوها.. هذا أخوها!
ويستخدم إيليا سليمان شريط صوتيا ممتعا ومفعما بالحيوية، يجعله جزءا أساسيا من نسيج الفيلم، يمتليء بالموسيقى والأغاني، خاصة أغاني فيروز وعبد الوهاب، وخطابات الرئيس عبد الناصر من إذاعة القاهرة، ونشرات الأخبار من صوت العرب.
وفي القسم الثاني من فيلمه الذي يركز على الوضع الراهن، يستخدم الأغاني الحديثة الشائعة وموسيقى الديسكو التي نرى عددا من الشباب العربي يرقص عليها بينما تتوقف مصفحة إسرائيلية في الخارج يبرز من نافذتها ضابط إسرائيلي ينذر الشباب عن طريق مكبر صوت بحلول حظر التجول. ويظل يكرر عدة مرات فرض حظر التجول فيما يستمر الشباب في رقصهم على أنغام الموسقى الصاخبة، لا يلتفتون ولا يسمعون!
ويصور كيف تتدهور الحالة الصحية لوالده إلى أن يودع الحياة، ثم كيف يكبر إيليا ويرث وضعا لا يتقدم بل يبقى في مكانه.
هنا في القسم الثاني من الفيلم، يتحول الأسلوب إلى العبث الساخر القريب من مسرح بيكيت، ومن سينما جاك تاتي الفرنسي: الصمت يغلب أكثر على الفيلم، السخرية النابعة من صدام الصور، هي سخرية نابعة أساسا من عبثية ما يجري على أرض الواقع.

الرمز ودلالاته
ولتكثيف رؤيته بعبقرية بصرية نادرة، يصور إيليا سليمان مثلا كيف يخرج شاب فلسطيني من داره لكي يلقي بالقمامة في حاوية خارج المنزل، فتتحرك دبابة إسرائيلية ضخمة وتسدد مدفعها العملاق في اتجاه الشاب.
الشاب يسير نحو الحاوية وتتابعه ماسورة الدبابة. يعود في اتجاه المنزل، والدبابة تستدير لتتابعه. يتوقف ليرد على الهاتف المحمول غير عابيء بالدبابة بل إنه لا يتطلع إليها طوال المشهد الذي ينتهي بدخول الشاب إلى المنزل بلا مبالاة، وماسورة الدبابة تتجه لكي تصوب نحو حاوية القمامة!
وفي مشهد آخر نرى كيف يقرر إيليا سليمان أن يعبر الجدار الفاصل الذي بناه الإسرائيليون في الضفة الغربية باستخدام رافعة الزانة التي تستخدم في الألعاب الرياضية، وينجح في لقطة فريدة في تجاوز الحاجز بالفعل إلى الجهة الأخرى.
بائع الصحف يردد "جريدة الوطن بشيكل وكل العرب ببلاش" في تعليق غير مباشر ينبض بالسخرية.
الشباب الثلاثة على المقهى (يتكرر ظهورهم عبر الفيلم).. أحدهم يطلب شراء "الوطن". البائع يقول له: ما بقى فيه وطن.. ولكن كل العرب ببلاش!
الصبي بائع الخضروات الذي يعرض على الخادمة الفليبينية التي ترعى الآن والدة إيليا لسيمان بعد تقدمها في العمر واصابتها بمرض السكري، أن تشتري كل ما يحمله من الفاصوليا بعشرة شيكلات لأنه لا يملك مالا يتيح له العودة إلى جنين.
الجار الفلسطيني الذي يعمل في الشرطة الإسرائيلية يسأله كيف تمكن من القدوم إلى هنا: هل لديك تصريح؟ سأبلغ السلطات عنك!يكتفي الصبي في النهاية بأن يطلب سيجارة، يشعلها ثم يمضي لحال سبيله!

لعبة الشد والجذب
في المستشفى حيث ينقلون الجرحى في الاشتباكات العنيفة التي جرت خلال تظاهرات بمناسبة الذكرى الرابعة لـ "يوم الأرض، يحدث مشهد يلخص الوضع العبثي.
أحد الجرحى فوق نقالة. المشهد العبقري الذي يعكس الإحساس الخاص بالمكان وزاوية الكاميرا لدى المخرج، مصور بكاميرا ثابتة. نحن نرى المبنى من الخارج.. نرى الطابق الأرضي المصمت، والطابق الأول منه فوق الأرضي نوافذه كلها زجاجية تكشف ما يدور في ممر المستشفى في الداخل.
في الخارج تتوقف مصفحة إسرائيلية يخرج منها عدد من الجنود، يصعدون وراء المسعفين الذين يحملون جسد فلسطيني مصاب.
نحن نشاهد كل ما يحدث كما لو كنا نتفرج على فيلم داخل الفيلم. والمشهد كله مصور في لقطة واحدة.
الجنود الإسرائيليون يسحبون النقالة من الفلسطينيين ويعودون في الاتجاه المعاكس. الفلسطينيون يجرون إلى ناحيتهم ثم يعودون بالنقالة في الاتجاه الآخر.
يتكرر الكر والفر، والشد والجذب عدة مرات، والحركة من اليمين إلى اليسار وبالعكس، إلى أن يشهر الإسرائيليون السلاح. هنا يحسم الأمر وينتهي الموقف الذي يلخص بلاغة اللغة السينمائية وخصوصيتها.
الإيقاع يصبح أكثر سرعة في الجزء الثاني من الفيلم رغم ازدياد مساحات الصمت، ويغلب على الفيلم أسلوب مشابه لأسلوب إيليا سليمان في فيلمه السابق "يد إلهية" على هذا الجزء. فمع امتداد الزمن يزداد الإحساس بالعبث، مع عدم تقدم الموقف رغم تقدم الزمن. وهذا هو سر وجود أسلوبين في الفيلم.
في الجزء الأول: هناك إحساس أقوى بالزمن، بالأحداث، هناك وضع يوحي بالحركة ولو على صعيد الإذاعات والصحف والأمل والحلم. الشباب على المقهى كانوا كأنهم في انتظار شيء. الشاب الذي كان يعبر أمامهم كان يصفر لحنا متفائلا بين حين وآخر.

تساؤل فلسفي
أما بعد ذلك فلم يعد هناك سوى تعاقب الزمن. ماذا تبقى من الزمن إذن قبل أن يصل الإنسان إلى نهاية الطريق!
هذا هو التساؤل الفلسفي الذي يتوقف أمامه إيليا سليمان في فيلمه الذي يمزج فيه بين الخاص والعام، الشخصي والمجتمعي، السياسي والنفسي، الفلسفي والواقعي.
إنه ينهي فيلمه وهو جالس فوق أريكة خشبية في الشارع، يتأمل دون أي انفعال. لقد فقد القدرة حتى على الانفعال مع ما يجري حوله.
الشباب الثلاثة أنفسهم مازالوا يجلسون على المقهى (ربما منذ ستين عاما!). شاب فلسطيني يسير أمامهم يرفع يده بعلامة النصر.
الثلاثة بملابسهم وهيئتهم والسجائر في أيديهم، يبدون كما لو كانوا شخصيات من عالم أفلام "الويسترن"، جامدون على الأريكة التي يجلسون فوقها، لا يتحركون بينما نستمع إلى إيقاعات عنيفة لأغنية عبرية!
هل كنا نشاهد فيلما من أفلام الويسترن منذ أكثر من ستين عاما.. لعل هذا ما يراه إيليا سليمان في فيلمه الذي سيترك تأثيرا كبيرا على كل عشاق السينما بلا شك.

يوميات مهرجان كان 10

عرض أخيرا فيلم إيليا سليمان "الزمن الباقي: سيرة الحاضر الغائب" (وهذا هو اسم الفيلم كما هو مكتوب عليه باللغة العربية) وهو فيلم فلسطيني تماما بمساعدة مالية فرنسية وصور في رام الله بالضفة الغربية وناطق كله باللغة العربية ويعبر ثقافيا وسياسيا وفنيا عن رؤية مخرج فلسطيني يروي قصة حياته وارتباطها بتاريخ بلاده منذ 1948 حتى اليوم. والفيلم باختصار شديد الآن تحفة حقيقية وعمل فني شديد الرونق والعذوبة ويستحق وقفة مطولة فيما بعد انتهاء الزحام.
إيليا سليمان أكد في المؤتمر الصحفي الذي ناقش فيه فيلمه أن الفيلم لم يحصل على أي دعم أو تسهيلات من إسرائيل، وقال إن اسرائيل تمنع أي دعم عن الفلسطينيين، ونفى أن تكون هناك جهة إنتاجية إسرائيلية وقال إن هذه مجرد اشاعات روجت لها أوساط أمريكية وإسرائيلية.
من وجهة نظري وبعيدا عن أي تكهنات أو توقعات، هنا قائمة لما أعتقد أنها أفضل الأفلام التي تستحق الجوائز الرئيسية في المسابقة الرسمية للمهرجان بدون أي حسابات خاصة أو مواقف مسبقة بل تقديرا للقيمة الفنية فقط. ومرة أخرى، هذه ليست تكهنات ولا توقعات بل اختيارات شخصية حتى لو جاءت النتائج مغايرة تماما:
1- الزمن الباقي- إيليا سليمان (فلسطين)
2- الانتصار- ماركو بيللوكيو (إيطاليا)
3- نبي- جاك أوديار(فرنسا)
4- عناقات مهشمة- بيدرو ألمودوفار (اسبانيا)
5- حوض الأسماك- أندريا أرنولد (بريطانيا)
6- الحشائش البرية- آلان رينيه (فرنسا)

أفضل ممثل:
* ستيف إيفتس (بطل فيلم "البحث عن إريك" البريطاني)
* فرنسوا كلوزيه (بطل فيلم "في الأصل" الفرنسي)
* ماتيو أمالريك (بطل فيلم "الحشائش البرية" لآلان رينيه- فرنسا).

أفضل ممثلة
* جيوفانا ميزوجيورنو (بطلة فيلم "الانتصار" لماركو بيللوكيو الايطالي)
* بنليوب كروز (بطلة "عناقات مهشمة")
* ميلاني لوررون (بطلة فيلم "أوغاد مجهولون" لتارانتينو).

أفضل إخراج:
* "الحشائش البرية"- آلان رينيه (فرنسا)
* "الانتصار"- ماركو بيللوكيو (إيطاليا)

أفضل سيناريو:
* البحث عن إريك- كن لوتش (بريطانيا)
* في الأصل- زافيير جيانوللي (فرنسا)
* "الحشائش البرية"- آلان رينيه (فرنسا)
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger