الأربعاء، 20 مايو 2009

يوميات مهرجان كان 7

لقطة من فيلم "هليوبوليس"


الفيلم الذي يستقطب الكثير من الاهتمام هنا حاليا هو فيلم "أوغاد مجهولون" لكوينتين تارانتينو. ومصدر الاهتمام ليس عظمة الفيلم أو الإعجاب به بل ربما العكس، صدمة الخروج منه بدون الإحساس المنتظر، بالمتعة، والاثارة، واكتشاف الجديد. هناك إحساس عام بأنه تارانتينو خذل جمهوره، وقدم لهم بضاعة قديمة مسلوقة في إناء جديد مليء بالثقوب. ساعتان ونصف ساعة أمام كوميديا بدون خفة روح، وإبحار في التاريخ دون حتى تجاوزه من البداية، فهو حائر بين الدراما الحربية والفيلم التاريخي، وبين الكوميدي والفانتازي. ولابد من العودة إليه فيما بعد.
* الفيلم الاسرائيلي الثاني في المهرجان عرض اليوم في قسم "نظرة خاصة" وهو بعنوان كبير أكبر من الفيلم وموضوعه التعيس الذي يصور علاقة شذوذ جنسي بين شابين من اليهود الأرثوذوكس أحدهما متزوج!
* الفيلم المصري الجديد "هليوبوليس" لمخرج الشاب أحمد عبد الله (مونتير سبق أن قام بالمونتاج لفيلم "عين شمس" لابراهيم البطوط) عرض اليوم في السوق الدولية للأفلام. وكنت قد شاهدت نسخة خاصة منه قبل حوالي شهرين، وهو تجربة جديدة وجريئة تبتعد عن القوالب النمطية السائدة فس السينما المصرية، أنتج بجهود شخصية، وباستخدام كاميرا الديجيتال في تجربة شبيهة بفيلم "عين شمس" ومن انتاج شريف مندور أيضا. وربما يعرض الفيلم في مهرجان فينيسيا السينمائي في دورته القادمة التي أتوقع أن تمسح خزي الدورة الماضية!
* في استطلاع مجلة "سكرين انترناشيونال" اليومي منح ناقد واحد أربعة نجوم لفيلم Antichrist للارس فون ترايير بينما منحه 7 نقاد نجمة واحدة، ومنحه ناقد نجمتين، وآخر ثلاث نجوم. إذن يكون نصيبه في المتوسط 16 نقطة من أربعين. وعموما هناك إحساس عام بين الحاضرين هنا إما بالتحفظ على الفيلم أو رفضه رفضا مطلقا، أو عدم المبالاة به، أو الإعجاب به على نطاق محدود. ولكن لم يرشحه أحد لنيل السعفة الذهبية.
* في رأيي أن جائزة أفضل ممثلة يجب أن تذهب إلى الممثلة الإيطالية جيوفانا ميزوجيورنو بطلة الفيلم العظيم "الانتصار" لماركو بيللوكيو، التي لعبت دور الزوجة المجهولة لموسوليني. وبالمناسبة الفيلم عمل إبداعي كبير أقرب إلى الأوبرا.

الثلاثاء، 19 مايو 2009

ثنائية التعصب الديني والتسلط السياسي في مهرجان كان


بعيدا عن المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة في مهرجان كان، عرض فيلمان اعتبرا من "التحف" السينمائية الكبيرة. الأول هو فيلم "أجورا" Agora للمخرج الإسباني اليخاندرو أمينبار، مع طاقم عالمي من الممثلين، وبتمويل مشترك وامكانيات فنية هائلة.
وأعد للفيلم نسخة ناطقة بالإنجليزية، لضمان التوزيع في السوق الأمريكية، وهي الأكبر في العالم. وقد عرض خارج المسابقة.
أما الفيلم الثاني فهو الفيلم الروسي "قيصر" Tsar للمخرج الشهير بافل لونجين، وهو من التمويل الفرنسي وبامكانيات إنتاجية كبيرة تتناسب مع موضوعه الكبير.
عرض الفيلم في قسم "نظرة خاصة" رغم أنه يتميز بمستواه الفني الكبير على الكثير مما شاهدناه في المسابقة الرسمية.
الفيلمان يشتركان في أكثر من سمة، الأولى أنهما من الأفلام "التاريخية"، أي تلك التي تدور في الزمن الماضي البعيد، أو مما يطلق عليها period films.
أما السمة الثانية فهي أن كليهما يتعرض بشكل أو بآخر، لموضوع التعصب الديني أو التفسير الخاطيء للدين عندما يصبح مبررا للقمع والإرهاب وإنكار "الآخر" وشطبه.
في الاسكندرية القديمة
"أجورا" كلمة يونانية معناها "الساحة" التي كان يجتمع فيها المثقفون والشعراء والعلماء في أثينا القديمة أو في الاسكندرية في زمن الامبراطورية الرومانية بعد انقسامها حول عاصمتين: روما والاسكندرية.
أما الشخصية الرئيسية في الفيلم فهي شخصية هيباتيا.. تلك العالمة الاغريقية الأسطورية التي أثارت سخط الكنيسة القديمة التقليدية، كنيسة الاسكندرية، بسبب نبوغها العلمي وتأثيرها الكبير في المجتمع رغم كونها يونانية "وثنية" رفضت الانصياع للتعاليم الجامدة للكنيسة في تلك الفترة من القرن الرابع الميلادي.
وهيباتيا بالمناسبة، هي إحدى الشخصيات الرئيسية في رواية "عزازيل" للكاتب المصري يوسف زيدان الفائزة بجائزة بوكر العربية لعام 2009. وهي التي ينتهي مصيرها في الرواية والواقع بالقتل بطريقة تقشعر لها الأبدان، على أيدي المتعصبين، الذين يبيحون قتل الآخرين باسم الدين، بل ويحرقونها وهي مازالت حية.

وقد قدم زيدان في روايته وصفا تفصيليا أدبيا رفيعا لحادث اغتيالها في "الساحة" الرئيسية بمدينة الاسكندرية وهي في طريقها لإلقاء محاضرة على جمهورها.
وهيبا- من هيباتيا- هو الإسم الذي أطلقه على بطل الرواية، الراهب المصري الذي جاء من الصعيد إلى الاسكندرية للتزود بعلوم اللاهوت، وبدلا من ذلك انساق وراء التعلم من تجارب الحياة ذاتها. وقد تسمى باسم هيبا تحية وإعجابا بالعالمة اليونانية العظيمة التي راحت ضحية التعصب والتزمت والجهل.
أما فيلم "أجورا" فهو الأول في تاريخ السينما الذي يتناول شخصية "هيباتيا، وقد جرى تصوير الفيلم في جزيرة مالطا، حيث شيدت ديكورات هائلة لمدينة الاسكندرية القديمة التي كانت العاصمة الثانية للإمبراطورية الرومانية في تلك الفترة، بفنارها الشهير، ومكتبتها التي اعتبرت مهد العلم والمعرفة في العالم القديم.
ملحمة تاريخية
واستخدم المخرج آلاف الممثلين الثانويين، في المشاهد التي تستخدم فيها الجموع، خاصة المشاهد النهائية في الفيلم، وذلك على نحو يذكرنا بالأفلام التاريخية الملحمية الكبيرة التي كان يخرجها سيسل دي ميل، أو الأفلام الكبيرة التي خرجت من هوليوود في الخمسينيات والستينيات. أساس موضوع الفيلم هو ذلك الصراع الشهير الذي ميز العصر الأول بعد اعتناق الإمبراطورية الرومانية المسيحية التي أصبحت الديانة الرسمية للدولة، والسماح لمسيحيين بالدعوة لديانتهم والتحرك بحرية في أرجاء البلاد.
لكن من بين هؤلاء من استخدموا الاعتراف الرسمي بديانتهم من أجل إرغام الآخرين على اعتناق المسحية، حتى أولئك الذين لم يكن يمكن اعتبارهم من الذين يقفون في معسكر أعداء الديانة بأي شكل من الأشكال.
وعلى رأس هؤلاء بالطبع "هيباتيا" عالمة الفلك والرياضيات والفيلسوفة الشهيرة التي اعتبرت الأم الروحية للعلوم الطبيعية الحديثة.
رمز الحكمة
ويصور الفيلم هيباتيا ابنة رئيس مكتبة الاسكندرية العالم الكبير "ثيوس" الذي يكن له الجميع الاحترام والتقدير، باعتبارها رمزا للحكمة والتسامح، وبتركيز خاص على أبحاثها المتعلقة بوضع الإنسان في الكون، وموضع كوكب الأرض بالنسبة للشمس، وهل الأرض كروية أم مسطحة، وما الذي يبقي الأرض سابحة في الفضاء.
في الوقت نفسه يصور الفيلم علاقتها بشخصية "متخيلة" هي شخصية "أوريستوس" الروماني الذي يتدرج في السلك العسكري والسياسي إلى أن يصبح الحاكم الفعلي للمدينة وممثل الامبراطور الروماني بعد انشقاق الامبراطورية وإشرافها على التفكك، مفسحة الطريق لنظام عالمي جديد مع انتشار المسيحية.


هناك علاقة عاطفية واضحة بين هيباتيا وأوريسيوس، الذي يقف مدافعا عنها إلى ما قبل النهاية عندما يستسلم لمنطق القوة مثل أي سياسي في عصره، ويتخلى عن حمايتها أمام تشبثها بفكرة الحرية: حرية العقيدة والاختيار.
ومن جهة أخرى هناك أيضا "دافوس" العبد الذي يتحول تدريجيا إلى اعتناق المسيحية، وتمنحه هيباتيا حريته، لينطلق وينضم إلى الجماعات المتطرفة التي يقودها رجل الدين "أمونيوس" (يقوم بدوره أشرف برهوم الممثل الفلسطيني في فيلم "الجنة الآن").
يحرض "أمونيوس" على الاستيلاء على معابد الرومان والاغريق إلى أن نصل إلى اقتحام مكتبة الاسكندرية من جانب الجماعات المهووسة بالدين كما يصورها الفيلم، حيث تأخذ في هدم وتدمير المحتويات بدعوى أنها تنتمي إلى التراث الوثني، وتهدم التماثيل وتسقط الرموز الفنية وتحرق الوثائق والأبحاث العلمية والخرائط.
بعد ذلك يبرز دور الأسقف "سيرل" وتتصاعد الدعوة إلى ضرورة الفتك باليهود المقيمين في الاسكندرية والتنكيل بهم وهو ما يصوره الفيلم في مشاهد هائلة: تحطيم المحلات التجارية والاستيلاء على أموال اليهود ونهب بيوتهم ثم قتلهم بأكثر الطرق وحشية فيما يصرخ كبير الحاخامات: "لو لم يكن اليهود لما كنتم أنتم أيها المسيحيون.. لقد كان المسيح يهوديا"!

ملاك الحكمة المطلقة
ومع اشتعال حمى رفض الآخر والفتك بكل من يختلف مع "الجماعات" التي تدعي احتكار الحقيقة المطلقة، تتجه دعوة الأسقف سيرل إلى منع الاستماع للنساء، بل وحظر بروز المرأة في المجتمع والعمل على إعادتها للمنزل، وحظر اشتغال المرأة بالفكر أو التدريس، بل والتحريض على قتل هيباتيا باعتبارها "وثنية" معادية للديانة الجديدة رغم دفاعها عن حق الآخرين في الاعتقاد كما يشاءون.
يقبضون عليها ويسوقونها بعيدا ويجردونها من ملابسها، ويستعدون لحرقها في الساحة، إلا أن الفيلم لا يصور النهاية الحقيقية التي انتهت إليها هيباتيا في الواقع كما تحفظ كتب التاريخ، أي تمزيق جسدها ثم حرق أشلائه.
بدلا من ذلك نرى عبدها السابق "دافوس" الذي يكن لها حبا ممزوجا بالاشتهاء، وهو يحتضنها بقوة ثم يقوم بخنقها بينما هو يتمزق ألما وحسرة عليها، حتى يجنبها مصيرها البشع المحتوم. ولاشك أن المصير الذي تنتهي إليه هيباتيا له تأثيره، لكن تغيير المسار الصحيح يبدو غير مفهوم في سياق الفيلم.
أصداء معاصرة لاشك أن الفكرة الأساسية وراء الفيلم هي فكرة ذات أصداء معاصرة تماما. وكما تستخدم رواية "عزازيل" التاريخ للإسقاط على الواقع الحاضر، يستخدم الفيلم قصة "هيباتيا" للتطرق إلى معالجة فكرة التعصب الديني، ورفض التعايش مع الآخر، ونبذ المرأة واستبعاد دورها وتقزيمه، واحتقار العلم بدعوى تعارضه مع الدين، وغير ذلك من الأفكار المعاصرة تماما والتي تتسق مع ما يحدث في عالمنا حاليا.

لغة السينما
ولاشك أن الفيلم يعبر عن رؤيته الفكرية باستخدام أقصى ما تسمح به لغة التعبير المرئي في السينما: التجسيد البصري للأماكن والأحداث والشخصيات، خلق حبكة تدور من حولها الدراما دون أن تكون الحبكة مقصودة في حد ذاتها، الاستخدام الموحي للتكوين وحركة الكاميرا وزوايا التصوير التي تتنوع وتتباين حسب مزاجية المشهد وما يحتويه، الموسيقى التي تغلف الصورة وتلعب دورا مباشر محسوسا تحت جلدها.
وعلى العكس من أفلام سيسل دي ميل التوراتية أو الأفلام التاريخية التي خرجت من هوليوود حديثا مثل "المصارع" وغيره، ليس الهدف من تصوير تلك الدراما الهائلة الإبهار أو إثارة المشاعر، بل أساسا، الدعوة إلى التأمل: تأمل الماضي للاستفادة من دروسه.
ولذا، يفرد الفيلم مساحات واسعة يتوقف خلالها ويركز على الفضاء، والكواكب السابحة في السماء، ويصور علاقة هيباتيا بالعالم من خلال بحثها فيما وراء العالم المحسوس المرئي والمباشر.
عندما يهددها رجل الدين "أمونيوس" بالموت إذا لم تعتنق المسيحية، تقول أمام الجميع في بساطة وعفوية مخلصة إنها تؤمن بالفلسفة.
القيصر
لكنه يسخر من تلك "الفلسفة" ومن قدرتها على إنقاذ صاحبتها من الموت. وهذا نفسه، وإن على صعيد آخر، ما يصل إليه فيلم مختلف كثيرا في موضوعه وبنائه وإن لم يختلف في جوهره هو الفيلم الروسي "قيصر" Tsar.
نحن هنا أمام سيناريو شديد الرونق والإحكام، يدور أساسا حول شخصيتين: القيصر الروسي الشهير باسم إيفان الرهيب من القرن السادس عشر (1565 تحديدا)، والرجل الطيب الورع فيليب، صديق طفولة القيصر الذي يعينه رئيسا للكنيسة الروسية بعد استقالة رئيسها في أعقاب هزيمة الجيش الروسي أمام القوات البولندية.
غير أن القيصر يتجه رويدا رويدا إلى اعتناق الخرافات باسم الدين، وينتقي من الدين ما يدعم سلطته ويكفل لها أن تظل سلطة مطلقة استبدادية. وهنا يبدأ وينمو الصدام بينه وبين الأسقف فيليب.
الفيلم مقسم إلى عدة فصول يحمل كل منها عنوانا مثل "حرب القيصر" و"تضحية القيصر" و"ساحة ألعاب القيصر" وما إلى ذلك.
جنون إيفان
ويصور الفيلم كيف يتحول القيصر تدريجيا في اتجاه الجنون المطلق عندما يبدأ في الاعتقاد بأنه امتداد للإله، أو "ظل الله على الأرض"، ويأخذ في إصدار تعليماته بالتنكيل بالجميع: الأمراء الذين يتهمهم بالخيانة بعد هزيمة الجيش، قواد الجيش الذين يأمر باعدامهم، بل وأفراد الشعب إذا لم يحضروا لمشاهدة تنكيله بخصومه علانية في ساحة المدينة.

ويصل إلى الصدام مع صديقه القديم، أسقف الكنيسة الروسية، بسبب رفض الأخير الانصياع لرغبات القيصر وإدانة الأمراء بتهمة الخيانة، التي يعرف أنهم أبرياء منها.
يعترف القيصر في إحدى المواجهات بينه وبين الأسقف فيليب، أنه كإنسان من الممكن أن يخطىء، بل ويظلم الآخرين، أما كقيصر فكل أحكامه صحيحة لأنه يستمد قوته وشرعيته من الحكم الإلهي نفسه. ولا يفتأ يكرر أن الله أمر بطاعة الحكام وتنفيذ أوامرهم.
هذا أساس الصراع العنيف هنا بين مفهومين للدين: مفهوم يرى الدين مجسدا في العدل والتسامح والحب، ومفهوم آخر يراه في القوة.
يقول القيصر متسائلا في استنكار: هل تريدني أن أنتظر أن يحاسب الله هؤلاء الأمراء؟ ومن الذي سيحمي البلاد إذن من الخونة والمتآمرين؟ إن هذا دوري في الحفاظ على الدولة وإلا انهارت.
هذا التبرير للاستبداد يصل إلى أقصاه عندما يُعتقل الأسقف، ويُسجن داخل دير، وتُقيد يداه، ويتعرض للإذلال من جانب خصومه من رجال البلاط الذين كانوا يرفضونه ويخشونه من البداية بسبب تعارض منطقه القائم على إحقاق العدل، مع منطقهم في تغليب القوة.
وينتهي الفيلم بالنهاية المنتظرة المؤجلة أي باعدام الأسقف خنقا، ولكن دون أن نرى المشهد مجسدا على الشاشة لأنه من تحصيل الحاصل هنا. ميزات السيناريو بطبيعة الحال ما يميز الفيلم إلى جانب السيناريو الدقيق الذي يعد اعادة تسليط للأضواء على شخصية القيصر "إيفان الرهيب" الذي يعتمد على عكس ما توصل إليه أيزنشتاين في فيلمه بالعنوان نفسه حول دور رجل الدين في دعم الاستبداد، هناك أسلوب ولغة الإخراج التي تعتمد على حركة الكاميرا والتكوين والتشكيلات البصرية والأداء التمثيلي الفذ المبهر حقا، والموسيقى وإعادة تجسيد ديكورات الفترة وأزيائها.
ومن ضمن الجوانب الثرية التي يرسمها السيناريو جيدا ويجسدها المخرج بعبقريته الفريدة بالاستعانة بالطبع بامكانيات تصميم المناظر، ذلك الجزء الذي يحمل عنوان "ساحة ألعاب القيصر".
رمز البراءة
وفيه يستعرض القيصر أمام رعيته من سكان موسكو الكثير من وسائل وأساليب التعذيب المبتكرة التي صممها له أتباعه وعلى رأسهم الرجل ذو السحنة الشيطانية الذي يتلذذ بابداء ازدرائه للأسقف وأفكاره، ويتمرغ في مداهنة القيصر وتزيين الشر له، إلا أنه ينتهي بالموت حرقا بعد أن يسخر من القيصرة الشابة بدعوى أنه لا يردد سوى "الرؤية" المستمدة من صحيح الدين!
ويجسد الفيلم البراءة في طفلة صغيرة تعاني من اعتلال صحي يتبناها القيصر (في اطار


تناقضاته الشخصية) ويمنحها صورة للمسيح والعذراء، لكنه لا يستنكف أن يأمر باطلاق دب متوحش لالتهام الأمراء الذين أدانهم بالخيانة. وعندما تحاول الفتاة وقف اعتداء الدب تلقى مصيرها في مشهد مثير للرعب. درس في الأداء ولعل الأداء التمثيلي في هذا الفيلم تحديدا يعد من أفضل ما شاهدناه في هذه الدورة حتى الآن بل ربما الأحسن والأرقى على الإطلاق.
الأداء
إن أداء الممثل العظيم بيوتر مامونوف في دور القيصر نموذج مبهر للمدرسة الروسية في التمثيل: إنه يعبر بالعين وبحركة الرموش والجفنين، وارتجافات الشفتين، وتشنج اليدين، والتلوين في الصوت، والحركة الفسيحة الواثقة الموحية للجسد في الفراغ، كأعظم ما يكون الأداء السينمائي، وبحيث يتوارى تماما الفرق بين الممثل والشخصية. إنها مدرسة ستانسلافسكي في أرقى مستوياتها في التعبير بالتقمص.
وعلى الناحية الأخرى لا يقل أداء الممثل الكبير أوليج يانكوفسكي في دور فيليب، بصمته المعبر الآسر الحزين، وصموده بصبر على الألم، والتعبير عن الألم بنظراته وإيماءاته وليس بحركات جسده الخارجية.
يستخدم لونجين الإضاءة بحيث تجسد الظلال القاتمة في جوانب الصورة، ويحيط المناظر الخارجية بالضباب، ويعبر عن ذروة بلوغ المأساة قمتها في مشهد حرق الكنيسة التي يرفض رهبانها إعطاء جنود القصير جثة الأسقف.
يقول المخرج لونجين: "لقد كان إيفان الرابع رجلا مثقفا ذكيا، ربما أكثر الرجال معرفة وعلما في عصره، وكان كاتبا وشاعرا. ولكن ليس هناك ما هو أسوأ من الفنان وهو في السلطة. لقد كان وحشا، منع دخول روسيا عصر التنوير مبقيا عليها في العصور الوسطى. ونحن لازلنا نعيش في العصور الوسطى على نحو ما، حتى الآن"!

يوميات مهرجان كان 6


لايزال فيلم "نبي" A Prophet الفرنسي للمخرج جاك أوديار يتربع على قمة الترشيحات التي يمنحها النقاد الدوليون الذين تستفتيهم يوميا مجلة "سكرين انترناشيونال"، والنقاد الفرنسيون في مجلة "الفيلم الفرنسي" التي تصدر أيضا يوميا خلال انعقاد المهرجان. وتفصل بينه وبين باقي الأفلام مسافة طويلة باستثناء فيلم "نجمة ساطعة" في حالة المجلة الأولى فقط، أما النقاد الفرنسيون فلم يمنحوا الفيلم سوى ثلاثة مجوم على الأكثر وسعفة واحدة (15 ناقدا).
أنا شخصيا لا أميل أصلا إلى حكاية تقييم الأفلام عن طريق منحها نجوما لكن البعض يجدها مثيرة وتغني عن أي كلام يمكن أن يقال عن الأفلام، بل ربما تغني أحيانا أيضا عن تناول الفيلم بالنقد، فيكفي أن تقول ببساطة: أنا أمنحه نجمتين.. ثم تمضي إلى حال سبيلك.
* فيلم بيدرو ألمودوفار "عناقات مهشمة" مدهش كعادته، مثير للتأمل لأنه نموذج حي على أصالة السينما وبراءتها الأولى التي تتلخص في رواية قصة بطريقة تثير الاهتمام وتحقق المتعة.
* فيلم المخرج الفرنسي الكبير آلان رينيه "العشب البري" يجسد ببراعة عبقرية مخرجه، وخلاصة خبرته في الحياة وفي السينما. إنه درس أصيل في البلاغة في التعبير، وكالعادة، فاللغة هنا ليست تلك اللغة الجافة التي تدور في الواقع، بل لغة شعرية لها ايقاع ورونق خاص جدا.
* الأفلام الإسرائيلية الثلاثة المشاركة في المهرجان تستحق وقفة خاصة بعد أن ينتهي المولد لمعرفة ماذا تعني هذه المشاركة الكبيرة غير المسبوقة لهذه السينما. شاهدت حتى الآن فيلما واحدا منها هو "يافا"، الباقي سيعرض خلال الأيام القادمة.

"نقيض المسيح": اعتداء فظ على الذائقة البصرية


فضيحة مهرجان كان السينمائي


لكل دورة من دورات مهرجان كان السينمائي فيلمها الصادم أو "فضيحة المهرجان" حسب التسمية التي تطلقها الصحافة الشعبية عادة. هكذا اعتدنا منذ نحو عشرين عاما. كان الفيلم- الفضيحة ذات مرة، هو فيلم "غريزة أساسية" Basic Instnct بطولة شارون ستون صاحبة اللقطة الشهيرة التي تكشف فيها عما بين فخذيها، ثم فيلم "اصطدام" Crash للمخرج ديفيد كروننبرج عام 1995 بمشاهده الغريبة التي تجسد العلاقة بين اللذة الجنسية والألم. ثم جاءت فضيحة أخرى تمثلت في فيلم "غير قابل للعودة" Irreversible بعد ذلك بخمس سنوات.
أما هذا العام ففي رأيي أن لقب الفيلم الفضائحي عن حق يجب أن يذهب إلى فيلم "نقيض المسيح" Antichrist (أو المسيخ الدجال أو ضد المسيح أو الشيطان)، وكل هذه التعبيرات صحيحة تماما، وإن لم تكن هناك في الفيلم شخصية يتجسد فيها هذا المعنى بل إن المعنى عام يشمل "الرؤية" نفسها التي يقدمها هذا السينمائي المتطرف في خياله في فيلمه هذا الذي شاء أن يكتم أي معلومات عنه قبل وأثناء وبعد الانتهاء من تصويره، إلى أن عرض أخيرا ضمن مسابقة المهرجان في عرضه العالمي الأول.
جاء المخرج الدنماركي لارس فون ترايير إلى مهرجان كان للمرة الأولى عام 1991 بفيلم "أوروبا" Europa وكان وقتها في الخامسة والثلاثين من عمره، وراءه تجربة جماعة "دوغما 95" Dogma 95 التي تزعمها وأسس لها نظريا وعمليا والتي سرعان ما انتهت إلى الإفلاس،بالاضافة إلى عدد من الأفلام التي صورها.
أما "أوروبا" فكان مفاجأة مدهشة لعشاق سينما الفن، تجربة جديدة في استخدام لغة السينما: أبعاد الصورة وأعماقها، حركة الكاميرا الطويلة المعقدة التي تعبر كل الحواجز وتخترق المحظورات، العين التي تراقب دون أن نراها، شريط الصوت القادم مما وراء المحيط الأرضي وكأنه صوت القدر، والبطل- اللابطل الذي يسير كالمنوم إلى مصيره في "ألمانيا العام صفر"
أي في الأشهر الأولى بعد نهاية الحرب العالمية الثانية.
كانت موهبة فون ترايير تعلن عن نفسها بوضوح في هذا الفيلم الذي توقع كثيرون حصوله على السعفة الذهبية في تلك السنة، لكنه خرج من سباق كان في بجائزة لجنة التحكيم الخاصة. وقد أفصح فون ترايير وقتها عن "أسلوبه الخاص في التعبير" المخالف للأعراف البورجوازية المستقرة (وربما كان سببا إضافيا وقتها لإعجابي الشخصي به!) عندما صعد إلى المنصة لاستلام الجائزة فعلق قائلا "إنها جائزة صغيرة منحها أصغر رئيس لجنة تحكيم في أي مهرجان" وكانت تلك إشارة واضحة إلى المخرج البولندي الشهير رومان بولانسكي التي رأس اللجنة في ذلك العام والمعروف بقصره!
عاد فون ترايير إلى مهرجان كان عام 1996 بفيلم بديع آخر هو "تحطيم الأمواج" Breaking the Waves، وكان يعبر فيه عن فلسفة إنسانية محبة للخير وللدنيا وللحياة، يسبح في الميتافيزيقي، ويناقش مغزى الحياة والموت وفكرة البحث المعذب عن الله، من خلال لغة فنية رفيعة يستخدم فيها الموسيقى وتقسيم الفيلم إلى فصول تحمل عناوين مختلفة، ويرتكن على الممثلين وفي مقدمتهم البريطانية إميلي ووطسون التي ولدت فنيا في هذا الفيلم.
أخرج ترايير عدة أعمال للتليفزيون بعد ذلك منها فيلم عرض في نحو 6 ساعات هو فيلم "المملكة"، وكتب فيلم "البلهاء" The Idiots في إطار التشبث بفكر "دوغما 95".
ومنذ فيلمه المتحذلق الغريب "راقصة في الظلام" Dancer in the Dark الذي وجدته عملا لا فكر وراءه ولا فنا عظيما، بل محاولة لتسخيف الدراما الموسيقية بالاعتداء على تقاليدها باستخدام أبشع ممثلة يمكن أن تقف أمام الكاميرا هي المغنية بورك، وكانت تلك المرة الأولى والأخيرة لظهورها في السينما لحسن الحظ، وإن وجد هذا الفيلم بعض الذين أحبوه ومنحوه تعاطفهم، وقد كانت مهزلة حصوله على السعفة الذهبية في كان، ثم مضى لكي يرشح أيضا للأوسكار!
منذ ذلك الفيلم لم أعد شخصيا أتعامل مع فون ترايير على محمل الجد، فها هو يعود إلى كان في 2003 بفيلم "دوجفيل" Dogville وهو فيلم مصطنع يمارس فيه هوايته في الاعتداء على "النوع" الذي هو هنا الفيلم- نوار الأمريكي، من خلال قصة رمزية عن أمريكا "السيئة" التي لا يحبها فون ترايير، ويجد أنها مليئة بالقسوة والتوحش واللا إنسانية، هكذا من الخارج وبدون أي تعمق أو إحساس بالسخرية التي تولد الشعور بالمرح، بل من خلال تجسيد متجهم سخيف يفتضر أن يعتقلك ويرغمك لى الجلوس في مقعدك لنحو ثلاث ساعات.
لم يكن هذا على أي حال سبب عدم إعجابي بالفيلم، بل كان الأسلوب السينمائي المصطنع المتحذلق الذي يمتليء بالحوار الذي لا ينقطع ويدور في ديكور واحد كأنه منصة مسرح، وعليك أن تتخيل أن هنا دكان الحلاق، وهناك البنك، وهنا مركز الشرطة .. إلخ. وهو ما اعتبرته تراجعا عن لغة السينما وما قطعته من تقدم، وارتداد إلى أفلمة المسرح.
تجربة جديدة
اليوم نحن أمام تجربة مجنونة جديدة لفون ترايير، أتى بها إلى كان وفي ذهنه أن يصفع الجمهور، ويثير جنون القطاع المتيم بأفلامه حتى من قبل أن يراها!
هنا، في هذا الفيلم، لا يحدث شيء على الإطلاق. هناك فقط شخصيتان: رجل (وليم دافوي)، وامرأة (شارلوت جينسبرج). الإثنان منعزلان في بيئة برية متوحشة نائية، داخل كوخ خشبي محاط بالأدغال التي تختبيء فيها ذئاب متوحشة.
المرأة تبدو مدمرة نفسيا بسبب عجزها عن قبول فكرة الموت، والرجل يحاول مساعدتها عن طريق التحليل النفسي، على الخروج من أزمتها. لقد فقد الاثنان ابنهما بعد أن سقط من شرفة المسكن بينما هما مشغولان بممارسة الجنس. وهما يتركان المدينة ويرحلان إلى الريف حيث ينعزلان في ذلك الكوخ الخشبي بحثا عن علاج نفسي للزوجة من قبل زوجها الطبيب النسفاني كما نعرف لاحقا.
غير أن الوسيلة العلاجية الأساسية التي تستخدم هنا هي الجنس، أي ممارس الجنس في كل مكان وفي أوضاع مختلفة، وبصورة وحشية خاصة من جانب المرأة الشابة التي لا يبدو أنها تشبع، فالجنس هنا ليس وسيلة للتشبث بالحياة بل ربما وسيلة للتعجيل بالنهاية.
وعندما تشك في لحظة في أن صديقها أو زوجها، (لا يهم) على وشك أن يتخلى عنها والهرب، تستخدم أقسى درجات الوحشية معه.
إنها تقوم أولا بالقاء حجر كبير يشبه ما نعرفه بـ"حجر الرحاية" على قضيبه بعد الانتهاء من ممارسة الجنس مباشرة، وبالتالي تصيبه بالإغماء من شدة الصدمة.
وعندما يستفيق ويبدأ في التحرك، تأتي بحفار عتيق كبير وتغرز سنه المدبب في ساقه ثم تدير الحفار فيخترق السن ساق الرجل ويخرج من الجهة الأخرى مع ألم شديد لا يطاق. لكنها لا تكتفي بذلك بل تأتي بعجلة ضخمة من الحديد مصممة لكي تغلق تماما على المسمار الكبير المنغرز في ساق الرجل بقطعة حديدية تتحرك على زنبرك، وذلك لمنعه من الحركة تماما.
وفي مشهد يثير القشعريرة تتناول عضوه الذكري في يدها وتبدأ في تدليكه فيندفع الدم منه يغرق ملابسها.
وينتهز هو فرصة انشغالها ويزحف متسللا إلى الأحراش، ويختبيء في حفرة. الذئبة الجريحة تتطلع إليه وتقول له بصوت بشري أجش: الفوضى تسود!
الفتاة تصرخ في البرية وتهتاج: أين أنت؟ وتتصاعد هستيرية صراخها أكثر فأكثر كلما صمت صاحبنا في مكمنه فزعا مما يمكن أن يحدث له.
لكنها تعثر عليه وتجذبه إلى الداخل، حيث تستأنف الملحمة الدموية السادية المتوحشة: إنها ترغب في ممارسة الجنس مجددا. وعندما تعجز تمارس العادة السرية أمام الكاميرا مباشرة، ومع شعورها بالإحباط تتناول مقصا ضخما وتقطع أعضاءها الجنسية الخارجية، فيتفجر الدم.
هذه المشاهد التي تطرقت إليها نراها بشكل مباشر وبدون أي نوع من التمويه أوالإيحاء أوالإحالة إلى الخيال، أو استخدام زوايا تصوير جانبية، بل من خلال كاميرا مواجهة للممثل والممثل تتوقف وترصد تفاصيل الحدث بكل وضوح لتحقيق أكبر قدر من الصدمة.
ما المقصود من هذا العمل، ولماذا، وهل هذه الرؤية صادقة أم مفتعلة، ولماذا؟

الأفلام الغريبة
لابد أولا من توضيح أن كاتب هذا المقال مدرب منذ سنوات بعيدة على مشاهدة أكثر الأفلام إغراقا في الغرائبية والمشاهد الصادمة.
لقد كنت من القلائل الذين أحبوا فيلم "اصطدام" Crash مثلا، لأصالته الفكرية، وتعبيره المشوب بنزعة بحث فلسفي معذب، في العلاقة بين الألم واللذة، بشكل يحمل أيضا تعليقا ساخرا من الحضارة الأمريكية الحديثة، حضارة السيارات والسباق المجنون نحو الموت يوميا. وكان ما نشاهده رغم كل غرابته، في إطار المقبول والمفهوم والممكن تخيله أيضا لأانه كان يقدم أيضا في اطار رؤية مستقبلية للعالم.
وكنت ولازلت، من المعجبين بسينما العبقري السيريالي لويس بونويل صاحب "الكلب الأندلسي" An Andalucian Dog مثلا الذي يظهر فيه البطل وهو يشق عين امرأة بسكين فيتدفق منها النمل.
وأعجبت كثيرا بأفلام السيريالي الآخر المتطرف في تعبيره الفني، اليخاندرو خودوروفسكي. كما استمتعت بفيلم "امبراطورية الحواس" Empire of the Senses للياباني ناجيزا أوشيما. ولعل كتاباتي عن هؤلاء جميعا وأعمالهم وهي متوفرة في هذه المدونة، تبرر إعجابي بهم، وتثبت أنني لا أنطلق هنا في تقييمي لفيلم لارس فون ترايير الجديد "نقيض المسيح" من مفاهيم أخلاقية ساذجة، ترفض تصوير العنف على الشاشة أو استخدام العري والجنس في التعبير في الفن عموما، وفي السينما خصوصا.
غير أنني لابد أن أعترف بأنني لم أجد في فيلم فون ترايير أي عمق فني أو لمسات فنية خاصة وجديدة، يستخدم في إطارها الجنس والعنف للتعبير عن رؤية فلسفية حقيقية تشغله، بل شعرت بالفور وبالاعتداء على ذوقي ومحاولة فرض رؤية معينة بكل أشكال القسوة والقسر وتكرارها عشرات المرات والاستمراء في هذا دون أي قدر من الجمال، فللعنف أيضا جمالياته، فليقل لنا المفتونين بهذا الفيلم مثلا ما هي جماليات العنف التي يستخدمها فون ترايير هنا.
فما الذي يريده هو إذن من وراء كل هذه المشاهد المرعبة التي قد تدفع الكثيرين إلى كراهية السينما؟
إنه يريد تحقيق الصدمة أولا، والصدمة ثانيا، والصدمة أخيرا. أما من حيث الأسلوب فهو يكرر استخدامه للكاميرا المتحركة الحرة المهتزة التي تنتقل كثيرا في حركات بان افقية بين الشخصيتين كما اعتاد أن يفعل، ويستخدم العدسة سكوب أي الشاشة العريضة كما فعل في كل أفلامه الشهيرة دون أن تضيف شيئا هنا، وينتل من الأبيض والأسود إلى الألوان، ويستخدم طريقة كتابة العناوين على الشاشة: هناك أربعة فصول وخاتمة. هو بالطبع يحاول أن يوحي لنا بأنه يتفلسف عن الحياة، وعن ما بعد الحياة ربما، ويذكر في سياق أحاديثه الطويلة "نيتشه" وكتابه عن "المسيخ الدجال" أو "نقيض المسيح" وكيف أنه كان دائما إلى جوار فراشه، كما يتحدث عن تأثير فيلم "يوميات الحياة الزوجية" لبرجمان عليه، كل هذا في رأيي بلا جدوى.
فون ترايير لم تعد تشغله أي أفكار عن الحياة وما يحدث فيها، بل أصبح أساسا، مشغول بنفسه، ومنهمك بالدوران حولها، يريد أن يصعد فوق آهات الدهشة والرعب، ويحقق مزيدا من الشهرة والمجد الزائفين من خلال الصدمة، طالما أن هناك في أوساط "المعجبين بالصرعات الفنية" من يعجبون بهذا الاعتداء الفظ على الذائقة البصرية، بل وعلى الذوق الفني والخيال.
رفض الجمهورفون ترايير لا يهمه الجمهور كما قال خلال المؤتمر الصحفي الذي أعقب عرض فيلمه في مهرجان كان حين أكد أنه يصنع الأفلام لشخص واحد فقط، هو لارس فون ترايير نفسه!
وهو أيضا سعيد بوجود "محيط" خاص من المعجبين بأفلامه الصادمة، أي سعيد بانتماء فنه هذا إلى صنف الفن الفئوي القاصر على "قبيلة" معينة، وليس فنا للإنسانية كلها، كما يعترف بنفسه في حوار منشور في مجلة "فيلم" الدنماركية (العدد 66).
ما معنى ما تقوله الذئبة في الفيلم لبطلنا السادي الذي ينتهي بقتل المرأة خنقا، للخلاص منها والنجاة بنفسه، وهو ما يعكس رؤية ترايير للعلاقة بين الرجل والمرأة، كما يعكس الفيلم، على نحو ما، رؤيته لإحساس المرأة بالجنس، ولشكل احتياجها "الأساسي" من الرجل، ورغبتها المرضية في التملك والاستيلاء، وعدم الوصول أبدا إلى الإشباع.. فهل هذه تصلح بعد ذلك أن تكون، بأي مقياس، رؤية "إنسانية"؟
شخصيا وجدت من الغريب بل والمستهجن، أن يضحك البعض على ما يشاهدونه من مشاهد قطع الأعضاء الجنسية أو إزالتها بالمقص في واحد من أفظع مشاهد السينما، أو على اعتصار العضو الذكري للرجل بعد طحنه بحجر ضخم مما يفجر الدم أنهارا!
ما معنى هذا، ما هذه الثقافة "الأخرى" التي أصبحت تتلذذ بهذا النوع من المشاهد وتجد فيها أيضا نوعا من "الفكاهة" أو الـ fun؟
الفوضى والعالمأخيرا فيلم "نقيض المسيح" الذي يقول لنا شيئا ربما نعرفه جميعا على لسان الذئبة المتوحشة، أي أن الفوضى تسود العالم، لا يقدم جديدا على صعيد الفكر بل ولا على صعيد الفن، سوى الإغراق في تجريب أقصى درجات الصدمة. ولعل الناقد الذي قال إن فون ترايير لا يوظف العنف في الفيلم، بل يستخدمه ضد الجمهور" كان على حق تماما!
ولاشك أن فون ترايير عندما يفاجئنا في النهاية بإهداء فيلمه هذا إلى السينمائي الروسي الراحل أندريه تاركوفسكي، فإنه يسخر من عشاق سينما تاركوفسكي، بل ومن سينما العقل.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger