الاثنين، 9 مارس 2009

طباخ الريس.. ولتحيا الملوخية!

طبول كثيرة دقت لفيلم "طباخ الريس" للمخرج سعيد حامد، باعتباره فتحا جديدا في عالم الكوميديا أو تحديدا الكوميديا السياسية، ولم أكن لأعير الفيلم أدنى اهتمام إلى أن قرأت أن الفيلم لقي استجابة من جانب بعض "النقاد" أعضاء جمعية نقاد السينما المصريين، التي منحت جائزتها هذا العام، لحسن الحظ، لفيلم "جنينية الأسماك" للمخرج يسري نصر الله. وكان الفيلم من الأفلام التي نوقشت طويلا بين الأعضاء قبل التوصل إلى الفيلم الذي ينال الجائزة، بل إن أحدهم أعتبره أحد أهم عشرة أفلام!
وذكرت بعض التقارير أيضا أن البعض، من نقاد المعارضة الناصرية المتشنجة عادة فيما يتعلق بفهم الأفلام السينمائية، أيدوا الفيلم واعتبروه يقدم نموذجا لما يجب أن يتحلى به رئيس الجمهورية من صفات.
أما الفيلم نفسه فلم يكن هناك أفضل منه للدعاية لمؤسسة الرئاسة في مصر والعالم الثالث بشكل عام، فهو في الحقيقة، يقدم صورة مثالية أسطورية لرئيس الجمهورية: البريء، الذي لا يعرف شيئا عن معاناة الشعب بسبب وجود مجموعة من الفاسدين المحيطين به، بل إنه هو الذي يطلب ويصر على النزول إلى الشعب للاطلاع على ما يعانيه على أرض الواقع، ويقوم بكشف ألاعيب المسؤولين المنافقين.
والحقيقة أنه لم يوجد في مصر حتى الآن رئيس جمهورية (من محمد نجيب إلى حسني مبارك) ولا في غير مصر في المنطقة المتخلفة المحيطة، قام ولو مرة واحدة فقط، بلفت نظر أي منافق من المنافقين الكثيرين الذي يهتفون ويهللون في المؤتمرات الحزبية الرسمية (للحزب الحاكم) ويقف بعضهم أحيانا لكي يقرأ قصيدة مديح مباشر في شخص الرئيس، بل إن هناك من رفعوا لافتات تقول (إن الجنين في بطن أمه يبايع الرئيس) دون أن يتدخل الرئيس، أي رئيس، بل إنه ينتشي على مثل هذه النفاقات المفضوحة، وتنتفخ أوداجه ويريد أن يصدق ويصدقه الجميع، أن مثل هذه المبادرات الحماسية الفاسدة جاءت طبيعية وبدافع من الحب.. أي حب يارجل!
فيلم "طباخ الريس" نموذج لسينما الأنماط النمط الكاريكاتوري التي تقوم بتأليه الرئيس، والسخرية من الشعب في حين يدعي صناع الفيلم الحديث باسم بسطاء الشعب.. فمشكلة الناس كما يعرضها الفيلم، لا تخرج عن نطاق الأكل والجنس: بطل الفيلم الطباخ يغوي كل المحيطين به بل ويرشي المسؤولين في المصالح المختلفة بأطباق الطعام الشهية، ويعاني في الوقت نفس من عدم القدرة على تحقيق الارتواء الجنسي مع زوجته المثيرة جدا داليا مصطفى!
ولا يوجد مشهد واحد في الفيلم، من جهة لغة السينما، مبتكر أو طريف بحق في بنائه وحركته، بل يبدو وكأن الفيلم يتوالد في مشاهده من داخل نفس الأنماط السابقة المتكررة في هذا النوع من الكوميديا المتدنية (التهريج) في السينما المصرية، وإن تلحف برداء النقد السياسي.
لذلك يؤكد بطل الفيلم الممثل طلعت زكريا أن الرقابة لم تعترض على أي حرف في السيناريو، بل أبدت سعادتها بالفيلم قبل وبعد تصويره.
والمؤكد أن الفيلم عرض على الرئيس نفسه وأنه أبدى سعادته به.. وربما يكون قد امر أيضا باستكمال الموضوع من خلال أفلام أخرى مثل"عودة طباخ الريس" و"انتقام طباخ الريس" و"طباخ الريس يقود الحركة الديمقراطية من أجل التغيير".. تغيير طبق البامية إلى طبق القرع الاسطمبولي طبعا.. ولتحيا الملوخية!

ملصقات الفيلم الكلاسيكي" المدمرة بوتيمكين"



سبق أن نشرت ملصقا أصليا من فيلم "المدمرة بوتيمكين" (1925) للمخرج الروسي سيرجي أيزنشتاين وكان من تصميم الشقيقين جيورجي وفلاديمير شتاينبرج، وهما من المتخصصين في تصميم الملصقات في بدايات السينما في روسيا. وقد انضما إلى جماعة من الفنانين التجريبيين الذين كانوا يجربون في إطار المدرسة الشكلانية الروسية التي كانت تعتمد على التركيب والتجميع (ينتمي إليها بلا شك رائد التجريب في السينما العالمية كوليشوف).
واليوم أنشر ثلاثة ملصقات أخرى من الفيلم نفسه الذي اصبح إحدى الكلاسيكيات الكبيرة في تاريخ السينما.
الملصق العلوي مجهول وقد أصبح من الممكن نشره بعد أن انتهى الحظر على النشر بعد مرور سبعين عاما على ظهوره (عام 1927) وكانت ملكيته لاستديو جوسكينو في موسكو.
والملصق الثاني (في الوسط) هو أيضا من الملصقات الأصلية للفيلم الكلاسيكي وهو مجهول النسب أيضا مثل سابقه وملك لاستديو جوسكينو الذي أنتج الفيلم.
والملصق الثالث (السفلي) من تصميم الفنان الكسندر رودشنكو عام 1926. وقد توفي الفنان في أواخر 1941.
من كتاب "فنون السينما" الذي ترجمه الناقد والمخرج عبد القادر التلمساني أقتبس السطور التالية التي وردت عن فيلم "المدمرة بوتيمكين" (يترجمه المدرعة) في الجزء المعنون "عشرة افلام هزت العالم":
"في عام 1958 في بروكسل - أعلنت لجنة تحكيم من مؤرخي السينما في 62 دولة أن فيلم «المدرعة بوتيمكين» هو «أجمل فيلم في العالم». وقبل ذلك بعشر سنوات - عام 1948- اتفقت آراء النقاد العالميين كذلك على وضع فيلم «المدرعة بوتيمكين» على رأس قائمة أحسن عشرة أفلام أنتجتها السينما في العالم حتى ذلك التاريخ. ولا جدال في أن هذا الفيلم العبقري سيظل إلى آماد بعيدة علامة كبرى من علامات الخلق السينمائي الأصيل. ويعتبر فيلم «المدرعة بوتيمكين» الرسالة الأولى للسينما السوفييتية إلى العالم كله, يؤكد خصوبة وروعة الثورة الاشتراكية الأولى حينما تتفجر هذه الثورة في قلب فنان شاب.
أنتج الفيلم عام 1925، في السنة الأولى لتنظيم السينما في الاتحاد السوفييتي على الطريقة الاشتراكية. والفيلم يدور حول حادث واحد وقع سنة 1905 وهو تمرد بحارة «المدرعة بوتيمكين» واشتعال الثورة في الميناء - وقد جاء هذا الحادث في صفحة واحدة من نص السيناريو المكتوب. وتم تصوير الفيلم على هذه الصورة في ستة أسابيع - من نهاية سبتمبر حتى بداية نوفمبر - وقد ارتجل أيزيشتاين أغلب أجزائه أثناء التصوير .. وانتهى مونتاج الفيلم في صباح يوم عرضه في 21 ديسمبر 1925, في ليلة من ليالي مسرح البولشوي بموسكو. واستقبله الجمهور بحماس بالغ. لم يلبث أن امتد إلى جمهور برلين ولندن وباريس وكل العواصم حتى القاهرة. حيث عرض (بعد إنتاجه بنحو أربعين سنة). وقد كتب أيزينشتاين عام 1939 دراسة قيمة عن الوحدة العضوية والانفعال النفسي في فيلم «المدرعة بوتيمكين» قال عنها:
- يبدو فيلم «المدرعة بوتيمكين» من الظاهر على أنه تاريخ لأحداث . ولكنه يترك تأثيره في المتفرج كدراما. والسر في هذا التأثير يكمن في الخطة التي بنيناها متمشية مع قوانين التكوين الصارم للمأساة. إن العمل الفني لا يصبح عملا عضويا , ولا يصل إلى قمة الانفعال الحقيقي إلا عندما يصبح موضوع ومضمون وفكرة العمل كلا عضويا مستمرا مع أفكار وأحاسيس المؤلف, بل ومع أنفاسه نفسها. ويعود النجاح العالمي الكبير الذي لقيه هذا الفيلم إلى شكله الفني السينمائي الخالص. وإلى مستوى عال من الإتفاق لا مثيل لهما. كما يعود على الخصوص إلى الحرارة الإنسانية".

الجمعة، 6 مارس 2009

فيلم "جران تورينو": تأملات في الحياة والموت

"جران تورينو" Gran Torino هو الفيلم الثاني الذي يخرجه كلينت إيستوود خلال عام واحد بعد "التبديل" (أو المبادلة أو الاستبدال). موضوع يليق بكلينت إيستوود الذي تقدم بع العمر الآن (78 عاما) كما يليق بممثل ومخرج أصبح يميل أكثر إلى التأمل في معنى الحياة والموت بينما يتأهب لاستقبال الموت.
من السطح يبدو هذا الفيلم كما لو كان عملا يدور أساسا حول العنصرية، اختلاف الأجناس والاحتكاك الذي ينشأ بالضرورة خاصة عندما يكون المحور رجل عجوز هو وولتر كوالاسكي (ايستوود).. كان مقاتلا سابقا في الحرب الكورية في أوائل الخمسنيات، وعاملا في مصنع للسيارات يظل مرتبطا بذكراه من خلال الشيء الوحيد العزيز على قلبه وهو سيارة الجراند تورينو من عام 1972.
هذا الرجل يصبح وحيدا تماما في الحياة بعد وفاة زوجته (التي تقام جنازتها في المشهد الاول من الفيلم)، فهو منفصم الصلة بولديه وأحفاده الذين لا هم لهم إلا ترقب أن يرثوا ما لديه بعد وفاته، بل إن حفيدته التي لا تتورع عن حضور الجنازة بلباس يكشف عن بطنها، لا تتورع أيضا عن سؤاله مباشرة عن مصير سيارته العزيزة بعد موته بل وتطالبه بأن يهبها لها، ويسعى ولده وزوجته إلى إيداعه بيتا للعجائز المسنين للاستيلاء على منزله ومتعلقاته.
لكن وولتر ليس ضحية عاجزة بل رجل يمتليء بمشاعر عنيفة في داخله، لا يخفي عنصريته تجاه جيرانه من الصينيين الذين وفدوا إلى تلك البلدة الأمريكية الهادئة، وتنبع نظرته الرافضة لهم من ماضيه حيث قتل الكثير من الكوريين في الحرب ولايزال يحتفظ بمسدس ضخم وبندقية. ولا يكف وولتر عن تعليقاته العنصرية. وهو يرفض جيرانه ويرفض ولديه وأحفاده كما يرفض الكنيسة ومحاولات القس الكاثوليكي دفعه للعودة للكنيسة والاعتراف، بل وعندما يحدثه القس الشاب عن الحياة والموت يتساءل وولتر بحدة: ماذا تعرف أنت عن الحياة والموت. ويروي له جانبا مما خبره خلال الحرب من مآس مازال تأثيرها قائما عليه. وعندما يسأله القس: وماذا عن الحياة؟ لا يعرف كيف يجيب بل إنه يوافق القس على أنه عاش حياة فارغة
فيلم "جران تورينو" إذن يدور في هذا الإطار، في إطار بحث رجل موشك على الموت، خاصة أنه مريض، غالبا بسرطان الرئة، عن التصالح مع نفسه، بل وبحثه عن "الخلاص" ولكن بمفهوم دنيوي مباشر.
إنه كرجل يؤمن بضرورة إحقاق الحق ولو لحد التزمت، يتحول في موقفه من معاداة جيرانه الصينيين إلى مدافع عن ولدهم الشاب الساذج الذي تسعى عصابة من الصينيين الأشقياء لضمه إليها بشتى الطرق، ويعتدون على شقيقته وينتهي الأمر أيضا إلى اغتصابها.
الفيلم يدور حول ثنائيات كامنة مثل الأنا والآخر، الحياة والموت، الحقد والتسامح، الآباء والأبناء، النظرة إلى النفس والنظرة إلى الآخر، هل التطهر بالاعتراف أم بتقديم عمل صالح.. وغير ذلك.
يتصدى وولتر لعصابة الأشقياء كرجل يؤمن بالحق والعدل، بالعنف تارة، وبالتهديد تارة أخرى، ويتبنى الشاب الصيني وشقيقته في نوع من "التعويض" عن افتقاده العلاقة مع ولديه وأحفاده، ويكتشف أن "الآخر".. الجار.. المختلف، لديه ليس أقل أو أدنى بل لديه أيضا حكمته الخاصة وثقافته التي تمتليء بالحب والاحترام.
ما ينتهي إليه الفيلم يكشف عن جوهره: هذا الإنسان الذي يكتشف نفسه من خلال علاقته مع الآخر، ويعرف أخيرا معنى لحياته عندما يقرر أن يهب كل ما يملك للآخرين بل ويهب أيضا حياته عندما يتصدى وحيدا لعصابة الأشقياء، دون سلاح لكي يورطهم في قتله بالرصاص وبالتالي يتم تدمير حياتهم بطريقة قانونية تماما، فهو يفقد حياته، ويقضون هم حياتهم خلف القضبان، ويفوز الجار الصيني الشاب بسيارة الجراند تورينو بعد أن تعلم من وولتر كيف يصبح رجلا، يواجه الحياة.
يختلف الفيلم كثيرا عن أفلام إيستوود الأخرى رغم ما أشار إليه البعض من علاقته بأفلام "هاري القذر" أو بالأحرى بشخصية هاري كالاهان الذي يقوم بتنفيذ القانون بيديه، أي بتصفية خصومه الذين يعرف أنهم مدانون بنفسه. ورغم خشونة الشخصية الرئيسية من الظاهر، إلا أنه يعد هنا تجسيدا لأبناء جيله ولمفاهيم عصره، وأسيرا لتجربته الشخصية القاسية في الحرب أيضا. لكنه أيضا يفتح عينيه على حقيقة أنه لم يعش الحياة كما ينبغي ولم يفهمها على حقيقتها، ويتجه إلى نوع من "التكفير" بالتضحية بالنفس، ليس بالضرورة من أجل الآخر، بل من أجل تقديم "قيمة" عظمى في الحياة قبل أن يودعها.
هذا فيلم بسيط، بديع، رقيق، حافل بالإشارات المرحة رغم قتامة الشخصية الرئيسية وتشددها. ولعل أداء ايستوود هنا يضفي عليها أيضا رونقا خاصا، هذا الأداء السهل البسيط المعبر الواثق. إن إيستوود هو الذي يحمل الفيلم كله على كتفيه، ويبدو كالأستاذ الذي يعلم الممثلين الآخرين في الفيلم كيف يتعاملون معه دون وجل.
كلينت إيستوود أعلن أن هذا الفيلم سيكون الأخير له كممثل. وأقول إنه ربما يصبح أيضا الفيلم الأخير له كمخرج.. ففيه نوع من إعادة اكتشاف الذات دون أن يكون بالضرورة يدور حول "الرؤية الذاتية".

السبت، 28 فبراير 2009

ملامح مشروع تخريب السينما

لقطة لدار سينما أوبرا بالقاهرة التي أغلقت


حين نشرت قبل سنوات عددا من المقالات، في أماكن مختلفة، تحت عنوان "مشروع تخريب السينما في مصر"، تساءل كثيرون عما قصدته تحديدا بهذا المشروع، وهل يمكن أن يكون هناك مشروع من هذا النوع، أم أن الأمر لا يعدو كونه نوعا من "مبالغات" الشعراء!
الإجابة تتلخص في أنه مشروع "مضاد" و"تراجعي" و"عتيق" غير مكتوب وغير موقع بالطبع، وغير معتمد رسميا بالتالي، لكنه، على نحو غير مباشر، يلقى الموافقة والدعم والتشجيع من قطاعات مختلفة، منها ما هو في الحكومة: داخل نظم الإعلام والتعليم والثقافة، ومنها ما هو في المعارضة، تلك المعارضة الرجعية، المتزمتة، المتخلفة التي تؤمن بنمط الحياة في مجتمعات التصحر والبداوة وترغب في نقل هذا النموذج المتخلف إلى بلادنا. ويكفي أن نقرأ ما يكتبه أنصار هذا النوع من "المعارضة" من تعليقات تنشر أسفل ما ينشر يوميا في الصحف من مواضيع تتناول قضايا السينما وغيرها من الفنون، وتتاح الفرصة للتعليق عليها على مواقع تلك الصحف الموجودة على شبكة الانترنت، لكي نتبين حجم ما وصلنا إليه من تدهور فكري، ونقص تعليمي خطير، ومدى ما وصلت إليه أيضا حالة "الهستيريا" الدينية المرضية التي باتت تستلزم علاجا عاجلا داخل غرفة العناية المركزة.
أما مشروع تخريب السينما في مصر فله قسمات وسمات وملامح مشتركة، كما أن له حُراسه وسدنته، منهم من يعمل تطوعا تحت تصور أنه يعمل للصالح العام، ومنهم من تلبسته حالة الهستيريا التي أشرنا إليها بسبب نقص الكثير من الجوانب التي تساعد على التوازن في الحياة.
أما أهم سمات المشروع فيمكن تلخيصها في النقاط الرئيسية التالية:
1- تحويل السينما إلى ظاهرة لقيطة منفصلة عن ثقافة المجتمع الذي تنشأ فيه، كأنما يمكن زرع فن السينما "الحداثي" جدا في مجتمع اقطاعي بدوي رعوي تقليدي لا مكان للمرأة فيه مثلا، بل ولا مكان فيه أصلا، لدراسة الفلسفات الحديثة التي هي أساس كل الفنون الحديثة.
2- تحويل المشاهدة السينمائية إلى فعل لا معنى له مرتبط بالوجبات السريعة، وبالتالي تحويل أماكن المشاهدة من "دور عرض" لها أسسها ومناسيبها المعروفة التي تجعلها لا تقل أهمية ورونقا واهتماما بالديكورات والمعمار عن المسرح، إلى مجرد "قاعات" شبيهة بالعلب الصغيرة التي تحتوي على عدد محدود من المقاعد المتراصة أمام شاشة صغيرة تشبه شاشة التليفزيون المنزلي الذي أصبح يطلق على شاشاته الكبيرة حاليا "السينما المنزلية". وليس من الغريب إذن أن توجد هذه القاعات المتعددة داخل "مجمع سينمائي" واحد بالقرب من مطاعم تقدم الوجبات السريعة مثل ماكدونالدز وبيتزا هوت وكنتكي فرايد تشيكن وغيرها. وإن كان أهم ما يميز تلك المجمعات السينمائية وجود ما يعرف بـ"الفشار" أو pop corn ومن هنا جاء تعبير أفلام الفشار pop corn movies أي تلك الأفلام (الأمريكية غالبا) التي تصنع للتسلية المطلقة، وتسبح في عوالم خيالية أو تمتلئ بالكائنات الغريبة التي تشيع نوعا من الفزع الخفيف والإثارة التي تدفع الجمهور، وهو في معظمه من المراهقين، إلى استهلاك أكبر كمية من الفشار.
وتوجد هذه المطاعم والمجمعات السينمائية داخل مجمعات استهلاكية ضخمة يعرف المجمع الواحد منها بالمول mall أي ذلك السوق المتعدد الطوابق الذي يحتوي على عدد من المطاعم والمقاهي أيضا. وهو نموذج أمريكي يجمع العديد من الخدمات الاستهلاكية في مكان واحد بما في ذلك الأماكن التي تقدم "عروض التسلية". ومن المستحيل بالتالي أن تجد في هذه الأسواق المتعددة مسرحا أو معرضا لأعمال الفن التشكيلي، أما "علب" عرض الأفلام فهي متوفرة بغزارة.
3- إغفال الاهتمام باللغة السينمائية التي تعبر بالإشارة والدلالة والاخفاء والاظهار والظل والضوء والتكوين والعلاقة بين اللقطات والصور، وتحويلها إلى مجرد انتقالات آلية "أو ميكانيكية" بين اللقطات لتسهيل رواية قصة ذات مضمون أخلاقي وعظي بسيط ومباشر.
4- تحويل الثقافة السينمائية إلى معلومات استعراضية لا سياق لها، ودون أي قدرة تحليلية، أي إلى مجرد أرقام وأسماء وميزانيات وجوائز ومسابقات ونجوم وألاعيب لا تشبع أي رغبة حقيقية في المعرفة، ولا في فهم العالم والإنسان. وتلعب البرامج التي تقدم على شاشة التليفزيون، دورا أساسيا في تمييع فكرة الثقافة السينمائية بمفهومها الحقيقي، أي المشاهدة العميقة والمناقشة والتحليل وفهم نسق العلاقات داخل الفيلم، سواء العلاقات الدرامية أم البصرية داخل الصور واللقطات والمشاهد. هذه البرامج تستعرض أكثر مما تحلل، وتركز في استعراضها على الأمريكي السائد blockbusters أكثر من تقديم المحاولات الفنية في السينما الأمريكية وغير الأمريكية، وتهتم بالمقابلات مع النجوم أكثر من تحليل الفيلم، وبالعرض أكثر من النقد، وباستعراض جسد المذيعة وكمية المساحيق التي تغطي وجهها، أكثر مما تهتم بالجمهور نفسه وبالنماذج البسيطة التي تعبر أفضل عن هذا الجمهور. وعندما تستعين بعض هذه البرامج بالجمهور فإنها تقدمه مثل مجموعة من القرود، حيث يتم رصهم في صفوف خلف المذيعة أو مقدمة البرنامج لكي يصفقوا ويهللوا للمذيعة وللضيف أو الضيفة عند لحظات معينة، واستجابة لإشارات يصدرها لهم شخص مكلف بذلك، بينما تجري المذيعة مقابلاتها مع هذا النجم أو تلك النجمة.

5- بدلا من أن يؤدي تكوين كيانات إنتاجية كبيرة إلى دعم الأفلام الأكثر طموحا من الناحية الفنية والإنتاجية، وتحقيق الأحلام المؤجلة لكبار السينمائيين مثل محمد خان وداود عبد السيد ورأفت الميهي، يبدو أن تلك الكيانات التي تحولت إلى احتكارات مهيمنة، تسعى إلى تخريب السوق السينمائية في مجالي الإنتاج والتوزيع، فهي تسعى إلى طرد الأفلام الجادة واستبعادها والتسويف في عرضها، و"اعتقال" عدد من السيناريوهات المتيزة والتسويف في إنتاجها، وتشجيع السائد الذي يمكن أن يدر ربحا سريعا، والخلط بين منطق إنتاج "فيلم" وافتتاح "مطعم" سياحي، والوقوف في وجه اختيارات الجمهور عن طريق فرض نوعية محددة على ذوقه، وتأجيل عرض الأفلام الأخرى التي تخرج عن أنماط التهريج السائدة.
6- إجهاض وضرب والإجهاز على تجربة نوادي السينما التي بدأت في الستينيات في مصر وازدهرت في السبعينيات، وقبل ذلك في تونس والمغرب. ومن نوادي السينما تخرج عادة ثقافة جديدة، حداثية، تميل إلى المرونة والجمال وتنبذ التشدد والتزمت والقبح: في السلوك كما في المظهر.
7- إغفال أي ذكر أو اهتمام بالسينما في مناهج التعليم، بل والاستغناء تماما عن عرض الأفلام السينمائية في المدارس والجامعات كما كان يحدث في الماضي ولو على سبيل الاستفادة اجتماعيا من مضامين الأفلام. وهو تراجع يتسق مع التراجع في تدريس الدراما أو الاهتمام بالمسرح المدرسي والجامعي والإجهاز على فرق التمثيل بالجامعات، خضوعا لفكرة أن التمثيل حرام، وأن مشاركة المرأة بالتمثيل على المسرح من الكبائر وغير ذلك من فتاوى التكفير المنتشرة بغزارة بسبب تهافت الإعلام السائد وعجزه عن نشر ثقافة حقيقية ذات اسس واضحة لا تساوم ولا تسعى إلى إمساك العصا من المنتصف.
8- ازدراء دراسة الفنون والرسم والتشكيل والتحريض على عدم التقدم للالتحاق بالمعاهد التي تدرس هذه الفنون، واعتبار دراسة الرقص حرام، حسبما قالت عميدة معهد الباليه في مصر لطالبات المعهد، ونشرت الصحف ذلك ولم يصدر أي تعليق من المعهد بل ولم تصدر وزارة التعليم العالي قرارا بالتحقيق مع العميدة.
9- تخلي الدولة عن نشر الكتاب السينمائي والمجلة السينمائية، وجعل ما يصدر منها قاصرا على المناهج والمعلومات المتداولة القديمة في الغرب، والتخلي عن دراسة الاتجاهات والظواهر الراسخة في السينما المصرية والعربية، وجعل مكافأة الترجمة أضعاف مكافأة التأليف، وجعل المهرجان السينمائي تظاهرة ذات طابع احتفالي سياحي ترويجي لصورة النظام بدلا من أين يكون معهدا ومدرسة لتأهيل هواة السينما لكي يضيفوا ثقافيا إلى رصيد المجتمع الجمالي والفكري والفني.
10- سيطرة مجموعة من أشباه السينمائيين وأصحاب النفوس المريضة والذين كفوا أن تكون لهم أي علاقة حقيقية بالابداع السينمائي منذ عقود، على النقابات الفنية والسينمائية والتمثيلية بوجه خاص، واستغلال العمل النقابي لمعاقبة الفنانين المتميزين الجادين وفرض الغرامات عليهم والتعسف معهم في اصدار تصريحات بالتصوير وغير ذلك من القرارات والتصريحات التي تشوه صورة الفن عندما يتحدثون عن السينما كما لو كانوا معادين بالفطرة للثقافة، وكما لو كانت السينما شيئا أشبه بالكباريه!
11- انتشار مجموعة من أشباه الكتبة الذين نشأوا في بيئة ثقافية متدنية ولم يطلعوا أو يبذلوا أي جهد في الإطلاع على النماذج المتقدمة في السنيما العالمية على مجال كتابة السيناريو ، حتى أصبح كل من يجيد كتابة التعليقات السوقية الغليظة والبذيئة أحيانا، كاتبا للسيناريو يتسابق ممولو الأفلام للتعاقد معه.
12- فساد الرقابة التي لا تجرؤ على التصدي لأفلام كتبة السيناريوهات من أنصاف الأميين سينمائيا، في أشكالها المتدنية فنيا وفكريا والمعادية للإنسان نفسه في صورته البسيطة، بينما تتجرأ الرقابة دوما وتعترض على أي عمل حقيقي يتصدى لمناقشة الفساد السياسي والاجتماعي المتفشي، وتراقب كل ما يتعلق بنقد سلطة الشرطة والقضاء بينما أصبحت هاتان المؤسستان تحديدا من أكثر المؤسسات فسادا في مصر والعالم العربي.
والقائمة بعد ذلك طويلة.. ليت هناك من يستطيع أن يكملها غيري!
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger