الجمعة، 6 مارس 2009

فيلم "جران تورينو": تأملات في الحياة والموت

"جران تورينو" Gran Torino هو الفيلم الثاني الذي يخرجه كلينت إيستوود خلال عام واحد بعد "التبديل" (أو المبادلة أو الاستبدال). موضوع يليق بكلينت إيستوود الذي تقدم بع العمر الآن (78 عاما) كما يليق بممثل ومخرج أصبح يميل أكثر إلى التأمل في معنى الحياة والموت بينما يتأهب لاستقبال الموت.
من السطح يبدو هذا الفيلم كما لو كان عملا يدور أساسا حول العنصرية، اختلاف الأجناس والاحتكاك الذي ينشأ بالضرورة خاصة عندما يكون المحور رجل عجوز هو وولتر كوالاسكي (ايستوود).. كان مقاتلا سابقا في الحرب الكورية في أوائل الخمسنيات، وعاملا في مصنع للسيارات يظل مرتبطا بذكراه من خلال الشيء الوحيد العزيز على قلبه وهو سيارة الجراند تورينو من عام 1972.
هذا الرجل يصبح وحيدا تماما في الحياة بعد وفاة زوجته (التي تقام جنازتها في المشهد الاول من الفيلم)، فهو منفصم الصلة بولديه وأحفاده الذين لا هم لهم إلا ترقب أن يرثوا ما لديه بعد وفاته، بل إن حفيدته التي لا تتورع عن حضور الجنازة بلباس يكشف عن بطنها، لا تتورع أيضا عن سؤاله مباشرة عن مصير سيارته العزيزة بعد موته بل وتطالبه بأن يهبها لها، ويسعى ولده وزوجته إلى إيداعه بيتا للعجائز المسنين للاستيلاء على منزله ومتعلقاته.
لكن وولتر ليس ضحية عاجزة بل رجل يمتليء بمشاعر عنيفة في داخله، لا يخفي عنصريته تجاه جيرانه من الصينيين الذين وفدوا إلى تلك البلدة الأمريكية الهادئة، وتنبع نظرته الرافضة لهم من ماضيه حيث قتل الكثير من الكوريين في الحرب ولايزال يحتفظ بمسدس ضخم وبندقية. ولا يكف وولتر عن تعليقاته العنصرية. وهو يرفض جيرانه ويرفض ولديه وأحفاده كما يرفض الكنيسة ومحاولات القس الكاثوليكي دفعه للعودة للكنيسة والاعتراف، بل وعندما يحدثه القس الشاب عن الحياة والموت يتساءل وولتر بحدة: ماذا تعرف أنت عن الحياة والموت. ويروي له جانبا مما خبره خلال الحرب من مآس مازال تأثيرها قائما عليه. وعندما يسأله القس: وماذا عن الحياة؟ لا يعرف كيف يجيب بل إنه يوافق القس على أنه عاش حياة فارغة
فيلم "جران تورينو" إذن يدور في هذا الإطار، في إطار بحث رجل موشك على الموت، خاصة أنه مريض، غالبا بسرطان الرئة، عن التصالح مع نفسه، بل وبحثه عن "الخلاص" ولكن بمفهوم دنيوي مباشر.
إنه كرجل يؤمن بضرورة إحقاق الحق ولو لحد التزمت، يتحول في موقفه من معاداة جيرانه الصينيين إلى مدافع عن ولدهم الشاب الساذج الذي تسعى عصابة من الصينيين الأشقياء لضمه إليها بشتى الطرق، ويعتدون على شقيقته وينتهي الأمر أيضا إلى اغتصابها.
الفيلم يدور حول ثنائيات كامنة مثل الأنا والآخر، الحياة والموت، الحقد والتسامح، الآباء والأبناء، النظرة إلى النفس والنظرة إلى الآخر، هل التطهر بالاعتراف أم بتقديم عمل صالح.. وغير ذلك.
يتصدى وولتر لعصابة الأشقياء كرجل يؤمن بالحق والعدل، بالعنف تارة، وبالتهديد تارة أخرى، ويتبنى الشاب الصيني وشقيقته في نوع من "التعويض" عن افتقاده العلاقة مع ولديه وأحفاده، ويكتشف أن "الآخر".. الجار.. المختلف، لديه ليس أقل أو أدنى بل لديه أيضا حكمته الخاصة وثقافته التي تمتليء بالحب والاحترام.
ما ينتهي إليه الفيلم يكشف عن جوهره: هذا الإنسان الذي يكتشف نفسه من خلال علاقته مع الآخر، ويعرف أخيرا معنى لحياته عندما يقرر أن يهب كل ما يملك للآخرين بل ويهب أيضا حياته عندما يتصدى وحيدا لعصابة الأشقياء، دون سلاح لكي يورطهم في قتله بالرصاص وبالتالي يتم تدمير حياتهم بطريقة قانونية تماما، فهو يفقد حياته، ويقضون هم حياتهم خلف القضبان، ويفوز الجار الصيني الشاب بسيارة الجراند تورينو بعد أن تعلم من وولتر كيف يصبح رجلا، يواجه الحياة.
يختلف الفيلم كثيرا عن أفلام إيستوود الأخرى رغم ما أشار إليه البعض من علاقته بأفلام "هاري القذر" أو بالأحرى بشخصية هاري كالاهان الذي يقوم بتنفيذ القانون بيديه، أي بتصفية خصومه الذين يعرف أنهم مدانون بنفسه. ورغم خشونة الشخصية الرئيسية من الظاهر، إلا أنه يعد هنا تجسيدا لأبناء جيله ولمفاهيم عصره، وأسيرا لتجربته الشخصية القاسية في الحرب أيضا. لكنه أيضا يفتح عينيه على حقيقة أنه لم يعش الحياة كما ينبغي ولم يفهمها على حقيقتها، ويتجه إلى نوع من "التكفير" بالتضحية بالنفس، ليس بالضرورة من أجل الآخر، بل من أجل تقديم "قيمة" عظمى في الحياة قبل أن يودعها.
هذا فيلم بسيط، بديع، رقيق، حافل بالإشارات المرحة رغم قتامة الشخصية الرئيسية وتشددها. ولعل أداء ايستوود هنا يضفي عليها أيضا رونقا خاصا، هذا الأداء السهل البسيط المعبر الواثق. إن إيستوود هو الذي يحمل الفيلم كله على كتفيه، ويبدو كالأستاذ الذي يعلم الممثلين الآخرين في الفيلم كيف يتعاملون معه دون وجل.
كلينت إيستوود أعلن أن هذا الفيلم سيكون الأخير له كممثل. وأقول إنه ربما يصبح أيضا الفيلم الأخير له كمخرج.. ففيه نوع من إعادة اكتشاف الذات دون أن يكون بالضرورة يدور حول "الرؤية الذاتية".

السبت، 28 فبراير 2009

ملامح مشروع تخريب السينما

لقطة لدار سينما أوبرا بالقاهرة التي أغلقت


حين نشرت قبل سنوات عددا من المقالات، في أماكن مختلفة، تحت عنوان "مشروع تخريب السينما في مصر"، تساءل كثيرون عما قصدته تحديدا بهذا المشروع، وهل يمكن أن يكون هناك مشروع من هذا النوع، أم أن الأمر لا يعدو كونه نوعا من "مبالغات" الشعراء!
الإجابة تتلخص في أنه مشروع "مضاد" و"تراجعي" و"عتيق" غير مكتوب وغير موقع بالطبع، وغير معتمد رسميا بالتالي، لكنه، على نحو غير مباشر، يلقى الموافقة والدعم والتشجيع من قطاعات مختلفة، منها ما هو في الحكومة: داخل نظم الإعلام والتعليم والثقافة، ومنها ما هو في المعارضة، تلك المعارضة الرجعية، المتزمتة، المتخلفة التي تؤمن بنمط الحياة في مجتمعات التصحر والبداوة وترغب في نقل هذا النموذج المتخلف إلى بلادنا. ويكفي أن نقرأ ما يكتبه أنصار هذا النوع من "المعارضة" من تعليقات تنشر أسفل ما ينشر يوميا في الصحف من مواضيع تتناول قضايا السينما وغيرها من الفنون، وتتاح الفرصة للتعليق عليها على مواقع تلك الصحف الموجودة على شبكة الانترنت، لكي نتبين حجم ما وصلنا إليه من تدهور فكري، ونقص تعليمي خطير، ومدى ما وصلت إليه أيضا حالة "الهستيريا" الدينية المرضية التي باتت تستلزم علاجا عاجلا داخل غرفة العناية المركزة.
أما مشروع تخريب السينما في مصر فله قسمات وسمات وملامح مشتركة، كما أن له حُراسه وسدنته، منهم من يعمل تطوعا تحت تصور أنه يعمل للصالح العام، ومنهم من تلبسته حالة الهستيريا التي أشرنا إليها بسبب نقص الكثير من الجوانب التي تساعد على التوازن في الحياة.
أما أهم سمات المشروع فيمكن تلخيصها في النقاط الرئيسية التالية:
1- تحويل السينما إلى ظاهرة لقيطة منفصلة عن ثقافة المجتمع الذي تنشأ فيه، كأنما يمكن زرع فن السينما "الحداثي" جدا في مجتمع اقطاعي بدوي رعوي تقليدي لا مكان للمرأة فيه مثلا، بل ولا مكان فيه أصلا، لدراسة الفلسفات الحديثة التي هي أساس كل الفنون الحديثة.
2- تحويل المشاهدة السينمائية إلى فعل لا معنى له مرتبط بالوجبات السريعة، وبالتالي تحويل أماكن المشاهدة من "دور عرض" لها أسسها ومناسيبها المعروفة التي تجعلها لا تقل أهمية ورونقا واهتماما بالديكورات والمعمار عن المسرح، إلى مجرد "قاعات" شبيهة بالعلب الصغيرة التي تحتوي على عدد محدود من المقاعد المتراصة أمام شاشة صغيرة تشبه شاشة التليفزيون المنزلي الذي أصبح يطلق على شاشاته الكبيرة حاليا "السينما المنزلية". وليس من الغريب إذن أن توجد هذه القاعات المتعددة داخل "مجمع سينمائي" واحد بالقرب من مطاعم تقدم الوجبات السريعة مثل ماكدونالدز وبيتزا هوت وكنتكي فرايد تشيكن وغيرها. وإن كان أهم ما يميز تلك المجمعات السينمائية وجود ما يعرف بـ"الفشار" أو pop corn ومن هنا جاء تعبير أفلام الفشار pop corn movies أي تلك الأفلام (الأمريكية غالبا) التي تصنع للتسلية المطلقة، وتسبح في عوالم خيالية أو تمتلئ بالكائنات الغريبة التي تشيع نوعا من الفزع الخفيف والإثارة التي تدفع الجمهور، وهو في معظمه من المراهقين، إلى استهلاك أكبر كمية من الفشار.
وتوجد هذه المطاعم والمجمعات السينمائية داخل مجمعات استهلاكية ضخمة يعرف المجمع الواحد منها بالمول mall أي ذلك السوق المتعدد الطوابق الذي يحتوي على عدد من المطاعم والمقاهي أيضا. وهو نموذج أمريكي يجمع العديد من الخدمات الاستهلاكية في مكان واحد بما في ذلك الأماكن التي تقدم "عروض التسلية". ومن المستحيل بالتالي أن تجد في هذه الأسواق المتعددة مسرحا أو معرضا لأعمال الفن التشكيلي، أما "علب" عرض الأفلام فهي متوفرة بغزارة.
3- إغفال الاهتمام باللغة السينمائية التي تعبر بالإشارة والدلالة والاخفاء والاظهار والظل والضوء والتكوين والعلاقة بين اللقطات والصور، وتحويلها إلى مجرد انتقالات آلية "أو ميكانيكية" بين اللقطات لتسهيل رواية قصة ذات مضمون أخلاقي وعظي بسيط ومباشر.
4- تحويل الثقافة السينمائية إلى معلومات استعراضية لا سياق لها، ودون أي قدرة تحليلية، أي إلى مجرد أرقام وأسماء وميزانيات وجوائز ومسابقات ونجوم وألاعيب لا تشبع أي رغبة حقيقية في المعرفة، ولا في فهم العالم والإنسان. وتلعب البرامج التي تقدم على شاشة التليفزيون، دورا أساسيا في تمييع فكرة الثقافة السينمائية بمفهومها الحقيقي، أي المشاهدة العميقة والمناقشة والتحليل وفهم نسق العلاقات داخل الفيلم، سواء العلاقات الدرامية أم البصرية داخل الصور واللقطات والمشاهد. هذه البرامج تستعرض أكثر مما تحلل، وتركز في استعراضها على الأمريكي السائد blockbusters أكثر من تقديم المحاولات الفنية في السينما الأمريكية وغير الأمريكية، وتهتم بالمقابلات مع النجوم أكثر من تحليل الفيلم، وبالعرض أكثر من النقد، وباستعراض جسد المذيعة وكمية المساحيق التي تغطي وجهها، أكثر مما تهتم بالجمهور نفسه وبالنماذج البسيطة التي تعبر أفضل عن هذا الجمهور. وعندما تستعين بعض هذه البرامج بالجمهور فإنها تقدمه مثل مجموعة من القرود، حيث يتم رصهم في صفوف خلف المذيعة أو مقدمة البرنامج لكي يصفقوا ويهللوا للمذيعة وللضيف أو الضيفة عند لحظات معينة، واستجابة لإشارات يصدرها لهم شخص مكلف بذلك، بينما تجري المذيعة مقابلاتها مع هذا النجم أو تلك النجمة.

5- بدلا من أن يؤدي تكوين كيانات إنتاجية كبيرة إلى دعم الأفلام الأكثر طموحا من الناحية الفنية والإنتاجية، وتحقيق الأحلام المؤجلة لكبار السينمائيين مثل محمد خان وداود عبد السيد ورأفت الميهي، يبدو أن تلك الكيانات التي تحولت إلى احتكارات مهيمنة، تسعى إلى تخريب السوق السينمائية في مجالي الإنتاج والتوزيع، فهي تسعى إلى طرد الأفلام الجادة واستبعادها والتسويف في عرضها، و"اعتقال" عدد من السيناريوهات المتيزة والتسويف في إنتاجها، وتشجيع السائد الذي يمكن أن يدر ربحا سريعا، والخلط بين منطق إنتاج "فيلم" وافتتاح "مطعم" سياحي، والوقوف في وجه اختيارات الجمهور عن طريق فرض نوعية محددة على ذوقه، وتأجيل عرض الأفلام الأخرى التي تخرج عن أنماط التهريج السائدة.
6- إجهاض وضرب والإجهاز على تجربة نوادي السينما التي بدأت في الستينيات في مصر وازدهرت في السبعينيات، وقبل ذلك في تونس والمغرب. ومن نوادي السينما تخرج عادة ثقافة جديدة، حداثية، تميل إلى المرونة والجمال وتنبذ التشدد والتزمت والقبح: في السلوك كما في المظهر.
7- إغفال أي ذكر أو اهتمام بالسينما في مناهج التعليم، بل والاستغناء تماما عن عرض الأفلام السينمائية في المدارس والجامعات كما كان يحدث في الماضي ولو على سبيل الاستفادة اجتماعيا من مضامين الأفلام. وهو تراجع يتسق مع التراجع في تدريس الدراما أو الاهتمام بالمسرح المدرسي والجامعي والإجهاز على فرق التمثيل بالجامعات، خضوعا لفكرة أن التمثيل حرام، وأن مشاركة المرأة بالتمثيل على المسرح من الكبائر وغير ذلك من فتاوى التكفير المنتشرة بغزارة بسبب تهافت الإعلام السائد وعجزه عن نشر ثقافة حقيقية ذات اسس واضحة لا تساوم ولا تسعى إلى إمساك العصا من المنتصف.
8- ازدراء دراسة الفنون والرسم والتشكيل والتحريض على عدم التقدم للالتحاق بالمعاهد التي تدرس هذه الفنون، واعتبار دراسة الرقص حرام، حسبما قالت عميدة معهد الباليه في مصر لطالبات المعهد، ونشرت الصحف ذلك ولم يصدر أي تعليق من المعهد بل ولم تصدر وزارة التعليم العالي قرارا بالتحقيق مع العميدة.
9- تخلي الدولة عن نشر الكتاب السينمائي والمجلة السينمائية، وجعل ما يصدر منها قاصرا على المناهج والمعلومات المتداولة القديمة في الغرب، والتخلي عن دراسة الاتجاهات والظواهر الراسخة في السينما المصرية والعربية، وجعل مكافأة الترجمة أضعاف مكافأة التأليف، وجعل المهرجان السينمائي تظاهرة ذات طابع احتفالي سياحي ترويجي لصورة النظام بدلا من أين يكون معهدا ومدرسة لتأهيل هواة السينما لكي يضيفوا ثقافيا إلى رصيد المجتمع الجمالي والفكري والفني.
10- سيطرة مجموعة من أشباه السينمائيين وأصحاب النفوس المريضة والذين كفوا أن تكون لهم أي علاقة حقيقية بالابداع السينمائي منذ عقود، على النقابات الفنية والسينمائية والتمثيلية بوجه خاص، واستغلال العمل النقابي لمعاقبة الفنانين المتميزين الجادين وفرض الغرامات عليهم والتعسف معهم في اصدار تصريحات بالتصوير وغير ذلك من القرارات والتصريحات التي تشوه صورة الفن عندما يتحدثون عن السينما كما لو كانوا معادين بالفطرة للثقافة، وكما لو كانت السينما شيئا أشبه بالكباريه!
11- انتشار مجموعة من أشباه الكتبة الذين نشأوا في بيئة ثقافية متدنية ولم يطلعوا أو يبذلوا أي جهد في الإطلاع على النماذج المتقدمة في السنيما العالمية على مجال كتابة السيناريو ، حتى أصبح كل من يجيد كتابة التعليقات السوقية الغليظة والبذيئة أحيانا، كاتبا للسيناريو يتسابق ممولو الأفلام للتعاقد معه.
12- فساد الرقابة التي لا تجرؤ على التصدي لأفلام كتبة السيناريوهات من أنصاف الأميين سينمائيا، في أشكالها المتدنية فنيا وفكريا والمعادية للإنسان نفسه في صورته البسيطة، بينما تتجرأ الرقابة دوما وتعترض على أي عمل حقيقي يتصدى لمناقشة الفساد السياسي والاجتماعي المتفشي، وتراقب كل ما يتعلق بنقد سلطة الشرطة والقضاء بينما أصبحت هاتان المؤسستان تحديدا من أكثر المؤسسات فسادا في مصر والعالم العربي.
والقائمة بعد ذلك طويلة.. ليت هناك من يستطيع أن يكملها غيري!

محمد خان يفتح ملف "ستانلي"

الملف الذي فتحه المخرج الكبير محمد خان على مدونته "كليفتي 2" حول وقائع ما جرى وما زال يجري لمشروع فيلمه الطموح "ستانلي"، دامغ في تأكيده على أن "مشروع تدمير السينما" قائم ومستمر، سواء بوعي أو بدون وعي.
محمد خان ليس مخرجا مبتدئا، بل علم من أعلام السينما في مصر والعالم العربي. وقد أثبت طوال أكثر من أربعين عاما، أنه مخرج يعتد بأفلامه، بل إن منها أفلام أصبحت علامات في تاريخ السينما التي تنتج في بلده. وشرف لأي منتج سينمائي يقول إنه جاد في تعامله مع السينما، أن ينتج فيلما لمحمد خان. لكن الواقع المزري الذي يؤكد لنا يوميا غياب المنتج الحقيقي وسيطرة "الممول" الذي طرأ على السينما دون معرفة، ودون فهم بل ودون حتى أن يفرق بين المشروع السينمائي، والمشروع السياحي، هو المسؤول عن تعثر مشروع خان ومشاريع أخرى كثيرة مؤجلة لنخبة من السينمائيين في مصر والعالم العربي.
توافق شركة إنتاج مزعومة على إنتاج الفيلم (تمويله بالأحرى)، ثم تتهرب، ويطرح الممثل الذي يفترض أن يقوم ببطولة الفيلم اسم شركة أخرى للإنتاج (نجيب ساويرس)، دخلت المجال بضجيج كبير وكلام كثير حول الحداثة والنقلة النوعية والتصدي للتيارات الظلامية، لكنها انتهت بالوقوع في أحضان الشركة الأولى (لصاحبها المستثمر السياحي كامل أبو علي) التي تتعامل مع مشروع الفيلم كما لو كان مشروع مطعم جديد، ويتغير الممثل- البطل، ويكتب السيناريو بالكامل ويتم الحصول على موافقة جهاز التخلف المزمن أي الرقابة، ولكن دون أن يتحرك المشروع!
يقول محمد خان: "ومرت الأيام والأسابيع ولم يتصل بى السيد كامل أبو على ..لم أيقن حينذاك هذا الأسلوب الجبان فى ترك الأمور معلقة بلا مبالاة للطرف الآخر .. أسلوب يتضمن عدم الرد على التليفونات أو الرسائل .. الى أن تأكدت من تراجع كامل أبو على عن طريق محمود عبد العزيز ومحاولته تحويل تعاقده مع محمود الى مشروع فيلم آخر أو مسلسل تليفزيونى .. الفيلم الذى كان يحاول كامل إغراء محمود به كان ـ طباخ الرئيس ـ الذى قام طلعت زكريا ببطولته بعد ذلك".
ويستطرد خان: "نعود الى نجيب ساويرس. وبعد مرور شهور أبلغتنا شركته انها تحبذ تأجيل المشروع لشتاء آخر .. ولم نكن على علم بأن هناك تخطيطا لتكوين شركة جديدة ـ مصر للسينما ـ تجمع بين ساويرس وكامل أبو على كشركاء .. وأشيع أن المخرج خالد يوسف من المحتمل أن يدير مشاريع الشركة ..وبالفعل عن طريق خالد يوسف عاد المشروع الى كامل أبو على مؤقتا فى مرحلة تأسيس الشركة الجديدة إلا ان الإدارة منحت لآخر كان يعمل فى شركة روتانا اكتشفت فيما بعد ان خبرته السينمائية الإنتاجية ضئيلة للغاية .. وتم التعاقد هذه المرة بينى وبين شركة ألباتروس مؤقتا الى ان يتم تجهيز عقود المصرية للسينما".

وينتهي الأمر كما هو متوقع إلى التذرع بالأزمة الاقتصادية العالمية لتأجيل البت في المشروع بعد الاستيلاء على السيناريو!

هذا هو المأزق الحالي الذي يحتاج إلى قاريء كف لكي يقول لنا كيف يمكن الخروج منه!

إنها فضيحة بكل المقاييس. يشترك فيها المنتج الجاهل مع المنتج الذي يقولون عنه إنه مثقف، مع الممثل المفترض أنه صاحب مصلحة مباشرة، لكن عينه على الفيلم وعلى غيره من الأفلام أيضا.

أن تتقاعس شركات كامل أبو علي وساويرس وعماد أديب وآر إيه تي عن تمويل فيلم محمد خان فيما الحديث لا يكف عن أنهم جاءوا إلى السينما لطرح نماذج جديدة وتطوير الإنتاج والانفتاح على الأفكار وغير ذلك من كلمات للاستهلاك المحلي، ما هي إلا فضيحة بكافة المقاييس، وحلقة أخرى ضمن مسلسل مشروع "تخريب السينما" بدعوى إنقاذها!

الأربعاء، 25 فبراير 2009

"الرقص مع بشير": عن الأوسكار والكلاب المسعورة وعقدة الذنب


المقال نشر أولا في جريدة "البديل"

كتبت من قبل عن الفيلم الإسرائيلي "الرقص مع بشير" واختلفت تماما مع من يقولون بأنه فيلم ينتقد المؤسسة الإسرائيلية، ويدينها ويكشفها، وقلت إنني لم أر فيه أي إدانة من أي نوع للمؤسسة الإسرائيلية العسكرية، بل على العكس يؤكد الفيلم أكثر من عشر مرات، أن الجنود والضباط الإسرائيليين (الذين يستجوبهم المخرج في الفيلم ولو بالصوت فقط ويستخدم رسوما عوضا عن اللقطات السينمائية المباشرة) أنهم لم يعلموا بما سيحدث في صبرا وشاتيلا إلا بعد وقوعه، وإنهم لم يروا شيئا بأنفسهم بل سمعوا بما حدث بعد حدوثه.
ثانيا هذا فيلم، أساسه وجوهره، حول "الفاعل" وليس المفعول به، أي عن المأزق "الإنساني" الذي يزج بالجنود الإسرائيليين فيه، ويؤكد في كل أجزائه أنهم "مغلوبون على أمرهم" "سيقوا إلى حرب لا يعلمون شيئا عنها" "كانوا شبابا صغار السن يافعين"، وأنهم "كانوا نائمين وقتما صدرت لهم الأوامر بركوب سيارات والتوجه إلى الجبهة، ووصلوا وهم لايزالون نائمين". هذا ما يتردد في الفيلم بشكل حرفي.
بمعنى آخر، هذا فيلم عن المٌعتدي وليس المعتدى عليه، وهو إن كان يظهر بعض الصور في النهاية للمعتدى عليهم فبقصد غسل ضمير المعتدي، وتخليصه من "عقدة الإحساس بالذنب" المفتعلة فنيا أي أنها عقدة "غير حقيقية" صنعت بنظرة ليبرالية مفتعلة موجهة للغرب تحديدا، بقصد تصوير "العذاب" الروحي الذي يعانيه المعتدي لعجزه عن حماية "المعتدى عليه" من اعتداء لم يأت من طرف هذا "المعتدي" الذي هو الإسرائيلي، الغازي، الذي اقتحم أرض الغير، وشن حرب تصفية شملت آلافا من المدنيين الأبرياء، ودمر إحدى أهم العواصم العربية، بل من "معتد" آخر هو حزب الكتائب اللبناني. صحيح أن هذا المعتدي الآخر كان عميلا وذيلا للمعتدي الصهيوني، إلا أن الفيلم يريد أن يقول لنا إنه تجاوزه في وحشيته إزاء الفلسطينيين، وإزاء رغبته في الانتقام بأبشع الطرق لاغتيال زعيمه بشير الجميل.
هنا يتطهر الإسرائيلي ويغتسل من عقدة الذنب، وينجو من الإدانة المباشرة: كإنسان، وكجندي، وكمواطن إسرائيلي عادي اضطر لأداء "الخدمة" العسكرية في 1982 في لبنان، ثم تحول إلى "مخرج سينمائي" لديه أيضا حساسيته الخاصة.

هنا يُلقي ذلك "الجندي السابق- السينمائي الحالي" اللوم بأسره على قيادته المتمثلة في شارون (اليميني، العسكري المحترف الخشن، العنيف، رمز الجيل المؤسس المتطرف صهيوينا، ًالمدان لفرط توحشه في الأوساط الغربية) كما لو كان شارون مثلا أكثر وحشية من ليفني أو أولمرت أو باراك. فهل هناك بعد ذلك لامعقولية أكثر من هذا!
والغريب أن الناقد السينمائي سمير فريد (وهو متمرس على مشاهدة الأفلام) يكرر في أكثر من مقال له أن الفيلم يصور غزو الإسرائيليين للبنان على صورة كلاب متوحشة سوداء تفتك بالفلسطينيين. وهذا غير صحيح على الإطلاق.
والصحيح أن الفيلم يبدأ بكابوس (نعرف فيما بعد أنه يتكرر في حياة بطل الفيلم منذ عودته من الحرب اللبنانية عام 1982). في هذا الكابوس المتكرر يرى البطل- المنكسر- الذي يعاني من أزمة نفسية، 26 كلبا أسود، يطاردونه باستمرار ويحاصرون منزله في تل أبيب، ومن هذا الكابوس المعذب يبدأ الفيلم، فهذا الجندي السابق (بواز) يلتقي بالمخرج آري فولمان ويطلب نصيحته بشأن هذا الكابوس، ويروي له أنه كان قد كلف أثناء غزو لبنان عام 1982 مع زملائه باقتحام قرية لبنانية في جنوب لبنان للقضاء على أفراد المقاومة فيها، وكانت المهمة التي أوكلت إليه تحديدا قتل عدد من الكلاب المتوحشة التي كانت تحرس تلك القرية (لأن رؤساءه كانوا يعرفون أنه لا يستطيع قتل البشر!) وأنه اضطر لقتلها واحدا واحدا، وكان عددها 26 كلبا.
غير أن سمير فريد يتخذ من هذا المشهد- الكابوس دليلا على أن الفيلم يدين الجيش الإسرائيلي ويشبه جنوده بالكلاب، فهو يقول بالنص:" لم يحدث أبداً، فى حدود معلوماتى، أن تم إنتاج فيلم يصور مخرجه ضباط وجنود جيش البلد الذى ينتمى إليه على شكل كلاب مسعورة عيونها حمراء تنقض على مدينة فى ظلام الليل كما فعل آرى فولمان، وهو يصور غزو بيروت عام ١٩٨٢" (المصري اليوم- 29 يناير 2009).

قبل ذلك، وبعد أن شاهد سمير فريد الفيلم نفسه في مهرجان كان كتب يقول بالحرف الواحد أيضا:"ويدين الفيلم الغزو حتي أنه يبدأ مع العناوين بكلاب متوحشة تقوم بالغزو، وينتهي بمشاهد تسجيلية للمذبحة وإحدي الفلسطينيات تصرخ في المخيم: تعالوا صوروا القتل.. أين العرب.. وأين العالم مما يحدث لنا" (المصري اليوم- 17 مايو 2008).
يقول سمير فريد أيضا في مقاله الذي يعلق فيه على ترشيح الفيلم لأوسكار أحسن فيلم "أجنبي" تحت عنوان "أول فيلم تحريك يرشح لأوسكار أحسن فيلم أجنبي" (المصري اليوم- 29 يناير): " وقد يتصور البعض ممن لم يشاهدوا الفيلم أن وصوله إلى ترشيحات أوسكار أحسن فيلم أجنبى، ودخوله التاريخ كأول فيلم تحريك يتنافس على هذه الجائزة يرجع إلى «تعاطف» أغلب أعضاء الأكاديمية «نحو ٦ آلاف عضو» التى تنظم الأوسكار مع إسرائيل، حيث يتم الترشيح والفوز بعد ذلك من خلال التصويت الفردى المباشر، ولكن من واقع مشاهدة الفيلم، ومن دون إنكار التعاطف السائد فى الغرب عموماً مع إسرائيل بالحق أو الباطل، فإن السبب فى رأيى ليس التعاطف مع إسرائيل بقدر ما هو تأييد السلام، وتقدير الفيلم من الناحية الفنية حيث يعتبر نقلة نوعية فى أفلام التحريك".
وسمير فريد بالطبع حر بالطبع في إعجابه بالفيلم وبمستواه الفني رغم ما فيه من قتامة في الألوان وتواضع شديد في نوعية ومستوى رسومه التي تبدو مثل رسوم الأطفال وموسيقاه الزاعقة التي تثير من الضجيج أكثر مما تدفع إلى التأمل، غير أنني أود التوقف هنا أمام فكرة أن أعضاء الأكاديمية من المؤيدين للسلام.
أي سلام ذلك الذي يتعاطف معه أعضاء الأكاديمية: فهل رسالة هذا الفيلم تتلخص في الدعوة إلى السلام؟ النقاد في الغرب بل وداخل إسرائيل نفسها، يتفقون على أن الهدف الأساسي من الفيلم هو هدف "علاجي" therapeutic ويروي كثير من الجنود الإسرائيليين الذين حاربوا في لبنان 1982 مثل فولمان لصحيفة "هاآرتز" الإسرائيلية (5 فبراير) كيف أن مشاهدة الفيلم جعلتهم يشعرون بالراحة النفسية بعد أن أعاد إدخالهم إلى التجربة وتنتقية الذاكرة حولها، والأهم، توضيح عدم مسؤولية الجنود كأفراد عما وقع في صبرا وشاتيلا.
إنه العلاج النفسي (بقصد تطهير الروح) عن طريق استعادة الماضي، واستدعاء الأحداث بقسوتها وعنفها على طريقة التحليل النفسي، وهو المدخل الذي يستخدمه فولمان في فيلمه بوضوح لا ريب فيه.
يقول بيتر برادشو ناقد صحيفة "الجارديان" البريطانية (21 نوفمبر 2008) إن من الممكن الاعتراض على الفيلم باعتبار أنه "يجعل الأولوية لآلام المتفوق على حساب المضطَهد".
ويقول ج. هوبرمان في "هوستون برس" الأمريكية (13 يناير 2009) "إن الفيلم "يهتم أساسا باستدعاء التجربة القاسية. هناك جانب علاجي في هذا الموضوع، وليس غريبا أن فولمان أحد صناع عرض تليفزيوني إسرائيلي شهير كان مقتبسا من الدراما النفسية التي أنتجها تليفزيون إتش أه بي "في العلاج".
ولاشك أن "فتح الجرح" أو استدعاء التجربة، عامل أساسي في العلاج وفي تحقيق الشفاء، ولكن كم من العلاجات والصدمات والمواجهات مع النفس سيحتاج الجنود الإسرائيليون في المستقبل بعد كل هذه المذابح المستمرة!
إن ترشيح الفيلم من جانب القائمين على الأوسكار الذين لم يمنحوا جائزة واحدة في تاريخهم لفيلم يتعاطف مع الفلسطينيين ولو بأي مقياس (ولا حتى لفيلم "ميونيخ" من إخراج طفلهم المدلل سبيلبرج)، ليس حبا في السلام، بل من أجل التأكيد على "التفوق" الإسرائيلي: في شن الحروب، وفي البحث عن الشفاء من عقدة الحروب، في مواجهة الأعداء، وفي مواجهة النفس وقتما يقتضي الأمر بغرض تحقيق الاسترخاء اللازم للعودة إلى مواصلة القتل، في استخدام أدوات الدمار للتخلص من "المواد البشرية الفائضة"، ثم في استخدام أدوات السينما بغرض تطهير أرواح الأبناء من عقد الإحساس بالذنب.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger