الأحد، 15 فبراير 2009

قتل السينما

يساهم الكثيرون، سواء عن وعي أو غير وعي، في قتل السينما واغتيالها والتسبب في الأضرار بها بشتى السبل عندما يقيمون عروضا منظمة وتظاهرات بل ومهرجانات تقوم بالكامل على عرض أفلام منسوخة على شرائط فيديو أو على اسطونات رقمية (دي في دي) بدعوى أن هذه هي السينما الآن، وأن امكانياتهم لا تسمح سوى بذلك، وهي كلها ذرائع غير مقنعة.
وفضلا عما في ذلك من تدمير لفكرة السينما والفيلم السينمائي كفيلم، صوره مصوره على أساس العرض بمناسيب معينة، على شاشة كبيرة وبعمق محدد في المجال، وبإضاءة وظلال وكتل يريد التركيز عليها وابرازها بشكل محسوب، فإن في الفكرة أيضا نوعا من الاستنطاع بل والسرقة الواضحة أيضا، فهذه الشرائط وتلك الاسطوانات لم تصنع أصلا بغرض العرض العام بل لغرض العرض المنزلي فقط، وهناك قوانين تنظم ذلك.وربما يمكن فهم كيف تسطو جماعات كثيرة على الأفلام المطبوعة على شرائط واسطوانات وتقوم بعرضها عروضا عامة، لكن من غير المفهوم على الإطلاق أن تلجأ جهات رسمية يفترض أنها موقعة على اتفاقات دولية، مثل المجلس الأعلى للثقافة في مصر ومكتبة الاسكندرية، بتنظيم أسابيع ومهرجانات مزعومة، باستخدام هذه الشرائط والاسطوانات "المنزلية" أيضا.
وعندما يقولون لك "مهرجان لأفلام المرأة" فانت تتخيل أنهم تمكنوا من الحصول على نسخ 35 مم وأدخلوها من مطار الدولة البوليسية، وشاهدتها الرقابة المتعفنة وأقرتها، بينما لا يعدو الأمر بعض "الفهلوة" واستخدام مجموعة الاسطوانات الخاصة المتوفرة لدى منظم المهرجان اياه!
ونحن هنا لا يهمنا الجانب المتعلق بمخالفة الرقابة، فلسنا فقط مع ضرب عرض الحائط بكل قوانين الرقابة في كل مكان لأنها ليست سوى وسيلة للقمع، إلا أن الخوف كل الخوف يكمن في احتمال اندثار الفيلم السينمائي نفسه كعمل مرئي مطبوع على شرائط السليولويد، وهي تقنية لا تضاهيها حتى الآن أي تقنية رقمية. والعمل المستمر والمنظم والدءوب على استبدال "الفيلم" بشريط فيديو أو باسطوانة رقمية، يدمر فكرة السينما من الأساس، وينسف قيمة الفيلم كفن مصور له مناسيبه وجمالياته، بل ويشجع الجهات الرسمية التي تبني القصور والمؤسسات على تجاهل اقامة قاعات للعرض السينمائي التي نود أن نراها تمتد إلى المدارس والجامعات، فما لزوم هذه القاعات إذا كان بوسعنا أن نعرض على حائط من جهاز متخلف بدائي عتيق صورا باستخدام شريط فيديو أو أسطوانة.. مشروخة!

السبت، 14 فبراير 2009

فاروق حسني: نعم أدخلت المثقفين حظيرة وزارة الثقافة وأنا باق إلى ما شاء الله


عندما كتبت عن وزير الثقافة المصري فاروق حسني وقلت إنني أعارض ترشيحه أو وصوله لرئاسة اليونسكو، ونشرت مبرراتي في هذه المعارضة، قال لي بعض الأصدقاء: لماذا تبالغ ياأخي في معارضتك للوزير وهو "راجل كويس"، وهل أنت واثق أنه قال فعلا ما نسب إليه مثل ادخال المثقفين إلى الحظيرة وما شابه، وما دليلك على أنه يستخدم سياسة العصا والجزرة، ويمارس شراء المثقفين.
وعندي بالطبع عشرات الأسانيد والحجج الموجودة في أرض الواقع التي يمكن لأي كاتب لم يقرر بيع قلمه أو توظيفه في خدمة الوزير أو أتباع الوزير، أن يراه ويتحقق منه، ولكن هناك أيضا وثائق من كلمات الوزير نفسه ومن إخراجه وتلحينه.
الصحفي المعروف بانتهازيته التي تزكم الأنوف المدعو عبد الله كمال، وقد كان نكرة في الماضي القريب، كان قد أجرى حوارا مع الوزير "الفنان" كشف فيه الفنان عن رقته ورهافة حسه باستخدام أبشع الألفاظ بل والحديث بالأسماء عن المثقفين وكأنه اشتراهم ودفع لهم ثمن التزامهم بخط الدولة والعدول عن المعارضة بعد أن أصبحت "الفلوس أكثر" حسب تعبيرات الوزير الذي يصح أن يقال عنه الوزير "الحشاش" بدلا من الفنان بسبب طريقته الفظة في الكلام خصوصا عندما يظهر على شاشة التليفزيون، ويعوج رأسه ويغمض نصف عينيه ثم يأخذ في ترديد كلمات يرددها عادة بائعو الحشيش في حي الأنفوشي بالاسكندرية حيث نشأ وتربى السيد فاروق حسني، بل إنه يعرف أيضا كيف يهدد ويتوعد، ويلوح بقدرته على سجن من لا يعجبه من الكتاب المعارضين، ويصف الكاتب الكبير صنع الله ابراهيم بأنه مريض نفسيا وهو وصف يمكن أن يعرضه لطائلة القانون، هذا إذا كان قد ظل في "المحروسة" قانون غير قانون الفوضى والتهريج.
إليكم هنا نص حديث الوزير مع الصحفي الوصولي الذي تولى بعد ذلك منصب رئيس تحرير مجلة "روز اليوسف" إحدى أعرق المجلات الأسبوعية والتي عرفت بطابعها اليساري المعارض فحولها إلى بوق للنظام. وقد نشر الحديث بتاريخ 23 نوفمبر 2003).
======================================================
لست متأكداً هل سيغضب فاروق حسني، الإنسان والفنان، من نشر هذا الحديث المتفجر أم لا. ما أعرفه ـ سواء رضي فاروق حسني أو غضب، وحتى لو تراجع الوزير الفنان، ورأى أنه تسرع في الإدلاء بهذا الحديث ـ فإن رأيي فيه لن يتغير . أنا أعتبره، ومعي أغلب المثقفين غير المتشنجين، ولا الضالين، أفضل وزير ثقافة في تاريخ مصر. وهذا إقرار مني بذلك أمام الله والتاريخ وشرف الكلمة.

* ليس في استطاعتنا أن نبحر معاً ـ يا معالي الوزير ـ وسط هذه الأمواج الهادرة دون التوقف أولاً عند قضية الساعة.
هكذا بدأت أنا الكلام. وفوجئت بالوزير يقاطعني : أظن أنك ستسألني عن صنع الله إبراهيم. أليس كذلك؟ هناك في الحياة أشياء كثيرة أهم. صدقني. والغريب أن البعض لا يرونها.

* سألته : ما صحة هذه المقولة الشهيرة المنسوبة لك؟ هل قلت حقاً أنك أدخلت المثقفين في حظيرة وزارة الثقافة؟؟؟ هل قلت هذا حقاً يا معالي الوزير؟

* بالطبع قلت. ولمعلوماتك، قلت أشياء أخرى أجمل بكثير، فلماذا الإصرار على استحلاب جزئية كهذه بالذات؟ أنا أقول لك : لأن البعض يريدون إخافتي، وأنا أقول لهم لست هذا الشخص. أنا لست الوزير الذي يمكن أن تخيفه مجموعة من عشاق الجلوس على المقاهي. وماذا أقصد بهذه المقولة التي يبدو أنها غاظتهم كثيراً؟ المعنى واضح. قمت بإدخال المثقفين في حظيرة وزارة الثقافة. ومالها حظيرة الوزارة؟ عيبها أيه هذه الحظيرة السخية معهم؟ أليست هي التي تدفع لهم الأموال وتفتح بيوتهم؟ أليست هي التي تعطيهم النقود التي يشترون بها أقلاماً يستخدمونها في الهجوم علينا؟ كيف كانوا سيحصلون على ثمن الورق الذي يملؤونه بالنقد الهدام للوزير وكل الأنشطة التي لم يسبق أن قام بها أحد والحظيرة التي يأكلون منها؟ وقل لي أنت : من يدفع نفقات التفرغ؟ الحظيرة. ومن يتحمل تكاليف سفرهم ومؤتمراتهم ومعارضهم ونشر كتبهم وشراء مسرحياتهم وموسيقاهم
واستعراضاتهم؟ من؟ الحظيرة. ولو قمنا بإغلاق هذه الحظيرة، لكانوا أول من يطالبون بإعادة فتحها. لأن فتحها يعني فتح بيوتهم، والعكس معناه أن يعودوا لأيام زمان، ولا أريد أن أذكرهم بأيام زمان، وأنا أعرف أكثر مما يتصورون عن أيام زمان قبل هذه الحظيرة. كانت جائزة الدولة التشجيعية أيام زمان خمسمائة جنيه لا غير. فكيف أصبحت؟ خمسة آلاف جنيه. جائزة الدولة التقديرية أيام زمان كانت 2500 جنيه. والآن يرفض واحد مبلغ مائة ألف جنيه هي قيمة جائزة الرواية. إذن، فلقد ارتفع مستوى المعيشة بالنسبة للمثقفين. وبدلاً من أن يشكروا ربنا، ها أنت ترى.

* لأول مرة، أراه بهذا التوتر. ومع ذلك، أسأله : ما الذي تعنيه حين قلت أنك ستقوم بتوعية وتقويم صنع الله إبراهيم؟ البعض فسر الأمر باعتباره نوعاً من تحويل الحظيرة إلى سجن : إصلاح وتهذيب؟

* سأقول لك : صنع الله إبراهيم عاش حياته كلها في الظل. لا يتحدث عنه أحد. لا يذكره أحد. فجأة، صار موضوع الحديث المفضل على المقاهي. هذا بفضل المؤتمرات التي يشتمها. وبفضل الديمقراطية التي سمحت له بأن يقول كل هذا الكلام. ونحن نعرف أن صنع الله عاش في الظل خائفاً من اعتقاله مرة أخرى. وهذا واضح منذ روايته ( تلك الرائحة ) ومن أعماله وسلوكه عموماً. ولولا ثقته في أننا لن نعتقله، وأننا نعيش أزهى عصور الديمقراطية، لما صعد على المنصة، ليهاجم النظام والبلد والأمة العربية بأسرها. وأنا أعني أننا حين نقول له : لا تخف، فلن يعتقلك أحد، إنما نحن نعالجه من مرض الخوف، ونلعب في حياته دور التوعية والتقويم. وما نشره د. جابر عصفور ومفيد فوزي ومثقفون كبار، كسليمان فياض، هذا أيضاً نوع من التوعية والتقويم. وما يقدمه صلاح عيسى في جريدة القاهرة كل أسبوع، أنا أسميه توعية وتقويماً. وانظر كم واحد أصبحوا الآن أفضل. خذ عندك : أحمد بهجت، كامل زهيري، ومحمد السيد سعيد، وخيري شلبي، ووحيد عبد المجيد، ومحمد عمارة ومحمود السعدني، والسيد ياسين، وغيرهم وغيرهم، ما تعدش. كلنا نصبح أفضل حين ينشر لنا ونأخذ نقوداً خيالية، بالقياس لأيام زمان، مقابل ما نكتبه.

* وماذا عن المستقبل؟
* زي الفل. بكرة تشوف .

* ولم يكن في إمكاني أن أنهي الحوار دون أن ألقي عليه سؤال يردده الكثيرون : هل صحيح أنك مرشح لمغادرة الوزارة في أول تعديل؟
* قال ضاحكاً، وقد هدأت قسمات وجهه التي اضطربت خلال الفترة الأولى : أنا لا يستطيع أحد أن يغيرني. أنا واجهة النظام في الغرب. الشيء المشرف. الأمل في أن تصبح مصر عصرية. والاحتمال الوحيد لتغييري حين تتخلى القيادة عن هذا كله.

* عدت أسأل : معنى ذلك أنك باق في الوزارة إلى الأبد؟
* إجابته أذهلتني : لا. طبعاً لا. سأغادر الوزارة فقط عندما ينزل المتربعون فوق قمة الهرم من مكانهم هناك. وهذا شيء غير وارد حالياً. نحن في مركب واحد. لماذا لا تخبر أنت الحاقدين بذلك ليريحوا أنفسهم؟ أنا على قلبهم لطولون.

* وبقي سؤال : هل يقول ذلك لأن هذه هي الحقيقة أم لأنه يائس من الاستمرار هذه المرة
في موقعه؟ هذا ما سوف تثبته الأيام أو الأسابيع القليلة القادمة.

الخميس، 12 فبراير 2009

توثيق تجربة الاعتقال وتدمير جنوب لبنان


جوانا حاجي توماس وخليل جريج مخرجان من لبنان، يعملان معا في وحدة سينمائية واحدة، ليس فقط بحكم أنهما متزوجان، بل بحكم الاهتمامات المشتركة والهم الواحد بل والانتماء لجيل واحد ايضا (كلاهما من مواليد 1969).
وقد أخرج الثنائي (جوانا- خليل) حتى الآن عددا من الأفلام الروائية والوثائقية القصيرة، كماأخرجا فيلما روائيا طويلا واحدا هو "في يوم ممتع" In a Perfect Day عام 2003. وكان فيلمهما الوثائقي الأول "خيام" عام 2000.
وقد عادا أخيرا وقاما بمد تجربة فيلم "خيام" (المصور بكاميرا الفيديو) على استقامتها، فصورا جزءا ثانيا من الفيلم يستكمل الصورة التي يعرضها، ويبحث في دلالاتها. وقد عرض الفيلم الجديد الشامل في الدورة الأخيرة من مهرجان روتردام السينمائي التي انتهت مطلع الشهر الجاري، تحت عنوان "خيام 2000- 2007".
"خيام" هو اسم المعتقل الكبير الرهيب الذي أقامته القوات الإسرائيلية في جنوب لبنان واستمر من 1982 إلى حين انسحاب تلك القوات في عام 2000، وكان يشرف على إدارته مع الإسرائيليين جنود فيما عرف باسم جيش لبنان الجنوبي أو الميليشيا الموالية لإسرائيل والتي تم تفكيكها بعد الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب، كما تم تصفية المعتقل.
كان هدف صانعي الفيلم في البداية تصوير الواقع داخل المعتقل في عام 1999، إلا أنهما لم يتمكنا من تحقيق ذلك، ولذا لجآ إلى الاستعانة بستة من المعتقلين السابقين (3 نساء، و3 رجال) في الجزء الأول من الفيلم الذي صور في 2000، لكي يروون قصتهم مع المعتقل، تجربة العيش داخل الأسر الطويل.
والشخصيات الست التي تظهر في الفيلم تمثل تنوع الانتماءات السياسية في لبنان، لكنها تجتمع في أتون تلك التجربة المريرة، أي تجربة الاعتقال، التي يتفق الجميع على أنها كانت تخص الجميع أيضا ولا يجب أن ينسبها حزب سياسي معين إلى نفسه، أي لا ينبغي التأكيد على ما قدمه أفراد ينتمون لحزب سياسي معين من تضحيات في المعتقل الرهيب، ويغفلون ما قدمه الآخرون.
وهنا إشارة واضحة إلى حزب الله اللبناني الذي يسيطر على المنطقة التي انسحبت منها إسرائيل في الجنوب، ويتحكم اليوم، كما يتردد في جزئي الفيلم، في كل ما يتعلق بالمعتقل وتاريخه، بل إن بعض الشخصيات الست تقول مباشرة: طبيعي أن يكتب الطرف المنتصر تاريخ ما وقع بما يتلاءم مع رؤيته.
التجربة المشتركة
الشهادات التي قدمها المعتقلون السابقون الستة في الجزء الأول، تهدف إلى رواية تاريخ جزء من تاريخ المقاومة اللبنانية، وتؤكد على التجربة المشتركة، وعلى التضحيات التي قدمها الجميع، ومنهم فتيات كن في غرة الشباب وتعين عليهن قضاء عشر سنوات أو نحو ذلك في السجن، جزء منها أيضا في الحبس الانفرادي.
إلا أن الشخصيات التي نراها أمام الكاميرا، رغم مرارة التجربة وأثرها العميق على حياتهم، نضجت تجاربهم في ضوء تجربة الاعتقال، وربما أيضا بسبب تقدم وعيهم السياسي أصبحت لديهم القدرة على تحليل وفهم ماحدث لهم، واستيعاب التجربة دون أي رغبة في نسيانها بل وفي الجزء الأول نستمع إلى تجربة معظمهم في العودة إلى المعتقل بعد الانسحاب الاسرائيلي، ورغبتهم في أن يتحول إلى متحف للذاكرة.

أما الجزء الثاني المصور في 2007 فيقدم صورة مختلفة حتى للشخصيات الست نفسها التي بدا عليها تقدم العمر والأثر الفادح الذي تركته التجربة القاسية على ملامح الوجوه.
وفي الشهادات الأخيرة لهم يتحدثن بمرارة عن كيف تحول مكان المعتقل إلى بضعة خرائب الآن بعد أن كان من أهداف الحرب الإسرائيلية على لبنان في 2006، تدمير المعتقل ومحو آثاره حتى لا يبقى شاهدا على تلك التجربة لدى عموم اللبنانيين.
ويتحدث بعضهم كذلك عن إهمال الحكومة اللبنانية للمكان، الذي كان يتعين ضرورة إحياؤه بشكل ما، كما يقولون، وجعله دائما تذكرة لما فعله الاحتلال، وشاهدا على الثمن الذي كان يتعين دفعه من أجل إجلاء الاحتلال.
قوة الشهادة المباشرة المصورة هي الجانب الأكثر بروزا في الفيلم الذي يستغرق عرضه 105 دقيقة. فأنت تترك كمشاهد، أمام الشخصية التي تتكلم وتعبر في إطار لقطة متوسطة أو لقطة قريبة للوجه، بحيث تظهر الملامح والانفعالات بوضوح، كما لا يتدخل أي عامل خارجي في إضافة أي تأثير على الصورة.
خلفية مجردة
ويعمد المخرجان إلى تصوير الشخصيات الست التي تظهر في الجزء الأول، أمام خلفية مجردة لا تدل على المكان، وفي الجزء الثاني، يدور التصوير في مكان خارجي في بعض الأحيان، نعرف ذلك من خلال ضجيج المكان الخارجي، دون أن نرى تفاصيله.
ولا يخرج الفيلم إلى الخارج بوضوح إلا في المشهد الاخير منه حينما تتابع الكاميرا بالتفصيل أطلال المعتقل وما حل به من دمار.
وربما يكون المخرجان قد لجآ إلى هذا الأسلوب (التوثيقي) الجاف، بدلا من تصوير الشخصيات داخل المكان، وكان هذا ممكنا في الجزء الأول الذي صور قبل تدمير اسرائيل للمعتقل، أو في أطلاله في 2007، لكي يكون التركيز هنا على الإنسان، في تجربته المباشرة، لكن المؤكد أيضا أن العمل كان سيصبح أكثر حيوية ويتخلص من الطابع الجامد للصورة التي تتطلب جهدا كبيرا من المشاهدين في التركيز، لاستيعاب كل ما يتردد من تفاصيل حول التجربة.

بدي أشوف
أما الفيلم الثاني لنفس المخرجين (جوانا وخليل) فهو بعنوان "بدي أشوف" (76 دقيقة)، ويوثق بكاميرا الفيديو أيضا، الزيارة التي قامت بها الممثلة الفرنسية الشهيرة كاترين دينيف (سفيرة النوايا الحسنة للأمم المتحدة) إلى جنوب لبنان لكي تتفقد آثار ما حل بالجنوب من دمار بعد الحرب التي شهدتها المنطقة بين إسرائيل وحزب الله في صيف 2006.
ويبدأ الفيلم من بيروت، مع وصول دينيف واستقبالها ثم تخصيص مرافق لها، هو الممثل اللبناني ربيع مروة، الذي يقود السيارة التي تقلها ويصاحبها ويتبادل معها الحديث بفرنسيته المحدودة طيلة الوقت.
لغة الفيلم
ويختلف أسلوب الفيلم تماما عن أسلوب الفيلم السابق في اعتماده على التصوير الخارجي المباشر، وعلى تحريك الكاميرا، وخلق تكوينات موحية للصورة، والاستخدام المؤثر للقطات "الكلوز أب" أو اللقطات القريبة، والتمكن من اقتناص الكثير من اللحظات التلقائية المؤثرة كما نرى عندما تضل السيارة طريقها وتدخل منطقة مليئة بالألغام الأرضية في جنوب لبنان، ويتعين على طاقم الفيلم اللحاق بالسيارة وايقافها ثم اعادتها إلى الطريق الآمن.
تقوم دينيف أولا بزيارة الضاحية الجنوبية من بيروت حيث يتركز أنصار حزب الله، وتستعرض الكاميرا الآثار الهائلة لما لحق المنطقة من دمار، وترصد الكاميرا تأثير ذلك على وجه دينيف التي تعجز احيانا عن الحديث أمام ما تراه، وترتبك، وتبدو خائفة، تريد أن تنسحب بسرعة.
وعندما يتوجه الاثنان إلى الطريق المؤدية إلى جنوب لبنان، تقول لمرافقها إنها نسيت وضع الحجاب لتغطية رأسها، فيقول لها ربيع: لا يهم، على أساس أنها شخصية أجنبية معروفة.
في الجنوب الملصقات التي تحمل شعارات حزب الله وصور مقاتليه الذين قتلوا خلال الحرب تملأ الطريق في كل مكان، وأطلال المنازل والبنايات تصنع كتلة سيريالية من اللامعقول المعماري لدرجة أن ربيع الذي يتوجه للبحث عن بيت جدته لا يمكنه حتى التعرف على الموقع الذي كان البيت يشغله، ولا على أي أثر يشير إلى ما تبقى منه.
لا تتحمل دينيف أيضا قسوة المشاهد التي تراها، ولا يمكنها أن تخفي علامات الخوف على وجهها. وعندما يسألها ربيع ما إذا كانت ستعود مرة أخرة إلى لبنان لا تجيب.
وينتهي الفيلم بحفل على شرف دينيف تقيمه السفارة الفرنسية في بيروت، حيث تجد دينيف نفسها تبحث بانفعال حقيقي دون وعي منها، عن ربيع إلى أن تراه فتبتسم ابتسامة الاطمئنان.
وإلى الخارج تخرج بنا الكاميرا، إلى الشوارع وإلى حركة البشر والسيارات في بيروت، دلالة على استمرار الحياة.

الثلاثاء، 10 فبراير 2009

"المليونير الصعلوك": يكسب الفلوس والبنت الحلوة، ويفوز بكل الجوائز!



لم أكن في يوم من الأيام منساقا وراء ما يكتبه النقاد في الغرب، أتبنى ما يكتبونه إشادة أم ذما في الأفلام، بل كان لي رأيي الخاص الذي يعبر عن رؤيتي وثقافتي الخاصة، ولعل هذا قد اتضح تماما عند تناولي لأفلام مثل "سكر بنات" و"زيارة الفرقة" و"الجنة الآن" و"الرقص مع بشير" وغيرها.
وسأغامر هنا مجددا بالسباحة عكس التيار السائد الذي يكيل المديح شرقا وغربا للفيلم البريطاني "المليونير الصعلوك" وكأننا أصبحنا أمام فتح جديد في عالم السينما بينما يمكن أن يزعم المرء أن في سينمانا الكثير من الأفلام التي تتجاوزه في الفن (وربما ليس في الحرفة أو الصنعة) دون أن تنال أي قسط من هذا الاهتمام المثير للريبة قبل أن يكون مثيرا للاهتمام!
وعادة ما تتفق الأوساط السينمائية الغربية كل عام على الوقوف وراء فيلم معين يحولونه إلى أيقونه ويجعلون منه ظاهرة، تنتقل من هنا إلى هناك، وتحصل على الجوائز في كل تظاهراتهم السينمائية سواء بالحق أم بالباطل. و"المليونير الصعلوك" هو فيلم الفترة الحالية على صعيد الأفلام الشعبية الناطقة بالانجليزية، وفيلم "الرقص مع بشير" الإسرائيلي هو معادله "العبري"أي الفيلم الناطق بغير الانجليزية، والمطلوب أيضا تسويقه في العالم كنموذج على "كيف تتمكن إسرائيل من تطهير نفسها بالنقد".. وبالها من دولة تملك أن تحارب ثم تعترف بالذنب، وليس لأنه تحفة زمانه ومكانه بالطبع رغم أنني لا اقلل من قيمته الفنية، لكن ليس هذا هو ما يهم نقاد الغرب (وتوابعهم العرب) الذين يزفونه بالطبل وبالمزمار، ولكن هذا موضوع آخر ربما عدت إليه فيما بعد.
هناك ترجمات عربية متعددة للفيلم البريطاني Slumdog Millionaire فالبعض يترجمه "مليونير أصله فقير" والبعض الآخر "مليونير أصله صعلوك" أو "المليونير الصعلوك وأخيرا هناك من ابتكر اسما يتسق تماما مع واقعنا ويتسق مع أفلام العشوائيات التي ظهرت خلال الفترة الأخيرة، عن سكان العشوائيات وأطفال الشوارع، فأطلقوا عليه "مليونير العشوائيات" وهي تسمية مناسبة تماما في الحقيقة. ولعل وجود كلمة dog أي "كلب" في تركيب الكلمة الثانية من عنوان الفيلم أثار بعض الالتباس (فقد فهم أن المقصود "كلب العشوائيات المليونير") حتى أنه وقعت بعض الاحتجاجات العنيفة في أوساط سكان العشوائيات في بيهار بالهند، كرد فعل على العنوان الذي اعتبروه مهينا، بل إن بعضهم قاموا بحرق دمية للمخرج "داني بويل" في 56 عشوائية هناك. واعترض سكان العشوائيات في مومباي (حيث صور الفيلم) على العنوان أيضا واضطر المخرج وفريق الفيلم إلى الرد على تلك الاحتجاجات بتوضيح أن العنوان لا يقصد منه الاهانة. والغريب بعد ذلك أن أحد الصحفيين العرب كتب عن الفيلم بعد أن أطلق عليه اسم "المليونير الكلب ابن الأحياء الفقيرة"!
أما الفيلم نفسه فقد أحيط بهالة من الأضواء والتقدير والاهتمام الإعلامي لم يحدث أن حظى بها فيلم منذ فترة طويلة خاصة بعد فوزه بالجولدن جلوب أو الكرة الذهبية، ثم بافتا البريطانية وينتظر أيضا حصوله على الأوسكار.
وربما ترجع أسباب الاهتمام الكبير إلى كون الفيلم يجمع بين الشرق والغرب، بين موضوع يدور في الهند بل وينطق في بعض أجزائه باللغة الهندية، وأسلوب سينمائي أو بالأحرى "صنعة" سينمائية غربية متقنة إلى حد كبير، بين قصة بسيطة ذات طابع ميلودرامي، وبين أسلوب يعتمد على الإيقاع السريع والمزج بين الأزمنة خلافا للسينما الهندية بالطبع التي تميل إلى الإيقاع البطيء والإطالة والاستطرادات والمبالغات وإن كان هذا الفيلم لا يخلو من بعض هذه الجوانب أيضا.
أولا: يتعين علينا أن نعرف أن منتج الفيلم هو نفسه صاحب حقوق البرنامج التليفزيوني الشهير "من يريد أن يصبح مليونيرا؟" (وهو برنامج انجليزي أساسا بيعت طبعاته العربية والهندية وغيرهما)، ولاشك أن الفيلم يعد على نحو ما، نوعا من الترويج والدعاية للبرنامج الشهير.
ثانيا: تحتوي قصة الفيلم على عناصر درامية وميلودرامية وعاطفية رومانسية وكوميدية، ولذلك يرضي الفيلم الكبار والصغار، ويبدو مصمما في بناء السيناريو، الذي يعتمد على رواية صدرت قبل ثلاث سنوات في الهند وحصدت رواجا كبيرا، بحيث لا يقتضي من المتفرج جهدا كبيرا في الإلمام بأطراف الموضوع أو التفكير والبحث عن دلالات للأشياء.
أما قصة الفيلم فلاشك أنها أصبحت معروفة الآن على نطاق واسع، ومع ذلك فأساس حبكتها أن صبيا مراهقا يتمكن من الفوز بعشرين مليون روبية في برنامج "من يريد أن يصبح مليونيرا؟" رغم أصله المتواضع وأنه لم يكمل تعليمه فيقبض عليه رجال الشرطة الذين يشكون في أنه حصل على إجابات عن أسئلة البرنامج عن طريق التحايل والغش، ويقومون بتعذيبه بوسائل بدائية لمعرفة كيف حصل على الإجابات الصحيحة.
ويتعين على هذا الصبي (واسمه جمال مالك وهو من مسلمي الهند) أن يفسر تمكنه من الإجابة عن كل سؤال على حدة، وفي كل مرة يعود بنا الفيلم في "فلاش باك" أي عودة في الزمن إلى جانب من حياة "جمال" المأساوية كطفل من أطفال الشوارع تعرض للكثير من المحن وفقد صلته بشقيقه "سليم" الذي أصبح يعمل في خدمة أحد كبار المجرمين في مومباي، كما فقد الصلة مع "لتيقة" (أو لعلها "لصيقة") الفتاة التي ارتبط بحبها منذ الطفولة.
ما يحدث على مسار الفيلم بعد ذلك يمكن متابعته باسترخاء ودون أي مجهود، لأنه متوقع في سياق "الحبكة" التي تفقد أي نوع من الإثارة بعد مضى الثلث الأول من الفيلم، فكل ما يقع من تطور للفتاة (تصبح عشيقة بالإكراه للمجرم) واستتابة سليم بعد فوات الأوان، وإنقاذه للفتاة ودفع الثمن حياته على أيدي أفراد العصابة، تقليدي وسبق أن شاهدناه في الكثير من الأفلام المصرية القديمة التي ربما كانت أكثر إقناعا. والنهاية السعيدة التي ينتهي إليها الفيلم بالتوفيق بين "جمال" و"لتيقة" متوقعة أيضا وطبيعية في فيلم من هذا النوع. وفي الوسط هناك مشاهد اختطاف الأطفال وإحداث عاهات بهم لدفعهم للعمل كشحاذين لحساب عصابات متخصصة، وهي "تيمة" سبق أن شاهدناها أيضا في الكثير من الأفلام المصرية القديمة بشكل أفضل كثيرا خاصة في فيلم "ملك الشحاتين" وبشكل أكثر خفوتا في "زقاق المدق" عن رواية نجيب محفوظ الشهيرة التي تتفوق على الفيلم في تناولها الموضوع بشكل أكثر عمقا منذ أكثر من خمسين عاما!
ويمكن القول إن سيناريو الفيلم هو سيناريو "بدائي" بالمعنى الحرفي، أي أنه يلتزم بالقواعد الأولية في البناء الدرامي وبناء الشخصيات ودفع الأحداث، دون أي محاولة للتعمق في الدوافع والخلفيات الشخصية وسبر أغوار فكرة الحلم بالثراء ومغزى الصعود في مجتمع يعاني من الفقر المدقع، وتقديم صورة حقيقية من الداخل لمجتمع العشوائيات بعيدا عن تلك الأنماط السطحية التي خبرناها مرارا في الأفلام المشابهة: الزحام الهائل، المستنقعات وقنوات المياه الراكدة التي تغسل فيها النساء الملابس، القطارات المختنقة بالبشر، مظاهر الفقر المدقع، وغيرها.
ولعل ما أوقف هذا السيناريو البسيط لحد البدائية على قدميه، هو الإخراج المتمكن الواثق للمخرج الإنجليزي داني بويل صاحب "قبر سطحي" "رصد القطارات" والذي لم يحقق نجاحا منذ هذين الفيلمين كما حقق في "المليونير الصعلوك" رغم أنه أخرج 11 فيلما روائيا طويلا للسينما حتى الآن بعد ان عمل لسنوات لحساب التليفزيون.
نجاح الإخراج يتمثل في السيطرة على إدارة التصوير والتحكم في إيقاع المشاهد خاصة تلك التي تدور في الأماكن الطبيعية، والتحكم في أداء الممثلين، وفي الإيقاع العام للفيلم والإبقاء عليه سريعا لاهثا مع خلفية موسيقية تتناسب مع أجواء الميلودراما. لكن المشكلة أن بويل يراهن على استخدام طريقة "المونتاج المتوازي"، أي تصوير حدثين يتقاطعان في وقت واحد، كوسيلة للإثارة ولكن بدون نجاح في الثلث اأخير من الفيلم، فالمشاهد يعرف منذ بداية الفيلم أن "جمال" سيفوز بمسابقة برنامج "المليونير"، وكان استخدام أجواء الإثارة والترقب التي تتولد من طريقة تقديم البرنامج، التي يحفزها جمهور المشاهدين عن ظهر قلب، طريقة مفتعلة ومستهلكة ولا تثير أي اهتمام لأننا نعرف مسبقا النتيجة. والغريب أنه يجعل جمال يتوجه لاستكمال البرنامج في الليلة الثانية بعد أن تعرض لأشكال من التعذيب الرهيب، دون أن يبدو عليه أي انهاك بل يبدو وقد تحسنت صحته وازداد رونقهّ!
ولكن لاشك في التصويرالبارع للفيلم، وفي نجاح المصور في اقتناص الكثير من اللقطات الخارجية، وخلق صور تنبض بالحياة والحرارة كما في مشاهد الأحياء الفقيرة في مومباي، والابتكار في زوايا التصوير وتنويعها واختيارات الألوان التي تتناسب مع ألوان الهند حتى لتكاد تشعر بحرارتها، وهو إنجاز في مجال الصورة لاشك أنه يستحق التقدير.
لكن لاشئ يبقى في النهاية من هذا الفيلم الذي أثيرت ولاتزال تثار من حوله ضجة صحفية وإعلامية هائلة، تتجاوز كثيرا أهميته وحجمه، سوى دقة "الصنعة" وتمكنها، أما ماعدا ذلك، فكله سيذهب هباء بعد أن ينتهي موسم الجوائز، وبعد أن يحصد "المليونير الصعلوك" كل الجوائز بعد أن فاز بالمال ونال الفتاة الحلوة أيضا!
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger