الجمعة، 19 ديسمبر 2008

كلاسيكيات حديثة: الوصية الأخيرة للمعلم



"كلا.. ليس بعد أيها الموت"


تقديم: كتبت هذا المقال عام 1993 بعد أن شاهدت فيلم "مادادايو" للمخرج الياباني الراحل أكيرا كيروساوا مع الجمهور العام، وشاهدت كيروساوا نفسه يدخل إلى قاعة لوميير بقصر المهرجان قبل بدء عرض الفيلم يصحبه بمديرالمهرجان جيل جاكوب، وكان المهرجان قد أعلن من قبل أن كيروساوا لن يحضر إلى كان، وكان حضوره مفاجأة سارة للجميع. وقد وقف الجمهور يحييه ويصفقون لمدة عشر دقائق والشيخ العجوز كيروساوا يرد التحية. وبعد أن انتهى عرض الفيلم أدركت وقتئذ أن الفيلم سيكون الأخير في حياة هذا المخرج العظيم، وأنه يلخص فيه ببساطة شديدة، فلسفته ويرتد إلى براءة الطفل كيروساوا بينما هو يتأهب لعبور عتبات الموت. وكان كيروساوا وقت عرض الفيلم قد أكمل 82 عاما من عمره، ولم يخرج بالفعل أي فيلم بعد "مادادايو"، وتوفي عن 87 عاما عام 1998. وقد ذكرني ما نشره أخيرا الصديق المخرج الكبير محمد خان عن فيلم "مادادايو" بهذا المقال الذي نشر وقتها في صحيفة "القدس العربي". وأعيد نشره هنا بنفس عنوانه الأصلي وكما نشر.

يعود المخرج الياباني الكبير (82 عاما) حامل السعفة الذهبية في مهرجان كان عن فيلمه التحفة "كاجيموشا" (1980) إلى المهرجان هذا العام حاملا معه فيلمه الجديد "مادادايو" الذي يعرض خارج المسابقة والتسابق على جوائز الذهب والفضة، لكي يلقننا درسا في بساطة وسمو اللغة السينمائية التي تولد منها عشرات الأفكار والتأملات والمشاعر، بعيدا عن سينما التقعر والحذلقة واستعراض العضلات.
و"مادادايو" هو التعبير الذي يستخدمه الأطفال في اليابان وهم يلعبون ما يطلق عليه لعبة "الاستغماية" التي تتطلب من الأطفال تغطية عيونهم بأيديهم بينما يختفي واحد منهم في مكان ما، ويصبح مطلوبا من الآخرين العثور عليه. غير أن كيروساوا يستخدم التعبير في الفيلم في مواجة الموت، فإذا كان الأطفال ينادون على الطفل القابع في مكمنه بالتساؤل: هل أنت مستعد؟ لكي يجيئ جوابه: "مادادايو" أو كلا ليس بعد، فإن كيروساوا يجعل الكلمة في فيلمه على لسان الأستاذ الشيخ هازئا من الموت، معبرا عن مقاومته له ورفضه الاستسلام له قبل أن ينتهي من إنجاز ما يتعين عليه إنجازه في الحياة الدنيا، فتلاميذه الذين يحتفلون بعيد ميلاده سنويا يسألونه في صوت واحد: هل أنت مستعد" فيرد هو: مادادايو.. أي كلا.. ليس بعد أيها الموت.
هذا فيلم عن الحياة، وليس عن الموت، وعن الزمن وما نعتقد نحن أنه يفعل بالإنسان من تقدم وهرم واختلال، بينما يجعله في الحقيقة وهو في أواخر العمر، يرتد إلى الطفولة. إنه أيضا فيلم عن العرفان بالجميل، وعن وفاء التلاميذ لأستاذهم الذي أخلص لهم فأخلصوا له بعد أن تخلى الصبا والشباب عنه.. عن الصداقة بين الرجال، وعن العلاقة الدافئة بين الإنسان والإنسان، كما بين الإنسان والحيوان الأليف الجميل، رمز البراءة بل ورمز طفولتنا جميعا.
و"مادادايو" من ناحية أخرى، فيلم عن مأساة اليابان الحديثة، عن الحرب والقنبلة والاحتلال الأمريكي، الذي كان لايزال، عن النفاق الاجتماعي والطموح السياسي الذي يفسد الإنسان.

وفي معظم لقطات هذا الفيلم المصنوع بدقة شديدة من ناحية حساب الزمن اللازم لكل لقطة، ترى عمق المأساة من دون تشاؤم بل على العكس، هناك روح من التفاؤل والمرح والأمل في التجدد والاستمرار واجتياز كل الصعاب. هناك البسمة والأغنية والموسيقى والرقص الجماعي الياباني، ولكن من دون إفراط أو مجانية، فكل شئ موظف – دون أن يكون وظيفيا- للتعبير عن (وليس لخدمة رسالة محددة) أحاسيس وأفكار فنان السينما الكبير الذي يدرك أن الموت كامن يمكنه أن يناله في أي لحظة، غير أن استمراره في العطاء والإبداع أقوى رد على الموت الكامن بالقرب منه: كلا.. ليس بعد أيها الموت.. فعندي لايزال ما أقوله!
في "مادادايو" يقدم كيروساوا لوحة بليغة لشخصية البروفيسور الياباني "هايكن أوشيدا".. أستاذ الجامعة الذي هجر التدريس الجامعي لكي يتفرغ للكتابة، وأصبح من كتاب الأدب المعروفين في اليابان، كما يعرف بحسه الساخر ومرحه واستمتاعه بالحياة (وعلى الأخص، بإفراطه في تناول الشراب).. وإضافة إلى هذا كله، يعرف عنه أيضا إفلاسه الدائم.
يبدأ الفيلم من زمن الحرب العالمية الثانية والبروفيسور يمارس التدريس الجامعي، يقيم علاقة صداقة وطيدة مع طلابه وتلاميذه، يتسامر معهم خارج الجامعة، يدعوهم إلى بيته حيث يتناولون الشراب ويتبادلون الرأي في شتى المواضيع، ثم يترك الجامعة لكي يتفرغ لكتابة المقالات والكتب.
وفي عيد ميلاده الستين يقيم طلابه السابقون حفلا كبيرا يغني هو فيه ويمرح معهم، ثم يبوح لهم بوصيته الأخيرة التي تتلخص في كلمة "مادادايو" التي يحولها إلى أنشودة عذبة قوية يرددها ويرددونها معه: كلا.. ليس بعد أيها الموت.
يقول له طلابه الذين أصبحوا الآن رجالا من ذوي الشأن في المجتمع إنهم يرغبون في تقديم هدية له بمناسبة عيد ميلاده لكي تساعده على التقاعد الكريم. لقد اشتروا له قطعة أرض وشرعوا في تشييد منزل متواضع لكي يقيم فيه مع زوجته التي لم تنجب أطفالا.

وسرعان ما ينتهي تشييد المنزل، وينتقل الرجل للإقامة فيه مع زوجته وهو يشعر بالسعادة الكبيرة بسبب تقدير تلاميذه السابقين له، ويدعوهم ليلة بعد ليلة، لتناول العشاء في منزله، ويقدم لهم ذات مرة، لدهشتهم الشديدة، حساء لحم الحصان الذي يجدونه شهيا، ويروي لهم كيف أنه بينما كان يشتري لحم الحصان توقف أمامه حصان يجره رجل، عرف فيه على الفور حصانا كان يخدم في الجيش أثناء الحرب، وصوب الحصان نظراته عليه وكأنه يسأله: ماذا تفعل أنت في هذا المكان؟
وتستمر مسامرات المجموعة، وتكون الحرب بالطبع قد وضعت أوزارها، لكن الرجل يشعر بغصة في حلقه مما يدور في مجتمع اليابان فيما بعد الحرب العالمية الثانية. وذات أمسية ينشد لهم الرجل أنشودة يسخر فيها من الحديث المتواصل عن الديمقراطية بينما ينتشر الفساد السياسي في البلاد، ويسخر من الحديث عن الحرية بينما اليابان أصبحت دولة واقعة تحت الاحتلال. ونرى مثلا كيف يهرع رجال الشرطة العسكرية الأمريكيين إلى مكان حفل عيد الميلاد لتقصي الأحوال، ظانين أن هناك اجتماعا سياسيا من الاجتماعات المحظورة. كذلك نلاحظ مظاهر البؤس والفقر المنتشرة في اليابان بعد الحرب. لكن ليس هذا هو الموضوع فالموضوع أكثر خصوصية من ذلك، فالرجل لديه قط قام بتربيه صغيرا، وأشرف عليه مع زوجته حتى أصبح لا يطيق فراقه أبدا، بل وظل دائم الحديث عنه مع أصدقائه، يلاعبه ويلاطفه أمامهم، ممتدحا كثيرا مظهره وشكله وشعره المميز وحركاته، بينما يندهش الأصدقاء من انشغال أستاذ وأديب كبير بقط.
وذات يوم يوزر الأصدقاء أستاذهم الكبير فيجدونه حزينا باكيا موشكا على الانهيار النفسي، والسبب في كل هذا الكرب، أن القط خرج في الليلة السابقة ثم هبت عاصفة هوجاء- كما نرى في لقطات العودة للماضي، أعقبها سقوط المطر الغزير فاختفى القط ولم يعد للظهور في المنزل منذ تلك اللحظة. ومن شدة تأثر الرجل يبدأ في البكاء وهو يروي لأصدقائه مدى علاقته الحميمة بالقط الذي يريد استعادته بأي ثمن. ويأخذ في تخيله وهو وسط العواصف والأحجار وفي الأماكن المقفرة البائسة، عديم الحيلة، ضالا جائعا لا يجد من يشفق عليه، والأصدقاء في حيرة من أمرهم أمام الأستاذ الكبير وعواطفه الجياشة تجاه القط الضال.
يحضر فجأة رجل يقول إنه اشترى قطعة الأرض المجاورة لمنزل الأستاذ، وإنه يعتزم تشييد منزل عليها، وينذره بضرورة إغلاق أبواب منزله المطلة على ذلك الجانب. ويحاول الأستاذ استثارة عطف الرجل واستدعاء مروؤته قائلا له إنه يرغب في الاستمتاع بالضوء الذي يأتي من تلك الناحية في سنوات تقاعده. لكن الرجل يتمادى في الوعيد والتهديد رافضا الاستجابة لتضرع صاحبنا. وعندما يعلم مالك الأرض الواقعة في ضواحي المدينة بالأمر، يتراجع عن بيع قطعة الأرض للرجل الشرير تعاطفا مع الأستاذ النبيل الطيب القلب وإرضاء له رغم حاجته الشديدة للمال لكي يشتري منزلا بسيطا في المدينة.
ويتفق الأصدقاء على شراء قطعة الأرض المجاورة تقديرا للرجل الذي قدم كل تلك التضحية ورغبة في تكريم أستاذهم المتواضع، لكن صاحبنا يبدو مهموما أكثر بالقط الذي لم يعد للمنزل. ويسعى الأصدقاء للعثور على القط، ويقنعون الأستاذ بنشر إعلان في الصحيفة المحلية، غير أنه لا يتلقى إلا بعض مكالمات هاتفية تسخر منه ومن تشبثه الطفولي بالقط الضال، كما يتكاثر الأدعياء والكاذبون الذين يزعمون العثور على القط طمعا في الحصول على المكافأة السخية.
ويلجأ الرجل إلى حيلة أخرى، فيقوم بطبع مئات الأوراق التي تحمل أوصاف القط ويذهب بنفسه لكي يوزعها على تلاميذ المدرسة القريبة من منزله. لكن هذا كله لا يجدي فالقط لا يظهر ولا يعثر عليه أحد، ويفقد الأستاذ مرحه تماما، ويظل الأصدقاء يتداولون فيما بينهم في كيفية مساعدته على الخروج من حالة الاكتئاب هذه. وذات يوم، يموء قط في حديقة المنزل، قط آخر جاء بنفسه يطلب الطعام، تناوله زوجة الأستاذ بعض الطعام، يربت الأستاذ على ظهره، ويقرر أن يطلق عليه اسما. لقد جاء هذا القط لكي يبقى، لكي يصبح بديلا عن القط الضائع.
وتنتهي الأزمة التي لم يستطع تلاميذ الرجل وأصدقاؤه فهمها أبدا. ويشرح هو الأمر لهم فيقول: "إن هذا القط بمثابة ابن لي، أرتبط به ولا أقوى على فراقه".
وتمر السنون، ولكن.. "كلا.. ليس بعد أيها الموت". يتجمع الأصدقاء، يحتفلون ببلوغه الثمانين وقد نال الشيب ما ناله من رؤوسهم جميعا، وتهدجت أصواتهم بمرور الزمن، لكنهم ينشدون "مادادايو".. تماما كما يطلب منا كيروساوا الذي يقول في تقديمه لفيلمه هذا: "آمل أن كل من يشاهد هذا الفيلم سوف يغادر قاعة العرض وهو يشعر بالانتعاش، وقد ارتسمت البسمة على شفتيه".
إنها الوصية الأخيرة للمعلم الكبير كيروساوا، يصوغها ببساطة في فيلمه رقم ثلاثين، مبتعدا فيه عن أسلوبه الذي ارتبط به في أفلام مثل "الساموراي السبعة" و"كاجيموشا" و"ران"، لكنه ليس بعيدا تماما عن الأفلام الأقدم له مثل "أن تحيا".
يقوم بالدور الرئيسي هنا الممثل الياباني الكبير تاتسو ماتسومورا الذي قام ببطولة عدد كبير من أفلام كيروساوا، مجسدا شخصية البروفيسور أوشيدا ببراعة مذهلة، منتقلا بين شتى المشاعر والتعبيرات: الأداء الصامت الرصين، المرح، السخرية، الود، الحزن، الحيوية الشديدة المتدفقة، وبراعة اللفظ والكلمات.
أما كيروساوا فيلجأ إلى طريقة سرد قصص الأطفال بل إنه يبدأ الفيلم فعلا بلعبة "الاستغماية" أو "مادادايو" يلعبها الأطفال في الشارع قبل أن يدخل بنا إلى موضوع الفيلم.
لا توجد في هذا الفيلم معارك مبهرة، ولا سيوف ولا مناظر تاريخية أو ملابس وتصميمات معقدة في حركتها كما في "ران" مثلا أو "عرض الدم"، بل عمق في الديكور وبساطة في الخطوط، وإيقاع هادئ رصين يساهم في تعميق إحساسنا بتعاقب الزمن، وهو ما يساعد عليه أيضا اللجوء إلى استخدام المزج، والإظلام التدريجي والظهور التدريجي كوسيلة للانتقال بين اللقطات والمشاهد.
كيروساوا يبدو في هذا الفيلم وقد عاد من حيث بدأ، أي إلى جوهر السينما كفن، وعلى مستوى الفكر، بدا وكأنه يوجه لنا وصيته الأخيرة التي تتلخص في ضرورة التمسك بالأمل والتفاؤل والاستمتاع بالحياة دون أن يغيب عن بالنا أبدا ضرورة العطاء والبذل لمن نحب.
لقد أراد هو تكريم الأديب الذي يحبه، وهو رجل ينتمي لأبناء جيله، لكنه، قام في الوقت نفسه، بتكريم الإنسان في كل مكان.

الثلاثاء، 16 ديسمبر 2008

قصة حب ضائعة على الحدود




عرض مهرجان دبي فيلما تركيا من النوع "غير الخيالي" سبق أن شاهدته قبل 11 شهرا في مهرجان روتردام السينمائي الدولي حيث عرض للمرة الأولى هناك بحضور مخرجه. وهو يحمل عنوانا غريبا هو My Marlon and Brando وهو تعبير تقوله البطلة عن حبيبها في اطار تعبيرها عن الحب باستخدام الكثير من الأوصاف التي تعتبر هذا الحبيب هو..كذا وكذا..وروميو وقيس ومارلون وبراندو وكل شئ.
ينتمي هذا الفيلم إلى ما يعرف بسينما الحقيقة التي تتميز باستخدام ممثلين غير محترفين يقومون عادة بإعادة لعب أدوارهم في الحياة حيث يختلطون بشخصيات حقيقية من الواقع، وكاميرا صغيرة تتابع وتسجل وترصد وتستفز، وتصوير في الاماكن الطبيعية، وموضوع حقيقي تماما لا يدخله أي افتعال درامي أو إضافات مثيرة.
والموضوع هو ببساطة قصة حب بين ممثلة تركيةهي عائشة داماغسي التي تقيم في اسطنبول والممثل العراقي الكردي حمة علي الذي يعيش في السليمانية في شمال العراق. وقد سبق أن التقى الإثنان لفترة قصيرة اثناء اشتراكهما في فيلم في تركيا قبل غزو العراق عام 2003، ثم عاد الرجل إلى بلاده، وظلت العلاقة بينهما قائمة من خلال الاتصالات الهاتفية والخطابات وغير ذلك.
الآن تقرر عائشة أنها لا تستطيع احتمال الفراق، وتتصل بحبيبها حمة علي تريد أن تتأكد من أنه مازال يحبها ويرغب في رؤيتها، فيؤكد هو لها حبه بل ويبعث إليها بألف مليون قبلة (على حد تعبيره) ولأسرتها ملايين القبلات، ويقول إنه يرغب في رؤيتها لكنه لا يستطيع الخروج من البلاد بينما تتأهب القوات الأمريكية للغزو.
وتقرر عائشة أن تذهب بنفسها إلى شمال العراق رغم كل المعوقات، لاعنة الحدود والجيوش والحروب، ويمضي الفيلم معها لتصوير المصاعب المستحيلة التي تلاقيها في طريقها، وكيف تفشل أولا في دخول العراق بسبب منع السلطات التركية لها، ورفض العراقيين الأكراد التصريح لها بالدخول، ثم كيف تقرر أن تدخل إلى العراق عن طريق إيران وكيف تعبر الحدود إلى إيران بالفعل وتتوجه مع سائق تاكسي إلى بلدة قريبة بعد أن قضت ساعات في انتظار أن يسمح لها الايرانيون بالدخول.
وتصبح عائشة شاهدة على الفظائع التي تقع بعد اندلاع الحرب، ولا نعرف في النهاية ما إذا كانت قد وصلت إلى حبيبها أم أنها ظلت تهيم على الحدود. ولكن لاشك أن الحبيبين اجتمعا بعد الحرب وإلا ما كان هذا الفيلم الذي ولدت قصته من قصتهما معا.

إنه فيلم من أفلام الاحتجاج السياسي ولكن في أسلوب شاعري رقيق، احتجاج على الحرب وعلى المعاملة التي تلقاها المرأة، وأساسا، هجائية عذبة ضد الحدود التي تفرق بين البشر وتعيق الاتصال فيما بينهم.
ويصور الفيلم أيضا نوعية المشاكل التي يمكن أن تتعرض لها امرأة وحيدة تعيش بمفردها في تركيا، ثم المضايقات التي تتعرض لها بعد ذهابها إلى إيران.
وقد صور الفيلم في المواقع الطبيعية لأحداثه، ولعب البطلان دوريهما كما سبق أن خبراه في الواقع. واستخدم المخرج في الفيلم رسائل الفيديو الحقيقة والخطابات التي أرسلها الرجل لحبيبته، كما استخدم لقطات لمظاهرات حاشدة اندلعت في تركيا ضد الغزو الأمريكي للعراق شاركت فيها بطلته عائشة.
والفيلم من إخراج المخرج التركي حسين كرابي الذي حصل على تمويل لفيلمه من هولندا وبريطانيا وصوره بكاميرا الفيديو (الديجيتال).
وقد حقق نجاحا كبيرا في الحصول على نتائج نهائية ممتازة من ناحية الصورة، وهو ما يؤكد الدور المتنامي لكاميرا الديجيتال في المستقبل، كما نجح في خلق إيقاع لاهث سريع، وبرع بوجه خاص في التفاصيل الخاصة بالجزء الإيراني، ومزج التسجيلي بالتمثيلي، واستخدم الموسيقى والأغاني العذبة المعبرة بالتركية والكردية من البلدان الثلاثة.

عن السياسة والصحافة والفن

كتبت من قبل حول الطريقة الساذجة السطحية التي تتناول بها صحف المعارضة وما يسمى بالصحف المستقلة في مصر (وغير مصر بكل تأكيد) السينما فتجعل منها مجرد سلة من الأخبار والمقابلات التافهة التي تشيد وتجمل وتمجد وتخلع العظمة على النكرات والتفاهات ممن يطلقون عليهم "فنانين" رغم ما تتمتع به نفس هذه الصحف من قدرة على الصياح بأعلى صوتها فيما يتعلق بالسياسة، تنتقد وتهاجم وتشجب وتدين، وخاصة رئيس الجمهورية الذي يحملونه كل أوزار البشر، بينما لا يتجرأون على مناقشة مسؤول صغير في منصب ثقافي معين يساهم مباشرة في "تدمير" عقول الشباب وتدمير القيم والذمم بشكل منتظم، دون أن يكون قصدي هنا شخصا بعينه بل مجرد نموذج عام متكرر ومستنسخ ومجسد أمام عيوننا يوميا.
ولست أدري حقا كيف تسمح صحف "الحنجوري" السياسي (من الحنجرة) بكل هذا التساهل الذي يصل إلى حد الدعاية المباشرة (التي قد تكون مدفوعة أيضا) فيما يتعلق بالفني والثقافي.
واقرأوا معي مثل هذه النماذج من ثلاث صحف يشار إليها بالبنان في مصر المحروسة:جريدة "المصري اليوم" التي تعتبر نفسها ليبرالية مستقلة جريئة تنشر هذه التفاهة في عدد اليوم (15 ديسمبر) عن فتاة تطلق على نفسها اسم "سمراء" تنشر لها صورة مثيرة:" عشقت الفن منذ نعومة أظافرها.. لكنها توقفت حوالى عشر سنوات بسبب هجرتها إلى سويسرا، وعادت مؤخراً لتستأنف حياته إنها الممثلة الاستعراضية «سمراء» التى شاركت فى العديد من الأفلام والمسلسلات، وتستعد الآن لمسلسل «أدهم الشرقاوى» مع المخرج باسل الخطيب والمؤلف محمد الغيطى، و«ليلة الرؤية» مع المخرج مجدى أبوعميرة، وانتهت من تسجيل أغنية فيديو كليب بعنوان «فوق ولا تحت» من كلمات حسن عزو، وألحان هانى زكريا، وتوزيع تامر صقر".
أما جريدة "العربي الناصري" لسان حال الحزب الناصري المعارض فهي جريدة متشنجة جدا في كل ما يتعلق بما يسمى بمكتسبات التجربة الناصرية، تقيس على أساسها الأفلام والروايات والأفكار، أي أن فيلمك تنحدد قيمته بناء على موقفه من السد العالي أو تأميم قناة السويس أو القطاع العام مثلا، فإذا كان الفيلم يشير إلى معاناة عامل في مصنع من مصانع الثورة مثلا فهو فيلم رجعي، أما إذا كان يعلق في خلفية أحد المشاهد صورة جمال عبد الناصر فهو فيلم تقدمي ممتاز بالضرورة!
إلا أن "العربي الناصري" ليست متشنجة على الاطلاق فيما يتعلق بـ"الوجود الجديدة الحلوة.. ياحلوين وياحلوات".. ولنقرأ ما نشرته في عددها الأخير في صفحة الفن: " وفاء عامر: لست فنانة شعارات.. والنجومية «قسمة ونصيب".. فى سنوات قليلة صنعت لنفسها اسما فنيا تجاوز مرحلة «تأطير الإغراء المُتبل بالشائعات» التى حاول البعض ربطها به. ومن يقرأ أخبارها.. ويشاهد صورها فى بدايات مجيئها من الإسكندرية.. سيفاجأ اليوم بقراءة مختلفة.. لأخبارها الشخصية.. والعائلية.. وحين سألناها عن سر هذا التغيير قالت: لا توجد أسرار بل هو الاستقرار الأسرى والفنى والحمد لله".
وتنشر جريدة "الدستور" المستقلة التي خصص ابراهيم عيسى نصفها بكل أسف لمقالات وأخبار وأفكار جماعة "الإخوان المتسعودين" الشهيرة بجعجعاتها الكثيرة وفلوسها الكثيرة أيضا، فقد نشرت التالي في صفحتها الفنية عن شخص مغمور يدعى ادوارد لا أعرف ما مصلحة المتسعودين في تلميعه:"رغم اشتراكه في ثلاثة أفلام في هذا الموسم وهي «بدون رقابة» و«المشمهندس حسن» و«بلطية العايمة» إلا أن دوره في الفيلم الأخير جاء مختلفا تماما عن كل ما قدمه إدوارد من قبل، فدور «قاهر» ليس فقط واحداً من أجمل الأدوار الموجودة في الفيلم - إن لم يكن أجملها- بل هو من أجمل الأدوار التي قدمها إدوارد طوال مشواره الفني، فهو يحمل ملامح من الحزن تماما كما يحمل ملامح كوميدية قادرة علي انتزاع ضحكات الجمهور في قاعة العرض".
هل هناك بعد ذلك أي أمل في أن يتسق "الحنجوري" السياسي مع الفني، أو يتخلى السياسي للفني عن نصيب معقول يسمح بتناول قضايا حقيقية في الساحة الفنية والثقافية. أم أن قضية "بلطية العايمة" وما شابه، أهم من كل قضايانا الحاسمة المؤجلة باستمرار!

الأحد، 14 ديسمبر 2008

تداعيات عن سينما العالم والعام يوشك على نهايته

سالي هوكنز بطلة فيلم "تمشي على سجيتها"

من فيلم "هايمت" الألماني العظيم
يتجه عام 2008 نحو نهايته.. ونتطلع جميعا إلى استقبال عام جديد بأفلام جديدة ومفاجآت جديدة رغم الصورة القاتمة التي يبدو عليها الاقتصاد العالمي حاليا. حصاد 2008 سينمائيا كان ضعيفا بشكل عام.
السينما الأمريكية قدمت عملين أو ثلاثة من الأعمال ذوي القيمة. السينما الفرنسية رغم حصولها على سعفة كان الذهبية عن فيلم "الفصل" لا يمكن القول إنها حققت شيئا متميزا، فالفيلم لا يضيف أي جديد على مستوى الشكل أو المضمون، بل هو تكرار منسوخ من أفلام اخرى تلعب على فكرة واحدة هي نسخ الواقع دون أن إضافات إلى الموضوع أو المعالجة، والسينما البريطانية تراجعت بصورة مخزية، رغم إعجاب البعض بفيلم مايك لي "تسير على سجيتها" أو Happy-Go-Luky الذي لن أجد فيه شيئا مثيرا بعيدا عن أداء بطلته سالي هوكنز المعبر.
لم أشاهد فيلم "تشي" بعد عن البطل الأسطوري جيفارا، سيبدأ عرضه في لندن في اليوم الأول من العام الجديد بعرض الجزء الاول منه على أن يعرض الجزء الثاني في فبراير، وهي تجربة جديدة لعرض فيلم طويل يبلغ 5 ساعات.
وكنت قد شاهدت عام 1985 فيلم "هايمت" أو "الوطن" الألماني لادجار رايتز، وكان طوله أكثر من 16 ساعة، في أربعة أجزاء عرضت على مدار أربعة أيام متتالية في دار السينما، بتذكرة واحدة. وكانت تجربة لا تنسى، تشبه تجربة الفرجة الرومانية في الملاعب عندما كان الرومان يتوجهون ومعهم طعامهم وشرابهم ويقضون النهار بطوله، يشاهدون الألعاب الرياضية ويعيشون مع اللاعبين كل لحظة، ويمارسون الحياة بمتعة حقيقية. وكنت أقضي يوميا أكثر من اربع ساعات (ونصف ساعة استراحة) مع نفس الوجوه من الجمهور، حتى نشأت صداقات وعلاقات بين المشاهدين، وكنا نقضي الوقت أثناء الاستراحة في دار سينما "لوميير" في وسط لندن التي كانت تعرض الفيلم، ونحن نتناول المشروبات ونتبادل الأحاديث حول الفيلم- التحفة، الذي كان حدثا بارزا من أحداث السينما العالمية في الثمانينيات. وقد كتبت عنه تفصيلا في كتابي الثاني "اتجاهات في السينما المعاصرة".
لم أشاهد أيضا فيلم كلينت إيستوود الذي قيل فيه كلام كثير رغم أنني لست من المعجبين بايستوود كمخرج (أفضله ممثلا!) بعد أن عجزت حتى عن استكمال مشاهدة فيلمه الذي اقاموا الدنيا حوله الذي يحمل عنوان "فتاة بمليون دولار" بل وجدت أن فكرته عموما سخيفة ولا تثير أي خيال!
ربما يمكن اعتبار فيلم "تيزا: الاثيوبي للمخرج الكبير هيلا جيريما من أهم أفلام العام، وقد حقق ما حقق من فوز في فينيسيا وفي قرطاج، وأيضا فيلم "فروست/ نيكسون" لرون هاوارد الذي رغم موضوعه الذي يبدو مسرحيا نجح في تحويله إلى عمل ملئ بالحياة والاثارة والمتعة.
أما المخرج المتقلب اوليفر ستون (بالمناسبة قضيت أكثر من سنة في ترجمة كتاب كامل شامل عنه قبل سنوات صدر باسم "سينما أوليفر ستون" في القاهرة) فقد سقط تماما عبر أفلامه الثلاثة الأخيرة "الاسكندر الأكبر" و"مركز التجارة العالمي" وأخيرا "دبليو" الذي سبق أن كتبت عنه عند عرضه في مهرجان لندن السينمائي الأخير وقلت إنه لا يضيف شيئا بل يفتقر حتى لروح المرح والسخرية المحببة ويبدو ثقيلا وجافا.
أما السينما العربية فظلت هناك ثلاثة او أربعة افلام سنكتب عنها تفصيلا قريبا وهي "بصرة" لأحمد رشوان، و"حسيبة" لريمون بطرس، و"أيام الضجر" لعبد اللطيف عبد الحميد.
وفي مهرجان روتردام السينمائي الدولي الذي اذهب سنويا إليه في يناير أي في الشهر القادم، لافتتاح المشاهدات المكثفة في العام، سأرى مزيدا من الأفلام الجديدة، من عند العرب والعجم، وخصوصا "خلطة فوزية" لمجدي أحمد علي الذي فاتتني مشاهدته في القاهرة. ومهرجان روتردام هو المهرجان الدولي الكبير الأول في العالم ويعد من أكثر المهرجانات السينمائية تنظيما ودقة، وسهولة ايضا بالنسبة للنقاد والصحفيين في مشاهدة أفلامه وحضور عروضه. وهو يقام قبل مهرجان برلين، ويعرض عادة تجارب طليعية جديدة ويقدم عروضا عالمية أولى مثيرة للخيال والاهتمام.
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger