الجمعة، 21 نوفمبر 2008

تحفة شون بن "في البرية" في مهرجان القاهرة



لاشك أن فيلم "في البرية" Into The Wild جاء عند ظهوره في 2007 مفاجأة سارة لكل عشاق السينما في العالم، وعملا سيبقى طويلا في الذاكرة.
مفاجأة لأنه يأتي من شون بن Sean Penn الممثل والكاتب والمخرج الذي عُرف بمواقفه النقدية للإدارة الأمريكية، والذي قال في مقابلة حية مع لاري كنج (نجم محطة سي إن إن) إن الرئيس جورج بوش "يدمر ديمقراطيتنا... ويأتي بالفاشية إلى بلادنا"، وأنه " أصاب بلادنا والإنسانية بأضرار بالغة ".
هذا الموقف السياسي ربما يدفع إلى الاعتقاد بأن الفيلم الجديد "الرابع" الذي يخرجه شون بن، قد يكون فيلما سياسيا يمتلئ بالعبارات الكبيرة، وبالهجاء السياسي المباشر.
لكن شون بن فاجأنا حقا بأن قدم لنا واحدا من أكثر الأفلام شاعرية ورقة وعذوبة، وأثبت أنه ليس فقط فنانا مفكرا صاحب موقف، بل وأيضا سينمائي يمتلك "رؤية" فنية ونظرة فلسفية للحياة، وفضلا عن هذا كله، شاعر سينما يمتلك مقدرة عالية على التأمل والتعبير.
إن شون بن يستخدم الكاميرا كما يستخدم الرسام الريشة والألوان، ويتعامل مع نبضات الحياة بلغة الشعر المرئي، الذي يتكون من صور تولد الأحاسيس وتفجر المشاعر، مهما بدت متناقضة مع الواقع والحقيقة.

التعبير الذاتي
في الوقت نفسه يمكن القول إن فيلم "في البرية" أحد أكثر الأفلام تعبيرا عن الذات في السينما الأمريكية منذ زمن طويل.
إنه أكثر قربا بالتأكيد من أفلام مشابهة ظهرت في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، في زمن التمرد والقلق والرفض والهروب إلى الموسيقى والطبيعة والرقص والشعر الغاضب.
إلا أن شون بن يعبر فيه أيضا عن رفضه للمؤسسة الاجتماعية الأمريكية القائمة، وقيم الطبقة الوسطى السائدة، ويظهر بوضوح تعاطفه مع بطله المعذب الذي ينشد التحرر والسعادة بعيدا عن المجتمع بقيوده وتقاليده وجموده وقوالبه.
الطبيعة تلعب دورا اساسيا إلى جانب البطل في هذا الفيلم.
الفيلم مأخوذ عن كتاب بالعنوان نفسه من تأليف جون كراكاور، يروي فيه قصة حقيقية هي قصة شاب يدعى كريستوفر ماكندليس ينتمي لأسرة ثرية من علية القوم، تخرج من الجامعة بتفوق، لكنه يقرر أن يهجر كل شئ: الوظيفة المرموقة المنتظرة والأسرة والبيت والمجتمع والسيارة الجديدة الفارهة، ويهرب إلى الطبيعة، في رحلة فردية أوديسية تنتهي نهاية تراجيدية محتمة.
إنه يتبرع بمدخراته (24 ألف دولار لمؤسسة أوكسفام الخيرية)، ويحرق أوراق هويته وبطاقاته الخاصة، ويتخذ لنفسه اسما جديدا ساخرا هو "ألكسندر الصعلوك الكبير"، ويخوض مغامرته حتى النهاية، بروح ملؤها الأمل والرغبة في التحرر، قاطعا كل صلة له بأسرته وماضيه وعالمه.

رواية الأحداث
يتكون الفيلم من 5 فصول تحمل عناوين محددة بسيطة هي "مولدي" و"المراهقة" والبلوغ"، و"الأسرة"، "التخلي عن الحكمة"، ويستخدم المخرج الذي كتب بنفسه السيناريو، أسلوب رواية الأحداث من خلال التعليق الصوتي، تارة من وجهة نظر شقيقة البطل، وتارة أخرى من وجهة نظر البطل نفسه وهو يسجل مذكراته.
بطلنا الراغب في الهرب من المجتمع الاستهلاكي بقيمه الاجتماعية الزائفة يبدو مدفوعا إلى مغامرة أقرب إلى الحلم، بقوة رفض لعالمه المصنوع: والداه يتشاجران طيلة الوقت ويختلفان حول أسلوب تنشئته، يريدان تحديد مستقبله حسب المقاييس الاجتماعية للنجاح.
إلا أنه لا يبدو فقط مدفوعا بالنظر إلى الوراء في غضب، بل بالرغبة في قهر الطبيعة وتطويعها، وتحدي نفسه وإثبات أنه يستطيع تحقيق ما يصبو إليه، مهما كانت المخاطر الكامنة وهي كثيرة.
إنه يطوي الطرق ويقطع أرجاء الولايات المتحدة من أقصى الجنوب، من المكسيك، إلى الشمال، مرورا بنهر كولورادو الذي يصر على أن يقطعه على أداة خشبية للتزلج على الماء ومجداف، ثم يمر بمزارع ولاية داكوتا الجنوبية، ثم كاليفورنيا، هدفه الوصول إلى قمة أعلى جبال آلاسكا الجليدية.

نماذج بشرية
وخلال تلك الرحلة الأوديسية، يلتقي "كريس" بشخصيات ونماذج بشرية، يتعلم منها الكثير، عن الحياة، وعن الحكمة، والسعادة، ويبدو وكأنه يخرج من الطفولة إلى النضج.
القطيعة الكاملة مع المجتمع هي السمة المميزة لرحلة البطل
إنه يلتقي أولا بثنائي: رجل وامرأة، يعيشان حياة منطلقة تشبه حياة الهيبيز، في البرية، المرأة تجد فيه ما تفتقده في رفيق حياتها، الدفء والحوار، فتتخذه ابنا، تحاول أن تنصحه بتغليب العقل على العاطفة، وتمنحه دروسا في كيفية تحرير الروح دون فقدان الصلة بالأرض.
ويلتقي بعد ذلك بمزارع يشركه معه في حصد القمح، لكن الشرطة تقبض عليه فجأة بسبب جريمة سرقة ارتكبها في مكان آخر في الماضي، وكأن بطلنا يلتقي دوما بأب بديل أو أم بديلة.
ويتجه كريس غربا، عبر النهر والتسلل داخل قطار. ويلتقي في مخيم للغجر بمغنية حسناء، يشترك معها في الغناء، وتحاول هي أن تمنحه جسدها لكنه يعتذر ببساطة.
إنه يرفض الإغراء، ربما يريد أن يثبت لنفسه، أنه يستطيع أن يستغني عن "الآخر"، لا يود أن يترك شيئا يمنعه او يعطله عن تحقيق هدفه الوحيد: التوحد مع الطبيعة.

طبيعة الروح
وفي طريقه إلى آلاسكا، في الأحراش، يعثر على حافلة مهجورة، يتخذها بيتا له، وهناك يتعرف على رجل طاعن في السن، ذي ماض خشن، لم ينجب، يقرر على نحو ما، أن يتبنى كريس، يفهم طموحه وحلمه، يشترك معه في اكتشافاته، يحذره من عواقب تحدي الطبيعة، ويعطيه درسا في معرفة البشر "الفرق الحقيقي بين الناس يكمن في طبيعة الروح عندهم".

إن كريس هو النقيض الكامل لهذا الرجل، لكن هناك شيئا يوحد بينهما. ربما حاجة كريس في النهاية إلى أب يحتضنه ويعطيه ما عجز أبوه عن منحه إياه. يحاول الرجل أيضا أن يقنعه بضرورة العودة، الاتصال بأسرته، وهو ما يشرع كريس في القيام به بالفعل، لكنه يرغب أولا في الوصول إلى مبتغاه.
وقبل رحلته الأخيرة إلى قمة جبال آلاسكا، يصاب بنوبات من الإسهال والقيئ بسبب تناوله نباتات سامة، بعد أن عجز عن العثور على شئ يأكله، ويكون مصيره في النهاية أن يموت جوعا في مكانه داخل الحافلة المهجورة.
وكأن الفيلم يقول إن تحدي الطبيعة له حدوده وقوانينه، ولا ينبغي أن يترك الإنسان نفسه هكذا وسط الطبيعة قبل أن يتسلح بأسلحة كافية لمواجهتها.
في الولايات المتحدة، أحدث اكتشاف جثة كريس في أحراش آلاسكا، صدمة، وانقساما في الآراء، فهناك من اعتبر مغامرته نوعا من الحماقة، وهناك بين الشباب، من اعتبره، ولايزال، بطلا فذا ملهما.
السمة الواضحة في فيلم شون بن، أنه ينظر إلى بطله بتعاطف وحب وفهم، ويتعامل معه باعتباره متمردا على المجتمع، يسعى إلى لحظة استنارة خاصة يتحرر فيها ويحرر روحه.

أدوات المخرج
تقع أحداث الفيلم في أوائل التسعينيات، ويعتمد البناء في الفيلم على مشاهد العودة إلى الماضي (فلاش باك)، أي الانتقال بين الأزمنة والأماكن، ويمتلئ الفيلم باقتباسات أدبية من مشاهير الكتاب الذين كانوا مغرمين بالعودة إلى الطبيعة مثل جاك لندن، ويستخدم المخرج أحيانا أسلوب تقسيم الكادر السينمائي إلى أكثر من صورة.
غير أن أبرز أدوات شون بن التي يستخدمها إلى أقصى درجة في إخراجه للفيلم ومنحه مذاقه الخاص المتميز هي التصوير والموسيقى والأداء التمثيلي.
وهو يستخدم هذه الأدوات بحيث يضفي على الفيلم لمسة شاعرية، ويعبر ببلاغة عن العلاقة بين الإنسان والطبيعة.
هناك لقطات خلابة لكل تفاصيل الطبيعة: عند الشروق والغروب وفي الليل. ويساعد تدرج التصوير في مواقع مختلفة في اكتشاف سحر الطبيعة خارج المدن الأمريكية.
ولاشك أن خبرة المصور الفرنسي الموهوب إريك جوتييه، أضافت الكثير من الرونق والسحر والجمال على الصورة العامة للفيلم. هنا نحن أمام قصيدة شفافة بلغة الصورة، يلعب فيها ترتيب اللقطات وتوليفها معا دورا كبيرا في وصول شحنة المشاعر التي قصد توصيلها إلينا عبر البطل المدفوع بفكرة شديدة الرومانسية عن التوحد مع الطبيعة.
وتلعب المؤثرات الخاصة دورا بارزا في الفيلم، خاصة في تنفيذ المشهد الذي نرى فيه كريس داخل السيارة وهو يتعرض لطوفان من الماء المتدفق يضرب السيارة ويقذف بها لتصطدم بشجرة، قبل أن ينحسر.
ويستخدم المخرج الموسيقى التي كتبها مايكل بروك، وأغاني إيدي فيدر التي تشيع فيها روح التمرد التي سادت في أغاني السبعينيات، ويمزجها بالفيلم كمعلق على الأحداث، أو كغلاف روحي لمشاهد الفيلم ولقطاته وكأداة فنية خلابة لفهم الطبيعة.
ويؤدي الممثل إميل هيرش دور كريس، مضفيا على الشخصية ملامح الاقتحام والتحدي والرغبة في ولوج قلب العالم، مع الحلم والأمل بتحقيق المستحيل، ونظرة حزن خفي تنبئ بمصيره التراجيدي.
وقد بذل الممثل جهدا خارقا، وتعرض لمخاطر كبيرة أثناء تمثيل الفيلم، دون الاستعانة ببديل، في مشاهد التزلج على سطح نهر كلورادو، وغيرها من المشاهد الخطرة التي جعلته جزءا من مغامرة كريس.
إن "في البرية" فيلم مغامرة، لكنها ليست فقط مغامرة البطل الحقيقي الذي انتهت حياته قبل أن يصل إلى هدفه، بل مغامرة لشون بن المخرج نفسه، الذي يشق فيه طريقا يبتعد كثيرا عن المسار التقليدي للسينما الأمريكية، بقدر ما يقترب من السينما الأوروبية في إبداعاتها الشخصية المعبرة عن الرؤية الذاتية للعالم.
إنه يبدو قريب الشبه من روح أفلام أوروبية مثل "إلفيرا ماديجان" (1967 ) Elvira Madigan لبو فيدربرج السويدي، و"صرخة الصخر" (1991) Scream of Stone لفيرنر هيرتزوج الألماني.
وهو بهذا المعنى، مغامرة في السينما، تؤدي بالضرورة إلى مغامرة في المشاهدة (148 دقيقة)، ومغامرة في النقد، لأنه سباحة عكس التيار السائد في السينما، وفي الحياة. ولعل هذا هو أساسا، سبب سحره الخاص.

الأربعاء، 19 نوفمبر 2008

فيلم"كسكسي بالسمك": تماسك إنساني وحب ممزوج بالألم



يعتبر فوز فيلم "كسكسي بالسمك" (أو حسب عنوانه الفرنسي La Graine et le mullet) للمخرج التونسي المقيم في فرنسا عبد اللطيف قشيش بثلاث من جوائز سيزار الفرنسية لأحسن فيلم وأحسن إخراج وأحسن ممثلة مساعدة، نقلة كبيرة بالنسبة للسينما التي يصنعها المهاجرون العرب في أوروبا.
و"سيزار" هي المسابقة السنوية بين الأفلام الفرنسية على غرار جوائز الأوسكار الأمريكية. ويتيح الفوز بجوائزها الفرصة عادة أمام الفائزين بها لتحقيق مشاريع سينمائية أكثر طموحا، تماما كما حدث مع المخرج عبد اللطيف قشيش نفسه، فقد سبق له الفوز بأربع من جوائز سيزار عن فيلمه الروائي الثاني "المراوغة" L'esquive قبل 5 سنوات، وهو ما جعل المنتج الفرنسي كلود بيري يمنحه دعما ماليا مفتوحا لتحقيق فيلمه التالي.
نوعية جديدة
أما لماذا يعد الفيلم نقلة في هذه النوعية من الأفلام التي يصنعها سينمائيون عرب في المهجر الأوروبي فلعل هذا يعود إلى الأسباب التالية:
* ابتعاده عن المواضيع التقليدية التي تسود هذا النوع من الأفلام التي يصنعها سينمائيون من أصول مغاربية حول قضية العلاقة مع "الآخر" في بلدان المهجر، وعلى الأخص فرنسا. هذه المواضيع كانت عادة تدور حول الهجرة، وأوضاع المهاجرين على هامش المجتمع الفرنسي وما يتعرضون له من عنصرية، ويتركز اهتمامها على أزمة الهوية والإحساس بالاغتراب وعدم التجانس.
* الابتعاد عن الصورة النمطية لمشاهد الفولكلور المغاربي وتصوير العادات العربية والإسلامية من منظور استشراقي، بطريقة لا تتيح مسافة بين المتفرج الأوروبي والصور، بحيث ينبهر هذا المتفرج بما يراه بسبب "غرابة" الصورة، لكنه يشعر، في الوقت نفسه، بالنفور واحيانا، بالتقزز بسبب ذلك الاختلاف النمطي عن "الصورة الغربية المتحضرة".
* عدم التركيز على القوالب المألوفة مثل موضوع اضطهاد الرجل للمرأة، والتطرف الديني، والكبت الجنسي، وختان الإناث، والوقوع في الجريمة.. وغير ذلك من قوالب يصلح أن نطلق عليها "تعليب صور التخلف السطحية على الشاشة".
يؤكد الفيلم على فكرة التمسك بالهوية، ولكن بدون الوقوع في النمطية والقولبة
ولعلنا لو طبقنا مقاييس الفيلم الأمريكي التقليدي الشائع، أو الفيلم السائد عموما استنادا إلى النموذج الأمريكي وحده، على فيلم "كسكسي بالسمك" سيكون من الطبيعي أن نعتبره عملا بدائيا تغيب عنه "الحبكة" ويعاني من الترهل والإطالة والاستطرادات واللقطات القريبة الطويلة المرهقة، ويغيب عنه الوضوح في موضوعه أو نهايته، وعدم تماسك بنائه وجمود مشاهده ولقطاته.
أما الحقيقة فهي أننا أمام عمل فني يبحر في اتجاه مخالف للسينما السائدة، ويتمثل الأعمال السينمائية الفنية التي تملك منهجها الخاص في التعامل مع الصورة. وهو بهذا المعنى يعد أيضا عملا "تجريبيا" على نحو ما، يصور دراما تدور في محيط محدد ومن خلال شخصيات محددة، لكنه يعتمد أسلوبا تسجيليا له جمالياته وإيقاعه الخاص.
ولكن ما هو الموضوع أولا؟
دراما عائلية
موضوع الفيلم بسيط للغاية، فهناك شخصية رئيسية هي شخصية سليمان وهو مهاجر تونسي في الستينات من عمره، يعمل منذ 35 عاما في بناء السفن في ميناء مارسيليا، ويبدأ الفيلم وضاحب العمل يبلغه بالاستغناء عن خدماته بدعوى أنه لم يعد يستطع أداء عمله مع تقدمه في السن.
سليمان كان متزوجا من "سعاد" المعروفة بمهارتها في إعداد الكسكسي بالسمك على الطريقة التونسية، ولديه منها عدد من الأبناء هم مجيد المتزوج من جوليا الفرنسية ولكنه يرتبط بعلاقة مع امرأة فرنسية أخرى متزوجة، ورياض الإبن الأصغر، وكريمة، وليلى (المتزوجة من هنري وهو روسي يتعلم العربية). ولدى سليمان عدد كبير من الأحفاد أيضا.
وهكذا، من البداية يدخلنا الفيلم في اطار تلك الدراما العائلية المتشابكة التي ترتبط أيضا بمحيط خارجي من الأصدقاء والمعارف، من المهاجرين الذين يرتبط بهم سليمان من محبي الموسيقى العربية وعازفيها (تأكيدا على الارتباط بالهوية).
سليمان الذي يحمل كل إصرار الجيل الأول من المهاجرين، لا يفقد رشده ولا ينهار بعد أن يفقد عمله، بل يخطر له شراء سفينة قديمة متهالكة راسية على الشاطئ لكي يحولها إلى مطعم يتخصص في تقديم الكسكسي بالسمك. وهو يبذل كل جهده من أجل العثور على جهة تقرضه مبلغا يستطيع بواسطته أن يحول السفينة القديمة إلى مطعم عائم.
أصدقاؤه يسخرون من فكرته في البداية، ثم يقول له أحدهم ساخرا أنه لابد سيحصل على ترخيص "طالما أنه لا يعتزم بناء مسجد"، ويحاول أبناؤه دفعه دفعا للعودة إلى الوطن مع الاكتفاء بما سيحصل عليه من مبلغ شهري كمنحة تقاعد. الوحيدة التي تقف معه وتسانده هي "ريم" ابنة صديقته.
ومن أجل اقناع الجهات المسؤولة عن اقراضه ومنحه ترخيصا وشهادة صحية بجدوى فكرته، يقرر سليمان اقامة حفل عشاء يدعو إليه مسؤولي البلدية والبنك وأصدقاءه وأبناء أسرته، على أن تعد زوجته السابقة الطعام (الكسكسي بالسمك)، ويعزف أصدقاؤه الموسيقى العربية الراقصة.
المخرج استخدم الكاميرا بطريقة خاصة للتلصص على الشخصيات ومراقبتها طول الوقت
ويحضر الجميع، وينتظرون بفارغ صبر وصول الطعام، لكنه لا يصل لأن "مجيد" نسيه في حقيبة سيارته وفر من المكان حتى يتفادى مواجهة مع زوج عشيقته الفرنسية وأزمة محتملة مع زوجته التي تشك بالأمر.
ويقع سليمان في مأزق. فماذا سيقدم للمدعوين. ويبذل أفراد الأسرة كل جهد للترفيه عن المدعوين بتقديم المشروبات لكسب الوقت إلى حين احضار الطعام، ويذهب سليمان على دراجته إلى منزل زوجته السابقة لكي يطلب منها اعداد طعام بديل لكنه لا يجدها، وتذهب لطيفة لاعداد كمية أخرى من الكسكسي، ويكتشف سليمان استيلاء بعض الأولاد على دراجته فيأخذ في مطاردتهم وهو المنهك صحيا وجسديا ولكن بلا جدوى.
يطول انتظار المدعوين فتسعى ريم لشد أنظارهم وابقائهم في مقاعدهم بتقديم وصلة طويلة من الرقص الشرقي لا يبدو أنها ستنتهي. وينتهي الفيلم ولكن دون نهاية محددة قاطعة، بل يترك المخرج المؤلف كل الاحتمالات مفتوحة. فقد يكون سليمان قد سقط ميتا من الإرهاق، وقد يكون قد عاد بعد ان تمكنت لطيفة من تدبير طعام بديل للضيوف، ونجح في النهاية في الحصول على ترخيص بافتتاح المطعم.
عين الكاميرا
المؤكد أن المخرج عبد اللطيف قشيش لم يشأ أن يتبع أسلوبا في السرد narrative يقوم على الحبكة المحكمة المغلقة، بل على أسلوب السرد المفتوح والمتحرر كثيرا، سواء في بناء المشاهد أو الشخصيات.
فقد أبقى مثلا على الكثير من الاستطرادات التي قد يعتبرها سينمائيون آخرون زائدة عن الحاجة، وركز على الحوارات التلقائية الطويلة، وعلى اللقطات القريبة "كلوز أب" في مشاهد المشاجرات بين أفراد العائلة، واعتمد اعتمادا أساسيا على الكاميرا الثابتة، مع استخدام الحركة الأفقية pan في الانتقال بين وجوه الشخصيات من اليمين إلى اليسار وبالعكس خصوصا في تصويره لمشاهد تناول الطعام.
إنه يضع الكاميرا في قلب المشهد داخل غرفة تناول الطعام مثلا، وسط أكثر من عشر شخصيات وعدد آخر من الأطفال، ويظل ينتقل بها من وجه لآخر، ومن شخصية إلى أخرى، في لقطات قريبة تثير ارتباك أكثر الممثلين خبرة، لكننا لا نشعر بوجودها هنا بل نرى نتيجتها المدهشة التي تتمثل في تقائية الأداء وانسجام الشخصيات، وتداخل الأصوات أحيانا دون أن نقفد القدرة على المتابعة، بل يضفي هذا كله مزيدا من الصدق على المشاهد. وهذا الأسلوب تحديدا هو ما نصفه بأنه مغامرة في التجريب خارج السائد.
من ابرز جوانب الفيلم أيضا الأداء المتميز لمجموعة الممثلين جميعا
ويعد الفيلم دراسة بصرية ممتعة بالكاميرا للشخصيات، وبدرجة أساسية لشخصية سليمان، الذي نراه في عمله ثم في سعيه للحصول على تمويل لمشروعه، ثم لقاءاته مع أصدقائه على المقهى أو في المقصف، ثم كيف يعجز عن ممارسة الحب، وكيف يرتبط بأفراد أسرته، يحنو عليهم جميعا دون قمع أو قسوة.
تتخذ الكاميرا في الفيلم صفة المراقب الدخيل الذي لا يراه ولا يشعر به أحد، وهي في هذا السياق "عين المخرج" الموضوعية التي لا تريد أن تتدخل بل تكتفي بالتلصص على ما يفعله أبطالنا البسطاء.. أبطال من خارج سينما البطولة بل من قلب سينما يمكن أن نطلق عليها بثقة "سينما النثرات الصغيرة والأفكار الكبيرة".
ولعل شخصية سليمان من أقل الشخصيات تعبيرا عن نفسها بالكلام في الفيلم، فهو يظهر معظم الوقت مطرقا صامتا يخفي ألما نبيلا وكبرياء كبيرة في مواجهة أزمته، لا يثور ولا يحتج، بل يفكر كيف يمضي قدما في تحقيق مغامرته، كأنها أصبحت سلاحه الوحيد لإعلان تمسكه بالحياة والعيش في هذا البلد الذي اعطاه خلاصة عمره.
من ناحية يمكن القول إن هذا فيلم عن التضامن الإنساني، والتساند بين جيل المهاجرين الأوائل، وعن الدفء والاهتمام الذي توفره الأسرة رغم كل ما يدور تحت السطح من خلافات وتناقضات تنعكس على أفرادها، لكن دون أن تصبح مشاكلها في المجتمع الفرنسي مشاكل"فريدة" بل جزءا من مشاكل المجتمع نفسه على نحو ما.
ولكن من ناحية أخرى هناك أيضا نقد واضح للطريقة الخشنة الغليظة التي يتخلص بها صاحب العمل الفرنسي من سليمان بعد أن أفنى عمره في العمل لديه، وهناك أيضا تشريح للتناقضات بين جيلي الآباء والأبناء، استغراق الأبناء في مشاكلهم الخاصة أو في البحث عن متع عابرة، مشاجراتهم وخياناتهم واحباطاتهم ولكنهم في كل الأوقات مترابطون.
التلقائية والواقعية
فيلم "كسكسي بالسمك" يؤكد على فكرة التمسك بالهوية، ولكن بدون الوقوع في النمطية والقولبة رغم مشاهد طهي الطعام وصبه في الأواني الضخمة ثم نقله، ومشاهد الغناء الجماعي وغيرها، فهذه المشاهد لا تبدو مقصودة في حد ذاتها، بل كجزء عضوي من نسيج الفيلم نفسه، وهو ما يجعلها تفلت من مصيدة الفولكلور.
ويستخدم المخرج الزمن الحقيقي في تصوير مشهد الحفل، ويوحي بامتداده وطوله أكثر عندما ينتقل بينه وبين بحث سليمان عن مجيد وسعاد ومطاردته لمجموعة أولاد من الجيل الثالث من المهاجرين أخذوا يسخرون منه ويرهقونه دون أدنى شعور بما يعانيه من ألم.
ويمتلئ الفيلم بالمشاجرات التي تبدو شديدة التلقائية، يكثر فيها الصياح والمشاحنات العائلية أثناء تناول الطعام، والصياح على الأبناء، ومعاقبة الأطفال، والتمرد العنيف من جانب "ريم" على أمها، وكيف تسعى إلى استفزاز مشاعر الأنوثة فيها بشتى الطرق، حتى بالصياح والبكاء، لكي تقنعها بالذهاب إلى الحفل وعدم ترك المجال مفتوحا للزوجة السابقة.
إن هذه المشاهد التي يقف وراءها مخرج وممثلون وكاميرا، تصل إلى ذروة الواقعية في الأداء والصورة وحركة الممثلين، وقد لا يتصور كثيرون أنها مشاهد تمثيلية بسبب تلقائيتها الشديدة.
ويصل الفيلم إلى ذروته المغلفة بالحزن في مشهد الرقص الأخير، الذي يتناقض عن قصد مع معاناة سليمان التي تصل إلى ذروتها مع سقوطه في النهاية بينما هو يبحث عن فرصة للتماسك والبقاء في قلب الحياة.
ولعل وعلى رأسهم بالتأكيد حبيب بوفارس في دور سليمان، وبوراوية مرزوق في دور سعاد، وحفظية حيرزي التي تألقت في دور "ريم" واستحقت عليه جائزة أحسن ممثلة مساعدة من جوائز "سيزار".
ومعظم الممثلين والممثلات في هذا الفيلم من الهواة الذين يقفون للمرة الأولى أمام الكاميرا، ولاشك أن الفضل في السيطرة المدهشة على أداء الممثلين والقدرة على استخراج أقصى امكانياتهم في التعبير تعود بالدرجة الأساسية إلى المخرج عبد اللطيف قشيش الذي بدأ مشواره السينمائي أصلا كممثل بدأ في فيلم "الشاي في حريم أرشميدس" (1984) للمخرج من أصل جزائري مهدي شريف، ولايزال يمثل وأحدث أدواره في فيلم "معذرة أيها الكارهون" Sorry Haters الذي يتناول العلاقة المتوترة بين العرب في أمريكا والأمريكيين في نيويورك بعد أحداث 11 سبتمبر.
فيلم "كسكسي بالسمك" هو أساسا عمل يرغب صانعه في أن يعيد "أنسنة" صورة المهاجرين العرب في فرنسا أمام المتفرج الغربي عموما، فهم كما نراهم هنا، أناس لهم مشاكلهم وصراعاتهم وتناقضاتهم وخياناتهم الصغيرة، بل إن لهم أيضا عالمهم الخاص بتفاصيله الخاصة التي لا تنفصل كما يؤكد الفيلم في كل مشهد من مشاهده، عن مشاكل المحيط الأكبر من حولهم، عن المجتمع الفرنسي عموما، وهو ما يجلهم بعيدين عن الصورة المتكررة للضحية التي لا تملك مصائرها.
ولعل في هذه النقطة تحديدا تكمن قوة الفيلم.

الثلاثاء، 18 نوفمبر 2008

مشكلة مهرجان القاهرة السينمائي


هل نقد المهرجان "مؤامرة" لتشويه سمعة مصر
(المقال منشور في جريدة "البديل" المصرية بتاريخ 17 نوفمبر)

يتعرض مهرجان القاهرة السينمائي منذ فترة طويلة، لانتقادات واسعة النطاق في الصحافة والإعلام بشكل عام، داخل وخارج مصر. وكاتب هذا المقال من ضمن الذين كتبوا مرارا عن سلبيات هذا المهرجان، وأشار إلى الكثير من نقاط ضعفه. فلماذا كل هذه الانتقادات والكتابات؟
هل الذين ينتقدون مهرجان القاهرة يرغبون مثلا في رؤيته قد اختفى من على وجه الأرض؟ أم هل يرغبون في إهالة التراب على "منجز" وطني مصري الأمر الذي قد يعتبره البعض أقرب إلى "الخيانة" الوطنية، أو خدمة أهداف الأعداء المتربصين ليلا ونهارا لمصر المسكينة المستهدفة في الداخل والخارج؟!
أم تراهم يرغبون في صرف القائمين على أمر هذا المهرجان لكي يتولوا هم مسؤولياته وتصريف أموره وكأن المسألة أساسا صراع على "الرزق" أو الوجاهة وحب الظهور!
الحقيقة أن "مشكلة" مهرجان القاهرة السينمائي قائمة منذ سنوات طويلة. ليس لأن هناك مؤامرة أو رغبة في الإساءة لصورة مصر، ولا رغبة في الحصول على مناصب أو تكليفات من أي نوع، على الأقل بالنسبة لكاتب هذه السطور الذي ترك البلد بما فيها منذ زمن "لأصحابها" بعد أن تيقن من أنه لا طائل من وراء العمل في إطار نظام يعجز المرء من خلاله عن تحقيق طموحاته وآماله وأحلامه التي يرغب ويتمنى أن يراها لبلده، فالمثقف المصري، مهما اغترب وطالت غربته، يظل يحلم بالعودة إلى محيطه الطبيعي، ليعطي مما اكتسبه من معارف وخبرات إلى أهله وناسه وشعبه.
ولكن ماذا نفعل وأمامنا مشكلة تتضخم عاما بعد عام، وخطيئة ترتكب ويتم التستر عليها بانتظام باسم مصر مع تخويف كل من يوجه النقد للمهرجان والقائمين عليه من فكرة أنه "يهاجم مصر"، على نحو يذكرنا بما اعتاد عليه الرئيس الراحل أنور السادات الذي كان دائما ما يربط بين الانتقادات التي كانت توجه إلى سياساته، وبين اسم مصر.
أما مشكلة مهرجان القاهرة السينمائي فتنبع من الأساس الواهي الذي يقوم عليه، فهو ليس مؤسسة حكومية تخضع بالكامل للدولة ممثلة في وزارة الثقافة، ولا هو مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني تقدم خدمة عامة بدعم من الوزارة.
ويترتب على ذلك أن هذا المهرجان كان ولايزال، يدار بطريقة الهواة والتجريبيين، تسند رئاسته عادة إلى من لا علاقة لهم بالإدارة عموما، بل ولا دراية لهم أيضا بكل جوانب العمل في المهرجانات السينمائية الدولية الكبيرة أو التي ترغب في أن تكون كبيرة، ويعتمد المهرجان على العمل الموسمي مثل عمال التراحيل والباحثين عما يعرف بـ"السبوبة" السريعة دون أي جهد حقيقي أو ولاء أو حتى معرفة، بل يعتمد الأمر على شللية خاصة، وعلى الولاء الشخصي، وتغليب مبدأ "كل واصمت"!
وحتى لا يكون كلامنا عموميا، وحتى لا نتهم بأننا نكتفي بالانتقاد وبث الأحقاد (ضد مصر ومهرجان مصر الذي يخوفنا به البعض) نحدد النقاط التالية التي نراها ضرورية لإعادة النظر في سياسة المهرجان ودوره وتنظيمه وآلية عمله:
1- يجب أولا وقبل كل شئ، وضع لائحة جديدة لهذا المهرجان بحيث تستبعد البنود المضحكة التي تنص على "حق كل دولة بالمشاركة في المسابقة الرسمية بأكثر من فيلم) وجعل المهرجان مهرجانا للمخرجين وليس للدول أو لشركات الإنتاج، على غرار المهرجانات العالمية التي لا يكتب اسم الفيلم فيها مصحوبا باسم دولة معينة، بل باسم المخرج والجهات الإنتاجية التي شاركت في إنتاجه، وقد تكون من بلدان عدة.
2- اعتبار المهرجان مؤسسة مستقلة تدعمها الدولة (مثل مؤسسة بي بي سي أو مركز الفيلم البريطاني وهاتان التجربتان كان كاتب المقال قريبا منهما لأكثر من 20 عاما). وفي هذه الحالة يجب أن يتشكل للمهرجان هيكل إداري يواصل العمل طوال السنة، وأن يتم التعيين في وظائفه بناء على مسابقات مفتوحة وبعد الإعلان عنها في الصحف. ويجب تخصيص مقر صالح للمهرجان طول العام.
3- وزير الثقافة هو الذي يقترح اسم مدير المهرجان ويكلفه بمباشرة مهام منصبه (يلغى تماما منصب رئيس المهرجان على أن يكتفى بمنصب رئيس اللجنة العليا للمهرجان يكون هو الوزير نفسه)، ثم يطرح الوزير الإسم المقترح على اللجنة العليا للاقتراع عليه، وفي حالة الموافقة يتم التعاقد معه لمدة 4 سنوات قابلة للامتداد لمدة أخرى فقط.
4- مدير المهرجان هو المسؤول الأول والأخير عن اختيار الأفلام على أن تساعده في ذلك لجان للاختيار ومستشارون لكن القرار النهائي له، لذا يجب أن يتمتع بالخبرة والمعرفة ولا يشترط على الإطلاق أن يكون من الممثلين أو نجوم التليفزيون والسينما، فهذا الأمر لا يحدث سوى في مصر فقط التي أضحت أضحوكة في هذا المجال.
5- لا يسمح بمشاركة اي فيلم لا تنطبق عليه شروط المسابقة: يجب أن يكون من انتاج ما بعد يوليو العام السابق، أي لم يمض على إنتاجه أكثر من 6 أشهر. ولا يسمح بعرض أفلام لا تصاحبها ترجمة عربية (اليكترونية) على أن تجهز الشاشات التي تعرض أفلام المسابقة للجمهور لعرض هذه الترجمة.
6- وضع نظام صارم لعرض الأفلام يفرض الالتزام بالمواعيد بدقة، وبالفيلم المحدد في الجدول، ويفرض غرامات مالية باهظة على أصحاب دور العرض المتعاقد معها لعرض أفلام المهرجان في حالة المخالفة.
7- تقليص عدد الأفلام والأقسام داخل المهرجان بحيث لا تتجاوز 5 أقسام و80 فيلما طويلا في كل الأحوال حتى يصلح عمل برنامج عملي لعرضها، على أن يتم عرض الفيلم المشارك في المسابقة مرة للصحفيين ومرتين للجمهور فقط ولا يتم تجاوز ذلك. وتعامل الأفلام على قدم المساواة.
8- تخصيص قاعة مناسبة لعرض الأفلام على النقاد والصحفيين المصريين والضيوف تكون أيضا مجهزة بآلات عرض الترجمة الاليكترونية باللغة العربية.
9- حظر دخول كاميرات التليفزيون المصري إلى قاعات العرض لتصوير أجزاء من الأفلام أثناء عرضها لما في ذلك من اعتداء صارخ على حقوق الملكية الفكرية ومظهر من مظاهر الفوضى والتخلف، وإعداد اسطوانات (سي دي) تتضمن لقطات من كل الأفلام المشاركة في المهرجان لا تتجاوز كل مجموعة منها (من فيلم واحد) أكثر من دقيقتين لتوزيعها على ممثلي محطات التليفزيون بما في ذلك التليفزيون المصري، ودعم المكتب الصحفي واعتبار وظيفة مدير المركز الصحفي للمهرجان وظيفة عليا تلي في أهميتها منصب مدير المهرجان، وليس كما هو معتاد مجرد منسق لتوزيع البطاقات والمطبوعات.
10- التدقيق في الدليل الرسمي للمهرجان بحيث لا يتضمن ذكرا لأي فيلم لم تصل نسخته بالفعل إلى المهرجان تمهيدا لعرضه، والاهتمام بتنظيم المناقشات والندوات الصحفية التي تعقب عروض الأفلام، وتخصيص ترجمة فورية لها بعدة لغات (العربية والانجليزية والفرنسية).
في حالة تطبيق هذه النقاط بجدية، وإذا كانت هناك رغبة حقيقية يمكن النهوض بهذا المهرجان الذي أصبحت سمعته في الحضيض، وأصبح الكثيرون في الخارج يتندرون بالقول "إنه يحتوي على كل شئ: الطعام الجيد، والنزهة الجميلة، والبلد المضياف، لكنه يفتقر إلى شيئين فقط هما: النظام والسينما!
ولكن يبقى سؤال آخر كبير: هل يمكن إدخال تغيير حقيقي على مؤسسة تخضع لكيان أكبر بات يعاني من تخبط وحيرة وتشتت من يلفظ أنفاسه الأخيرة!

الأحد، 16 نوفمبر 2008

تمرّغ يا أميرَ النفطِ.. فوقَ وحولِ لذّاتكْ

هذه قصيدة للشاعر العظيم نزار قباني في هجاء بهائم القبيلة الملعونة الممسوسة بالنفط والغباء ومعاداة الثقافة والفكر وكراهية كل من يذكرهم بما كانوا عليه في الماضي القريب من عفن في صحراء الخراب، قبل أن يأتي ابن سعود الأجرب ليجعل من نفسه ملكا على الأشراف وهو لا يصلح إلا ملكا على الماعز والأبقار.


الحب والبترول


متى تفهمْ ؟

متى يا سيّدي تفهمْ ؟

بأنّي لستُ واحدةً كغيري من صديقاتكْ
ولا فتحاً نسائيّاً يُضافُ إلى فتوحاتكْ
ولا رقماً من الأرقامِ يعبرُ في سجلاّتكْ ؟

متى تفهمْ ؟

متى تفهمْ ؟

أيا جَمَلاً من الصحراءِ لم يُلجمْ

ويا مَن يأكلُ الجدريُّ منكَ الوجهَ والمعصمْ

بأنّي لن أكونَ هنا.. رماداً في سجاراتكْ

ورأساً بينَ آلافِ الرؤوسِ على مخدّاتكْ

وتمثالاً تزيدُ عليهِ في حمّى مزاداتكْ

ونهداً فوقَ مرمرهِ.. تسجّلُ شكلَ بصماتكْ

متى تفهمْ ؟

متى تفهمْ ؟

بأنّكَ لن تخدّرني.. بجاهكَ أو إماراتكْ

ولنْ تتملّكَ الدنيا.. بنفطكَ وامتيازاتكْ

وبالبترولِ يعبقُ من عباءاتكْ

وبالعرباتِ تطرحُها على قدميْ عشيقاتكْ

بلا عددٍ.. فأينَ ظهورُ ناقاتكْ

وأينَ الوشمُ فوقَ يديكَ..

أينَ ثقوبُ خيماتكْ

أيا متشقّقَ القدمينِ.. يا عبدَ انفعالاتكْ

ويا مَن صارتِ الزوجاتُ بعضاً من هواياتكْ

تكدّسهنَّ بالعشراتِ فوقَ فراشِ لذّاتكْ

تحنّطهنَّ كالحشراتِ في جدرانِ صالاتكْ

متى تفهمْ ؟

متى يا أيها المُتخمْ ؟

متى تفهمْ ؟

بأنّي لستُ مَن تهتمّْ بناركَ أو بجنَّاتكْ

وأن كرامتي أكرمْ.. منَ الذهبِ المكدّسِ بين راحاتكْ

وأن مناخَ أفكاري غريبٌ عن مناخاتكْ

أيا من فرّخَ الإقطاعُ في ذرّاتِ ذرّاتكْ

ويا مَن تخجلُ الصحراءُ حتّى من مناداتكْ
متى تفهمْ ؟
تمرّغ يا أميرَ النفطِ.. فوقَ وحولِ لذّاتكْ

كممسحةٍ.. تمرّغ في ضلالاتكْ

لكَ البترولُ.. فاعصرهُ على قدَمي خليلاتكْ

كهوفُ الليلِ في باريسَ.. قد قتلتْ مروءاتكْ

على أقدامِ مومسةٍ هناكَ.. دفنتَ ثاراتكْ

فبعتَ القدسَ.. بعتَ الله.. بعتَ رمادَ أمواتكْ

كأنَّ حرابَ إسرائيلَ لم تُجهضْ شقيقاتكْ
ولم تهدمْ منازلنا.. ولم تحرقْ مصاحفنا

ولا راياتُها ارتفعت على أشلاءِ راياتكْ

كأنَّ جميعَ من صُلبوا.. على الأشجارِ..

في يافا.. وفي حيفا. وبئرَ السبعِ..

ليسوا من سُلالاتكْ

تغوصُ القدسُ في دمها.. وأنتَ صريعُ شهواتكْ

تنامُ.. كأنّما المأساةُ ليستْ بعضَ مأساتكْ

متى تفهمْ ؟

متى يستيقظُ الإنسانُ في ذاتكْ ؟
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger