الأربعاء، 19 نوفمبر 2008

فيلم"كسكسي بالسمك": تماسك إنساني وحب ممزوج بالألم



يعتبر فوز فيلم "كسكسي بالسمك" (أو حسب عنوانه الفرنسي La Graine et le mullet) للمخرج التونسي المقيم في فرنسا عبد اللطيف قشيش بثلاث من جوائز سيزار الفرنسية لأحسن فيلم وأحسن إخراج وأحسن ممثلة مساعدة، نقلة كبيرة بالنسبة للسينما التي يصنعها المهاجرون العرب في أوروبا.
و"سيزار" هي المسابقة السنوية بين الأفلام الفرنسية على غرار جوائز الأوسكار الأمريكية. ويتيح الفوز بجوائزها الفرصة عادة أمام الفائزين بها لتحقيق مشاريع سينمائية أكثر طموحا، تماما كما حدث مع المخرج عبد اللطيف قشيش نفسه، فقد سبق له الفوز بأربع من جوائز سيزار عن فيلمه الروائي الثاني "المراوغة" L'esquive قبل 5 سنوات، وهو ما جعل المنتج الفرنسي كلود بيري يمنحه دعما ماليا مفتوحا لتحقيق فيلمه التالي.
نوعية جديدة
أما لماذا يعد الفيلم نقلة في هذه النوعية من الأفلام التي يصنعها سينمائيون عرب في المهجر الأوروبي فلعل هذا يعود إلى الأسباب التالية:
* ابتعاده عن المواضيع التقليدية التي تسود هذا النوع من الأفلام التي يصنعها سينمائيون من أصول مغاربية حول قضية العلاقة مع "الآخر" في بلدان المهجر، وعلى الأخص فرنسا. هذه المواضيع كانت عادة تدور حول الهجرة، وأوضاع المهاجرين على هامش المجتمع الفرنسي وما يتعرضون له من عنصرية، ويتركز اهتمامها على أزمة الهوية والإحساس بالاغتراب وعدم التجانس.
* الابتعاد عن الصورة النمطية لمشاهد الفولكلور المغاربي وتصوير العادات العربية والإسلامية من منظور استشراقي، بطريقة لا تتيح مسافة بين المتفرج الأوروبي والصور، بحيث ينبهر هذا المتفرج بما يراه بسبب "غرابة" الصورة، لكنه يشعر، في الوقت نفسه، بالنفور واحيانا، بالتقزز بسبب ذلك الاختلاف النمطي عن "الصورة الغربية المتحضرة".
* عدم التركيز على القوالب المألوفة مثل موضوع اضطهاد الرجل للمرأة، والتطرف الديني، والكبت الجنسي، وختان الإناث، والوقوع في الجريمة.. وغير ذلك من قوالب يصلح أن نطلق عليها "تعليب صور التخلف السطحية على الشاشة".
يؤكد الفيلم على فكرة التمسك بالهوية، ولكن بدون الوقوع في النمطية والقولبة
ولعلنا لو طبقنا مقاييس الفيلم الأمريكي التقليدي الشائع، أو الفيلم السائد عموما استنادا إلى النموذج الأمريكي وحده، على فيلم "كسكسي بالسمك" سيكون من الطبيعي أن نعتبره عملا بدائيا تغيب عنه "الحبكة" ويعاني من الترهل والإطالة والاستطرادات واللقطات القريبة الطويلة المرهقة، ويغيب عنه الوضوح في موضوعه أو نهايته، وعدم تماسك بنائه وجمود مشاهده ولقطاته.
أما الحقيقة فهي أننا أمام عمل فني يبحر في اتجاه مخالف للسينما السائدة، ويتمثل الأعمال السينمائية الفنية التي تملك منهجها الخاص في التعامل مع الصورة. وهو بهذا المعنى يعد أيضا عملا "تجريبيا" على نحو ما، يصور دراما تدور في محيط محدد ومن خلال شخصيات محددة، لكنه يعتمد أسلوبا تسجيليا له جمالياته وإيقاعه الخاص.
ولكن ما هو الموضوع أولا؟
دراما عائلية
موضوع الفيلم بسيط للغاية، فهناك شخصية رئيسية هي شخصية سليمان وهو مهاجر تونسي في الستينات من عمره، يعمل منذ 35 عاما في بناء السفن في ميناء مارسيليا، ويبدأ الفيلم وضاحب العمل يبلغه بالاستغناء عن خدماته بدعوى أنه لم يعد يستطع أداء عمله مع تقدمه في السن.
سليمان كان متزوجا من "سعاد" المعروفة بمهارتها في إعداد الكسكسي بالسمك على الطريقة التونسية، ولديه منها عدد من الأبناء هم مجيد المتزوج من جوليا الفرنسية ولكنه يرتبط بعلاقة مع امرأة فرنسية أخرى متزوجة، ورياض الإبن الأصغر، وكريمة، وليلى (المتزوجة من هنري وهو روسي يتعلم العربية). ولدى سليمان عدد كبير من الأحفاد أيضا.
وهكذا، من البداية يدخلنا الفيلم في اطار تلك الدراما العائلية المتشابكة التي ترتبط أيضا بمحيط خارجي من الأصدقاء والمعارف، من المهاجرين الذين يرتبط بهم سليمان من محبي الموسيقى العربية وعازفيها (تأكيدا على الارتباط بالهوية).
سليمان الذي يحمل كل إصرار الجيل الأول من المهاجرين، لا يفقد رشده ولا ينهار بعد أن يفقد عمله، بل يخطر له شراء سفينة قديمة متهالكة راسية على الشاطئ لكي يحولها إلى مطعم يتخصص في تقديم الكسكسي بالسمك. وهو يبذل كل جهده من أجل العثور على جهة تقرضه مبلغا يستطيع بواسطته أن يحول السفينة القديمة إلى مطعم عائم.
أصدقاؤه يسخرون من فكرته في البداية، ثم يقول له أحدهم ساخرا أنه لابد سيحصل على ترخيص "طالما أنه لا يعتزم بناء مسجد"، ويحاول أبناؤه دفعه دفعا للعودة إلى الوطن مع الاكتفاء بما سيحصل عليه من مبلغ شهري كمنحة تقاعد. الوحيدة التي تقف معه وتسانده هي "ريم" ابنة صديقته.
ومن أجل اقناع الجهات المسؤولة عن اقراضه ومنحه ترخيصا وشهادة صحية بجدوى فكرته، يقرر سليمان اقامة حفل عشاء يدعو إليه مسؤولي البلدية والبنك وأصدقاءه وأبناء أسرته، على أن تعد زوجته السابقة الطعام (الكسكسي بالسمك)، ويعزف أصدقاؤه الموسيقى العربية الراقصة.
المخرج استخدم الكاميرا بطريقة خاصة للتلصص على الشخصيات ومراقبتها طول الوقت
ويحضر الجميع، وينتظرون بفارغ صبر وصول الطعام، لكنه لا يصل لأن "مجيد" نسيه في حقيبة سيارته وفر من المكان حتى يتفادى مواجهة مع زوج عشيقته الفرنسية وأزمة محتملة مع زوجته التي تشك بالأمر.
ويقع سليمان في مأزق. فماذا سيقدم للمدعوين. ويبذل أفراد الأسرة كل جهد للترفيه عن المدعوين بتقديم المشروبات لكسب الوقت إلى حين احضار الطعام، ويذهب سليمان على دراجته إلى منزل زوجته السابقة لكي يطلب منها اعداد طعام بديل لكنه لا يجدها، وتذهب لطيفة لاعداد كمية أخرى من الكسكسي، ويكتشف سليمان استيلاء بعض الأولاد على دراجته فيأخذ في مطاردتهم وهو المنهك صحيا وجسديا ولكن بلا جدوى.
يطول انتظار المدعوين فتسعى ريم لشد أنظارهم وابقائهم في مقاعدهم بتقديم وصلة طويلة من الرقص الشرقي لا يبدو أنها ستنتهي. وينتهي الفيلم ولكن دون نهاية محددة قاطعة، بل يترك المخرج المؤلف كل الاحتمالات مفتوحة. فقد يكون سليمان قد سقط ميتا من الإرهاق، وقد يكون قد عاد بعد ان تمكنت لطيفة من تدبير طعام بديل للضيوف، ونجح في النهاية في الحصول على ترخيص بافتتاح المطعم.
عين الكاميرا
المؤكد أن المخرج عبد اللطيف قشيش لم يشأ أن يتبع أسلوبا في السرد narrative يقوم على الحبكة المحكمة المغلقة، بل على أسلوب السرد المفتوح والمتحرر كثيرا، سواء في بناء المشاهد أو الشخصيات.
فقد أبقى مثلا على الكثير من الاستطرادات التي قد يعتبرها سينمائيون آخرون زائدة عن الحاجة، وركز على الحوارات التلقائية الطويلة، وعلى اللقطات القريبة "كلوز أب" في مشاهد المشاجرات بين أفراد العائلة، واعتمد اعتمادا أساسيا على الكاميرا الثابتة، مع استخدام الحركة الأفقية pan في الانتقال بين وجوه الشخصيات من اليمين إلى اليسار وبالعكس خصوصا في تصويره لمشاهد تناول الطعام.
إنه يضع الكاميرا في قلب المشهد داخل غرفة تناول الطعام مثلا، وسط أكثر من عشر شخصيات وعدد آخر من الأطفال، ويظل ينتقل بها من وجه لآخر، ومن شخصية إلى أخرى، في لقطات قريبة تثير ارتباك أكثر الممثلين خبرة، لكننا لا نشعر بوجودها هنا بل نرى نتيجتها المدهشة التي تتمثل في تقائية الأداء وانسجام الشخصيات، وتداخل الأصوات أحيانا دون أن نقفد القدرة على المتابعة، بل يضفي هذا كله مزيدا من الصدق على المشاهد. وهذا الأسلوب تحديدا هو ما نصفه بأنه مغامرة في التجريب خارج السائد.
من ابرز جوانب الفيلم أيضا الأداء المتميز لمجموعة الممثلين جميعا
ويعد الفيلم دراسة بصرية ممتعة بالكاميرا للشخصيات، وبدرجة أساسية لشخصية سليمان، الذي نراه في عمله ثم في سعيه للحصول على تمويل لمشروعه، ثم لقاءاته مع أصدقائه على المقهى أو في المقصف، ثم كيف يعجز عن ممارسة الحب، وكيف يرتبط بأفراد أسرته، يحنو عليهم جميعا دون قمع أو قسوة.
تتخذ الكاميرا في الفيلم صفة المراقب الدخيل الذي لا يراه ولا يشعر به أحد، وهي في هذا السياق "عين المخرج" الموضوعية التي لا تريد أن تتدخل بل تكتفي بالتلصص على ما يفعله أبطالنا البسطاء.. أبطال من خارج سينما البطولة بل من قلب سينما يمكن أن نطلق عليها بثقة "سينما النثرات الصغيرة والأفكار الكبيرة".
ولعل شخصية سليمان من أقل الشخصيات تعبيرا عن نفسها بالكلام في الفيلم، فهو يظهر معظم الوقت مطرقا صامتا يخفي ألما نبيلا وكبرياء كبيرة في مواجهة أزمته، لا يثور ولا يحتج، بل يفكر كيف يمضي قدما في تحقيق مغامرته، كأنها أصبحت سلاحه الوحيد لإعلان تمسكه بالحياة والعيش في هذا البلد الذي اعطاه خلاصة عمره.
من ناحية يمكن القول إن هذا فيلم عن التضامن الإنساني، والتساند بين جيل المهاجرين الأوائل، وعن الدفء والاهتمام الذي توفره الأسرة رغم كل ما يدور تحت السطح من خلافات وتناقضات تنعكس على أفرادها، لكن دون أن تصبح مشاكلها في المجتمع الفرنسي مشاكل"فريدة" بل جزءا من مشاكل المجتمع نفسه على نحو ما.
ولكن من ناحية أخرى هناك أيضا نقد واضح للطريقة الخشنة الغليظة التي يتخلص بها صاحب العمل الفرنسي من سليمان بعد أن أفنى عمره في العمل لديه، وهناك أيضا تشريح للتناقضات بين جيلي الآباء والأبناء، استغراق الأبناء في مشاكلهم الخاصة أو في البحث عن متع عابرة، مشاجراتهم وخياناتهم واحباطاتهم ولكنهم في كل الأوقات مترابطون.
التلقائية والواقعية
فيلم "كسكسي بالسمك" يؤكد على فكرة التمسك بالهوية، ولكن بدون الوقوع في النمطية والقولبة رغم مشاهد طهي الطعام وصبه في الأواني الضخمة ثم نقله، ومشاهد الغناء الجماعي وغيرها، فهذه المشاهد لا تبدو مقصودة في حد ذاتها، بل كجزء عضوي من نسيج الفيلم نفسه، وهو ما يجعلها تفلت من مصيدة الفولكلور.
ويستخدم المخرج الزمن الحقيقي في تصوير مشهد الحفل، ويوحي بامتداده وطوله أكثر عندما ينتقل بينه وبين بحث سليمان عن مجيد وسعاد ومطاردته لمجموعة أولاد من الجيل الثالث من المهاجرين أخذوا يسخرون منه ويرهقونه دون أدنى شعور بما يعانيه من ألم.
ويمتلئ الفيلم بالمشاجرات التي تبدو شديدة التلقائية، يكثر فيها الصياح والمشاحنات العائلية أثناء تناول الطعام، والصياح على الأبناء، ومعاقبة الأطفال، والتمرد العنيف من جانب "ريم" على أمها، وكيف تسعى إلى استفزاز مشاعر الأنوثة فيها بشتى الطرق، حتى بالصياح والبكاء، لكي تقنعها بالذهاب إلى الحفل وعدم ترك المجال مفتوحا للزوجة السابقة.
إن هذه المشاهد التي يقف وراءها مخرج وممثلون وكاميرا، تصل إلى ذروة الواقعية في الأداء والصورة وحركة الممثلين، وقد لا يتصور كثيرون أنها مشاهد تمثيلية بسبب تلقائيتها الشديدة.
ويصل الفيلم إلى ذروته المغلفة بالحزن في مشهد الرقص الأخير، الذي يتناقض عن قصد مع معاناة سليمان التي تصل إلى ذروتها مع سقوطه في النهاية بينما هو يبحث عن فرصة للتماسك والبقاء في قلب الحياة.
ولعل وعلى رأسهم بالتأكيد حبيب بوفارس في دور سليمان، وبوراوية مرزوق في دور سعاد، وحفظية حيرزي التي تألقت في دور "ريم" واستحقت عليه جائزة أحسن ممثلة مساعدة من جوائز "سيزار".
ومعظم الممثلين والممثلات في هذا الفيلم من الهواة الذين يقفون للمرة الأولى أمام الكاميرا، ولاشك أن الفضل في السيطرة المدهشة على أداء الممثلين والقدرة على استخراج أقصى امكانياتهم في التعبير تعود بالدرجة الأساسية إلى المخرج عبد اللطيف قشيش الذي بدأ مشواره السينمائي أصلا كممثل بدأ في فيلم "الشاي في حريم أرشميدس" (1984) للمخرج من أصل جزائري مهدي شريف، ولايزال يمثل وأحدث أدواره في فيلم "معذرة أيها الكارهون" Sorry Haters الذي يتناول العلاقة المتوترة بين العرب في أمريكا والأمريكيين في نيويورك بعد أحداث 11 سبتمبر.
فيلم "كسكسي بالسمك" هو أساسا عمل يرغب صانعه في أن يعيد "أنسنة" صورة المهاجرين العرب في فرنسا أمام المتفرج الغربي عموما، فهم كما نراهم هنا، أناس لهم مشاكلهم وصراعاتهم وتناقضاتهم وخياناتهم الصغيرة، بل إن لهم أيضا عالمهم الخاص بتفاصيله الخاصة التي لا تنفصل كما يؤكد الفيلم في كل مشهد من مشاهده، عن مشاكل المحيط الأكبر من حولهم، عن المجتمع الفرنسي عموما، وهو ما يجلهم بعيدين عن الصورة المتكررة للضحية التي لا تملك مصائرها.
ولعل في هذه النقطة تحديدا تكمن قوة الفيلم.

الثلاثاء، 18 نوفمبر 2008

مشكلة مهرجان القاهرة السينمائي


هل نقد المهرجان "مؤامرة" لتشويه سمعة مصر
(المقال منشور في جريدة "البديل" المصرية بتاريخ 17 نوفمبر)

يتعرض مهرجان القاهرة السينمائي منذ فترة طويلة، لانتقادات واسعة النطاق في الصحافة والإعلام بشكل عام، داخل وخارج مصر. وكاتب هذا المقال من ضمن الذين كتبوا مرارا عن سلبيات هذا المهرجان، وأشار إلى الكثير من نقاط ضعفه. فلماذا كل هذه الانتقادات والكتابات؟
هل الذين ينتقدون مهرجان القاهرة يرغبون مثلا في رؤيته قد اختفى من على وجه الأرض؟ أم هل يرغبون في إهالة التراب على "منجز" وطني مصري الأمر الذي قد يعتبره البعض أقرب إلى "الخيانة" الوطنية، أو خدمة أهداف الأعداء المتربصين ليلا ونهارا لمصر المسكينة المستهدفة في الداخل والخارج؟!
أم تراهم يرغبون في صرف القائمين على أمر هذا المهرجان لكي يتولوا هم مسؤولياته وتصريف أموره وكأن المسألة أساسا صراع على "الرزق" أو الوجاهة وحب الظهور!
الحقيقة أن "مشكلة" مهرجان القاهرة السينمائي قائمة منذ سنوات طويلة. ليس لأن هناك مؤامرة أو رغبة في الإساءة لصورة مصر، ولا رغبة في الحصول على مناصب أو تكليفات من أي نوع، على الأقل بالنسبة لكاتب هذه السطور الذي ترك البلد بما فيها منذ زمن "لأصحابها" بعد أن تيقن من أنه لا طائل من وراء العمل في إطار نظام يعجز المرء من خلاله عن تحقيق طموحاته وآماله وأحلامه التي يرغب ويتمنى أن يراها لبلده، فالمثقف المصري، مهما اغترب وطالت غربته، يظل يحلم بالعودة إلى محيطه الطبيعي، ليعطي مما اكتسبه من معارف وخبرات إلى أهله وناسه وشعبه.
ولكن ماذا نفعل وأمامنا مشكلة تتضخم عاما بعد عام، وخطيئة ترتكب ويتم التستر عليها بانتظام باسم مصر مع تخويف كل من يوجه النقد للمهرجان والقائمين عليه من فكرة أنه "يهاجم مصر"، على نحو يذكرنا بما اعتاد عليه الرئيس الراحل أنور السادات الذي كان دائما ما يربط بين الانتقادات التي كانت توجه إلى سياساته، وبين اسم مصر.
أما مشكلة مهرجان القاهرة السينمائي فتنبع من الأساس الواهي الذي يقوم عليه، فهو ليس مؤسسة حكومية تخضع بالكامل للدولة ممثلة في وزارة الثقافة، ولا هو مؤسسة من مؤسسات المجتمع المدني تقدم خدمة عامة بدعم من الوزارة.
ويترتب على ذلك أن هذا المهرجان كان ولايزال، يدار بطريقة الهواة والتجريبيين، تسند رئاسته عادة إلى من لا علاقة لهم بالإدارة عموما، بل ولا دراية لهم أيضا بكل جوانب العمل في المهرجانات السينمائية الدولية الكبيرة أو التي ترغب في أن تكون كبيرة، ويعتمد المهرجان على العمل الموسمي مثل عمال التراحيل والباحثين عما يعرف بـ"السبوبة" السريعة دون أي جهد حقيقي أو ولاء أو حتى معرفة، بل يعتمد الأمر على شللية خاصة، وعلى الولاء الشخصي، وتغليب مبدأ "كل واصمت"!
وحتى لا يكون كلامنا عموميا، وحتى لا نتهم بأننا نكتفي بالانتقاد وبث الأحقاد (ضد مصر ومهرجان مصر الذي يخوفنا به البعض) نحدد النقاط التالية التي نراها ضرورية لإعادة النظر في سياسة المهرجان ودوره وتنظيمه وآلية عمله:
1- يجب أولا وقبل كل شئ، وضع لائحة جديدة لهذا المهرجان بحيث تستبعد البنود المضحكة التي تنص على "حق كل دولة بالمشاركة في المسابقة الرسمية بأكثر من فيلم) وجعل المهرجان مهرجانا للمخرجين وليس للدول أو لشركات الإنتاج، على غرار المهرجانات العالمية التي لا يكتب اسم الفيلم فيها مصحوبا باسم دولة معينة، بل باسم المخرج والجهات الإنتاجية التي شاركت في إنتاجه، وقد تكون من بلدان عدة.
2- اعتبار المهرجان مؤسسة مستقلة تدعمها الدولة (مثل مؤسسة بي بي سي أو مركز الفيلم البريطاني وهاتان التجربتان كان كاتب المقال قريبا منهما لأكثر من 20 عاما). وفي هذه الحالة يجب أن يتشكل للمهرجان هيكل إداري يواصل العمل طوال السنة، وأن يتم التعيين في وظائفه بناء على مسابقات مفتوحة وبعد الإعلان عنها في الصحف. ويجب تخصيص مقر صالح للمهرجان طول العام.
3- وزير الثقافة هو الذي يقترح اسم مدير المهرجان ويكلفه بمباشرة مهام منصبه (يلغى تماما منصب رئيس المهرجان على أن يكتفى بمنصب رئيس اللجنة العليا للمهرجان يكون هو الوزير نفسه)، ثم يطرح الوزير الإسم المقترح على اللجنة العليا للاقتراع عليه، وفي حالة الموافقة يتم التعاقد معه لمدة 4 سنوات قابلة للامتداد لمدة أخرى فقط.
4- مدير المهرجان هو المسؤول الأول والأخير عن اختيار الأفلام على أن تساعده في ذلك لجان للاختيار ومستشارون لكن القرار النهائي له، لذا يجب أن يتمتع بالخبرة والمعرفة ولا يشترط على الإطلاق أن يكون من الممثلين أو نجوم التليفزيون والسينما، فهذا الأمر لا يحدث سوى في مصر فقط التي أضحت أضحوكة في هذا المجال.
5- لا يسمح بمشاركة اي فيلم لا تنطبق عليه شروط المسابقة: يجب أن يكون من انتاج ما بعد يوليو العام السابق، أي لم يمض على إنتاجه أكثر من 6 أشهر. ولا يسمح بعرض أفلام لا تصاحبها ترجمة عربية (اليكترونية) على أن تجهز الشاشات التي تعرض أفلام المسابقة للجمهور لعرض هذه الترجمة.
6- وضع نظام صارم لعرض الأفلام يفرض الالتزام بالمواعيد بدقة، وبالفيلم المحدد في الجدول، ويفرض غرامات مالية باهظة على أصحاب دور العرض المتعاقد معها لعرض أفلام المهرجان في حالة المخالفة.
7- تقليص عدد الأفلام والأقسام داخل المهرجان بحيث لا تتجاوز 5 أقسام و80 فيلما طويلا في كل الأحوال حتى يصلح عمل برنامج عملي لعرضها، على أن يتم عرض الفيلم المشارك في المسابقة مرة للصحفيين ومرتين للجمهور فقط ولا يتم تجاوز ذلك. وتعامل الأفلام على قدم المساواة.
8- تخصيص قاعة مناسبة لعرض الأفلام على النقاد والصحفيين المصريين والضيوف تكون أيضا مجهزة بآلات عرض الترجمة الاليكترونية باللغة العربية.
9- حظر دخول كاميرات التليفزيون المصري إلى قاعات العرض لتصوير أجزاء من الأفلام أثناء عرضها لما في ذلك من اعتداء صارخ على حقوق الملكية الفكرية ومظهر من مظاهر الفوضى والتخلف، وإعداد اسطوانات (سي دي) تتضمن لقطات من كل الأفلام المشاركة في المهرجان لا تتجاوز كل مجموعة منها (من فيلم واحد) أكثر من دقيقتين لتوزيعها على ممثلي محطات التليفزيون بما في ذلك التليفزيون المصري، ودعم المكتب الصحفي واعتبار وظيفة مدير المركز الصحفي للمهرجان وظيفة عليا تلي في أهميتها منصب مدير المهرجان، وليس كما هو معتاد مجرد منسق لتوزيع البطاقات والمطبوعات.
10- التدقيق في الدليل الرسمي للمهرجان بحيث لا يتضمن ذكرا لأي فيلم لم تصل نسخته بالفعل إلى المهرجان تمهيدا لعرضه، والاهتمام بتنظيم المناقشات والندوات الصحفية التي تعقب عروض الأفلام، وتخصيص ترجمة فورية لها بعدة لغات (العربية والانجليزية والفرنسية).
في حالة تطبيق هذه النقاط بجدية، وإذا كانت هناك رغبة حقيقية يمكن النهوض بهذا المهرجان الذي أصبحت سمعته في الحضيض، وأصبح الكثيرون في الخارج يتندرون بالقول "إنه يحتوي على كل شئ: الطعام الجيد، والنزهة الجميلة، والبلد المضياف، لكنه يفتقر إلى شيئين فقط هما: النظام والسينما!
ولكن يبقى سؤال آخر كبير: هل يمكن إدخال تغيير حقيقي على مؤسسة تخضع لكيان أكبر بات يعاني من تخبط وحيرة وتشتت من يلفظ أنفاسه الأخيرة!

الأحد، 16 نوفمبر 2008

تمرّغ يا أميرَ النفطِ.. فوقَ وحولِ لذّاتكْ

هذه قصيدة للشاعر العظيم نزار قباني في هجاء بهائم القبيلة الملعونة الممسوسة بالنفط والغباء ومعاداة الثقافة والفكر وكراهية كل من يذكرهم بما كانوا عليه في الماضي القريب من عفن في صحراء الخراب، قبل أن يأتي ابن سعود الأجرب ليجعل من نفسه ملكا على الأشراف وهو لا يصلح إلا ملكا على الماعز والأبقار.


الحب والبترول


متى تفهمْ ؟

متى يا سيّدي تفهمْ ؟

بأنّي لستُ واحدةً كغيري من صديقاتكْ
ولا فتحاً نسائيّاً يُضافُ إلى فتوحاتكْ
ولا رقماً من الأرقامِ يعبرُ في سجلاّتكْ ؟

متى تفهمْ ؟

متى تفهمْ ؟

أيا جَمَلاً من الصحراءِ لم يُلجمْ

ويا مَن يأكلُ الجدريُّ منكَ الوجهَ والمعصمْ

بأنّي لن أكونَ هنا.. رماداً في سجاراتكْ

ورأساً بينَ آلافِ الرؤوسِ على مخدّاتكْ

وتمثالاً تزيدُ عليهِ في حمّى مزاداتكْ

ونهداً فوقَ مرمرهِ.. تسجّلُ شكلَ بصماتكْ

متى تفهمْ ؟

متى تفهمْ ؟

بأنّكَ لن تخدّرني.. بجاهكَ أو إماراتكْ

ولنْ تتملّكَ الدنيا.. بنفطكَ وامتيازاتكْ

وبالبترولِ يعبقُ من عباءاتكْ

وبالعرباتِ تطرحُها على قدميْ عشيقاتكْ

بلا عددٍ.. فأينَ ظهورُ ناقاتكْ

وأينَ الوشمُ فوقَ يديكَ..

أينَ ثقوبُ خيماتكْ

أيا متشقّقَ القدمينِ.. يا عبدَ انفعالاتكْ

ويا مَن صارتِ الزوجاتُ بعضاً من هواياتكْ

تكدّسهنَّ بالعشراتِ فوقَ فراشِ لذّاتكْ

تحنّطهنَّ كالحشراتِ في جدرانِ صالاتكْ

متى تفهمْ ؟

متى يا أيها المُتخمْ ؟

متى تفهمْ ؟

بأنّي لستُ مَن تهتمّْ بناركَ أو بجنَّاتكْ

وأن كرامتي أكرمْ.. منَ الذهبِ المكدّسِ بين راحاتكْ

وأن مناخَ أفكاري غريبٌ عن مناخاتكْ

أيا من فرّخَ الإقطاعُ في ذرّاتِ ذرّاتكْ

ويا مَن تخجلُ الصحراءُ حتّى من مناداتكْ
متى تفهمْ ؟
تمرّغ يا أميرَ النفطِ.. فوقَ وحولِ لذّاتكْ

كممسحةٍ.. تمرّغ في ضلالاتكْ

لكَ البترولُ.. فاعصرهُ على قدَمي خليلاتكْ

كهوفُ الليلِ في باريسَ.. قد قتلتْ مروءاتكْ

على أقدامِ مومسةٍ هناكَ.. دفنتَ ثاراتكْ

فبعتَ القدسَ.. بعتَ الله.. بعتَ رمادَ أمواتكْ

كأنَّ حرابَ إسرائيلَ لم تُجهضْ شقيقاتكْ
ولم تهدمْ منازلنا.. ولم تحرقْ مصاحفنا

ولا راياتُها ارتفعت على أشلاءِ راياتكْ

كأنَّ جميعَ من صُلبوا.. على الأشجارِ..

في يافا.. وفي حيفا. وبئرَ السبعِ..

ليسوا من سُلالاتكْ

تغوصُ القدسُ في دمها.. وأنتَ صريعُ شهواتكْ

تنامُ.. كأنّما المأساةُ ليستْ بعضَ مأساتكْ

متى تفهمْ ؟

متى يستيقظُ الإنسانُ في ذاتكْ ؟

السبت، 15 نوفمبر 2008

احتكارالدولة للثقافة والبحث عن ثقافة بديلة



الدولة المصرية تصر وتؤكد ليلا ونهارا أنها فتحت كل الأبواب أمام القطاع الخاص ورجال الأعمال والاستثمارات الخاصة. وهي تتحدث كثيرا عن "الانفتاح" و"اقتصاد السوق" و"العرض والطلب" و"الخصخصة".
إلا أن الشواهد كلها تؤكد أن قبضة الدولة لاتزال قائمة، من الخلف، أي خلف كل رأسمال خاص أو رجل أعمال يحصل على شريحة كبيرة من السوق، تقف الدولة الرسمية أم ممثلي الدولة لحسابهم الخاص. ولم يعد سرا أن المال اختلط بالسياسة، وأصبحت العلاقة وثيقة بين الاثنين: من ينجح في السوق عليه أن يؤدي الضريبة في السياسة: للحزب ولدولة الحزب بالطبع، إن لم يكن لأفراد محددين في الدولة وليس لدولاب الحكم نفسه. وهذا ما ينكشف عنه الغطاء يوما بعد يوم في قضايا الفساد الشهيرة.
وفي الثقافة تتبع الدولة أو النظام الحاكم أو الحكومة (اختر ما يناسب ذوقك!) سياسة مشابهة، فهي تعلن أنها مع تشجيع المجتمع المدني والمبادرة الفردية لكنها لا تبدي عمليا ما يشير إلى أنها حقا مع هذا الاتجاه بل على العكس، تقبض بقوة على كل مواقع القوة، وترفض أن تدعم التجمعات المستقلة التي تتكون على استحياء هنا وهناك.
وفي حين أن الدولة ممثلة في وزارة الثقافة تمارس احتكارا للسلطة الثقافية، لا يتردد وزير الثقافة فاروق حسني في كل مناسبة في إعلان أن وزارته لا تمارس الثقافة، ولا تحتكر العمل الثقافى، وأنه مع إلغاء وزارة الثقافة!
إن تحرير الثقافة ليس مجرد كلمات، ولا شعارات، بل موضوع يرتبط أساسا بقضية الحرية في المجتمع عموما.
لاشك أن للدولة دورا مهما في دعم الثقافة في العالم الثالث، ولكن هذا الدور لا يتحدد على أساس من معي (أيديولوجيا وسياسيا) أساعده وأمده بالمال وأسمح له بالوجود والانتشار، أما من ليس معي فهو ضدي بالضرورة، وبالتالي أصادر حقه في الوجود المستقل، وأمنع عنه الماء والهواء، وأحظر ظهوره في أجهزة الإعلام المرئية والمسموعة كما يحدث بالفعل، فالثقافة المسموح لها بالوجود هي الثقافة التي تجاري السائد في المجتمع بدلا من الدعوة إلى تغييره، والتأسيس لثقافة أخرى تدريجيا تحل محل ثقافة "الموالاة" السائدة التي أثبتت إفلاسها.
إن مشكلة المثقف الديمقراطي المستنير أنه أصبح بلا مؤسسات عامة أو خاصة تحتضنه، يجدا نفسه في داخلها ويعبر من خلالها دون أن يخشى الهجوم المزدوج عليه: أولا من جانب المؤسسة الرسمية التي تعادي كل ما هو مستقل عنها أيديولوجيا كما ذكرت، وثانيا من جانب جماعات التطرف والتشنج الفكري والدعوة إلى استقالة المرأة من التاريخ وهروب الرجل خارج العقل والمنطق والانتحار في الماضي بحثا عن المدينة الفاضلة التي لا وجود لها.
إن الإرهاب والتطرف وكل الظواهر العنيفة تقتضي العمل على إرساء ثقافة أخرى: ديمقراطية، شفافة، تستند إلى مكتسبات الحضارة الإنسانية بأفق مفتوح، والاهم من هذا وذاك أنه لم يعد يجدي أن يختبئ المثقف الديمقراطي وراء لافتات ذات صبغة مهادنة، تتخلى طواعية عن برنامج التغيير المنشود ولو بعد سنوات أو تؤجله كما تؤجل المواجهة الفكرية التي لابد أنها ستأتي، وعندما ستنتهي فترة الـتأجيل يمكن جدا أن تتخذ تلك المواجهة أشكالا صدامية عنيفة.
ولنأخذ مثالا قضية العلمانية التي نجحت أصوات الماضويين في وصمها في عقول العامة بالكفر والإلحاد والمروق في حين غابت تماما الأصوات القادرة على تقديم الفكر العلماني كفكر "إنساني" يكفل ويؤكد ويكرس حرية الفرد وحرية العقيدة، بل ويوفر الحماية لممارسة العقائد، كل العقائد، في مجتمع مفتوح متعدد الأطياف.
ومن الصحيح القول بأنه ليس من الممكن الحديث عن الديمقراطية مع تجاهل العلمانية (أو تأجيلها أو إغفالها عمدا بدعوى تحاشي صدام لا نقدر عليه الآن)، بل إن هذا التراجع الدائم والمستمر والتخلي الطوعي عن إبراز سمات الثقافة الأخرى البديلة التي نريد الوصول إليها مستقبلا، هو الذي يزيد من مساحة الهزائم الفكرية، ويترك الفرصة سانحة دون أي تحد، أمام زحف قيم التصحر الفكري ومقاييسه وأشكاله الخارجية التي ترتبط عضويا بما تمثله.
ولاشك أن فاروق حسني عندما يدعو بشكل ما، إلى إلغاء وزارة الثقافة، فإنه لا يأمل في تفعيل مؤسسات المجتمع المدني المعطلة والمشلولة عن العمل، فهو يدرك جيدا أن الدولة لن تتخلى ببساطة عن فكرة "التوجيه" و"الإرشاد" التي سادت منذ الخمسينيات وسيطرت على ما يسمى بأجهزة الإعلام والثقافة الرسمية، بل ستمنح حق الممارسة الثقافية إلى مؤسسات رأس المال التي توجد أساسا، بقرار من الدولة الحالية ونظامها، وتحتمي بها وترتبط بمؤسساتها ولا يمكنها إلا أن تعمل لصالحها. وبهذا تكتمل الدائرة المفرغة التي لا مناص من الخروج منها بتحرير الثقافة وإعادتها إلى المثقفين الديمقراطيين.

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger