الأربعاء، 20 أغسطس 2008

فيلمان من المغرب والجزائر: تبديد المال بالتجريب في الهواء


لقطة من الفيلم الجزائري "روما ولا انتما"

تطرقت في مقال سابق إلى المخرجين العرب الذين يحصلون على دعم جيد لأفلامهم من جهات أوروبية تهتم بدعم أفلام البلدان النامية (وهو التعبير المهذب الشائع للبلدان الفقيرة) لكنهم لا يجيدون استخدام هذا الدعم، بل يبددونه في الهواء.
ولعل من النماذج الدالة على هذه الفرضية فيلمان: الأول هو الفيلم الروائي الثاني للمخرج المغربي فوزي بن سعيدي "دبليو دبليو دبليو. إنه حقا عالم رائع"، والثاني هو الفيلم الروائي الأول للمخرج الجزائري طارق تقية "روما ولا انتما" (أي رما أحسن منكم) وهو عنوان يعبر عن الرغبة في الهجرة.
الفيلم المغربي الذي حصل على تمويل فرنسي ألماني، يدور في مدينة الدار البيضاء من خلال شخصيات تتقاطع مسارات حياتها مصادفة. ورغبة المخرج أن يلمس ما يحدث في المغرب، ولكن عن طريق اللهو والتلاعب بالشكل: أسلوب الفيلم البوليسي ولكن بعد تكسيره وتحويله إلى عمل هزلي يستوحي اسلوب ما بعد الحداثة، وينقلك من مكان إلى آخر بدون أي مقدمات.
غياب الرؤية
المقارنة بين الأسلوب ما بعد الحداثي كما استخدمه الفلسطيني إيليا سليمان في فيلم "يد إلهية"، مقارنة لا مكان لها، فشتان بين العملين، فالفيلم المغربي يفتقد أساسا إلى وجود "رؤية" فلسفية أو إنسانية داخل هذه الدائرة اللامنطقية من الأحداث: قاتل محترف يستقي معلوماته من إشارات، يترجمها إلى أرقام، ثم إلى كلمات مرور عبر الانترنت، لكي يتلقى تعليمات بالقتل. وشاب آخر يرغب في الهجرة ويسعى لتزوير عقد عمل مع شركة ايطالية للحصول على تأشيرة، وعاهرة على علاقة بالقاتل، وصديقتها شرطية المرور التي تؤجر هاتفها المحمول في أوقات الفراغ.
وفوزي بن سعيدي من خلال أسلوب السرد الذي يستخدمه: القطع الخشن، والإضاءة المبهرة، والموسيقى الصاخبة حتى الفزع، والانتقال في المكان بطريقة مشوشة تماما، يجعل فيلمه أقرب إلى الإعلانات التليفزيونية المصورة (الفيديو كليب)، بل وعلى العكس تماما من الفيلم الفلسطيني، يفتقر إلى حس الفكاهة والمرح.
هناك حقا محاولة للتجريب في الشكل، خاصة وأن المخرج هو نفسه الكاتب والممثل الأول والمونتير، أي أنه يسيطر تماما على مادته بنفسه ويدفعها في الاتجاه الذي يريده. لكن محاولته التجريبية تبدو بعيدة نائية عن السينما التي تنتج في بلده، ولا يبدو أنها يمكن أن تلعب أي دور في تطويرها ونقلها خطوة إلى الأمام مستقبلا، وهو الهدف الأساسي للتجريب، وإلا
أصبح تجريبا في الهواء.
محاكاة فاشلة
أما الفيلم الجزائري فهو يسعى للتطرق إلى مشاكل الجزائر المعاصرة: الحرب الأهلية بين المسلحين الإسلاميين والحكومة، البطالة والرغبة في الهجرة، ولكن عن طريق محاكاة أسلوب أنطونيوني في بيئة وجماليات محددة لتلك البيئة بعيدة كل البعد عن تلك التي خرج منها أسلوب أنطونيوني، بل وأساسا، دون موهبة حقيقية تفضر نفسها، على الاقل حتى الىن أي بالحكم على هذا الفيلم الأول.
إننا أمام فيلم من أفلام الطريق لا يحدث فيه على الطريق ما يجعلنا نجلس ونتأمل.
كمال بطل الفيلم شاب يبحث عن وسيلة لمغادرة الجزائر والعودة إلى ايطاليا التي كان يقيم فيها من قبل يعمل في مطعم للبيتزا. وهو يقنع صديقته زينة بالهرب من الجزائر معه، فيقترض سيارة يطوفان بها مناطق صناعية في ضواحي العاصمة بحثا عن "بوسكو" المهرب الذي يمكنه إخراجهما خلسة من الجزائر. وخلال البحث عن بوسكو، يتعرضان لمضايقات من الشرطة بدون سبب سوى مظهرهما الخارجي (الفتاة متحررة في ملبسها)، ويقضيان أمسية في منزل أصدقاء، حيث يشرب الجميع حتى الثمالة.. ثم يغادران.. ولا يحدث شئ بعد ذلك، فكما بدأ الفيلم، ينتهي دون أي تطور بل ودون أن يطرأ شئ على مصير الشخصيات، أوعلى مسار الفيلم!
استطرادات وتكرار
ويعاني الفيلم من التكرار والحشو والاستطرادات والترهل، ويكفي أن المخرج يجعل بطليه يدوران بالسيارة في منطقة صحراوية لمدة 20 دقيقة، دون أي مبرر ولا حتى شكلي، بل تبدو لقطاته معتمة معزولة عن المكان.
وينتقل المخرج من لقطة لأخرى فجأة وقبل أن تكتمل اللقطة الأولى، ودون أن تكشف الثانية عن شئ ما في الأولى، في محاكاة ساذجة للغة انطونيوني وجودار ولكن بطريقة سطحية.
ويستخدم المخرج حوارا أكبر من وعي شخصياته، لكي ينقل لنا سخريته الشخصية، فهو يجعل كمال يقول لصديقه: كافكا يقول إن تمثال الحرية يحمل في يده عصا غليظة، فيجيبه صديقه: لابد أنه فشل في الحصول على تأشيرة!
الفيلم الجزائري، مثله في ذلك مثل الفيلم المغربي، حصل على تمويل فرنسي ألماني، مما أتاح الفرصة لمخرج شاب جديد أن يعبر عن نفسه بحرية، فماذا كانت النتيجة في الحالتين؟
العرض الصحفي للفيلمين في مهرجان فينيسيا العام الماضي شهد انسحابا جماعيا للنقاد من شتى أنحاء العالم من قاعة العرض، بعضهم غادر بعد 10 دقائق من بداية العرض، ثم لم يتوقف خروج الصحفيين حتى فرغت قاعة العرض سوى من حفنة من النقاد "الذين لا تزال تراودهم الآمال في مستقبل سينما العالم الثالث.. التي أصبحت - بكل أسف- تلهث وراء أطياف ماضي سينما العالم الأول الغابرة.

الثلاثاء، 19 أغسطس 2008

المهرجانات السينمائية: أفكار وتساؤلات

لقطة من مهرجان روتردام


ماذا تقدم المهرجانات السينمائية العربية للسينما؟

بقلم: أمير العمري
amarcord222@gmail.com

لعل إحدى المشاكل البارزة في مهرجانات السينما العربية التي تتعدد وتتوالد على نحو كبير وبدون أي تخطيط أو معايير، أو حتى سبب في الكثير من الأحيان، هي أن هذه المهرجانات تركز كثيرا على فكرة التنافس على من يمكن لهذه المهرجانات جذبه من "نجوم" سينما العرب، وأنصاف نجوم سينما الغرب وما إلى ذلك.

فقد أصبح الممثل والممثلة أهم في بعض المهرجانات، من الفيلم نفسه، بل وأصبح وجود المخرج السينمائي أحيانا أمرا لا قيمة له. وقد شاهدت بنفسي كيف كان بعض المخرجين اللامعين الذين يفخر أي مهرجان بوجودهم، يكادوا أن يموتوا مللا وهم يذرعون بهو الفندق الذي يقيمون فيه، بسبب الإهمال بل والتجاهل التام من الصحافة والإعلام بل وممن يعتبرون أنفسهم من "النقاد"، الذين يفضلون جميعا، اللهاث وراء ممثلة محلية تجاوزت الخمسين مت عمرها، أو ممثلا هزليا صاعدا لا نعرف ما إذا كان الجمهور يضحك عليه أم على أفلامه.
أما الملفت أكثر للنظر، فهو أن الأغلبية العظمى من مهرجاناتنا العربية (في العالم العربي عموما) قد تولي اهتماما للأفلام، أي تهتم باستهلاك الأفلام، إلا أنها تهمل تماما دعم الأفلام.
نعم هناك كثير من الندوات والمؤتمرات والموائد المستديرة والمستطيلة التي تخصص لمناقشة "أزمة الإنتاج" "وطرق دعم الإنتاج" و"الإنتاج المشترك" والتنسيق بين "الشمال والجنوب". لكن لا أحد يكلف نفسه الاهتمام بوضع "آلية" محددة لدعم الإنتاج السينمائي الذي يتميز بجرأة تتجاوز السائد في السوق السينمائي، حتى لو جنح العمل إلى أقصى حدود التجريب، فبدون هذا التجريب لا تتطور السينما بل تظل تدور حول نفسها دون أن تجاوز الأساليب القديمة، في السرد أو في الإخراج.

الاهتمام بالدعاية
مهرجاناتنا السينمائية لا تهتم بدعم مشاريع لأفلام جديدة تمتلئ بالطموح وتكشف عن موهبة أصحابها، من خلال ورش الإنتاج ومسابقات السيناريو ومؤسسات راسخة تستطيع الحصول على التمويل من جهات متعددة، وتتمكن من الاستمرار في تمويل المشاريع السينمائية الجريئة (شريطة الاعتماد في الحكم على هذه المشاريع على لجان متخصصة من السينمائيين والخبراء من العالم الخارجي وليس على "شلل" المرتزقة والمنتفعين سيئة السمعة. فهذه المهرجانات يهمها أساسا الجانب الاحتفالي الاستعراضي الدعائي، والتفاخر الكاذب بأننا أصبحنا لا نقل عن مهرجان "كان" بعد أن نجحنا في فرش البساط الأحمر، وبعد أن ظهر السيد الوزير لكي يؤكد لنا أن "السينما فن يعمل من أجل بناء الإنسان" و"تطوير الذوق العام في المجتمع"، وهي بالطبع مقولات متكررة ومضحكة.. أسمعها منذ أن بدأت اهتمامي بالسينما، دون أن أدري عن أي إنسان حقا يتحدثون، وهل السينما تبني الإنسان؟ أو تبنيه عشرات الأشياء الأخرى.

لكن هناك من يقول لنا ببراءة: ولكن هل يدعم مهرجان "كان" إنتاج الأفلام؟ "عقدة كان" هذه تتجاهل أن مهرجان كان ليس مهرجانا يقام في دولة نامية تخلو اساسا من حركة سينمائية ونقدية، أو تعاني السينما فيها من حصار الرقابة والفكر المتزمت الذي ينتمي للقرون الوسطى، بل مهرجان أوروبي- دولي، يهتم بالترويج لما يختار عرضه من أفلام، ويكتشف الكثير من المواهب السينمائية الجديدة ويدعمها بشكل غير مباشر ويسلط الأضواء عليها، مما يساهم في الترويج لأفلامها التي تجد طريقها بسرعة للتوزيع والعرض في السوق الفرنسية والأوروبية، بل وتجد التمويل والدعم من شركات الانتاج الفرنسية. وانظروا مثلا حالة مخرج مثل البولندي الراحل كريستوف كيشلوفسكي مثلا.

مبدأ الدعم
عودة إلى موضوعنا الأساسي، نقول إن الملاحظ أنه خلال السنوات الأخيرة، أخذ عدد من المهرجانات السينمائية الدولية يقتفي أثر مهرجان روتردام السينمائي في عدم الاكتفاء بالعروض والاحتفالات، وتنظيم دعم مباشر لأفلام "أجنبية" أي غير هولندية، وبطريقة علمية لها أسسها وقواعدها، من خلال مؤسسة "هيوبرت بالس" التي تأسست في روتردام عام 1988 وأصبحت تقدم دعما ماليا لأفلام قطع مخرجوها شوطا في الإنتاج لكنهم لا يستطيعون استكمالها، على شرط أن تتميز بالطموح الفني والابتكار وتكشف عن مواهب سينمائية حقيقية من "البلدان النامية" (حسب بيان إنشاء المؤسسة).
وهي تقدم أيضا منحا مالية لاستكمال العمليات الفنية التي تعقب التصوير، ودعما للأفلام التسجيلية، ودعما ماليا لتوزيع هذه الأفلام في السوق الهولندية. وإضافة إلى هذا، تعمل المؤسسة على إقناع المنتجين الهولنديين بتبني مشاريع مشتركة للإنتاج السينمائي مع منتجين من القارات الثلاث وأوروبا الشرقية.
مهرجان أمستردام ومهرجان جوتنبرج اتبعا سياسة مماثلة في دعم الأفلام التسجيلية من خارج أوروبا. واتبع مهرجان لوكارنو ما أطلق عليه "الإنتاج المشترك المفتوح الأبواب" لمساعدة ما يطلقون عليه تأدبا "سينما البلدان النامية"، وخصص مهرجان برلين قبل 4 سنوات ما أطلق عليه "صندوق دعم سينما العالم". وها هو مهرجان فيينا يعلن عن برنامج "لأمل الجديد المتوج" للغرض نفسه.
إلا أن كثيرين في هذه الدول بدأوا في الفترة الأخيرة، في طرح تساؤلات حول جدوى تمويل أفلام العالم الثالث، خاصة وأنهم يعرفون أنها تتعرض لانتقادات شديدة محلية تتهم صناع هذه الأفلام بتبني قوالب وأنماط ترضي مموليهم في الغرب، أكثر مما تتفق مع الواقع.

الرقابة
غير أن هناك من يدافعون عن سياسة دعم "أفلام العالم" متعللين بأن السينمائيين من العالم النامي أصبحوا في أشد الحاجة للعثور على وسيلة تفتح الأبواب أمام أفلامهم لكي تصل إلى الجمهور في الغرب، أو في العالم عموما، بعد ان ضيقت الرقابة عليهم في بلادهم، وجعلت استمرارهم في العمل أمرا بالغ الصعوبة، وهذا هو على سبيل المثال، حال المخرج الإيراني (الكردي) بهمن قبادي الذي منع من العمل نهائيا بعد ظهور فيلمه الأخير "تسلل"، والمخرج الصيني لو يي الذي منع من العمل في بلاده لخمس سنوات بعد أن عرض فيلمه في مهرجان "كان" دون إذن من السلطات!

نظرية المؤامرة

المدافعون عن استمرار التمويل يقولون أيضا إن هناك احتياجا لدى الجمهور في الغرب للإطلاع على أفلام تمثل ثقافات لا يعرفون عنها كثيرا، كما تتيح لهم هذه الأفلام الفرصة للوقوف على تجارب جديدة في الإبداع.
ولا يجب أن يتصور أحد أن القضية محسومة ببساطة بسبب وجود "مؤامرة إمبريالية صهيونية" لتدميرالسينمائيين من العرب والعالم الثالث عن طريق تمويل بعض الأفلام. فهناك في هولندا مثلا، من يطالبون بالتركيز على دعم الإنتاج السينمائي الهولندي (المهمل تماما- كما يقولون) بدلا من تقديم الدعم لـ "الأجانب".
وإذا كنا ننفي وجود "مؤامرة" في هذا المجال، إلا أننا لا ننفي وجود بعض السينمائيين من العالم العربي والعالم الثالث، يميلون متطوعين إلى تقديم ما يتصورون أنه يشبع ذوق الجمهور الغربي عند تناول مواضيع معينة. فهناك من يميلون إلى الإفراط في "الفولكلور" بصورة مجانية، واللجوء إلى قوالب وأنماط من الشخصيات يعرفون أنها تجد لها صدى لدى المتفرجين الغربيين بسبب اتساقها مع الصور التي تعرض يوميا على شاشة التليفزيون للقتل والتفجيرات واضطهاد المرأة، والتفرقة الدينية، والقمع المنظم، وتدني الخدمات إلى درجة مثيرة للقرف، ولكن تقديم هذه الأنماط والقوالب، لا يتم بالطبع من خلال تحليل موضوعي رصين يقرأ ما يجري تحت جلد الواقع ويفهمه، بل بغرض "تسويق" التخلف والاستفادة منه أيضا إذا أمكن. والاختيار بالطبع متروك للسينمائي نفسه: أن يكون لديه الاستعداد من البداية لتقديم تنازلات معينة أو لا يكون.
وهناك ايضا من يلجأون إلى استخدام أشكال سينمائية تتحرر تماما في السرد، لكنها تنتهي إلى "فوضى" درامية، تجعلك تتحسر على ما أنفق عليها من أموال، وهي أفلام عادة ما تدفع جمهور الدولة الممولة إلى الفرار من قاعة العرض.
وهذا ما حدث تحديدا خلال عرض فيلمين هما "دبليو دبليو دبليو. ياله من عالم رائع" المغربي، وفيلم "روما ولا أنتما" الجزائري خلال مهرجان فينيسيا السينمائي 2007. وهو موضوع سأناقشه في مقال قادم.

الأحد، 17 أغسطس 2008

عودة إلى ملف الوزير"الرسام" فاروق حسني

فاروق حسني مع زاهي حواس عند الهرم الأكبر

القيمة الحقيقية لأعمال الوزير االفنية

وهل يستقبل فاروق حسني في معارض العالم كوزير أم كرسام؟

في مصر، الدولة المركزية الضاربة في عمق التاريخ، يوجد هيكل عتيق من موظفي الدولة الذين يحرصون بعد أن يتولوا مناصب رسمية عليا، على ارتداء الملابس الرسمية الرمادية الكئيبة لإضفاء نوع من الأهمية والخطورة على مظهرهم، أحيانا بدرجة مبالغ فيها خصوصا عندما يصعد أحدهم إلى منصة مسرح مثلا لافتتاح مهرجان فني، فيبدأ قبل كل شئ، بقفل أزرار السترة، وإلا اعتبر أنه ظهر بمظهر غير لائق امام الوزير والخفير مثلا. من المقومات الأساسية لهذا الهيكل العتيق، أن كهنته لا يعرفون التمرد على أولياء نعمتهم من المسؤولين الأكبر نفوذا، وإذا حدث نادرا أن اضطر أحد الكهنة إلى مناقشة "الكبار" فإنه يستخدم كلمات التمجيد والتعظيم والترفيع قبل إبداء أي ملاحظة ولو على استحياء شديد. اما التقليد الأكثر رسوخا فهو أن ينافق الموظف الكبير رئيسه الوزير ويشيد به في كل محفل، ويعتبره القدوة الحسنة والمثل الأعلى. وإذا وقع الوزير في ورطة أو أزمة، يسارع إلى حشد الموظفين الذين يخضعون تحت إمرته، لتأييد الوزير والتوقيع على بيانات وعرائض تعلن مبايعة الوزير وزيرا مدى الحياة، كما فعل حفنة من موظفي وزارة فاروق حسني ونفر من المثقفين والمتثاقفين المنتحرين في دولاب الدولة عندما استقال الوزير الرسام عقب محرقة بني سويف التي راح ضحيتها 52 مثقفا ورجل مسرح. هذا كله من الأمور المعروفة والمألوفة في حياتنا، ولها بالطبع أسبابها التاريخية والنفسية المتراكمة التي لا نود الخوض فيها هنا. مقال الفرعون الصغير في إطار النفاق البين والمبالغات المفتعلة، التي تصل إلى درجة الغش والتزوير، قد يكتب المسؤول الكبير من المقالات ما يتناقض تماما مع حقائق الأمور، عن جمال الوزير، وحلاوة الوزير، وبراعة الوزير.. وتميز رسوم الوزير! وهذا تحديدا ما فعله الفرعون الصغير زاهي حواس وكيل أول وزارة فاروق حسني والذي يرأس ما يسمى بالمجلس الأعلى للآثار. فقد نشر زاهي حواس مقالا بتاريخ 22 مايو الماضي في جريدة "الشرق الأوسط"، مكتوبا بلغة بدائية ومليئا بالأخطاء، ويعكس لهاث كاتبه من أجل لوي عنق الحقائق، دون أن ينتبه إلى أنه وهو في ذروة حماسه لتدبيج هذه الكتابة الرديئة، كان أحيانا يبدأ فقرة ما ثم ينسى أن يكملها! إقرأ: مقال زاهي حواس في "الشرق الأوسط" بعنوان "لوحات فاروق حسني في تكساس

وتعالوا معا نرى عينة مما كتبه حواس عن قيمة فاروق حسني الفنية كرسام يشار إليه بالبنان في مدن العالم الكبرى. يقول حواس وكأنه نصب من نفسه محاميا عن وزيره: " يتهم بعض المثقفين فاروق حسني أن لوحاته الفنية قد اشتهر. ت نظراً لوضعه كوزير للثقافة، ولكن في الحقيقة أن هذا اتهام ظالم تماماً فقد حضرت افتتاح معرضه منذ حوالي ستة أشهر بمتحف الفن بمدينة فورت لودرديل بولاية فلوريدا وأخيراً نقل المعرض إلى متحف الفنون الجميلة بمدينة هيوستن بولاية تكساس". أول مرة ثم يواصل حواس موال المديح المجاني الفارغ فيقول "وعندما وصلنا إلى المتحف ودخلنا لنشاهد هذه اللوحات أحسست أن اختيار الألوان والموضوعات جعلت النقاد يشيدون بالفنان المصري الذي استطاع أن يخرج من المحلية إلى العالمية لأول مرة حتى طلب المتحف الذي عرض فيه هذه اللوحات بفلوريدا أن يقتني لوحة لكي توضع داخل المتحف وفي نفس الوقت طلب متحف هيوستن أن يعرض لوحة أخرى ليصبح أول فنان مصري تعرض لوحاته بصفة دائمة داخل المتاحف العالمية". وليس صحيحا بالطبع أن فاروق حسني هو أول فنان مصري تعرض لوحاته بصفة دائمة داخل المتاحف العالمية فالفنان عادل السيوي، كمثال، تعرض له 10 من لوحاته بصفة دائمة في المتحف البريطاني فقط! حواس يمارس هواياته المثيرة للسخرية في التشبه بملوك الفراعنة
 
إلا أن حواس يعود فيكشف عن الكذب والادعاء فيكتب: "وقد أشاد مدير المتحف بالمعرض وبالفنان فاروق حسني ولم يشر الكثيرون إلى وضعه كوزير لأن كونه فنان (هكذا كتبها حواس ونشرتها الجريدة كما هي!) طغت على وظيفته كوزير، وقد أسعده هذا تماماً حتى أن إحدى الصحف كتبت عن معرض الفنان فاروق حسني وزير الثقافة السابق". أحقا؟ لم يشر أحد إلى كونه وزيرا؟ واعتبروه وزيرا سابقا. أحقا.. تجاهلوا كونه وزيرا، وكتبت الصحف عنه مشيدة به؟
في الموضوع الذي نشر في هذه المدونة قبل أيام بعنوان "لماذا يجب منع فاروق حسني من الوصول إلى اليونسكو" قلنا بالحرف الواحد إن "فاروق حسني رسام متواضع المستوى، لم يكن أحد يأخذه على محمل الجد بل هو من الرسامين محدودي الموهبة أو ما يطلقون عليه بالإنجليزية mediocre ، ومعنى هذا أن لوحاته لا تساوي كل تلك الملايين التي تدفع فيها والتي يزعم هو انها المصدر الأساسي لدخله. وهو يؤكد في مقابلاته الصحفية إنه وصل إلى ما وصل إليه في مجال الفن التشكيلي بسبب موهبته وحدها. ويضيف متحديا نقاده أنه حتى بافتراض أن هناك من يجاملونه بسبب منصبه داخل مصر، فماذا عن نقاد الغرب الذين لا يعرفون المجاملة. نعم.. النقاد لا يعرفون المجاملة في الغرب. تعالوا إذن نأخذ مثالا ما كتبه ناقد مهم هو دوجلاس بريت Douglas Britt في .chron.com. إقرأ: مقال دوجلاس بريت "مذاق مصر المعاصرة
تحت عنوان "مذاق مصر المعاصرة" وبتاريخ 11 أغسطس 2008 كتب دوجلاس فريت يقول "نحن لا نشاهد الفن المصري المعاصر كل يوم هنا في تكساس، ولذا من الممكن أن نتصور أن متحف الفنون الجميلة في هوستون Houston يستحق الثناء بعد أن أتى إلى المدينة بمعرض "طاقة التجريد" لفاروق حسني. ويواصل قائلا: (لكنك قد تقرر الاحتفاظ بالثناء إلى حين أن تعرف وظيفة فاروق حسني خلال النهار (على اعتبار أنه يمارس الرسم ليلا!). إنه وزير ثقافة مصر منذ عام 1987. وهذا ما يفسر التقديم المنشور في كتالوج المعرض بتوقيع كل من بيتر مارزيو مدير متحف الفنون الجميلة في هوستون، وإرفين ليبمان المدير التنفيذي لمتحف الفن في لدرديل، وهو المتحف الثاني الذي استضاف المعرض نفسه. والاثنان يتوجهان بالشكر إلى فاروق حسني على "التزامه الحفاظ على الآثار المصرية القديمة، وكذلك خلق أعمال فنية قادرة على الحياة بشكل مستقل). ويستطرد الكاتب بكلمات تقطر بالسخرية قائلا: (لو كان فاروق حسني سائق تاكسي، فإنني أشك في أن المتحفين كانا سيتوجهان له بالشكر على التزامه بتوصيل الركاب إلى المطار في الوقت المناسب، ولا كانت مجموعة انشونز لدعم الفنون المعروفة بتنظيم المعارض الكبيرة، قد اهتمت بتقديم أعماله التي لا يمكن اعتبارها من الأعمال الكبيرة). بعد ذلك يتطرق الناقد إلى مناقشة القيمة الفنية للوحات فاروق حسني المعروضة فيلاحظ مثلا (في أعمال مثل "تجريد 8" تبدو الألوان مسطحة. أما لوحات "الكانفاه" الصغيرة فهي في معظمها، منفرة وتجريبية، وكل اللوحات الملونة بألوان الأكريلك سريعة الجفاف، تبدو باهتة كما لو كان الرسام قد وضع عشرات الطبقات من الألوان ولم يستطع الاحاطة بحوافها، ثم اضاف أشكالا كاريكاتورية أو تخطيطية بفرش مختلفة السٌمك". عرض مثير للاستياء ويختتم الكاتب مقاله بالقول: (مارزيو يقول- وهو ما يحسب له- إنه مهتم بأن يعرض على جمهور متحف الفنون الجميلة أعمال الفن المعاصر من الشرق الأوسط. ولكن هذا المعرض لا يتيح الفرصة أبدا للجمهور لوضع الفن المصري المعاصر- أو أعمال حسني في هذه الحالة- في هذا السياق. لقد كنت سأشعر بالسعادة لو عرضت مختارات من أفضل لوحاته خلال المراحل المختلفة بدلا من هذا المعرض المثير للاستياء، الذي لا يوجد فيه ما يمكن أن يجعله متميزا عن المعارض التجارية، باستثناء أنه يحمل خاتم متحف الفنون الجميلة.. ألن يكون من الأفضل اختيار مجموعة منتقاة من الرسامين المختلفي المذاهب، لتقديم مثال للفن المعاصر في الشرق الأوسط). انتهى المقال، لكن أحدا داخل مصر لا يعرف، ولا يقرأ، سوى ما يكتبه الجهلة والمنافقون في صحف الحكومة وغيرها. لوحتك ياوزير واقرأ هذا اللغو الفارغ لأحد شعراء العامية كمثال بارز على ما بلغه التدهور: "فاروق حسني باندهلك.. كسر البرواز وطلعني من اللوحة بتعتك.. شدني من ورا القزاز.. لوحتك خطفتني من عنيه.. زي لغم قابض على الرجلين.. حبستني جوه البرواز.. كتفتني.. حللتني.. بالظبط زي الأرض ما بتحلل الميتين.. طلعني يافنان.. لوحاتك.. وقعت دماغي في دماغي.. جوه الألوان.. وروحي بتتنطط في جسمي.. جسمي اللي نايم في اللوحة الرابعة.. المتعلقة على الجدران.. لوحتك اللي موقعة الزمان.. ونايمة فوق الزمان.. طلعني يافنان"!
** أدعو القراء الأفاضل والفنانين التشكيليين والنقاد المستقلين عن حظيرة فاروق حسني إلى التعليق على هذا المقال وشكرا.

الجمعة، 15 أغسطس 2008

كشف حساب السينما المصرية

سمية الخشاب في لقطة من فيلم "حين ميسرة"


تآكل الطبقة الوسطى وتلاشي "الشفرة" الخطابية وتغير الجمهور


بقلم: أمير العمري
amarcord222@gmail.com

يحفل تاريخ السينما المصرية بالكثير من الإنجازات: حركة سينمائية كانت تمور بشتى الاتجاهات والتيارات، مخرجون ومصورون ومونتيرون على مستوى كبير يضارع أفضل المستويات العالمية، ممثلون اكتسبوا خبرات كبيرة متنوعة وثرية في الوقوف أمام الكاميرا، وتقنيون أتقنوا "الصنعة" وقطعوا أشواطا كبيرة في مجال الابتكار والخلق والإبداع، وثرات من الأفلام التي تتبدى فيها شتى الأفكار، وتتنوع الأساليب.
صنع السينمائي المصري الفيلم الاستعراضي والتاريخي والبوليسي والاجتماعي والسياسي والخيالي، من الميلودراما إلى الواقعية، ومن التقليدية إلى الحداثة.
كثير من السينمائيين نجحوا في صنع بصماتهم الخاصة المميزة، وابتكاراتهم، وتركوا تأثيرهم الكبير في المحيط السينمائي داخل مصر وخارجها.
ولعل أكبر ما حققته السينما المصرية من نجاح يكمن في قدرتها على ابتكار "شفرة" خطابية خاصة، أصبحت وسيلة "مضمونة" للتخاطب بين السينمائيين والمشاهدين، أو بين الفيلم – كوسيط، والجمهور كمتلقي.
تكونت تلك اللغة الخاصة أو "الشفرة" المميزة في لغة التخاطب والتي تستند إلى الثقافة الشعبية، عبر أعمال متعددة صنعتها أجيال من المبدعين والسينمائيين، تأثرت بالسينما في الشرق والغرب، لكنها نجحت في خلق "خيالها الخاص" الذي يستطيع المشاهد أن يتعرف عليه ويتمثله ويجد نفسه في داخله. قد يدور هذا الخيال حول "الحكاية" أو رواية قصة، تحتوي على الصراعات بقدر ما تحوي من دروس وعبر أخلاقية واجتماعية، مع تقديم هذ ه "الرؤية" في إطار من التزويق والمشهيات والمشاهد المثيرة التي تشد المتفرج لاجتذابه داخل "الحلم" الذي ينتهي نهاية سعيدة. ورغم أن هذه النهاية السعيدة اصبحت معروفة سلفا، إلا أن الجميع يتطلع إليها وينتظرها.
كان الجمهور العام الذي يشتري تذاكر الدخول إلى دور العرض يتكون في معظمه من الطبقة الوسطى بشرائحها المختلفة، بحكم التوجه الفكري لصناع تلك الأفلام، والاستعداد الطبيعي لدى جمهور الطبقة الوسطى للتعامل مع ذلك "الخيال المصور المتحرك" كسلعة لا غنى عنها للتسلية، بل وكإطار للمعرفة بما يدور في المجتمع أيضا، ولو على مستوى المتخيل.

جمهور السينما
كان هذا الجمهور يشد معه جمهور الطبقات الأدنى الأكثر شعبية. وكانت تلك الشريحة الثانية من الجمهور تتماثل مع "أبطال" بعينهم من نجوم "الترسو"، دون أن يمنع هذا من تماثلهم أيضا مع نجوم من أبطال الطبقة الوسطى حتى في شريحتها العليا (شخصيات الأبطال التي قدمها يحيى شاهين وأنور وجدي وكمال الشناوي وأحمد مظهر وعماد حمدي ثم شكري سرحان وعمر الشريف وحسن يوسف، إلى جانب فريد شوقي ومحمود المليجي: كمنوذجين بارزين للبطل ونقيض البطل anti-hero في الدراما المصرية).

من فيلم "شباب امرأة"

تغير جمهور السينما بعد بداية عصر الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينيات من القرن الماضي وبداية تدهور واضمحلال الطبقة الوسطى في مصر بعد أن كانت تمسك بتلابيب سوق العمل، وأصبح مفهوم النجاح يرتبط بمنطق آخر وبقيم أخرى سادت المجتمع: الفهلوة والغش والاحتيال واستغلال النفوذ والاعتماد على سوق بعينه له مواصفاته الخاصة (في التجارة عموما وفي السينما خصوصا) ورواج السياحة بما تجلبه من قيم أخرى وبما تولده من رغبة في التسابق من أجل إرضاء ذلك "الآخر" القادم من الخارج بمواصفات مختلفة وذوق مختلف.
نتيجة لكل هذه العوامل اتجهت السينما وجهة أخرى مختلفة أشد الاختلاف: فبعد أن كانت الطبقة الوسطى (الشريحة الأساسية لجمهور السينما) تشعر بنوع من الثقة الاجتماعية، تريد من خلال السينما معرفة ما يحدث في الواقع لكي تفهم ما يدور حولها، وفي الوقت نفسه قد ترحب أيضا بالهروب إلى الأفلام الرومانسية التي تشعر الناس بأن المصاعب التي يواجهونها في الحياة عابرة أو مؤقتة، وأن رحلة الحياة لاشك أنها ستنتهي بتحقيق أحلامهم: في الحب والثروة والصعود الوظيفي والسيطرة على مقدراتهم بأنفسهم، أصبحت هذه الطبقة تكافح أساسا، من أجل ألا تنهار بالكامل، بعد أن تجاوزتها المتغيرات السريعة في عصر الانفتاح، وبعد أن أصبحت "مصر لها ثمن" حسب تعبير الرئيس السادات!
هذ الطبقة التي تآكلت تدريجيا، أو ذهب أبناؤها للعمل في بلدان الخليج وعادوا ببعض ثروة وقيم وأفكار أخرى مختلفة جديدة تماما على المجتمع، كان من الطبيعي أن تنسحب بشكل شبه تام عن التعامل مع السينما: سواء بسبب النظرة "الجديدة" المتدنية إلى السينما كفن من فنون "التسلية" السريعة كما يقولون، أو بسبب سطوة العامل الايديولوجي الرافض للسينما كلية كونها تتناقض مع المعتقدات المكتسبة من ثقافة أخرى: صحراوية، جافة، متشددة، ماضوية، ذات طبيعة جامدة تميل إلى نفي الحداثة عموما والنفور من تجلياتها طالما أن هذا الموقف لا يتعارض مع طموحها لامتلاك الثروة، والانتقال بعد ذلك للتطلع إلى السيطرة على السلطة.

ثقافة جديدة
سينما الماضي القريب اختفت مع اختفاء العديد من الإبداعات والأشكال الأخرى، أو في أحسن الأحوال، تبدلها من حال إلى حال.
لقد لحق ما لحق بالسينما خلال أكثر من 30 عاما من تدن في الرؤية والخيال وطبيعة المواضيع المطروحة وأشكال التعبير عنها، والتنكر حتى لفكرة "رواية قصة محكمة" بأدوات متقدمة تقنيا، مع ظهور نوع جديد من الغناء المرئي- إذا جاز التعبير- أو شيوع ثقافة "الفيديو كليب" وتفكك المسرح وتخليه عن دوره التاريخي، وشيوع الظاهرة الاحتفالية في الثقافة عموما، والفنون بوجه خاص، على حساب الإبداع والتأصيل الفكري والنقد.
فقد أصبح المهرجان أهم من المنتج الفني نفسه، والمسؤول المهرجاني أهم من الفنان، والموظف الكبير أعظم من القيمة التي يتم تحصيلها من وراء إدارته.
ورغم ما تنتجه الدولة من كتب لا تجد وسيلة ناجعة حتى الآن لتوزيعها توزيعا سليما، وتتزايد أعداد كتب السحر والشعوذة والخرافات والنصائح الجنسية والتفسيرات الخاطئة والفتاوى التي لا تستند إلى اساس حقيقي وتتناقض تناقضا تاما مع العصر.

المخرج المسلياتي

هيمنة التليفزيون هيمنة شبه كاملة على الساحة مع الانتشار الهائل للقنوات الفضائية أيضا، أدى إلى إحجام الجمهور من بقايا الطبقة الوسطى والمثقفين الذين لم يرتموا بعد في أحضان ثقافة "النوم اللذيذ والخلود الأبدي"، عن الذهاب إلى السينما، كما أدى إلى تواري أعداد كبيرة من السينمائيين المتميزين في العمل السينمائي أو من كانوا يحملون مشاريع متميزة: مخرجون وممثلون وكتاب سيناريو ومصورون. وأصبح المطلوب، ليس حتى ما كنا نطلق عليه "المخرج الحكواتي"، فالحكاية لها أيضا تقاليد في الحكي، وتاريخ السينما في عمومه يمكن اعتباره، على نحو ما، تاريخ تطور لغة الحكي، ولكن أصبح لدينا المخرج "المسلياتي" العدمي الذي لا يقيم وزنا لأي شئ، والذي تتساوى عنده القيمة واللا قيمة، والمقصود بالطبع القيمة الفنية، حتى من زاوية الإخلاص البحت لتقاليد الصنعة.
والأخطر من هذا كله أن السينما فقدت أهم ما كان يميزها أي تلك الشفرة الخطابية المميزة التي كانت تربط بين الشرائح المختلفة من الجمهور: الطبقة الوسطى والطبقات الشعبية.
أصبحت هناك اليوم لغة جديدة تماما في السينما، في الحكي وطريقة السرد، كما في الأداء وطريقة الإخراج بل وحتى تحريك الكاميرا. هذه اللغة لا تقوم على أسس واضحة أو تنبع من حاجة حقيقية تصب في إطار تطوير الفيلم كمنتج إبداعي، بل كنتاج للعشوائية المتفشية في الفن كما في الواقع.

عادل إمام واسعاد يونس في "عمارة يعقوبيان"

المضحكون الجدد

كان نجيب الريحاني في المسرح والسينما، بطلا يصارع من أجل إثبات وجود ابن الطبقة الوسطى الصغيرة، يسخر من القيم السائدة الجوفاء والمظاهر البراقة، مفلس لكنه يتمسك بالمبادئ، أكثر إخلاصا في مشاعره من أبناء الطبقة العليا. كان الريحاني ببساطة، يعبر عن فكر يمتزج فيه الذكاء بالثقافة بخفة الظل بالقدرة على الإيقاع بأعدائه والانتقام للبسطاء (على الشاشة).
وفي عصر الانفتاح أصبح عادل إمام نموذجا في الكوميديا المصرية، للبطل الشعبي المتمرد على الفساد، الذي يرفض الاستسلام لألاعيب الكبار ومكائدهم، والذي يدفعه وعيه الفكري إلى التمرد (فيلم "الغول" مثالا). وفي مرحلة أخرى، أصبح عادل إمام يعبر عن البطل الجديد القادم من القاع، الذي يعبر عن شريحة الحرفيين والهامشيين ويحقق أحلامهم في السخرية والاستهزاء والضحك على ذقن الطبقة الأخرى الميسورة التي بنت ثرواتها من الغش والتهريب والتجارة في السوق السوداء وغير ذلك.
وكان هذا بالطبع مفهوما ومقبولا في إطار التعبير عما حدث من خلل اجتماعي دفع بالبعض إلى صعود السلم إلى قمته، وأزاح الآخرين بقسوة إلى أسفل سافلين.
وبعد أن اصبح الواقع نفسه بثباته وعناده، يهزم السينما وغيرها، ويرفض التغيير، فقد ابتكر صناع الأفلام شخصيات أخرى لا تمت للفكر الكوميدي المتقدم بصلة، كل مهمتها التهريج باسم الكوميديا. هنا وجدنا أنفسنا نعود إلى المسرح الزاعق الذي يعتمد على أدنى أنواع "الفودفيل"، لا يغرنا هنا حتى إدعاء النقد السياسي والوطنية والبطولة (كما في فيلم مثل "ليلة سقوط بغداد") كما نعود إلى أشكال من التهريج التي لا يربطها بالمشاهد غير الرغبة العدمية – ليس فقط في الهروب من الواقع- بل في صب اللعنات عليه وعلى الماضي وعلى كل ما يمثله. ويكفي تأمل أسماء الأفلام التي تحقق ما تحققه في دور العرض ثم تذهب إلى غياهيب التاريخ (اللمبي، اللي بالي بالك، لخمة راس، خللي ماما تقولك، عوكل... إلخ).

من فيلم "اللمبي"

تهريج باسم الكوميديا

هنا لسنا أمام نوع جديد من فنون السخرية التي ترمي إلى تحقيق "الساتيرية"، أي العرض المبهر الساخر الذي يتولى تشريح كل شئ بدقة، يخلق من الفوضى الظاهرية المحيطة، نظاما دقيقا له، دون أن يفقد القدرة على الإمتاع، بل نحن في الحقيقة نشاهد نوعا من التهريج الذي يعتمد على أدنى الحركات وعلى نوعية من الممثلين لا يمتلكون أصلا القدرة على السخرية، بقدر ما يتماهون مع أدنى الأنماط والنماذج البشرية التي هي نتاج لمجتمع "التوربيني" وأتباعه.
يحدث هذا كله باسم الكوميديا، وبدعوى أن الجمهور يبحث عن الكوميديا كوسيلة للتنفيس عن إحباطاته، بعد سقوط الكثير من المفاهيم والقيم (أو الأوهام) القديمة.
هذه "الرؤية" الغريبة في تفسير التردى والعجز والتكرار الممل واستلهام ابشع الأنماط، توازيها تبريرات "نقدية" متهافتة صارت منتشرة انتشارا كبيرا الآن بفضل الأحاديث المتواصلة في القنوات الفضائية التي تتكاثر بسرعة كبيرة، والتي تبحث عن كل من يستطيع "الكلام" عن السينما لكي يحدثوننا طيلة الوقت عن "فلسفة المضحكين الجدد" والكوميديا الجديدة"!
لم يعد الجمهور يذهب إلى قاعة العرض السينمائي لكي يعيش حلما من نوع ما، بل لكي يتماثل مع أبطاله التافهين والمزورين والمحتالين ورافضي العمل، ويغيب الجمهور تماما عن الوعي معهم، في انفصال تام عما يحدث في الخارج حتى على مستوى الحلم.

ثقافة المشعوذين الجدد
والنتيجة أن القيم المتخلفة القادمة من العصور السحيقة وكهوف التصحر، تزحف بانتظام وصمود لكي تفرض نوعا من "المقاطعة" الشعبية للسينما، وتفرض على المرأة الخروج من التاريخ، والاستقالة من دورها الطبيعي في المجتمع جنبا إلى جنب مع الرجل، لعلها تكتفي بقراءة كتيبات السحر والشعوذة والاستماع إلى "المشعوذين الجدد" في الفضائيات، إلى أن أصبحت صورة المرأة المصرية في ملامحها الخارجية على الشاشة تبدو وكأنها تنتمي إلى كوكب آخر.

دور الدولة
يحدث هذا كله بينما الدولة لا تزال تتساءل: كيف يمكن دعم السينما؟ فإذا كانت الدولة قد خرجت من عملية الإنتاج السينمائي قبل حوالي 40 عاما استجابة لمطلب السينمائيين أنفسهم، فلماذا يطالبها البعض اليوم بالعودة إلى التدخل في الإنتاج وتنظيم العملية السينمائية؟
هذا السؤال يمكن فقط الرد عليه بالقول إنه يتعين على الدولة أن تعيد للسينما حيويتها ورونقها القديم ليس من خلال الإنتاج السينمائي، فهذا لم يعد في مقدور الدولة أصلا، ولا أحد يرغب في أن يجعل الرقيب يعود منتجا، بل من خلال آلية حضارية تتعامل مع السينما كمنتج حضاري وثقافي وفكري وصناعي، للدولة دور في تنميته وتشجيع نماذجه الجيدة الجادة الطموح.
ولعل النموذج الأفضل هنا هو الذي يعتمد على اكتشاف الجديد المتميز من السيناريوهات التي لا تجد من يمولها، وتقديم تسهيلات في التصوير والإنتاج والعمليات الفنية الضرورية بعد التصوير، كما يمكن أن تدعم الدولة التوزيع. وهنا لا يصبح الأمر متركزا فقط في توزيع حفنة من المال على الأفلام التي تفوز في مهرجان أو آخر، بل في اكتشاف الجديد والسعي إليه وتقديمه دون تدخل في العملية الإبداعية نفسها.


العزلة عن العالم
السينما المصرية بعد مائة عام "مفترضة" من تاريخها، تبدو وقد أصبحت فريسة للعشوائية التي أصبحت تسيطر على الكثير من الجوانب في المجتمع، فليس من الممكن أن تنعزل السينما عما يدور حولها بطبيعة الحال، كما لا يمكنها التواصل مع التقدم العلمي والفني الذي يحدث في هذا المجال خارج مصر بسبب العزلة التي فرضها السينمائيون المصريون على أنفسهم منذ سنوات طويلة، استنادا إلى حصانة التراث وحده، أو بالأحرى "الموروث" من التراكم السينمائي الذي بنى أمجادا في الماضي.

شادي عبد السلام

والنتيجة أن سينما عمرها مائة عام كان يفترض أن تأخذ بيد السينمات الأخرى المحيطة في المنطقة بل وأن تتجاوز الكثير من السينمات الأوروبية والتجارب السينمائية في القارات الثلاث، أصبحت حتى غائبة عن الوجود على الساحة الدولية بعد أن فقدت وجودها في الداخل.
لغة التعبير في السينما المصرية شهدت تقدما كبيرا في الستينيات والنصف الأول من السبعينيات، والسبب يعود في المقام الأول، إلى الانفتاح الثقافي والفكري والسينمائي الكبير على العالم في تلك الفترة. وقد يبدو هذا للكثيرين وكأنه مفارقة غريبة، فكيف يمكن أن تكون السينما منفتحة على العالم في وقت كانت مصر "منغلقة" على نفسها، بينما أصبحت السينما منعزلة عن العالم بعد أن أصبحت مصر في قمة انفتاحها، بل وفي عصر العولمة، وبعد أن اصبح كل شئ متاحا للمشاهدة وأصبح السفر للخارج "روتينا" بالنسبة للكثير من السينمائيين.

تدهور اللغة
غير أن المتأمل جيدا كيف كان الوضع وكيف أصبح، يجد الكثير من الأدلة على صحة فرضيتنا، فقد كانت الثقافة السينمائية في الستينيات والسبعينيات أكثر انفتاحا على سينما العالم وعلى تجاربه، سواء من خلال ما كان يعرض من نوعيات متقدمة كثيرا من الأفلام، أو من خلال حركة نوادي السينما التي بدأت مع مولد نادي القاهرة للسينما عام 1968 والذي استقدم للعرض عشرات الأفلام الفنية، في وقت كانت أوروبا الشرقية والغربية تثور على الواقع "الاستاتيكي" التي تكرس بعد الحرب العالمية الثانية.
كانت تلك مرحلة الثورة والتمرد والغضب التي انعكست بشكل كبير في الادب والفن، وفي السينما بوجه خاص. وكان هناك وهج خاص للسينما الجديدة عند السينمائيين المصريين الذي أصبحوا بعد هزيمة 1967 جزءا من تيار الرفض والغضب والاحتجاج والبحث عن تساؤلات صعبة تبدأ بالرغبة في معرفة أسباب الهزيمة، ولا تنتهي بسؤال البحث في الهوية نفسها.
وقد كان من الطبيعي أن تتأثر السينما المصرية في الكثير من تجاربها بالواقعية الجديدة الايطالية وبالموجة الجديدة الفرنسية وبالسينما الحرة البريطانية وبالكثير من مدارس التجديد في سينما أوروبا الشرقية التي كانت تقدم في بولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا بوجه خاص، أرقى ما لديها.

زخم ثقافي
كان الواقع "المتحول" فيما بعد 1967 قد صنع زخما ثقافيا وفنيا، وكانت هناك رغبة لدى الأجيال الصاعدة من السينمائيين المصريين في الالتحاق بالعالم، والاندماج في قضاياه (هل كان محض مصادفة مثلا أن يكون أول فيلم يخرجه سعيد مرزوق فيلما تجريبيا عن التفرقة العنصرية بعنوان "طبول" من إنتاج التليفزيون المصري؟).
وكانت حركة الثقافة السينمائية قد اتخذت موقعا مميزا واصبحت منذ أواخر الستينيات، تتعامل مع السينما في إطار المنظومة الثقافية الجادة (الأدب والمسرح والشعر والفن التشكيلي). وتمثلت في تأسيس نادى القاهرة للسينما ثم نوادي السينما في الثقافة الجماهيرية (التي أصبحت فيما بعد الهيئة العامة لقصور الثقافة).
هذا "المشروع" الذي كان يرمي لجعل الثقافة السينمائية ذراعا موازية لذراع الابداع السينمائي، كان مرتبطا بمفهوم يستند إلى أن الجمهور الواعي هو الذي يستطيع أن يفرض سينما واعية.
وكان الإحساس بإيقاع التجديد قد بدأ منذ منتصف الستينيات مع الأفلام الثلاثة الأولى لحسين كمال "المستحيل" و"البوسطجي" وشئ من الخوف"، وامتد على استقامته أكثر وأكثر وصولا إلى "المومياء" تحفة شادي عبد السلام.
وفي أوائل السبعينيات انعكست الرغبة في التجديد في عدد كبير من الأفلام الروائية لمخرجين من شتى الجيلين القديم والجديد، من أول "غروب وشروق" لكمال الشيخ و "زوجتي والكلب" لسعيد مرزوق، ثم "ليل وقضبان" لأشرف فهمي و"الاختيار" ليوسف شاهين، مرورا بأفلام مثل :الحب الذي كان" و"شفيقة ومتولي" لعلي بدرخان و"على من نطلق الرصاص"لكمال الشيخ، ثم "السقا مات" لصلاح أبو سيف و"اسكندرية ليه" ليوسف شاهين.

من فيلم "حمام الملاطيلي" لصلاح أبو سيف (1973)

كانت هناك رغبة حقيقية في تحدي النموذج المستقر للسينما القديمة التي تقوم على رواية قصة وعظية مباشرة، سمتها الأساسية الميلودراما. بدلا من ذلك كان سينمائيون رواد مثل كمال الشيخ وصلاح أبو سيف قد اقتربوا من سينما العقل والتحليل الرصين للقضايا الفلسفية والاجتماعية أكثر فأكثر (غروب وشروق وعلى من نطلق الرصاص والسقا مات)، كما سيطر الطموح على مخرجي الجيل الأحدث لتقديم سينما حداثية جديدة تستفيد من مكونات وعناصر الصورة، تلغي الزمن الثابت والبعد الأحادي للمكان، وتلعب داخل المنظور السينمائي نفسه باستبعاد أشياء وإضافة اشياء أخرى.
وكان طبيعيا أن يحمل أول تجمع جاد للسينمائيين الجدد الصاعدين اسم "جماعة السينما الجديدة"، وهي تجربة سرعان ما أدت المتغيرات السريعة التي عصفت بتجربة مؤسسة السينما نفسها إلى القضاء عليها.

تراجع
ومن دواعي الأسف أن هذا النزوع إلى المعرفة والتجريب والاحتكاك والإقبال على مشاهدة النماذج المتقدمة من الأفلام، قد تراجع على نحو مخيف حتى بعد الانتشار الهائل للفيديو ثم الاسطوانات الرقمية المدمجة (دي في دي، وأصبحت ضغوط السوق إضافة إلى نوع من الكسل الطبيعي الناتج عن الشعور باليأس من التغيير في مجتمع ما بعد أكتوبر 1973، عوامل مهمة في أن أصبح السينمائي المصري لا يشاهد النماذج المتقدمة من السينما العالمية، وإذا شاهدها فهو لا يتأثر بها، وفي حالة تاثره بها، فإنه يرفض أن يعكس هذا التأثر في الأفلام التي يصنعها بدعوى أن اللغة فيها تسبق وعي الجمهور المصري، وهو تبرير غير صحيح لأن الجمهور نفسه يقبل على النوعية الجيدة من الأفلام القادمة من الخارج عندما تتوافر على جرعة جيدة من المتعة ايضا إلى جانب التجديد في الشكل: في لغة الخطاب وطريقة السرد.
وقد أدى هذا الاستسلام - سواء لدواعي السوق أو لدواعي الكسل الشخصي والخشية من الجديد والتجديد - إلى أن اصبح السينمائيون يكتفون بمشاهدة أفلام بعضهم، وتهئنة بعضهم البعض على ما أنجزوه، بل وقد أصبح كثير من السينمائيين المصريين يرفضون ليس فقط النماذج الغربية المتقدمة في السينما، بل ويهاجمون بشدة النماذج الجيدة التي تنتج في بلدان عربية بدعوى أنها "فولكولورية" و"ممولة من أوروبا" و"تحمل أفكارا صهيونية" و"مصنوعة لسينما بلا سوق بل للتسويق الغربي".. وغير ذلك من المقولات الجاهزة المقولبة.
هنا وجد الفيلم المصري نفسه خاضعا تماما لقوالب السوق المحلية دون أدنى محاولة للبحث عن "جمهور جديد" سواء داخل هذه السوق أم خارجها، وأصبحت كل محاولة لمد تجارب الماضي القريب السينمائية على استقامتها، والتعامل مع كل أنواع الأفلام، والبحث عن طرق متقدمة لرواية قصة، وتطوير فن الكتابة السينمائية، في خبر كان، في حين أصبح المنتجون والمخرجون يبحثون فقط عن الشكل السهل السلس البدائي للسرد: قصة خفيفة تمتلئ بمفارقات الفودفيل، تسير في اتجاه افقي إلى أن تنتهي كما بدأت، دون أن نعرف لماذا. وأصبح ضمان النجاح في تصورهم، يتركز في العثور على كاتب يمتلك القدرة على "تنميط" عدد من الشخصيات الهائمة الهامشية، وكتابة أكبر قدر من اللوازم الكلامية (الإفيهات) التي تثير ضحكات جمهور سئم من مسلسلات التليفزيون التي تروي له بدورها قصصا يغيب عنها المنطق بشكل فادح وفاضح.
وعلى العكس مما حدث في أوروبا الغربية من مساهمة التليفزيون في تطوير السينما والإبقاء على التجارب الجديدة الأكثر طموحا (أفلام البريطاني بيتر جريناواي مثالا) كان تأثير التليفزيون المصري على الفيلم السنيمائي مدمرا بحق.


تأثير التليفزيون
لقد ساهم الانتشار الهائل لأجهزة التليفزيون المنزلية في رواج المسلسلات الطويلة، دون أدنى توازن مثلا، مع الفيلم التليفزيوني الذي ينتهي في ساعة ونصف. ومع ظهور سوق خليجية مستعدة لاستهلاك المسلسلات المصرية، اتجه صناع هذه المسلسلات إلى اصطناع كل أنواع الحيل لجعل المسلسلات أطول تحقيقا لمزيد من الفوائد المالية.
هنا تشكل إيقاع آخر للحركة داخل المشهد، وأصبح السيناريو التليفزيوني يدور داخل عدد محدود من الديكورات، بعدد محدود للغاية من اللقطات في كل مشهد، ويعتمد أكثر فأكثر على الحوار الطويل بين الشخصيات، وهو حوار أقرب عادة إلى "المونولوج" منه إلى "الديالوج".
واصبح المطلوب من ممثلي المسلسلات الوقوف إلى جوار بعضهم البعض ومواجهة الكاميرا، والحديث الذي يبدو موجها إلى بعضهم في حين أنه موجه مباشرة إلى الجمهور، أو إلى الذات، في مناجاة عقيمة ساهمت أكثر في تكريس صورة "استاتيكية" جامدة أصبحت السمة السائدة حتى اليوم للمسلسل المصري.
وإضافة إلى الشكل العقيم المكرر الذي لا طموح فيه حتى في حالة الخروج للشارع بالكاميرا السينمائية، أصبحت معظم المسلسلات تعتمد على ملاحم طويلة "ممطوطة" لا نهاية لها، وأجيال تموت وأخرى تظهر، على تلخيص عصور بأكملها أو مفاهيم فكرية في شخوص تقف في المنتصف بين الرمز والواقع، فهذه الشخصية رمز مصر الأم، وتلك ترمز إلى الطبقة الوسطى الوطنية، والأخرى إلى فساد الانفتاح، والرابعة إلى قهر السلطة.. وهكذا، في أنماط متكررة ساذجة ادمنها جمهور أصبح أساسا، يخشى الذهاب إلى دور العرض السينمائي ويفضل البقاء في البيوت امام التليفزيون لأسباب اجتماعية واقتصادية عديدة.
والمتأمل لوضع الدراما في التليفزيون المصري منذ ظهوره حتى الآن يجب أن يدرك على الفور، ان هذا الجهاز الهائل الذي دخله آلاف المخرجين والكتاب والممثلين، لم يستطع في تاريخه كله أن يصنع مخرجا واحدا للفيلم التليفزيوني ككيان درامي متقدم ومستقل، في حين نرى عشرات من مخرجي المسلسلات.
وعندما أرادت سينما اليوم اجتياز إيقاع المسلسلات وطابعها، لجأت إلى التصوير في الأماكن المبهرة: جنوب افريقيا وتايلاند واليونان وهولندا وايطاليا وأخير دبي، تحت تصور أننا بهذه الطريقة سنتمكن من منافسة أفلام هوليوود!
محصلة هذه الأوضاع كلها أن السينمائيين القادرين على إعادة النبض إلى الفيلم المصري، أصبحوا عاجزين عن العمل في سوق بمثل هذه الشروط، فخرجوا منها، إما إلى الفيديو أي إلى مسلسلات التليفزيون التي تمنحهم مكافآت مالية يستطيعون أن يعولوا عليها في استمرار دورة الحياة، أو خرجوا من السينما إلى الصمت والترقب من بعيد، لعل وعسى أن يأتي القادم بما يعجز عنه الحاضر.

أمل قادم
على الرغم من قتامة الصورة على نطاق السوق العريضة للسينما في مصر، إلا أن هناك أملا قد يتحقق على ايدي مجموعات من الشباب الذين آمنوا باستخدام كاميرا الديجيتال في تحرير أنفسهم من الخضوع لشروط ومواصفات السوق، وتمكنوا من خوض عدد من التجارب الجديدة، ومنهم من لجأ فيما بعد إلى تحويل صورة الفيديو الديجيتال إلى صورة سينمائية. ولعل تجارب يسري نصر الله هنا جديرة بالانبتاه، ثم تجربة ابراهيم بطوط في فيلم "عين شمس"، ثم أحمد رشوان في فيلمه الجديد "بصرة"، وفي عشرات الأفلام المتوسطة والقصيرة التي تصنع تراكما فنيا وتقنيا لاشك أنه سينتج مستقبلا شيئا كبيرا. وقد غامر بعض السينمائيين الكبار وشقوا الطريق للآخرين عندما قدم محمد خان تحفته "كليفتي"، واخرج خيري بشارة فيلمه "ليلة في القمر" بكاميرا الديجيتال.
إلا أنه يتعين على هؤلاء السينمائيين الجدد أيضا البحث عن وسائل وطرق جديدة، ليس في الإنتاج والتصوير فقط، بل في عرض افلامهم وتوصيلها إلى جمهور جديد في قاعات مجهزة بأجهزة لعرض هذا النوع من الأفلام، وإلا لأصبح منفذها الوحيد العرض على شاشة التليفزيون، وهو أيضا حل لا بأس طالما أنه يسمح باستمرار هذا النوع من السينما.
إن السينما الجديدة التي لابد أنها ستولد في مصر في حاجة أيضا إلى جمهور جديد، وكلا الطرفين، أي السينمائيون الجدد والجمهور الجديد، في حاجة إلى بعضهم البعض.

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger