عندما وقعت تفجيرات سبتمبر 2001 أصبح
حديث الصحافة هو هذا الحدث الذي أصبح يشار إليه بالتاريخ المقلوب (من
اليسار إلى اليمين) “11/9”، أي في الحقيقة 11 سبتمبر. وكل من لم يكتب عن أي
شيء له علاقة بالإرهاب الدولي أو الحروب والصراعات المسلحة طوال حياته،
كتب عن 11 سبتمبر وقال وأفتى وأبدع وتوسع.
الآن أصبح موضوع وباء فايروس كورونا هو حديث الساعة، وكل ساعة. فهو
الموضوع الذي صار مقرّرا علينا. تطالع أي صحيفة في العالم فتجد الغالبية
العظمى من المقالات والأخبار مخصّصة لذلك الوباء الجائحي الذي اجتاح
العالم.
وتفتح أي قناة تلفزيونية عربية أم أجنبية، لتجد “خبيرا” من الخبراء
يقدّم لنا تحليلاته ونصائحه وتوقعاته، سواء كان هذا الخبير له صلة بالطب أم
أن صلته به مثل علاقتي باللغة الصينية؟
أما الصين فقد أصبحت عند الكثيرين مجالا للصراع، خاصة بعد أن امتلأت
شبكات التواصل الاجتماعي باللغات المختلفة، بالأقوال والأقوال المضادة بشأن
مسؤولية الصين أم عدم مسؤوليتها عن تفشي الوباء القاتل من الأصل والأساس.
فهناك من جهة، من ينفي عن الصين أي اتهام بالتسبّب في انتشار المرض،
ويميل لاتهام المخابرات المركزية الأميركية بالوقوف خلف هذا الفايروس
الجديد، غالبا متأثرا بما جاء في كثير من الأفلام الأميركية. والمفارقة
أنها فعلا “أميركية” وجهت الاتهام للمؤسّسة العسكرية والاستخباراتية
الأميركية. وهو أمر لو حدث في أي جمهورية من جمهوريات “قشر الموز” التي
نعرفها جيدا، لاعتقل جميع صناع الأفلام والمسلسلات وأغلقت دور السينما
والمسرح وألعاب خيال الظل وألعاب السيرك، إلى أجل غير مسمى خشية من انتشار
الوباء، وباء انتقاد الأجهزة “السيادية” التي تتسيّد ليلا ونهارا على
الشعوب. لكنها تقف عاجزة تماما عن مواجهة فايروس صغير!
المدافعون عن الصين والمعجبون كثيرا بالتجربة الصينية، يمنون أنفسهم بأن
يبرز دور العملاق الأصفر في عالم ما بعد كورونا، ليصبح قادرا على ردع
الغطرسة الأميركية، وهو بالطبع شعور نابع من إحباط ترسّخ عبر عشرات السنين
نتيجة انحياز السياسة الأميركية إلى جانب الأقوياء ضد الضعفاء والمستضعفين
في العالم.
فكثير منا يعتقدون أن “الحكومة الأميركية” مؤسّسة رعاية اجتماعية، تنطلق
من مبادئ الحب والخير والإحسان، وليست واجهة لمصالح اقتصادية تحميها
الجيوش والأساطيل والقواعد العسكرية التي انتشرت في العالم منذ نهاية الحرب
العالمية الثانية.
في حين انكفأت الصين على نفسها في الداخل وآثرت الابتعاد عن المواقف
السياسية أو التدخّل الفعّال بأي شكل من الأشكال، في الصراعات الدولية،
ولها بالطبع مواقفها الشهيرة بالامتناع عن التصويت في مجلس الأمن، تجنبا
للمشاكل والمنغّصات، فقد آثرت التركيز على التنمية الاقتصادية عن طريق
استغلال “الطبقة العاملة” أبشع استغلال بشكل أقرب إلى الاستعباد، لإنتاج
أجهزة وأدوات ومنتجات وملابس، رخيصة رديئة معروف أنها لن تصمد للزمن،
وستسقط عند أول اختبار حقيقي.
أين ستذهب الصين -سياسيا وعسكريا- بعد أن تنتهي أزمة كورونا؟ أغلب الظن
أنها ستواصل الانكفاء على الذات لحماية نظامها السياسي الاستبدادي الشمولي،
الذي يعتقد أنه وراء ذلك التستّر المذهل على حقيقة ما وقع في ووهان. ولعل
الأنباء الأخيرة تؤكّد وجود شيء ما غامض تتستّر عليه السلطات الصينية، وهو
إصدارها قرارات تحظر أي محاولة للبحث في أسباب انتشار الفايروس من الأصل
والأساس.
وهو موضوع سيتيح بكل تأكيد الفرصة مُجدّدا لمدمني نظريات المؤامرة،
والذين يرون أن الصين هي المسؤولة الأولى والأخيرة عن انتقال المرض إلى
العالم وخاصة إلى البلدان الأوروبية المفتوحة في الغرب، خاصة تلك التي
تستقطب أكبر عدد من السياح في العالم: إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وبريطانيا
والولايات المتحدة.
بدوري وجدت نفسي في هذا المقال أتورّط في مناقشة موضوع كورونا في حين
أنني بدأته بنوع من التساؤل: هل يتعيّن على الكاتب، كل كاتب، أن يدلي بدلوه
في الموضوع حتى لو لم يكن متخصّصا في الأمراض المعدية أو الفايروسات؟
أعرف أن البعض سيجيب بأن الحديث عن الوباء لا يقتصر فقط على الجانب
العلمي والطبي بل يشمل مجالات الاجتماع والاقتصاد والثقافة والفنون. وهذا
صحيح. ولكن هل من الطبيعي أن يفرض علينا الفايروس اللعين أن نتخلّى عن
اهتماماتنا الأصلية بالأدب والفن والشعر والمسرح والموسيقى والسينما؟
ونتفرّغ لدراسة الآثار المحتملة على كل هذه الفنون؟
أعرف أن رئيس تحرير صحيفة “العرب” التي أكتب لها، أبدى ضيقه من وجود
كلمة كورونا في عناوين الغالبية العظمى من المقالات التي تنشر في الصحيفة،
إلاّ أن هذا هو ما يحدث حتى الآن، فالكتاب والصحافيون، بمن في ذلك زملاؤنا
من نقاد الأدب والفن التشكيلي، تورطوا مثلي أيضا في “المسألة الكورونية”.
وقد تفرّغت شخصيا، مضطرا، لإعادة مشاهدة الأفلام السينمائية التي تناولت
الأوبئة والفايروسات القاتلة، الحقيقي منها أو الخيالي، وبعض هذه الأفلام
يعتبرها البعض بمثابة “نبوءة” بظهور كورونا، في حين أن السينما لا تتّبع
بالطبع، خطى العرّافين والمنجّمين.
ولكن لنفرض أن كورونا استمر لسنتين أو ثلاث سنوات فما العمل؟ هل يمكن أن
تعيش الصحافة على موضوع واحد تتغذّى عليه وتغذّيه للقراء؟ أم أننا لا يجب
أن نهمل اهتماماتنا الأخرى التي أراها بالضرورة “اهتمامات إنسانية” تهم
الجميع وليس من الممكن الاستغناء عنها؟ وهل يمكننا استئناف الكتابة عن الحب
والخير والجمال والإبداع والتأملات الروحية والفلسفية، من خلال أعمال الفن
بكل أشكاله؟ أم أننا يجب أن نستسلم لما يفرضه علينا هذا الوباء البشع
ونقصر اهتمامنا عليه؟
الإجابة بالطبع عند رئيس التحرير.. أليس كذلك!