الثلاثاء، 27 مايو 2025

في مهرجان كان: “نسور الجمهورية”.. فرعون الشاشة لا يخيف أحدا!

 أمير العمري

من العناصر الرئيسية التي تجعل أي فيلم عملا متماسكا جيدا أن يتمتع بوحدة الأسلوب، إلا لو كان صانع الفيلم يريد أن يتجاوز الأسلوب، ويحلق بعيدا عن المألوف والسائد، ليصنع أسلوبه الخاص الذي قد يكون قائما على ما يعرف بـ"Eclecticism" أي الانتقائية، بمعنى الاستلهام من مصادر وأفكار وسياقات متعددة. وليس هذا بالتأكيد ما كان يرمي إليه المخرج السويدي- المصري طارق صالح وهو يكتب ويخرج فيلمه الجديد "نسور الجمهورية" الذي عرض بالمسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي الـ78.

وبينما يمتلك الفنان الباحث عن مصادر وسياقات متعددة القدرة على تضفيرها معا بحيث يخلق أسلوبه الخاص أو يتحرر كلية من قيود الأسلوب، يبدو طارق صالح وقد ضل طريقه بين الأساليب المختلفة، بعد أن جذبته الرغبة في تقديم سردية سينمائية تتناول أولا عالم السينما المصرية بنجومها الكبار، وكيف يمكن أن يصبح "النجم" ضحية لنفسه، أولا حينما ينساق وراء نزواته معتقدا أنه قد أصبح شخصية لا يمكن تطويعها أو السيطرة عليها، ناهيك بالطبع عن تسخيرها واستخدامها، ثم كيف تدار العلاقة بين النظام في مجتمع شمولي، وبين المنظومة الإعلامية والفنية، وكيف تتداعى الأمور لكي نصل أيضا إلى وضع أكثر تعقيدا بالنسبة لذلك الممثل- النجم- البطل الذي يصبح شاهدا على ما لم يكن يخطر له على بال.

طارق صالح انطلق، وهو يكتب نصه السينمائي، من الكوميديا إلى الميلودراما ومنها إلى الفيلم السياسي، ثم إلى أسلوب الفيلم البوليسي، أو فيلم الإثارة "ثريللر" من دون أن يحدد هدفه بدقة، لذا فإنه يحيد في النهاية عن الهدف، ليأتي فيلمه في النهاية يعاني من الترهل والثرثرة والأحداث المبتورة، ومن ناحية أهم، من عدم المصداقية، أي أننا لا نستطيع تصديقه. ومن أولى مبادئ الفن السينمائي الذي يعتمد على تجسيد الفكرة بالصورة والحركة والتمثيل أن يجعل المستحيل قابلا للتصديق. أما في فيلم "نسور الجمهورية" فإن العلاقات والمواقف تتداعى وتتراكم دون أن تخلق سياقا مقنعا، أو تجسد شخصيات يمكنك أن تتفاعل معها وتصدقها أو تصدق ما تقوم به، فتبقى مجرد أنماط مصنوعة صنعا للتعبير عن رسالة سياسية غاضبة.

طارق صالح يكمل بهذا الفيلم ثلاثيته السياسية عن مصر، أو بالأحرى، عن القاهرة، التي بدأها بفيلم "حادث النيل هيلتون" (2017) الذي يتناول فساد مؤسسة الشرطة، ثم "ولد من الجنة" (2022) الذي يتناول العلاقة بين السلطة والمؤسسة الدينية متمثلة في الأزهر، والآن في "نسور الجمهورية" يريد أن يسبر أغوار العلاقة بين السلطة والسينما.

وهو يبدأ فيلمه بملصقات (أو أفيشات) من أفلام الماضي في عصر السينما المصرية بأمجادها الخالدة من الخمسينيات والستينيات، لكنه يضع على جانبها، ملصقا لبطله ذي الأنف الطويل، النجم السينمائي الشهير الذي يطلق عليه الإعلام المصري - فرضا بالطبع- "فرعون الشاشة"، وهو ما يولد السخرية أكثر مما يمكن أخذه على محمل الجد. فمن هو "فرعون الشاشة" المفترض؟

إنه النجم السينمائي "جورج فهمي" (يقوم بدوره الممثل اللبناني الأصل فارس فارس بطل الفيلمين السابقين) الذي سنعرف أنه مسيحي، وأنه منفصل عن زوجته، غالبا بسبب خياناته المتكررة لها، وأنه يعيش مع فتاة تصغره كثيرا في العمر هي "دنيا" (الجزائرية لينا خضري)، وهي ممثلة مبتدئة من الواضح أنها غير موهوبة، لكنها أيضا غير سعيدة في علاقتها مع "الفرعون"، لأسباب ليس أقلها بالطبع أنه يجد صعوبة في إرضاء رغبتها الجنسية. ونحن نراه في مشهد طريف يذهب إلى صيدلية ليلا متخفيا، لكي يشتري حبوب "الفياجرا" لكن الصيدلي يتعرف عليه ويسعد بحضوره، ويريد أن يلتقط صورة معه أيضا بينما صاحبنا يريد أن يُبقي الأمر سرا.

من الواضح أن سبب شهرة هذا الممثل في السينما المصرية وأنه قد أصبح "سوبر ستار"، يرجع إلى نوعية أفلامه وهي من الأفلام الشعبية الرائجة التي تحقق نجاحا جماهيريا كبيرا، أي من أفلام التسلية، لذلك لا يبدو جورج مقنعا في احتجاجه غضبه وانفعاله عندما يصبح مطلوبا منه القيام بدور في فيلم تموله الدولة، للترويج لصورة الرئيس عبد الفتاح السيسي تمهيدا لترشيحه للرئاسة في عام 2014 (زمن أحداث الفيلم).

وما يزيد الأمر سوءا أن رجلا يدعونه الدكتور منصور (عمرو واكد) هو الموفد الخاص من الرئاسة مباشرة، مكلف بالإشراف على تنفيذ الفيلم حسب ما يريده الرئيس تحديدا وطبقا للصورة المراد ترويجها، وبالتالي فمنصور هذا يصبح رقيبا على أداء جورج.

ثورة وغضب جورج تأتي في البداية مع رفضه القيام بالدور، بدعوى أنه أكبر من أن يعمل في فيلم دعائي، وأنه لا يقبل التوجيه والوصاية، وأن أفلامه تتمتع بمستوى محترم، وكلها تداعيات وثرثرة لا تقنع أحدا، لأنه لا يوجد ممثل في مصر لا يستجيب إلا لو تمرد وخرج عن النظام، أي أن يكون لديه موقفا سياسيا معارضا وعلى استعداد للتضحية بعمله، أما نموذج جورج فهمي فهو نموذج "ممتثل" غارق حتى أذنيه في "الهلس"، يغشى الحفلات، يتعرف على كبار المسؤولين السياسيين والأمنيين والعسكريين أيضا (لدينا هنا وزير الداخلية، ووزير الدفاع، ومدير المخابرات.. إلخ) لذا فمن المستبعد أن يرفض، والأكثر سذاجة وافتعالا أن السلطات تهدده بطريقة شديدة السذاجة، باعتقال ابنه، وهلي ترغمه على الامتثال، إلا أنه يظل مصرا على ضرورة أن يتمتع الفيلم بالمستوى الفني المتماسك، لذا يأتي بمخرجه المفضل، لكنه لن يستطيع سوى الاستجابة لما يطلب منه. وعندما يقوم جورج بالدور، يحاول أن يبتعد عن فكرة محاكاة "الرئيس" خصوصا أنه يختلف في شكله كثيرا عنه.

لا شك أن العلاقة بين السلطة الشمولية والفنان المستقل أو الذي يعتقد أن قوته تكمن في موهبته وأنه يستطيع أن يقاوم أي ضغوط بسبب شعبيته، هي فكرة جيدة، كان يمكن أن تنتج عملا فنيا كبيرا يتمتع بالمصداقية والتأثير كما رأينا مثلا في حالة فيلم "ميفستو" للمخرج المجري الكبير اشتيفان زابو (فاز بجائزة الأوسكار عام 1982)، لكن هذا كان يقتضي وجود سيناريو متماسك وشخصيات ناضجة، واضحة المعالم. أما جورج فهمي فهو لا يبيع روحه مقابل أن يتمتع بالصعود والشهرة والمجد والبقاء في دائرة الظل لينتهي إلى الدمار التام، بل هو من البداية شخص فاسد لا يقيم اعتبارا لأي شيء: لا لزوجته أو لابنه (الذي يقاطعه بسبب إهماله له)، ولا لصديقته الممثلة "رولا" (الفلسطينية شيرين دعبيس) ولا لعشيقته الشابة، ولا حتى لفنه. هو إذن لا يصلح كنموذج لسقوط فنان في أحابيل السلطة، فأمثاله يرحبون عادة بتقديم كل ما يطلب منهم، لكي يبقوا في دائرة الضوء، ومن هنا غياب المصداقية!

سيتخلى جورج عن صديقته الممثلة "رولا حداد" عندما تواجه موقفا صعبا من الناحية المادية بعد أن توقف المنتجون عن التعامل معها بتدخل من السلطة التي تريد أن تعاقبها، دون أن نفهم لماذا، هل بسبب صداقتها معه ومن أجل الضغط عليه لقبول القيام بالدور؟ ولماذا تستمر معاناتها بعد أن يكون قد قبل الدور بالفعل؟ لكن هنا تكمن نقاط الضعف في سيناريو الفيلم.. ومما يزيد الأمر سوءا، أن وزير الدفاع بمجرد أن تأتي سيرة رولا أمامه في إحدى الحفلات وهو بصحبة جورج، يطلب من جورج في لهفة رقم تليفونها، وكأنه لا يستطيع الحصول عليه بسهولة تامة، ونعرف فيما بعد أنه أقام معها علاقة لا نرى منها شيئا، لكننا نرى رولا فيما بعد وهي تشكو كيف كان الرجل متوحشا معها!

ولكن جورج فهمي من ناحيته سيوقع في شباكه زوجة الوزير "سوزان" المتعلمة في السوربون (المغربية زينب تريكي)، وستستسلم هي له من دون مقاومة دون أن نعرف سبب هذا الانجذاب المفاجيء، ثم تتخفى لكي تقابله سرا في غرفة أحد فنادق الدرجة الأولى، ثم سيأتي وقت يعترف لها جورج من دون أي تمهيد- بأنه واقع في حبها فعلا- ويريدها أن ترحل معه (لا نعرف إلى أين)، ولا يتضح موقف زوجها الوزير الذي يعرف بالأمر بل ويضبطها وهي تغادر الفندق.. ولكن الفيلم لا يهتم بمتابعة القصة التي خلقها من داخل الفيلم من دون أن تخدم الموضوع الأساسي، وسينتقل فجأة إلى تصوير مشهد حشد له الكثير من الإمكانيات لكنه جاء أشبه بمشاهد الإعلانات: أثناء الاحتفال بذكرى حرب أكتوبر 1973 في الكلية الحربية، تقع محاولة انقلاب يدبرها كبار المسؤولين، لا تنجح، ولا نعرف كيف وقعت ولماذا، وما هو الدافع المحرك، ومن الذي كشف المؤامرة. وكيف انتهت، وكما بدأ الحدث فجأة، ينتهي فجأة على نحو مبتور.. ولا يتضح موقف جورج فهمي أو علاقته بهذا الحدث.

من ناحية أخرى، فالشخصيات النسائية في الفيلم، كلها شخصيات سطحية وضعيفة وكان يمكن الاستغناء عن معظمها، دون أن يفقد الفيلم شيئا، فشخصية الممثلة رولا حداد، تختفي من الفيلم مبكرا، ثم تختفي العشيقة الشابة "دنيا"، ثم لا نعرف مصير الزوجة العاشقة الخائنة "سوزان"!

فارس فارس مع المخرج طارق صالح والممثلة- المخرجة الفلسطينية شيرين دعبيس

 طارق صالح ينسى فكرته الأصلية عن الفنان والسلطة، ولا نعرف ماذا تم في الفيلم داخل الفيلم، ولا كيف انتهى تصويره، ويكتفي عمرو واكد بالتحديق بنظراته المتنمرة من وراء الستار، لكي يؤكد لنا الفيلم باستمرار أنه "الولد الشرير" the bad guy ولا يبقى من الفيلم شيء في النهاية، فلا الممثل فارس فارس كان مقنعا في دور نجم سينمائي مصري "سوبر ستار"، حتى من ناحية ملامحه الخارجية الشكلية البحتة، فهو متقدم في العمر، منحي الظهر، صاحب أنف منفر. أما من ناحية الأداء فأداؤه هنا أقل عما كان في الفيلمين السابقين والسبب يكمن في ضعف تصوير الشخصية في السيناريو.

ويعاني الفيلم بطبيعته، خصوصا أمام المشاهد المصري والعربي عموما، من تخبط في نطق اللهجة المصرية، فالممثلات (الجزائرية والفلسطينية والمغربية) يفتقدن إجادة اللهجة المصرية بطريقة واضحة. لكن الناقد الأجنبي "الخواجة" لن يدرك هذا لأنه يتابع من خلال الترجمة المطبوعة على شريط الفيلم. وهذا الناقد لا يهمه المستوى الفني بقدر ما يهتم عادة بالرسالة السياسية: وجود فساد وديكتاتورية وتصدع وتسلط.. إلخ

 


وبسبب تعدد الأساليب وتداخل القصص التي لا يتم إشباعها، وغياب شخصيات، وظهور شخصيات أخرى لا تضيف شيئا، والنهاية المبتورة الغامضة، يعاني الفيلم من هبوط الإيقاع خاصة في النصف الثاني منه الذي كان يقتضي بالضرورة إيقاعا أسرع، وتبدو اللقطات القليلة الملتقطة سرا، غالبا من داخل سيارات لشوارع القاهرة، عابرة ومنقوصة وغير متصلة جيدا مع باقي مشاهد الفيلم، ولا يبدو أن هناك أي معنى لجعل شخصية جورج فهمي، رجلا مسيحيا.. ومع ذلك يمكن القول إن هناك مشاهد محددة متفرقة من الفيلم، مصنوعة جيدا أو على الأقل، تتمتع بقيمة ما، مثل مشهد التحقيق الذي تجريه هيئة الرقابة على المصنفات الفنية (ثلاث نساء محجبات متزمتات) يلفتن نظر جورج إلى ضرورة الحفاظ على قيم المجتمع وأن أمثاله وأمثال ما يقدمه من أعمال فنية هي ما يفسد المجتمع، وطبعا نفهم أن الأمر يتعلق بفيلمه الأخير الذي رأينا منه مشهدا في البداية يدور بينه وبين رولا حيث يشتركان معا في قبلة.

لا يحقق فيلم "نسور الجمهورية" (وهي تسمية يطلقها رجال حماية النظام على أنفسهم في الفيلم) هدفه، فهو عمل مضطرب، يريد صانعه أن يلعب في المساحة بين الفيلم الجاد والفيلم الهزلي، بين الكوميديا والتعليق السياسي والفوضى العامة داخل أوكار السلطة، لكنه يظل بعيدا كل البعد عما يحدث حقا في مصر.. بل أقرب ما يكون إلى مسلسلات أوبرا الصابون "السوب أوبرا"!

الاثنين، 5 مايو 2025

أعتقد أن أعظم وأرقى فيلم سينمائي صور الصراع بين القديم والجديد داخل الفاتيكان وقدم صورة رائعة للبابا فرانسيس الذي رحل اليوم عن عالمنا، وهو يتجادل بكل عقلانية وحكمة ورقي مع البابا بنيديكت، هو فيلم "البابوان" The 2 Popes الذي أخرجه البرازيلي فرناندو ميريلس، من دون أن يكون عملا تسجيليا، بل يعتمد على الخيال الخصب المستد من تكوين كلا الشخصيتين، ويناقش الأفكار بكل جرأة ويتطرق لأدق التفاصيل الذهنية والمعتقدات الدينية في علاقتها بالعصر، ومن دون أن يواجه بالقمع والرفض والاحتجاج والمطالبة الفظة بالمنع والمصادرة والعقاب والتكفير من جانب الفاتيكان.. فحتى هذه المؤسسة الكاثوليكية العتيدة نجحت في اللحاق بالمنهج الوحيد الذي ثبت، صلاحيته لكل العصور، وهو منهج "التطور"... فكل شيء في العالم يتطور ولا يبقى أبدا على حاله منذ بدء الخليقة حتى يومنا هذا، ما عدا عند أصحاب الفكر الجامد الذين لا يريدون الاعتراف بأنهم هزموا شر هزيمة أمام العلوم الحديثة والفلسفات والأفكار العصرية التي عصفت ومازالت تعصف كل يوم بأفكارهم التي توقفت عند القرن الثالث عشر، من دون أن يقروا بضرورة التغير والتطور...
المشاهدة الثانية للفيلم البرازيل يالبديع "أنا مازلت هنا" I am still here جعلتني أكتشف اشياء لم أتوقف عندها عندما كتبت عن الفيلم بعد مشاهدته بمهرجان فينيسيا 2024. ولكني خرجت أيضا بانطباع آخر ربما يكون آهم من النقد ومن المستوى السينمائي الممتاز للفيلم، هو أنهم كانوا رغم رغم كل ما حدث عندهم خلال "ديكتاتوريتهم" التي استمرت من 1964 الى 1985، ظلوا جزءا من تاريخ العالم.. يهتم بهم الآخرون في الخارج، ويحافظون على حد أدنى من القدرة على "المحاسبة" و"التساؤل" و"السعي والتماسك من أجل الوصول الحقيقة" فقد ظل هناك متنفسا.. أما نحن فقد أخرجنا أنفسنا من التاريخ.. بل ودخلنا الثقب الأسود الذي لا قاع له!
وفيلم "أنا مازلت هنا" ليس فقط عن الديكتاتورية العسكرية في البرازيل، ولا فقط عن كيف واجهت أم وزوجة شجاعة اعتقال واختفاء زوجها الى الابد، وواصلت الحياة مع ابنائها الخمسة وظلت صامدة لعشرات السنين تبحث عن حقيقة ما وقع لزوجها وتواجه جلاديه بكل صلابة، ولكنه أيضا فيلم عن الصورة، وقوة الصورة، ودور الصورة في الابقاء على الذاكرة حية مشتعلة.. انه بهذا المعنى احتفال خلاب بالصورة. ولكن هناك دروسا أخرى كثيرة يمكن ان يتعلمها المرء من الفيلم البرازيلي الكبير "أنا مازلت هنا" الذي ذكرته في منشورين سابقين.. ومن اهم هذه الدروس ما يتعلق بالسؤال التالي: لماذا تنهار وتفشل وتتلاشى الديكتاتوريات في بلدان كثيرة في العالم، بينما تظل قائمة وممتدة لمئات السنين في بلدان أخرى نعرفها وتعرفنا؟ وما يمكن للمرء أن يخرج به من قلب هذا الفيلم نفسه هو أن اول واهم سبب في هزيمة الديكتاتورية هو المقاومة الصلبة المنظمة التي لا تتفسخ ولا تتفكك بل تظل تعمل سواء من فوق الارض او من تحتها في كل الظروف بل ومهما بدا ان الصورة قاتمة… المقاومة حتى بمحرد الاستمرار في التشبث بالأمل والابداع بشتى اشكاله وصوره… عنصر المقاومة المنظمة هو ما يفيب عن مجتمعات اخرى في منطقة نعرفها جيدا ويشعر العالم انها اصبحت عالة عليه بأمراضها المزمنة التي لا شفاء منها
!

السبت، 25 أبريل 2020

كورونا.. كورونا.. أين المفر؟


عندما وقعت تفجيرات سبتمبر 2001 أصبح حديث الصحافة هو هذا الحدث الذي أصبح يشار إليه بالتاريخ المقلوب (من اليسار إلى اليمين) “11/9”، أي في الحقيقة 11 سبتمبر. وكل من لم يكتب عن أي شيء له علاقة بالإرهاب الدولي أو الحروب والصراعات المسلحة طوال حياته، كتب عن 11 سبتمبر وقال وأفتى وأبدع وتوسع.
الآن أصبح موضوع وباء فايروس كورونا هو حديث الساعة، وكل ساعة. فهو الموضوع الذي صار مقرّرا علينا. تطالع أي صحيفة في العالم فتجد الغالبية العظمى من المقالات والأخبار مخصّصة لذلك الوباء الجائحي الذي اجتاح العالم.
وتفتح أي قناة تلفزيونية عربية أم أجنبية، لتجد “خبيرا” من الخبراء يقدّم لنا تحليلاته ونصائحه وتوقعاته، سواء كان هذا الخبير له صلة بالطب أم أن صلته به مثل علاقتي باللغة الصينية؟
أما الصين فقد أصبحت عند الكثيرين مجالا للصراع، خاصة بعد أن امتلأت شبكات التواصل الاجتماعي باللغات المختلفة، بالأقوال والأقوال المضادة بشأن مسؤولية الصين أم عدم مسؤوليتها عن تفشي الوباء القاتل من الأصل والأساس.
فهناك من جهة، من ينفي عن الصين أي اتهام بالتسبّب في انتشار المرض، ويميل لاتهام المخابرات المركزية الأميركية بالوقوف خلف هذا الفايروس الجديد، غالبا متأثرا بما جاء في كثير من الأفلام الأميركية. والمفارقة أنها فعلا “أميركية” وجهت الاتهام للمؤسّسة العسكرية والاستخباراتية الأميركية. وهو أمر لو حدث في أي جمهورية من جمهوريات “قشر الموز” التي نعرفها جيدا، لاعتقل جميع صناع الأفلام والمسلسلات وأغلقت دور السينما والمسرح وألعاب خيال الظل وألعاب السيرك، إلى أجل غير مسمى خشية من انتشار الوباء، وباء انتقاد الأجهزة “السيادية” التي تتسيّد ليلا ونهارا على الشعوب. لكنها تقف عاجزة تماما عن مواجهة فايروس صغير!
المدافعون عن الصين والمعجبون كثيرا بالتجربة الصينية، يمنون أنفسهم بأن يبرز دور العملاق الأصفر في عالم ما بعد كورونا، ليصبح قادرا على ردع الغطرسة الأميركية، وهو بالطبع شعور نابع من إحباط ترسّخ عبر عشرات السنين نتيجة انحياز السياسة الأميركية إلى جانب الأقوياء ضد الضعفاء والمستضعفين في العالم.
فكثير منا يعتقدون أن “الحكومة الأميركية” مؤسّسة رعاية اجتماعية، تنطلق من مبادئ الحب والخير والإحسان، وليست واجهة لمصالح اقتصادية تحميها الجيوش والأساطيل والقواعد العسكرية التي انتشرت في العالم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
في حين انكفأت الصين على نفسها في الداخل وآثرت الابتعاد عن المواقف السياسية أو التدخّل الفعّال بأي شكل من الأشكال، في الصراعات الدولية، ولها بالطبع مواقفها الشهيرة بالامتناع عن التصويت في مجلس الأمن، تجنبا للمشاكل والمنغّصات، فقد آثرت التركيز على التنمية الاقتصادية عن طريق استغلال “الطبقة العاملة” أبشع استغلال بشكل أقرب إلى الاستعباد، لإنتاج أجهزة وأدوات ومنتجات وملابس، رخيصة رديئة معروف أنها لن تصمد للزمن، وستسقط عند أول اختبار حقيقي.
أين ستذهب الصين -سياسيا وعسكريا- بعد أن تنتهي أزمة كورونا؟ أغلب الظن أنها ستواصل الانكفاء على الذات لحماية نظامها السياسي الاستبدادي الشمولي، الذي يعتقد أنه وراء ذلك التستّر المذهل على حقيقة ما وقع في ووهان. ولعل الأنباء الأخيرة تؤكّد وجود شيء ما غامض تتستّر عليه السلطات الصينية، وهو إصدارها قرارات تحظر أي محاولة للبحث في أسباب انتشار الفايروس من الأصل والأساس.
وهو موضوع سيتيح بكل تأكيد الفرصة مُجدّدا لمدمني نظريات المؤامرة، والذين يرون أن الصين هي المسؤولة الأولى والأخيرة عن انتقال المرض إلى العالم وخاصة إلى البلدان الأوروبية المفتوحة في الغرب، خاصة تلك التي تستقطب أكبر عدد من السياح في العالم: إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وبريطانيا والولايات المتحدة.
بدوري وجدت نفسي في هذا المقال أتورّط في مناقشة موضوع كورونا في حين أنني بدأته بنوع من التساؤل: هل يتعيّن على الكاتب، كل كاتب، أن يدلي بدلوه في الموضوع حتى لو لم يكن متخصّصا في الأمراض المعدية أو الفايروسات؟
 
"بعد 28 يوما" فيلم لداني بويل استشرف الوباء
أعرف أن البعض سيجيب بأن الحديث عن الوباء لا يقتصر فقط على الجانب العلمي والطبي بل يشمل مجالات الاجتماع والاقتصاد والثقافة والفنون. وهذا صحيح. ولكن هل من الطبيعي أن يفرض علينا الفايروس اللعين أن نتخلّى عن اهتماماتنا الأصلية بالأدب والفن والشعر والمسرح والموسيقى والسينما؟ ونتفرّغ لدراسة الآثار المحتملة على كل هذه الفنون؟
أعرف أن رئيس تحرير صحيفة “العرب” التي أكتب لها، أبدى ضيقه من وجود كلمة كورونا في عناوين الغالبية العظمى من المقالات التي تنشر في الصحيفة، إلاّ أن هذا هو ما يحدث حتى الآن، فالكتاب والصحافيون، بمن في ذلك زملاؤنا من نقاد الأدب والفن التشكيلي، تورطوا مثلي أيضا في “المسألة الكورونية”. وقد تفرّغت شخصيا، مضطرا، لإعادة مشاهدة الأفلام السينمائية التي تناولت الأوبئة والفايروسات القاتلة، الحقيقي منها أو الخيالي، وبعض هذه الأفلام يعتبرها البعض بمثابة “نبوءة” بظهور كورونا، في حين أن السينما لا تتّبع بالطبع، خطى العرّافين والمنجّمين.
ولكن لنفرض أن كورونا استمر لسنتين أو ثلاث سنوات فما العمل؟ هل يمكن أن تعيش الصحافة على موضوع واحد تتغذّى عليه وتغذّيه للقراء؟ أم أننا لا يجب أن نهمل اهتماماتنا الأخرى التي أراها بالضرورة “اهتمامات إنسانية” تهم الجميع وليس من الممكن الاستغناء عنها؟ وهل يمكننا استئناف الكتابة عن الحب والخير والجمال والإبداع والتأملات الروحية والفلسفية، من خلال أعمال الفن بكل أشكاله؟ أم أننا يجب أن نستسلم لما يفرضه علينا هذا الوباء البشع ونقصر اهتمامنا عليه؟
الإجابة بالطبع عند رئيس التحرير.. أليس كذلك!
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger