
أمير العمري
من العناصر الرئيسية التي تجعل أي فيلم عملا متماسكا جيدا أن يتمتع بوحدة الأسلوب، إلا لو كان صانع الفيلم يريد أن يتجاوز الأسلوب، ويحلق بعيدا عن المألوف والسائد، ليصنع أسلوبه الخاص الذي قد يكون قائما على ما يعرف بـ"Eclecticism" أي الانتقائية، بمعنى الاستلهام من مصادر وأفكار وسياقات متعددة. وليس هذا بالتأكيد ما كان يرمي إليه المخرج السويدي- المصري طارق صالح وهو يكتب ويخرج فيلمه الجديد "نسور الجمهورية" الذي عرض بالمسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي الـ78.
وبينما يمتلك الفنان الباحث عن مصادر وسياقات متعددة القدرة على تضفيرها معا بحيث يخلق أسلوبه الخاص أو يتحرر كلية من قيود الأسلوب، يبدو طارق صالح وقد ضل طريقه بين الأساليب المختلفة، بعد أن جذبته الرغبة في تقديم سردية سينمائية تتناول أولا عالم السينما المصرية بنجومها الكبار، وكيف يمكن أن يصبح "النجم" ضحية لنفسه، أولا حينما ينساق وراء نزواته معتقدا أنه قد أصبح شخصية لا يمكن تطويعها أو السيطرة عليها، ناهيك بالطبع عن تسخيرها واستخدامها، ثم كيف تدار العلاقة بين النظام في مجتمع شمولي، وبين المنظومة الإعلامية والفنية، وكيف تتداعى الأمور لكي نصل أيضا إلى وضع أكثر تعقيدا بالنسبة لذلك الممثل- النجم- البطل الذي يصبح شاهدا على ما لم يكن يخطر له على بال.
طارق صالح انطلق، وهو يكتب نصه السينمائي، من الكوميديا إلى الميلودراما ومنها إلى الفيلم السياسي، ثم إلى أسلوب الفيلم البوليسي، أو فيلم الإثارة "ثريللر" من دون أن يحدد هدفه بدقة، لذا فإنه يحيد في النهاية عن الهدف، ليأتي فيلمه في النهاية يعاني من الترهل والثرثرة والأحداث المبتورة، ومن ناحية أهم، من عدم المصداقية، أي أننا لا نستطيع تصديقه. ومن أولى مبادئ الفن السينمائي الذي يعتمد على تجسيد الفكرة بالصورة والحركة والتمثيل أن يجعل المستحيل قابلا للتصديق. أما في فيلم "نسور الجمهورية" فإن العلاقات والمواقف تتداعى وتتراكم دون أن تخلق سياقا مقنعا، أو تجسد شخصيات يمكنك أن تتفاعل معها وتصدقها أو تصدق ما تقوم به، فتبقى مجرد أنماط مصنوعة صنعا للتعبير عن رسالة سياسية غاضبة.
طارق صالح يكمل بهذا الفيلم ثلاثيته السياسية عن مصر، أو بالأحرى، عن القاهرة، التي بدأها بفيلم "حادث النيل هيلتون" (2017) الذي يتناول فساد مؤسسة الشرطة، ثم "ولد من الجنة" (2022) الذي يتناول العلاقة بين السلطة والمؤسسة الدينية متمثلة في الأزهر، والآن في "نسور الجمهورية" يريد أن يسبر أغوار العلاقة بين السلطة والسينما.
وهو يبدأ فيلمه بملصقات (أو أفيشات) من أفلام الماضي في عصر السينما المصرية بأمجادها الخالدة من الخمسينيات والستينيات، لكنه يضع على جانبها، ملصقا لبطله ذي الأنف الطويل، النجم السينمائي الشهير الذي يطلق عليه الإعلام المصري - فرضا بالطبع- "فرعون الشاشة"، وهو ما يولد السخرية أكثر مما يمكن أخذه على محمل الجد. فمن هو "فرعون الشاشة" المفترض؟
إنه النجم السينمائي "جورج فهمي" (يقوم بدوره الممثل اللبناني الأصل فارس فارس بطل الفيلمين السابقين) الذي سنعرف أنه مسيحي، وأنه منفصل عن زوجته، غالبا بسبب خياناته المتكررة لها، وأنه يعيش مع فتاة تصغره كثيرا في العمر هي "دنيا" (الجزائرية لينا خضري)، وهي ممثلة مبتدئة من الواضح أنها غير موهوبة، لكنها أيضا غير سعيدة في علاقتها مع "الفرعون"، لأسباب ليس أقلها بالطبع أنه يجد صعوبة في إرضاء رغبتها الجنسية. ونحن نراه في مشهد طريف يذهب إلى صيدلية ليلا متخفيا، لكي يشتري حبوب "الفياجرا" لكن الصيدلي يتعرف عليه ويسعد بحضوره، ويريد أن يلتقط صورة معه أيضا بينما صاحبنا يريد أن يُبقي الأمر سرا.
من الواضح أن سبب شهرة هذا الممثل في السينما المصرية وأنه قد أصبح "سوبر ستار"، يرجع إلى نوعية أفلامه وهي من الأفلام الشعبية الرائجة التي تحقق نجاحا جماهيريا كبيرا، أي من أفلام التسلية، لذلك لا يبدو جورج مقنعا في احتجاجه غضبه وانفعاله عندما يصبح مطلوبا منه القيام بدور في فيلم تموله الدولة، للترويج لصورة الرئيس عبد الفتاح السيسي تمهيدا لترشيحه للرئاسة في عام 2014 (زمن أحداث الفيلم).
وما يزيد الأمر سوءا أن رجلا يدعونه الدكتور منصور (عمرو واكد) هو الموفد الخاص من الرئاسة مباشرة، مكلف بالإشراف على تنفيذ الفيلم حسب ما يريده الرئيس تحديدا وطبقا للصورة المراد ترويجها، وبالتالي فمنصور هذا يصبح رقيبا على أداء جورج.
ثورة وغضب جورج تأتي في البداية مع رفضه القيام بالدور، بدعوى أنه أكبر من أن يعمل في فيلم دعائي، وأنه لا يقبل التوجيه والوصاية، وأن أفلامه تتمتع بمستوى محترم، وكلها تداعيات وثرثرة لا تقنع أحدا، لأنه لا يوجد ممثل في مصر لا يستجيب إلا لو تمرد وخرج عن النظام، أي أن يكون لديه موقفا سياسيا معارضا وعلى استعداد للتضحية بعمله، أما نموذج جورج فهمي فهو نموذج "ممتثل" غارق حتى أذنيه في "الهلس"، يغشى الحفلات، يتعرف على كبار المسؤولين السياسيين والأمنيين والعسكريين أيضا (لدينا هنا وزير الداخلية، ووزير الدفاع، ومدير المخابرات.. إلخ) لذا فمن المستبعد أن يرفض، والأكثر سذاجة وافتعالا أن السلطات تهدده بطريقة شديدة السذاجة، باعتقال ابنه، وهلي ترغمه على الامتثال، إلا أنه يظل مصرا على ضرورة أن يتمتع الفيلم بالمستوى الفني المتماسك، لذا يأتي بمخرجه المفضل، لكنه لن يستطيع سوى الاستجابة لما يطلب منه. وعندما يقوم جورج بالدور، يحاول أن يبتعد عن فكرة محاكاة "الرئيس" خصوصا أنه يختلف في شكله كثيرا عنه.
لا شك أن العلاقة بين السلطة الشمولية والفنان المستقل أو الذي يعتقد أن قوته تكمن في موهبته وأنه يستطيع أن يقاوم أي ضغوط بسبب شعبيته، هي فكرة جيدة، كان يمكن أن تنتج عملا فنيا كبيرا يتمتع بالمصداقية والتأثير كما رأينا مثلا في حالة فيلم "ميفستو" للمخرج المجري الكبير اشتيفان زابو (فاز بجائزة الأوسكار عام 1982)، لكن هذا كان يقتضي وجود سيناريو متماسك وشخصيات ناضجة، واضحة المعالم. أما جورج فهمي فهو لا يبيع روحه مقابل أن يتمتع بالصعود والشهرة والمجد والبقاء في دائرة الظل لينتهي إلى الدمار التام، بل هو من البداية شخص فاسد لا يقيم اعتبارا لأي شيء: لا لزوجته أو لابنه (الذي يقاطعه بسبب إهماله له)، ولا لصديقته الممثلة "رولا" (الفلسطينية شيرين دعبيس) ولا لعشيقته الشابة، ولا حتى لفنه. هو إذن لا يصلح كنموذج لسقوط فنان في أحابيل السلطة، فأمثاله يرحبون عادة بتقديم كل ما يطلب منهم، لكي يبقوا في دائرة الضوء، ومن هنا غياب المصداقية!

سيتخلى جورج عن صديقته الممثلة "رولا حداد" عندما تواجه موقفا صعبا من الناحية المادية بعد أن توقف المنتجون عن التعامل معها بتدخل من السلطة التي تريد أن تعاقبها، دون أن نفهم لماذا، هل بسبب صداقتها معه ومن أجل الضغط عليه لقبول القيام بالدور؟ ولماذا تستمر معاناتها بعد أن يكون قد قبل الدور بالفعل؟ لكن هنا تكمن نقاط الضعف في سيناريو الفيلم.. ومما يزيد الأمر سوءا، أن وزير الدفاع بمجرد أن تأتي سيرة رولا أمامه في إحدى الحفلات وهو بصحبة جورج، يطلب من جورج في لهفة رقم تليفونها، وكأنه لا يستطيع الحصول عليه بسهولة تامة، ونعرف فيما بعد أنه أقام معها علاقة لا نرى منها شيئا، لكننا نرى رولا فيما بعد وهي تشكو كيف كان الرجل متوحشا معها!
ولكن جورج فهمي من ناحيته سيوقع في شباكه زوجة الوزير "سوزان" المتعلمة في السوربون (المغربية زينب تريكي)، وستستسلم هي له من دون مقاومة دون أن نعرف سبب هذا الانجذاب المفاجيء، ثم تتخفى لكي تقابله سرا في غرفة أحد فنادق الدرجة الأولى، ثم سيأتي وقت يعترف لها جورج من دون أي تمهيد- بأنه واقع في حبها فعلا- ويريدها أن ترحل معه (لا نعرف إلى أين)، ولا يتضح موقف زوجها الوزير الذي يعرف بالأمر بل ويضبطها وهي تغادر الفندق.. ولكن الفيلم لا يهتم بمتابعة القصة التي خلقها من داخل الفيلم من دون أن تخدم الموضوع الأساسي، وسينتقل فجأة إلى تصوير مشهد حشد له الكثير من الإمكانيات لكنه جاء أشبه بمشاهد الإعلانات: أثناء الاحتفال بذكرى حرب أكتوبر 1973 في الكلية الحربية، تقع محاولة انقلاب يدبرها كبار المسؤولين، لا تنجح، ولا نعرف كيف وقعت ولماذا، وما هو الدافع المحرك، ومن الذي كشف المؤامرة. وكيف انتهت، وكما بدأ الحدث فجأة، ينتهي فجأة على نحو مبتور.. ولا يتضح موقف جورج فهمي أو علاقته بهذا الحدث.
من ناحية أخرى، فالشخصيات النسائية في الفيلم، كلها شخصيات سطحية وضعيفة وكان يمكن الاستغناء عن معظمها، دون أن يفقد الفيلم شيئا، فشخصية الممثلة رولا حداد، تختفي من الفيلم مبكرا، ثم تختفي العشيقة الشابة "دنيا"، ثم لا نعرف مصير الزوجة العاشقة الخائنة "سوزان"!

طارق صالح ينسى فكرته الأصلية عن الفنان والسلطة، ولا نعرف ماذا تم في الفيلم داخل الفيلم، ولا كيف انتهى تصويره، ويكتفي عمرو واكد بالتحديق بنظراته المتنمرة من وراء الستار، لكي يؤكد لنا الفيلم باستمرار أنه "الولد الشرير" the bad guy ولا يبقى من الفيلم شيء في النهاية، فلا الممثل فارس فارس كان مقنعا في دور نجم سينمائي مصري "سوبر ستار"، حتى من ناحية ملامحه الخارجية الشكلية البحتة، فهو متقدم في العمر، منحي الظهر، صاحب أنف منفر. أما من ناحية الأداء فأداؤه هنا أقل عما كان في الفيلمين السابقين والسبب يكمن في ضعف تصوير الشخصية في السيناريو.
ويعاني الفيلم بطبيعته، خصوصا أمام المشاهد المصري والعربي عموما، من تخبط في نطق اللهجة المصرية، فالممثلات (الجزائرية والفلسطينية والمغربية) يفتقدن إجادة اللهجة المصرية بطريقة واضحة. لكن الناقد الأجنبي "الخواجة" لن يدرك هذا لأنه يتابع من خلال الترجمة المطبوعة على شريط الفيلم. وهذا الناقد لا يهمه المستوى الفني بقدر ما يهتم عادة بالرسالة السياسية: وجود فساد وديكتاتورية وتصدع وتسلط.. إلخ
وبسبب تعدد الأساليب وتداخل القصص التي لا يتم إشباعها، وغياب شخصيات، وظهور شخصيات أخرى لا تضيف شيئا، والنهاية المبتورة الغامضة، يعاني الفيلم من هبوط الإيقاع خاصة في النصف الثاني منه الذي كان يقتضي بالضرورة إيقاعا أسرع، وتبدو اللقطات القليلة الملتقطة سرا، غالبا من داخل سيارات لشوارع القاهرة، عابرة ومنقوصة وغير متصلة جيدا مع باقي مشاهد الفيلم، ولا يبدو أن هناك أي معنى لجعل شخصية جورج فهمي، رجلا مسيحيا.. ومع ذلك يمكن القول إن هناك مشاهد محددة متفرقة من الفيلم، مصنوعة جيدا أو على الأقل، تتمتع بقيمة ما، مثل مشهد التحقيق الذي تجريه هيئة الرقابة على المصنفات الفنية (ثلاث نساء محجبات متزمتات) يلفتن نظر جورج إلى ضرورة الحفاظ على قيم المجتمع وأن أمثاله وأمثال ما يقدمه من أعمال فنية هي ما يفسد المجتمع، وطبعا نفهم أن الأمر يتعلق بفيلمه الأخير الذي رأينا منه مشهدا في البداية يدور بينه وبين رولا حيث يشتركان معا في قبلة.
لا يحقق فيلم "نسور الجمهورية" (وهي تسمية يطلقها رجال حماية النظام على أنفسهم في الفيلم) هدفه، فهو عمل مضطرب، يريد صانعه أن يلعب في المساحة بين الفيلم الجاد والفيلم الهزلي، بين الكوميديا والتعليق السياسي والفوضى العامة داخل أوكار السلطة، لكنه يظل بعيدا كل البعد عما يحدث حقا في مصر.. بل أقرب ما يكون إلى مسلسلات أوبرا الصابون "السوب أوبرا"!