الأحد، 24 أغسطس 2014

"القانون في هذه الأجزاء": شريعة الاحتلال!







هل المهم أن يطبق المحتل القانون الذي وضعه، أم أن القانون وضع أصلا كأداة شكلية لتحقيق الانتقام من "العدو" حتى لو كان هذا العدو مغلوبا على أمره، وجد نفسه ذات يوم تحت الاحتلال؟ هل المحاكمة تؤدي إلى إظهار الحقيقة، أم أنها محاكمة محكوم فيها من قبل أن تبدأ بفعل ثقافة "الانتقام" التي تسخر فيها فكرة العدالة، لإنزال العقاب بـ "الآخر".. الفلسطيني حتى لو لم تكن هناك أدلة على مخالفته القانون سوى شهادات ضباط الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشاباك) ضده؟ هل القانون في خدمة العدالة أم في خدمة الاحتلال، وهل يمكن أن يضع المحتل نظاما قانونيا ينصف المحتل ويعترف بـ "إنسانيته" وبحقه المشروع حسب القانون الدولي في "مقاومة الاحتلال"، أم سيعتبره دائما "إرهابيا" لا يجوز له ما يجوز لغيره في مكان آخر؟
هذه التساؤلات وغيرها هي ما تطرح في سياق الفيلم الوثائقي الإسرائيلي "القانون في هذه الأجزاء" The Law in These Parts للمخرج رعنان ألكسندروفيتش Ra'anan Alexandrowicz الذي يتخذ في هذا الفيلم وجهة غير مسبوقة، فهو من خلال أسلوب عقلاني تحليلي استقصائي، وبناء جدلي شبه تعليمي، يكشف ويعري ويفضح منظومة القهر التي تخضع لها حياة ملايين الفلسطينيين، من خلال تقنين الاحتلال، وتشريع ما يبدو ظاهريا أنه يحقق لهم نوعا من العدالة، لكنه في حقيقة الأمر – كما يكشف هذا الفيلم- ينتهي إلى أن يضرب بالقانون نفسه عرض الحائط، لكي تعلو فقط شريعة المحتل.
ينتمي الفيلم إلى تلك الموجة من الأفلام الإسرائيلية التي تحاول- من وقت إلى آخر- أن تطرح تساؤلات جادة حول ديمقراطية إسرائيل المزعومة، وهل هي ديمقراطية للجميع، وهل يمكن أن يوجد نظام قانوني عادل يطبق القوانين التي وضعها خبراء التشريع الإسرائيليون، على المحتل، تماما كما يطبقه على المحتلين.
ولكن الفيلم، بدلا من التركيز على "الضحايا" أي على الطرف الفلسطيني وما يتعرض له منذ 1967، يركز على "صناع القانون" ومن يقومون بتطبيقه. يختار المخرج مجموعة من خبراء القانون والقضاة العسكريين، وكلهم كانوا يعملون في القضاء العسكري، وكان مطلوبا منهم من أول يوم لاحتلال الضفة وغزة في 1967 وضع منظومة قوانين تنظم- كما يقولون- العلاقة بين السلطات العسكرية الاسرائيلية والفلسطينيين الذين أصبحوا الآن واقعين تحت الاحتلال.

شكل تخيلي
فوق منصة  يضع المخرج بنفسه في أول مشاهد الفيلم، منضدة ومقعدا على خلفية من شاشة خضراء، ويتناوب القضاة العسكريون والقانونيون الجلوس واحدا وراء الآخر فوق المقعد، أمام المخرج الذي يطرح الأسئلة عليهم، وقد أصبحوا الآن (خارج الخدمة) بعد أن تقاعدوا. وهو يترك لهم المجال للحديث والتبرير ومواجهة أنفسهم، دون تدخل كبير من جانبه، وعلى الشاشة الموجودة خلفهم يعرض لقطات معظمها مصور بالأبيض والأسود، للكثير من الأحداث والوقائع والقضايا التي تعرض لها الفلسطينيون في الأراضي المحتلة بعد 67، منها بعض الحالات التي يناقشها مع هؤلاء القانونيين الإسرائيليين الذين يتخذون مقعد الشاهد. ويستخدم أيضا الوثائق والأوراق التي تتضمن وقائع الكثير من الدعاوى القانونية والأحكام القضائية، يقرأ منها ونراها مصورة أمامنا على الشاشة، ويقتبس من الأحكام ومبرراتها، ويناول الأواراق للشخصية التي تجلس أمامه لكي ينعش ذاكرتها.
يقسم المخرج فيلمه هذا الفيلم الوثائقي الطويل (98 دقيقة) إلى خمسة أقسام، يكتب عنوان كل منها على الشاشة، وبعد أن يضع الطاولة والمقعد، تظهر على الشاشة لقطات لقوات الاحتلال تحرس عشرات المعتقلين الفلسطينيين في الضفة الغربية بعد احتلالها عام 1967. ويستخدم المخرج التعيلق الصوتي، بصوته، وباستخدام ضمير الأنا، فيقول إن الفرق بين الوثائقي والروائي أن الأول يتناول الحقائق بينما يعبر الثاني عن الخيال، ويستطرد: "قد يكون هذا صحيحا لكنه ليس دقيقا تماما". والمقصود كما سنعرف فيما بعد، التشكشك في صدق الكثير من "الوثائق" التي يعرضها. وهو يقدم فيلمه بقوله إن القانون يفترض أن ينظم الحياة بين الأفراد بعضهم بعضا وبينهم وبين السلطات، وإنه سيستعرض في فيلمه النظام القضائي الذي أنشيء بعد الاحتلال من خلال الذين أنشاوه وطبقوه وطوروه وحافظوا عليه.
القسم الأول من الفيلم بعنوان "الأوامر والبلاغات". يمسك أحد القضاة العسكريين بوثيقة يقدمها له المخرج مكتوبة بالعبرية والعربية.. إنها الوثيقة الأولى التي أعلنت على شكل بلاغ رسمي بعد الاحتلال مباشرة في يونيو 67، لكنه يفجر مفاجأة حينما يقول إن هذا البلاغ العسكري كان قد أعد قبل سنوات من الاحتلال الإسرائيلي في 67، وقد طبع منها عشرات الآلاف من النسخ ووضعت في صناديق تابعة للجيش الى حين يأتي موعد استخدامها. وتتضمن الوثيقة أن الأراضي الفلسطينية أصبحت الآن تحت سيطرة الجيش الاسرائيلي، وأن كل ما يصدر عن الحاكم العسكري قانون يجب الانصياع له.
ثم نرى لقطات توضح كيف فرض الجيش على الفلسطينيين إصدار بطاقات جديدة للهوية. ثم يأتي تنظيم جمع الضرائب وإعادة تنظيم البريد والاتصالات ونظم التأمين وقانون المرور وتحويل التعامل النقدي الى العملة الاسرائيلية.
يوجه المخرج سؤالا إلى أحد الخبراء القانونيين حول السبب الذي جعلهم يسنون قوانين خاصة للأراضي الفلسطينية في حين كان يمكن تطبيق القوانين الاسرائيلية، فيقول الرجل إنهم إذا فعلوا ذلك لأصبح الفلسطينيون في الضفة والقطاع مواطنين إسرائيليين بالضرورة، فليس من الممكن تطبيق القانون على الأرض دون البشر!


شيطنة الآخر
الفصل الثاني يحمل عنوان "إرهابيون ومجرمون". نرى لقطات من الجريدة الإخباريةالعسكرية الاسرائيلية التي تصف زيارة موشيه ديان الى الفلسطينيين المصطافين على شاطيء البحر في يافا (كذا!)، ثم جانبا من المحكمات العسكرية التي تجري يوميا للفلسطينيين، ولقطات من داخل ساحات المحاكم وقاعاتها، ويناقش المخرج مع أحد المدعين العسكريين قضية تعود إلى عام 1969 كان يمثل الادعاء فيها ضد 8 من الفلسطينيين أعضاء منظمة فتح، أتهموا بمحاولة تفجير مطار بن جوريون، ويركز على قائد المجموعة الذي يقول انه ولد في القدس لكنه اضطر للمغادرة الى الأردن، وإنه كان يقاوم الاحتلال، لكنه حوكم كإرهابي. ويتساءل المخرج لماذا لا يطبق عليه القانون الدولي الذي يبيح للواقعين تحت الاحتلال المقاومة؟ فيكون رد الخبير القانوني الاسرائيلي: ليس من الممكن اعتبار أمثال هؤلاء أسرى حرب حسب اتفاقية جنيف لأنهم يقتلون المدنيين!
يتوقف الفيلم أيضا أمام قضية امرأة فلسطينية تدعى عريفة ابراهيم (من عام 1976) اعتقلت بتهمة الاشتراك في اعمال ارهابية في حين أن كل ما فعلته أنها كانت تقدم الطعام والشراب الى مجموعة من الفدائيين الذين تسللوا من الأردن وكانوا يختبئون قرب قريتها.
يتحدث القاضي دوف شيفي عما يطلق عليه "الحيطان لها آذان" أي كيف يعتمد الجيش على عملاء وسط الفلسطينيين، ويناقشه المخرج حول ما يدلي به هؤلاء العملاء من شهادات ولماذا يجب تصديقها دائما، وهل كان القضاة يناقشون مثل هؤلاء الشهود، وكيف يأخذ القضاة بأقوال شهود لم تتح لهم فرصة مناقشتهم، ولكن الرد يكون دائما ان هذه السرية مقصودة حماية للعملاء كمصدر مهم للمعلومات عند الجيش.
في أحد المشاهد يعترف أحد القانونيين منفعلا بعد أن يحاصره المخرج بالأسئلة، بأن القضاء العسكري في النهاية يعمل عند الجيش الاسرائيلي، وأن هناك فارقا بين العدالة وبين النظام، وليس شرطا أن يتفق الاثنان دائما.
في القسم الثالث يصور الفيلم بدايات تطبيق سياسة الاستيطان في الضفة والقطاع، وكيف تلقف إريل شارون نصيحة من أحد القضاة العسكريين (يظهر في الفيلم ويتحدث عن التجربة) تعيد استخدام مادة في القانون العثماني تتعلق بما يطلق عليه "أرض ميتة" أي اعتبار كل أرض مهملة لا يزرعها أصحابها أرضا ميتة يجوز للجيش الاستيلاء عليها وتشجيع المستوطنين على البناء فوقها، وهو ما نراه عمليا في الفيلم من خلال الوثائق المصورة.
في الجزء الرابع بعنوان "حلول مناسبة" يصور الفيلم الانتفاضة الفلسطينية الأولى في 1987 وكيف كانت السلطات الاسرائيلية تطور في التشريعات والتطبيقات وتتجاوز الكثير لكي تواجهها وتقضي عليها. 
وفي أحد أهم المشاهد الوثائقية في الفيلم تدور الكاميرا في لقطات بالألوان على عدد من السجناء الفلسطينيين داخل زنازين مختلفة من وراء القضبان ويسألهم المصور واحدا وراء الآخر: لماذا أنت هنا فتأتي اجاباتهم جميعا متطابقة: لقد كانوا ضمن الانتفاضة. الأول يقول انه كان يلقي بالأحجار، وعندما يسأله المخرج: وما الحكم الذي صدر عليك؟ يقول: 14 شهرا. والثاني كان يوزع منشورات ويكتب على الجدران شعارات مناهضة للاحتلال، وقد ناله حكم بالسجن لمدة سنتين ونصف، والثالث قام بالقاء الاحجار وتوصيل أحد الفلسطينيين بسيارته وقد ناله حكم بالسجن لستة أشهر ونصف، وغرامة 500 شيكل!!

جهد توثيقي
يصور الفيلم في مونتاج جدلي مثير مع مزج على مقاطع من المقابلات مع القانونيين العسكريين، وعلى خلفية من موسيقى البيانو التي تبدو كالنذير بايقاعاتها الرتيبة، نسف البيوت الفلسطينية، مواجهة المظاهرات بأقصى درجات العنف، عمليات الترحيل الجماعي عبرالحدود، إقامة الحواجز والتفتيش وقطع الصلات بين المناطق والمدن الفلسطينية، وكلها اجراءات يراها القانونيون "ضرورية" اي أنهم يقرون بسياسة العقاب الجماعي للسكان.
من الواضح أن المخرج رعنان الكسندروفيتش، بذل جهدا هائلا مع فريق عمله من أجل توفير كل ما يلزم من وثائق ولقطات تدعم رؤيته التي لا يشوبها أي غموض من البداية، فهو يتخذ وجهة نظر المحقق الذي يبحث ويحاسب ويدقق ويوجه الأسئلة الموجعة، لهؤلاء اللذين يتحدثون بلغة القانون في حين أنهم يتجاوزون كل القوانين الانسانية المعروفة، ويبرون ما لا يمكن تبريره من ممارسات.
ليس في الفيلم ما هو زائد، كما لا ينقصه شيء، بل يبدو متماسكا من ناحية الايقاع رغم غزارة المادة البصرية وكثافة المقابلات المصورة التي يتم تقطيعها على مسار الفيلم وفصوله المختلة بذكاء وبحيث ينجذب المشاهد إلى الفيلم ويظل يتابع ما يكشف عنه كل مشهد من ملوماة جديدة أو وثيقة مصورة نادرة، وينجح في توصيل فكرته الفيلم الأساسية التي تتلخص في: كيف يتم "طبخ" القوانين من أجل تكريس سلطة الاحتلال، وهي قضية أخلاقية كما هي سياسية بالطبع.
ورغم الثبات الراسخ لدى قضاة الجيش الاسرائيلي وخبرائه القانونيين الذين يظهرون غير نادمين بالمرة في الفيلم، إلا أن بعضهم لا يملك أمام إلحاح المخرج بأسئلته القاسية الباردة تماما التي تأتي من خارج الكادر لتحاصر الشخصية التي يحاورها ، سوى الإقرار بأن الضرورات تبيح المحظورات، وأنه ليس من الممكن دائما الحديث عن العدالة بينما تكون أنت كقاض- تعمل لدى جيش احتلال. وهذه هي خلاصة رسالة الفيلم التي تصل الى الملايين عبر العالم.
جدير بالذكر أن هذا الفيلم حصل على جائزة أحسن فيلم وثائقي في مهرجان صندانس الأمريكي كما نال جوائز دولية أخرى.  

نشر أولا في موقع "الجزيرة الوثائقية"

الخميس، 14 أغسطس 2014

ليس بالبؤس وحده نصنع الفيلم الوثائقي!




(هذا المقال منشور في موقع الجزيرة الإخبارية- 13 أغسطس 2014)


 
أمير العمري



من بين الملامح البارزة التي تميز معظم ما ينتج على ساحة الفيلم الوثائقي في العالم العربي حاليا، ذلك النزوع إلى تصوير البؤس الإنساني في مستوياته الأدنى، والتركيز على قصص وحكايات البشر ممن يعيشون على هامش المجتمع، بحيث أصبحت تجربة المشاهدة من فيلم إلى آخر، تبدو متكررة، وكأنها تجربة "موحدة"، عمادها رغبة دفينة لدى صناع هذه الأفلام في سبر أغوار الواقع، بدعوى أن الفيلم الوثائقي هو "فيلم التعبير عن الواقع"، في مقابل الفيلم الروائي الذي هو - بالضرورة عند هؤلاء- تعبير عن الخيال السينمائي.
وبدعوى التعامل مع الواقع، يبحث معظم مخرجي الأفلام الوثائقية العرب عن مواضيع لأفلامهم، تتشابه مع بعضها البعض، ليس فقط في طبيعة الشخصيات التي تظهر في هذه الأفلام أو تدور الأفلام نفسها عنها، بل في تكرار الأسلوب نفسه الذي يقوم بصفة أساسية، على إجراء مقابلات من وراء الكاميرا مع تلك الشخصيات الهامشية المستبعدة من دائرة الوجود الاجتماعي، وهي مقابلات لا يعرف المخرج أين وكيف يديرها، أين تبدأ ومتى تنتهي، وما الذي يمكنه أن يستخدمه منها وما يستبعده، بل يبدو أن هناك ولعا خاصا بتسجيل وعرض كل ما ترويه تلك الشخصيات البائسة، باعتبار أن شهاداتها أكثر صدقا وتأثيرا من الصور التي تنقل وتترجم وتعبر- عادة- بلغة السينما، عن موضوع الفيلم وطبيعته وقضيته.

مقاعد وحوارات
لا يهتم المخرجون العرب الشباب بالصورة وبتركيب الفيلم وبنائه والتعامل معه باعتباره وسيطا ديناميكيا يملك إيقاعه الخاص وجمالياته الخاصة، يمكن أن يضارع الفيلم الروائي في تشويقه وجاذبيته، بقدر اهتمامهم بما تقوله الشخصيات التي تجلس أمام الكاميرا، والكاميرا نفسها تبدو مهتزة تتأرجح يمينا ويسارا بحيث تربك عين المتفرج التي تتأرجح معها أيضا، وذلك تحت دعوى أن تلك هي الواقعية، وأن السينما المسواة المصقولة أي المصنوعة جيدا، تخون الواقع ولا تعكس حالة البؤس الاجتماعي كما تعكسها الصورة المهتزة.
هذه الأنماط من الأفلام الوثائقية لا يصح أن نطلق عليها أفلاما، فهي عبارة عن مزيج بين التقرير التلفزيوني (الريبورتاج) وبين البرنامج التلفزيوني الحِواري.
"تحرير الفيلم عن طريق الكاميرا الرقمية (الديجيتال) ليس معناه أن نفقد ذلك "القيد" الأساسي الذي يشترط وجود قدر من المعرفة ومن الرغبة في إنجاز فيلم يثري السينما كما يثري الموضوع"
وإذا كان بعض صناع هذه الشرائط يستخدمون أحيانا بعض الصور الحية المصورة من الواقع نفسه، من الحياة، من الشارع، ومن شتى الأماكن، إلا أن التركيز الأساسي لصانع الفيلم يكون على المقابلات، لأن الاعتقاد السائد أن المقابلة المصورة يمكن أن تكون أكثر بلاغة في التعبير عن القضية. والمشكلة أنهم بهذا الاستسهال يجعلون صنع الفيلم عملية "عشوائية" يمكن أن يقوم بها أي إنسان، دون أن يكون لديه أصلا مخطط واضح لفيلمه: موضوعه، تكوينه، بناؤه، إيقاعه، مفرداته، لقطاته.
إن تحرير الفيلم عن طريق الكاميرا الرقمية (الديجيتال) ليس معناه أن نفقد ذلك "القيد" الأساسي الذي يشترط وجود قدر من المعرفة ومن الرغبة في إنجاز فيلم يثري السينما كما يثري الموضوع الذي يناقشه أو يعرضه. فالكاميرا ليست هي التي تصنع الأفلام بل يصنعها السينمائي الذي يقف خلفها، تماما كما أن القلم (أو الكيبورد) ليس هو الذي يكتب للكاتب مقالاته.
ومن أبرز المشاكل التي نشاهدها في هذا النوع من "أفلام البؤس" -إذا جاز التعبير- أنها تبدو بلا بناء ولا حبكة ويغيب عنها الترابط المطلوب في أي عمل فني، أي أن الفيلم يمكن أن يستمر لساعات أو ينتهي بعد دقائق، فلا إحساس بالزمان ولا بالإيقاع هناك، لأن المخرج عادة ما يقع في غرام كل ما يكون قد صوره، وخصوصا أن اهتمامه الرئيسي ينصب عادة على إبراز "الموضوع" و"القضية" وليس بناء عمل سينمائي متماسك يملك الجدة وقوة التأثير بالفن وليس بالشعارات.
والملاحظ أن هذا النوع من الشرائط المصورة انتشر انتشارا كبيرا بوجه خاص، بعد ظاهرة الانتفاضات والثورات التي شهدتها المنطقة العربية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، تحت تصور أن الواقع المتغير الملتهب، يوفر مادة ثرية يكفي تصويرها وتعليبها في فيلم أو شريط، لكي تكتسب قوتها من تلقاء نفسها.
ومن المؤسف أيضا أن كثيرا من المهرجانات، سواء تلك التي تقام في العالم العربي أو الخارجي، تسعى وراء ها النوع مما تطلق عليه "أفلام الثورات والربيع العربي" وتمنحها الاهتمام أو حتى الجوائز بغض النظر عن مستواها، فقد أصبحت بمثابة "موضة" رغم أن التلفزيون بتقاريره اليومية، يسبقها كثيرا في تغطية مثل هذه الأحداث. وكأن الاهتمام منبعه سياسي وليس فنيا أو جماليا، وصناع هذه الأفلام يشعرون بغبطة خاصة لاختيار أفلامهم في المهرجانات كأنها تقدم مفهوما جديدا للسينما!

البؤس والواقعية
الملحوظة الأخرى التي تتبدى في معظم أفلام "الواقع" كما يحب صناعها أن يطلقوا عليها، هي سمة البؤس والكآبة والمغالاة الشديدة في تصوير البؤس بحيث لا يعود هناك أي مخرَج للإنسان من وضعه الاجتماعي، وكأن البؤس حالة سرمدية قدرية مغلقة لا يملك المرء أمامها سوى الاستسلام أو التباكي عليها.
"هناك فارق كبير بين العدمية والواقعية. الأولى تجعل كل ما يقع في الواقع يملك قوته الخاصة الدافعة التي لا يستطيع أن يواجهها الإنسان، أما الواقعية فتهتم أساسا بتصوير قدرة الإنسان على تجاوز واقعه"
لم تكن فكرة الواقعية أن ننقل البؤس دون أن ننير الشاشة ببصيص ضوء وأمل في إمكانية التغيير. وهناك فارق كبير لاشك، بين العدمية والواقعية. الأولى تجعل كل ما يقع في الواقع يملك قوته الخاصة الدافعة التي لا يستطيع أن يواجهها الإنسان، أما الواقعية فتهتم أساسا، بتصوير قدرة الإنسان على تجاوز واقعه. ولعل من المهم هنا أيضا أن نؤكد أن فكرة تصوير الواقع كما هو لا تمت بصلة إلى الواقعية، بل هي فكرة ثبت بالتجربة مدى سذاجتها، فليس هناك فيلم يمكنه أن يزعم أنه "يصور الواقع"، بل إن أكثر الأفلام مباشرة، تعكس "رؤية" المصور والمخرج لما يراه في الواقع، فزوايا التصوير والمونتاج وتركيب الصوت والمؤثرات والتعليق.. كلها تتدخل في "صياغة" واقع آخر يشاهده المتفرج، هو واقع الفيلم وليس واقع الحياة.
 
وليست الواقعية في النهاية، هي الشكل الوحيد للفيلم الوثائقي. من الضروري أن يستمد الفيلم الوثائقي مادته من الواقع ومن الحياة، ولكن في الحياة الكثير جدا من الأشياء غير الفقر وحياة الهامش والتدني الاجتماعي والأخلاقي والبؤس والكآبة، بل ويمكن أيضا القول إنه من جوف الصورة التي تعكس البؤس يمكننا أيضا أن نرى قوة الإرادة والرغبة في الاحتفال بالحياة، شريطة أن يعرف السينمائي أساسا، كيف يقتنصها وكيف يعبر عنها، بدلا من تلك الرغبة الدائمة، في صدم العين.. وصفع المجتمع!
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger