الجمعة، 11 نوفمبر 2011

حول فيلم "في الوقت المحدد": بيع الأعمار!


استمتعت أخيرا بمشاهدة الفيلم الأمريكي In Time للمخرج أندرو نيكول، في إحدى دور العرض اللندنية، وهو يروي قصة موحية رمزية تدور في المستقبل عن كيفية تحكم المؤسسات الرأسمالية والأثرياء الكبار في الولايات المتحدة في أرواح البشر، وكيف يشترون الأعمار، يطيلون فيها أو يقصرونها حسب ما يرون وطبقا لمصالحهم، وكيف أصبح كل شيء للبيع، بيع الوقت أي الزمن، أي قسط زمني من العمر مقابل أي شيء يريد المرء شراؤه.

إنها رؤية مخيفة للمستقبل، ولكنها بطبيعة الحال، رؤية لها في الواقع الكثير من الشواهد عليها، إذا ما اخذنا في الاعتبار ما يجري في العالم من كوارث اقتصادية اليوم بعد انهيار النظام المالي والكشف عن الاستغلال الرهيب من جانب البنوك والاحتكارات المالية للإنسان العادي البسيط.

نحن أمام فيلم "ثوري" بكل معنى الكلمة، أي فيلم يدعو بشكل واضح إلى رفض المؤسسة القائمة، ويكشفها ويعري طرائقها وأساليبها ويدينها بانعدام الإنسانية، لكنه في الوقت نفسه، يفعل هذا بالكثير جدا من البراعة الفنية، سواء من ناحية الخيال البديع الذي يكفل لكاتب السيناريو نسج الكثير من الشخصيات والأحداث والتفاصيل الفرعية المكملة للحبكة والتي تخدم الموضوع وتتطور به، بحيث لا يمكنك العثور على ثغرات فنية كثيرة في هذا الفيلم البديع المؤثر. وهذا درس لكل الراغبين في صنع أفلام تحمل "رسالة" ولا يقيمون عادة وزنا كبيرا للاهتمام بالجانب الفني، بالخيال، بالابتكار، بالشكل، بطريقة المعالجة الفنية، بل يلجاون الى الخطابة والصراخ والهستيريا وحشد عشر شخصيات أمام الكاميرا في لقطة واحدة، والكل صرخ ويتجادل!

هنا نحن أمام إيقاع متدفق صاعد، مواقف منسوجة ببراعة لكي ترسخ الفكرة وتكشف عن الجوانب المختلفة للموضوع، وتنفيذ قوي للكثير من المشاهد، وقدرة فنية رفيعة في خلق الجو العام للفيلم، والارتباط بين شريطي الصوت والصورة، وتحكم كبير في الأداء التمثيلي.

فيلم "في الوقت المحدد" عمل فيه الكثير من الابتكار الفني، والكثير من الأصالة، لكنه أساسا، عمل إنساني يعبر عن رفض الإنسان للإنسان، ويحذرنا من السقوط في المستنقع نحو تلك النهاية التي لا تجعل هناك أي فرق بين أن نحيا وأن ننتحر!

الأربعاء، 9 نوفمبر 2011

"الهافر".. أو العالم كما هو وكما ينبغي أن يكون!

من أجمل واقرب الأفلام إلى قلوب المشاهدين في دورة مهرجان كان السينمائي الـ64 فيلم "الهافر" Le Havre للمخرج الفنلندي الشهير أكي كوريسماكي Kaurismaki..
هذا المخرج الذي يواصل تقديم الأفلام المثيرة للإعجاب، كونه يجمع بين طابع سينما المؤلف، أي السينمائي الذي يملك رؤية خاصة للعالم وهي سينما "نخبوية" عادة، وبين طابع الفيلم الشعبي، الذي يتميز ببساطته، بوضوح رؤيته، بحميميته، وبموضوعه الإنساني القريب من القلوب.
هنا في هذا الفيلم الجديد، يخرج كوريسماكي عن حدود هلسنكي، عالمه الأثير، ليقدم عملا من الإنتاج المشترك مع فرنسا، يصوره في الميناء الفرنسي الشهير الذي يحمل الفيلم اسمه، ولكن دون أن يتنازل، أو يتقاعس عن تقديم رؤيته الخاصة، مجسدا من خلالها عالمه الخاص الأثير إلى نفسه، عالم الشخصيات الهامشية الوحيدة التي تشعر بغربتها في العالم، وحاجتها الى التعاضد الانساني، قدرتها رغم ذلك على السخرية، وعلى التحلي بروح متفائلة.
هذا العالم الخاص هنا يتمحور بين الواقع والخيال، ما يحدث فعلا وما يمكن أن يحدث، وما نتمنى أن يحدث، تعقيدات الواقع التي تتبدل تدريجيا مع اكتشاف أن البشر في معظمهم أنقياء وأوفياء وعلى استعداد لتقديم ما ينتظر منهم وقت الضرورة، كبشر يتضامنون معا بغض النظر عن حواجز الدين والجنس والهوية القومية، وقسوة الواقع الذي يمكن ان يفقد فيه الانسان حياته لأي سبب، أو يصبح ضحية للحواجز المفروضة بقسوة، والسجون الكبيرة التي تقام لكي تحد من حرية البشر في الانتقال والعمل رغم كل ما يقال عكس ذلك.

سيناريو متقن
فيلم كوريسماكي يعتمد كعادته، على سيناريو متقن، يجسد أزمة الفرد في المجتمع، ولكن عندما يكتشف أن تحققه يمكن ان يأتي من خلال توحده مع الآخرين، وعلى أداء تمثيلي محكوم، وعلى أسلوب إخراج، صحيح أنه يعكس طريقة صاحبه في التعبير، لكنه يبدو أيضا في هذا الفيلم تحديدا، متأثرا بأسلوب بعض المخرجين الفرنسيين الذين يهيم هو بهم وباعمالهم من فترة الواقعية الشعرية مثل مارسيل كارنيه على وجه الخصوص.
بطل الفيلم "ماكس"، رجل في خريف العمر، مهاجر فنلندي متجنس بالجنسية الفرنسية يعيش مع زوجته المعتلة صحيا "أرليتي"، فهي مصابة بمرض خطير، لكنها تخفي الأمر على زوجها وتتشبث بمعجزة الشفاء التي قد تأتي في نهاية الأمر.. من يدري!
وماكس فنان كان ذات يوم في الماضي، مرموقا ثم تدهور به الحال واضطر الى العمل كماسح للأحذية على أرصفة ميناء الهافر وأمام مقاهيه.
يسوق القدر إليه ذات يوم طفلا افريقيا من المهاجرين غير الشرعيين الذين تقبض عليهم السلطات وتضعهم في معسكر كبير للمهاجرين تمهيدا لترحيلهم. هذا المعسكر المعروف الذي ذاع صيته عبر نشرات الأخبار خلال الفترة الأخيرة، ويعرف باسم "الغابة" وتمت تصفيته بقسوة وفظاظة من قبل السلطات الفرنسية.



دور الكلبة
الطفل "إدريسا" يتمكن من الهرب من الشرطة، ويلجأ الى منزل ماكس الذي يأويه ويمده بالرعاية ويخفيه عن عيون الشرطة، في غياب زوجته المريضة في المستشفى، وبمعاونة كلبته الأليفة الذكية "لايكا"، وهي في الحقيقة الكلبة التي يصفها بعض النقاد بـ"الكلبة الأكثر شهرة في السينما الأوروبية"، فهي تظهر في معظم أفلام كوريسماكي وترتبط به.
لكن ضابط الشرطة المخضرم المفتش مونيه يشك في وجود الصبي في منزل ماكس، ويحاول استدراجه للاعتراف. ولكن هذا الضابط القاسي الملامح، الجامد من الخارج سنكتشف قرب النهاية أنه يخفي قلبا شديد الطيبة لا يقل في طيبته عن جيران ماكس جميعا واصدقائه الذين يساعدونه بتوفير احتياجاته من المواد الغذائية بمن فيهم البقال الجزائري الأصل المتزوج من فرنسية، وعامل القمامة الصيني الأصل، وجارته الفرنسية الطيبة صاحبة المخبز التي تزوده بالخبز يوميا.
يبدأ الجميع في جمع التبرعات من أجل دفع تكاليف تهريب الصبي "إدريسا" على متن سفينة تعبر الى الساحل البريطاني لكي يلتحق الصبي بأمه التي سبقته في التسلل الى بلاد الانجليز وتقيم في لندن.
وفي اللحظة التي توشك الخطة التي يشترك فيها الجميع على النجاح، يظهر المفتش مونيه، ولكن لكي يحمي تهريب الصبي من مطاردة رجال شرطة الهجرة، ويقدم يد المساعدة للآخرين.
مزيج من الواقعية والحلم، تسيطر على أجواء الفيلم بحيث أننا أحيانا نتخيل اننا نشاهد فيلما من الأفلام الفرنسية في الأربعينيات تلك التي تميزت بما يعرف بـ"الفيلم- نوار".. أي بأجواء الغموض، والسرية، والتوتر، والظلال القاتمة، وفي أحيان أخرى، نشعر أننا نشاهد "كوميديا" من تلك التي تعتمد على المفارقات المشهدية لا على المبالغة في الأداء أو المفارقات المصطنعة.
وبين الطابعين تتلون المشهدية، من الاضاءة الناعمة ذات الألوان الواضحة: الأزرق والأحمر بوجه خاص، وينتقل التصوير من الداخل الى الخارج، وبالعكس، دون أن يفقد التتابع حيويته وهدوئه مع المحافظة على إيقاع رصين لا يخرج عن المسار باستثناء ربما في المشهد الذي يستعين فيه ماكس بمغني معتزل لأغاني البوب من جيل الستينيات، ويقنعه باقامة حفل محلي لجمع لصالح تمويل رحلة "إدريسا" إلى لندن.

عن الأداء
الأداء كالعادة في أفلام كوريسماكي، محسوب بدقة، والحوار قصير ومختصر ولكنه يعبر عن كل شخصية بأقل الكلمات، كما يعبر حوار بطلنا "ماكس" عن خلفيته المثقفة مع لمسة فلسفية أيضا، ولاشك أن "ماكس" الذي يحمل فلسفة كوريسماكي نفسه، هو شخصية "مخترعة" أي سينمائية أساسا، وكذلك معظم الشخصيات التي تأتي كما أشرت في السابق، متآلفة، إيجابية، تسعى للخير، رغم ما يكمن في الواقع من قسوة شديدة نلمحها في المشهد الأول عندما يقتل أحد زبائن ماكس في تصفيات بين عصابات الأشقياء فيما يبدو، وأيضا في المشهد شبه التسجيلي الذي صوره كوريسماكي داخل معسكر ايواء اللاجئين المعروف بـ"الغابة"، أثناء بحث البطل عن أحد يمكنه أن يرشده الى مكان والدة ادريسا.
وينهي كوريسماكي الفيلم بخروج زوجة ماكس تخرج من المستشفى بعد ان شفيت من مرضها العضال فعلا، لكي تكون بمثابة المكافأة له على موقفه النبيل.
"الهافر" في النهاية، رغم عدم حصوله على جوائز في مهرجان كان بينما كان كثيرون يتوقعون له "السعفة الذهبية" لا أقل، يمثل خطوة الى الأمام في مسيرة مخرجه الطويلة، ونقلة تتجاوز كثيرا ما حققه في فيلمه السابق "أضواء في الغسق" الذي عرض في مسابقة كان عام 2006.جدير بالذكر أن كوريسماكي من مواليد 1957، وقد أخرج حتى الآن 28 فيلما، ما بين طويل وقصير وتسجيلي. وفيلمه السابق مباشرة هو فيلم تسجيلي صوره في الشيشان ويحمل عنوان "برزخ" Barzakh.

الأربعاء، 2 نوفمبر 2011

تحذير من هجوم التتار على السينما وعلى الوطن!





الإخوان المتسعودون قادمون، لا ريب في ذلك، قادمون الى برلمان مصر، هم ومعهم مجموعة ممن يطلقون على أنفسهم السلفيين (والأحق أن يقال السفليين!)، ومجموعة أخرى ممن يمكن أن نطلق عليهم "نواب الإرهاب"، أي الذين يمثلون ما يسمى بتنظيم الجهاد وجماعة التكفير والهجرة والجماعة الإسلامية.
هذه الجماعات التي تنتمي للعمل السياسي، ومنها ما اكتشف قيمة وأهمية العمل في الساحة السياسية بعد أن كان يحرم ويجرم هذا النشاط (السفليون على وجه التحديد وهم حوالي 5 ملايين شخص) بل وكانوا يحرمون الثورة والخروج على الحاكم وتعاونوا طويلا مع أجهزة أمن الدولة وتعذيب المواطنين، أقول إن هذه الجماعات تتفق جميعها في عدة أشياء أساسية منها الانطلاق من فكر تكفير الآخر، أي كل من لا ينتمي لها الفصيل، وكل من لا يعتبر من وجهة نظرهم متدينا على طريقتهم، ومن لا يرتدي ملابس مثلما يرتدون، ولا يطلق لحية شيطانية مثل لحاهم المقيتة البشعة التي تخيف الأطفال الأبرياء، وكل من لا يتفق مع شعارهم "الإسلام هو الحل" الذي يرهبون به غيرهم من المسلمين، ويخيفون المسيحيين من "شركاء الوطن والمصير"، لدفعهم دفعا إلى الهجرة من مصر.
ومن ضمن الأشياء التي يتفق فيها هؤلاء من أصحاب الفكر التكفيري (وعلى رأسهم تنظيم الإخوان المتأسلمين مهما ادعوا عكس ذلك والذين خرج من معطفهم كل دعاة الارهاب وجماعات التطرف) كراهية السينما، والميل إلى تحريمها، ومصادرة الأفلام التي لا تحمل فكرا موجها يتبنى دعوتهم وأفكارهم السياسية وتفسيراتهم العقيمة المتشددة للدين، ولذلك فوصول هذه القوى السياسية التي تنتمي للعصور الوسطى الى الحكم في مصر معناه ببساطة أن أيام السينما المصرية باتت معدودة، فليس من المتصور أن يسمحوا باستمرار أفلام تنتقد وتصور الواقع والعلاقات الاجتماعية القائمة بما فيها من فساد وتدهور وتفسخ جاء نتيجة ستين عاما من التسلط والديكتاتورية وحكم مجموعة من العسكر الجهلاء الذين لا يتميزون بأي ميزة بل يستندون أساسا، إلى قوة المدرعات والطائرات المدمرة التي يمكن أن تحاصر وتقصف وتقتل (أبناء الشعب العزل طبعا وليس جنود الأعداء).
إن السينما المصرية ذات التاريخ العريق ستواجه أصعب مراحلها التاريخية في العصر القادم أي يبشرنا كثير من أصحاب الفكر اليوم بأنه سيكون عصر الحريات والديمقراطية، فيما نرى ان فئة معينة تنتمي في فكرها الى العصر الحجري، تستعد لالتهام كعكة الثورة المصرية التي رفضت هذه القوى في البداية المشاركة فيها بل وأصدرت بيانات تعاديها وتناهضها وتعلن فيها تمكسها بما كان يسمى بـ"الشرعية" أي بشرعية نظام مبارك الذي يتشدقون الآن بأنهم كاوا من أشد معارضيه!



إن نهاية السينما في مصر معناه نهاية الحداثة والفنون البصرية وفن الصورة إلا تلك التي تحمل دعاية مباشرة للعقيدة السياسية لجماعات التأسلم السياسي على شاكلة الدعاية الفاشية والنازية، لذلك لا أرى أي شكل آخر من مناهضة هذه القوى الزاحفة بقوة اليقين الشيطاني الى الاستيلاء على السلطة في غيبة الوعي العام، سوى الاستعداد التصدي لها بالقوة.
ولعل الدرس الألماني لايزال أمامنا واضحا، فلو كان القطاع الديمقراطي الوطني في ألمانيا قد تصدى للتيار النازي بالقوة وأنزلوا بأنصاره الهزيمة، لما أوصلوا ألمانيا الى ما وصلت اليه من عار وهزيمة لاتزال تدفع ثمنها حتى يومنا هذا رغم الفارق الكبير بالطبع بين أيديولوجية علمانية من صنع البشر أيا كانت شموليتها، وأيديولوجية دينية تزعم أنها تستند الى ما أنزله الله عز وجل!
فكيف سنواجه تلك القوى وهي تشهر في وجوهنا السيوف متخذة من الإسلام رهينة بين يديها، وكيف سنتمكن من قهرها؟ في صندوق الانتخابات؟
أشك أن هذا الصندوق سيكون متاحا بعد أربع سنوات من وصول تلك الشراذم الى السلطة في مصر، فستصبح عملية الاقتراع نفسها في خبر كان، وسيتم تدمير المؤسسات العصرية والاعتماد على ما يصدر من فتاوى موجبة من "المرشد العام"!
السينمائيون اليوم في حاجة الى أن يتحولوا من فنانين انعزاليين الى مقاتلين ليس فقط من أجل انقاذ السينما، بل وانقاذ الوطن نفسه. 
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger