

هذا الفيلم الذي كان قد أصبح قبل عرضه للمرة الأولى في كان، "الفيلم المنتظر"، جاء مخيبا للآمال إلى درجة أن أصبح الوحيدون الذين احتفلوا به في كان هم أعضاء فريق الفيلم ذاته، فأصبح ينطبق عليهم ما ينطبق على كل "السعداء بأنفسم" أي أولئك الذين لا يسمعون غير صوتهم.
ما هو موضوع الفيلم؟ الموضوع يدور حول "رؤية" خيالية حول كيف تصدى اليهود للألمان النازيين، أو تحديدا كيف تمكن يهود أمريكا من تجنيد مجموعة من القوات الخاصة جدا للقضاء على النظام النازي وإنقاذ أقرانهم اليهود من مصيرهم الأسود، يقود أفراد هذه المجموعة الخاصة المدربة تدريبا عنيفا، ضابط أمريكي (يقوم بالدور براد بيت) تتسلل خلف خطوط الألمان في فرنسا، وتلقي الرعب في قلوب الجنود الألمان بسبب الطريقة القاسية التي يمارس بها أفرادها القتل، ثم سلخ رءوس ضحاياهم على غرار ما كان يحدث للهنود الحمر في أمريكا.
هتلر شخصيا يهتم بأمر تلك المجموعة الخاصة، ويصدر تعليماته للجستابو بضرورة الوصول إليها والقضاء على افرادها.
التأثر بالويسترن
في المشهد الأول من الفيلم، الذي يستغرق نحو 20 دقيقة، ويعتبر بلاشك أفضل ما في الفيلم كله، وهو مشهد يبقى في الذاكرة نرى الضابط النازي "هانز لاندا"- صائد اليهود، الذي يستخدم كل الأساليب للوصول إلى هدفه: يتدرج من الرقة والنعومة والدهاء والمداعبة والتلويح بالمكافأة، إلى الصرامة، ثم العنف البارد كنصل السكين.

ينتهي المشهد بأن يعترف الفرنسي وهو يرتجف بوجود اليهود في المكان. أين؟ يطلب منه الضابط استخدام الإشارة.. فيشير إلى أسفل، إلى الأرضية. يطلب الضابط من الجنود المنتظرين في الخارج الدخول، ويشير إلى الأرضية الخشبية، فينهمر الرصاص، يقضي على الجميع فيما عدا طفلة صغيرة تتمكن من الهرب هي التي سنعود إليها فيما بعد في الفصل الرابع من الفيلم (مكون من خمسة فصول على طريقة الروايات الأدبية) وهي فتاة تدعى شوشانا.
مجموعة "الأوغاد" بقيادة الضابط ألدو (براد بيت) تواصل حملتها المرعبة على طريقة فيلم "دستة أقذار" Dirty Dozen (1967) لروبرت ألدريتش، لكن الفيلم ينتقل لكي يدخلنا إلى عالم التجسس والمخابرات البريطانية التي تزرع عملاء لها داخل خطوط الألمان، ومع هؤلاء العملاء ممثلة حسناء مشهورة تدعى بريديجت فون هامر سمارك (ديان كروجر)، وهي ألمانية من أصول أرستقراطية، مقصود بالطبع أن تحاكي شخصية الممثلة الشهيرة في تلك الفترة مارلين ديتريتش.
هنا يفقد الفيلم الخيط الرئيسي، ويدخلنا إلى متاهة تلو أخرى. ويفقد الممثلون السيطرة على أدوارهم، ويختلط الأمر على تارانتينو فلا نعرف ما اذا كان يخرج مسرحية داخل فيلم، أو فيلما على خشبة مسرح: فهناك حوارات لا تنتهي باستخدام اللغات الألمانية والانجليزية والفرنسية والإيطالية، ومشاهد تلعب فيها الحبكة المفتعلة دورا أساسيا في "تخريب" قيمتها الوحيدة التي تجعل السخرية فيها تنبع من ما وراء حداثيتها وتعارضها المقصود مع منطق الأشياء.

وعندما نصل إلى شوشانا، نخرج من عالم لندخل إلى عالم آخر، فقد أصبحت هذه الفتاة حاليا صاحبة دار للسينما في باريس، يساعدها شاب أسود، تقيم علاقة عاطفية معه. لكن باريس الآن تحت قبضة الاحتلال النازي، وجوبلز يرغب في استخدام تلك السينما للعرض الخاص لأحد أفلام الدعاية النازية الشهيرة (قد يكون فيلم لليني ريفنشتال) والفوهرر (أي هتلر) متحمس لحضور هذا العرض ولابد بالتالي من تأمين دار السينما.
يضع الحلفاء باستخدام فريق "الأوغاد" بالتعاون مع شوشانا وصديقها وعملائهم في الداخل، خطة لتفجير دار السينما بكل من فيها من كبار الشخصيات النازية في الرايخ الثالث.
ولكن ضابط الجستابو الذكي يكشف الخطة، يقتل فون هامر سمارك، وشركائها، ويعتقل ألدو ورفاقه، لكنهم يساومونه على الانضمام للحلفاء بعد أن اقتربت هزيمة ألمانيا، فيوافق، ثم يخدعونه، ويقتلونه، ويتم تفجير دار السينما، وهذكا يحقق اليهود انتصارهم.. من النازية.. على الشاشة!

مشكلة هذا الفيلم
في رأيي أن مشكلة فيلم تارينتينو الأساسيا أنه ذو طابع قصدي من أول لقطة إلى آخر لقطة، أي أن ما سيصل إليه معروف مسبقا للمشاهد، اضف إلى ذلك أنه فيلم فاقد للتحكم في الزمن أو لما يعرف بمبدأ الاقتصاد في السرد (ساعتان ونصف) دون ضرورة درامية ملحة، فأنت تستطيع أن تستغني عن كل تلك الالتفافات والمنعرجات التي يدخلك إليها ويأخذك بعيدا عن الموضوع قبل أن يعود بك، كما يمكنك أن تستغني عن عشرات المشاهد الزائدة، والشخصيات التي لا تضيف سوى مزيد من الحشو، وعن مساحات زائدة من معظم المشاهد تقريبا (باستثناء المشهد الأول الذي لا يضاهيه مشهد آخر في الفيلم) وهذه هي الكارثة الفنية أو "الانتحار" الفني الذي جعلنا جميعا نتوقف مذهولين في "كان" أمام هذا الفيلم الذي عول الكثيرون عليه. وعندما عدت أخيرا لمشاهدته مرة أخرة تأكدت أن شعوري لم يكن نتيجة لكثرة المشاهدات في مهرجان كان (شاهدت هذه المرة 42 فيلما) بل لأن هناك خللا أصيلا في الفيلم رغم كل ما توفر له من إمكانيات هائلة (حوالي 27 خبير في المؤثرات الخاصة فقط إلى جانب عشرات الخبراء في الملابس وتصميم الديكورات والمؤثرات البصرية.. وغيرها).
ونعود لكي نقول ونؤكد أن الأصل والأساس هو في ضعف السيناريو، فكيف يمكن أن يدخل مخرج كبير محترف ميدان العمل بسيناريو مليء بكل هذه الثقوب؟!
والمقصود بالثقوب هنا ليس عدم منطقية الأحداث والوقائع التي يرويها، فهذا أمر مشروع تماما في اطار السياق المعروف الذي يميز أفلام تارانتينو أي أسلوبه الخاص الما بعد حداثي، وإعلائه من شأن اللاعقلانية، وسخريته المريرة من التاريخ الحالي الذي نعيشه، ورفضه التعامل معه على أنه "حقيقة".
أما الثقوب فهي تتمثل كما أشرت في كل هذه الاستطرادات والاطالة والتكرار والشخصيات الزائدة، وهو ما أدى إلى فقدانه السيطرة على الأداء (باستثناء الأداء العبقري الفذ للممثل النمساوي العظيم كريستوف فالتز)، وفقدان الإمساك بالايقاع العام للفيلم، وافتقاده إلى أي مساحات حرة نتوقف أمامها لالتقاط الأنفاس، والعلاقة المفتعلة بين الفتاة اليهودية والشاب الأسود، كذلك سوء اختيار عدد من الممثلين على رأسهم براد بيت نفسه الذي بدا شديد الجمود في دور الضابط ألدو الذي يقود المجموعة اليهودية (وقد تساءل الكثيرون عن حق لماذا يقودهم ضابط ينتمي للجنوب الأمريكي ولماذا لم يكن يهوديا مثلهم).

مؤثرات ما بعد الحداثة
لاشك أن شوشانا (تقوم بالدور الممثلة الفرنسية الحسناء ميلاني لورون) رمز للقوة الناعمة اليهودية التي تتحول إلى قوة غاشمة، تستدرج الألمان لتقتلهم بطريقة رهيبة عندما تستخدم، مع صديقها، كل مخزون الأفلام وتشعل النار فيها فتصبح مادة السيولويد مثل قنبلة شديدة الانفجار، بل إنها من البداية ترفض التقرب من جندي ألماني حاول اقامة علاقة عاطفية معها رغم ولعه الشديد بالسينما ورفضه لحياة العسكرية التي لم يكن مؤهلالها وهو ما يجعل المتفرج يتعاطف معه، لكنها رغم رقته البالغة واختلافه عن الآخرين لا تتزرع عن قتله ببشاعة.
الخلط بين الأساليب كما هو معروف، أحد أسس سينما ما بعد الحداثة وسينما تارينتينو بالتالي: الانتقال من أسلوب فيلم الويسترن، إلى الفيلم الحربي، إلى الفيلم الكوميدي على طريقة بستر كيتون وميل بروكس. وهناك أيضا تأثرات واضحة بأفلام قديمة شائعة معروفة مثل فيلم "حدث ذات مرة في الغرب" لسيرجيو ليوني الشهير (يبدأ فيلم تارانتينو بالمناسبة بكتابة على الشاشة تقول: حدث ذات مرة في الريف الفرنسي) وفيلم ليوني الآخر أيضا "مزيد من الدولارات"، وفيلم "دستة أقذار" وغيرهما، وهناك إدخال عالم السينما والشرائط المصورة (هتلر ورفاقه يقضون بينما يشاهدون فيلما طويلا عن أمجادهم)، والتلصص على الجنس من فتحة في الباب (الجنس بين شوشانا وصديقها)، وفكرة السخرية من التاريخ، والاهتمام الكبير بدور المرأة فيه (أساس الموضوع كله هو الطفلة التي تصبح فتاة جذابة مغوية).. هذه كلها من مفردات ما بعد الحداثة البارزة في هذا الفيلم ولكن بدون أن يكون الفيلم بالضرورة قد نجح في استخدامها للتعبير عن موضوعه.
ويبقى السؤال: ما الذي يمكن أن يخرج به المتفرج من فيلم "أوغاد مجهولون"؟
قدر كبير من التشوش الذهني، والتشتت والإحباط بسبب انعدام قدرة المخرج الكبير على استخدام ما يعرف بـ"القطع" في الوقت المناسب، سواء داخل المشهد الواحد وهو أمر ذو علاقة أكيدة بالفشل في السيطرة على ما يعرف بـ"الميزانسين"، أو خلال عملية المونتاج نفسها عند توليف اللقطات والمشاهد أو الجمل السينمائية معا، فلا يمكن أن نظل ساعتين نشاهد ونستمع أو نتابع الترجمات المتعددة أسفل الشريط كما لو كنا نستمع إلى تمثيلية اذاعية، فهناك حوارات طويلة لا تنتهي في هذا الفيلم، بعضها طريف ولكن الكم الأكبر يفتقد لروح المرح، بينما المحيط الطبيعي للفيلم كان يغري بتفجير كل الطاقات السينمائية التي توفرها الكاميرا. "خسارة كل هذه الأموال التي ضاعت هباء".. وخسارة كبيرة موسيقى العبقري الإيطالي إنيو موريكوني الموحية التي تستحق الاقتناء بمفردها.. هذا ما خرجت أنا شخصيا به من هذا الفيلم!
((تحذير: جميع الحقوق محفوظة للناشر))
2 comments:
شكرا على عرض فيلم
عندي سؤال او تخيل: فيلم زي ده ممكن يبقى مسرحية افضل ؟
يعني الشخصيات ..الديكور حسسني انه ممكن يبقى على مسرح ومش ها يخسر حاجة من الناحية البصرية .. القصة نفسها بتاعة الفرقة الامريكية خصوصا انها موش حقيقية هل لو كانت في مسرحية كان اتقبلت اكتر منها في فيلم؟ حتى شكل الاخ هتلر برضه كونه موش مقارب للواقع في شيء
موش عارفة بس جه ف بالي الفكرة دي!
طبعا كل يء ممكن ولكن المشكلة ان تارانتينو اختار ان يخرج هذه المادة في فيلم سينمائي وعلينا ان نحكم عليه من هذا المنطلق.. هناك فكرة العبث بالتاريخ في الفيلم وهو ما يتسق مع فكر تارنتينو، لكنه لم ينجح في رأيي في التعبير عنها بشكل جيد ومثير..
إرسال تعليق