الأربعاء، 27 يوليو 2016

كم هناك من مضحكات







في مصر الكثير من الغرائب والعجائب، بل المضحكات، التي تبدو وكأن القائمين عليها ليس لديهم سوى محاولة لفت الأنظار واختراع ما لا يمكن اختراعه، فقط لمجرد الادعاء باكتشاف أبواب جديدة وأشياء جديدة لم تكن تخطر على بال الجن نفسه!
هناك مثلا الإخوة الذين اخترعوا جوائز أطلقوا عليها "الأوسكار العربي"، والمقصود في الحقيقة "المصري" فلا علاقة للأفلام العربية بها، ولكنه التشبث بالمفهوم الناصري الذي جعل التليفزيون المصري يطلق على نفسه التليفزيون العربي، كما جعل من مصر مجرد "جمهورية عربية" لا اسم لها، ولكن ليس هذا هو الموضوع على أي حال. فالموضوع هو أن هؤلاء الاخوة استأجروا قاعة في فندق، ووجهوا دعوات لبعض نجوم السينما، بحي يضمنوا وجود تغطية صحفية وتليفزيونية لحفلهم هذا الذي لم يسبق الاعلان عنه، واتخذوا له عنوان "الأوسكار العربي" بل وتجرأوا بمنح عدد كبير من الجوائز (التي نعتبرها جوائز وهمية ممن لا يملك إلى من لا يستحق) في كل فروع العمل السينمائي على غرار الأوسكار الاميركي، كما ومنحوا المطربة "أصالة" جائزة أفضل أغنية عن الأغية التي غتنها في فيلم "ولاد رزق" كما منحوا جائزة أحسن ممثل الى الممثلالراحل نور الشريف عن دوره في فيلم "بتوقيت القاهرة"، ولكن دون أن نعرف من الذي منح، وعلى أي أساس، وما الغرض من هذه التظاهرة، ومن الذي يقف وراءها، وما موقف الدولة ممثلة في وزارة الثقافة التي تضع شروكا محددة للمهرجانات والمسابقات الفنية والثقافية التي تقام في مصر، فلم يعد أي من هذه الأشياء يهم، بل الأهم أن تلتقط الصور وتنشر الأخبار في الصحافة الاستهلاكية التي أصبح يمتلكها بعض ممن لا علاقة لهم بالنشر بل بصناعة الحديد والاستثمار في المقاولات!
وهناك أيضا ما نشر مؤخرا عما أطلق عليه "مهرجان الفيلم النقي" بل وترجموه أيضا الى الانجليزية دون أدنى شعور بالخجل الى "بيوريفيايد موفي فيستيفال" (أي الفيلم الذي تمت تنقيته!)، ولك بالطبع أن تضع ما تشاء من من علامات التعجب أمام هذه التسمية المثيرة السخرية.
ويقول صاحب المهرجان وهو صاحب اسم نشك في وجوده، أن مهرجانه هذا "لن يكرم أو يسمح بمشاركة الأفلام الغير مهذبة الخالية من تحرى المبادئ والقيم حتى ولو كانت من ضمن الأفلام التى حققت نجاح جماهيري وحصدت على أعلى الأيرادات خلال السنوات السابقة" (كذا). وأضاف أن مهرجانه "سيكون نواة لمشروع كبير يخدم السينما المصرية والعمل على تنشئة جيل جديد من صناع السينما النقية التى كانت ولا زالت (كذا) مقصد ومثل أعلى للعالم أجمع فى السينما والفن" وقد تركنا كلمات البيان العبقري كما هي بأخطائها اللغوية الفادحة.
والمشكلة أن من يقومون بابتكار هذه الطرائف يوما بعد يوم، لا أحد يعرف من هم ومن الذي يقف وراءهم ويمولهم ويسمح لهم بالظهور على حساب السينما، ولكن المشكلة الأخطر أن يجد هؤلاء من الأسماء اللامعة للسينمائيين والممثلين ونجوم السينما، من يقبل الظهور في استعراضاتهم المزيفة، فقط لمجرد التوتجد وحب الظهور أمام الكاميرات،  وهم بهذا المسلك، يضفون مشروعية على أشياء وهمية زائفة لا تستحق مجرد الالتفات. فالعالم على سليب المثال، يعرف ما هي "مياه الشرب النقية" لكنه لم يعرف بعد السينما النقية"!
من الواجب على الدولة المصرية ممثلة في وزارة الثقافة، أن تفرض حجرا على هؤلاء وتحاسبهم، فهم باختصار يشوهون، سمعة مصر الثقافية في العالم. لكن المصيبة أن أصحاب هذا المهرجان التعيس يعلنون انه سيقام برعاية المجلس الأعلى للثقافة ووزارة السياحة، أي أن الدولة التي يفترض أن تكون أكثر وعيا، أصبحت مشارك فعال في الجريمة!


السبت، 23 أبريل 2016

الأفلام العربية "الأجنبية"


هيفاء المنصور مع بطلة فيلمها "وجدة|



قد يبدو هذا العنوان غريبا بعض الشيء، فكيف يمكن أن تكون الأفلام العربية أجنبية؟ والحقيقة أن من يتابع عن كثب تطور الأفلام التي يخرجها مخرجون ينتمون الى العالم العربي سيجد نفسه أمام مفارقة غريبة كل الغرابة، هي أن أفضل تلك الأفلام ليست من الإنتاج العربي بشكل خالص، ولا أقصد بـ "الإنتاج" هنا التمويل فقط، فمن الممكن أن يحصل المخرج السينمائي على تمويل من 14 شركة مختلفة في 14 دولة، فالإنتاج المشترك أصبح سمة العصر السينمائي الحالي.
ويصر البعض على نسبة الإنتاج - بشكل مضلل- الى الدول، كأن يقولون لك إن فيلما ما اشتركت في إنتاجه فرنسا والجزائر، بينما الصحيح القول إنه "فيلم جزائري فرنسي"، فنسبة الفيلم إلى الدولتين في هذه الحالة، يوحي بأن الجزائر وفرنسا اشتركتا معا في إنتاجه، وهو غير صحيح بالطبع فالدول لم تعد تنتج الأفلام، بل عادة ما يكون المقصود "شركات" الإنتاج السينمائية الخاصة التي تعمل في هذه الدول، وأحيانا تكون هذه الشركات أيضا مملوكة للأجانب كما كان الحال في ثمانينيات القرن الماضي مع شركة "كانون" (الأميركية التي أسسها وكان يملكها ويديرها المخرج والمنتج الإسرائيلي مناخيم غولان مع إبن عنه يورام غلوبوس)!
أما ما نقصده بـ "الفيلم العربي الأجنبي"، فهو كون العمليات الفنية الأساسية التي تشكل الصورة الفنية السينمائية لأي فيلم تكون عادة من صنع أياد "أجنبية".
لدينا مثلا فيلم "وجدة" للمخرجة السعودية هيفاء المنصور. هذا الفيلم عرض في العالم كله منذ عرضه في مهرجان فينيسيا عام 2012، باعتباره فيلما "سعوديا"، في حين أنه من إنتاج وتمويل 17 شركة، الغالبية العظمى منها شركات ألمانية، مع مساهمة من شركة روتانا (ومقرها الرياض) ودعم مباشر من مؤسسات مثل مهرجان صندانس الأميركي، وصندوق الدعم في مهرجان روتردام، وصندوق دعم السينما في دبي (إنجاز). وكلها جهات أصيلة في إنتاج الفيلم، وقد نسب الفيلم الى السعودية كونه يتناول قصة تدور أحداثها في السعودية ومخرجته سعودية والممثلون الذين اشتركا فيه سعوديون. ويبلغ عدد المنتجون الذين تولوا تنفيذ الفيلم 9 منتجين منفذين، جميعهم من الألمان باستثناء عنصر واحد فقط سعودي.
غير أننا سنكتشف أن مدير التصوير والمونتير ومؤلف الموسيقى ومهندس الديكور ومصمم المناظر والمؤثرات البصرية، جميعهم من الألمان. وإذا ما عرفنا كيف تُصنع هذه الأفلام "المشتركة" تحت إشراف الطرف الإنتاجي الأقوي، وهو الطرف الألماني في هذه الحالة، لابد أن ندرك أن هناك الكثير من المساعدين والمشرفين على الإنتاج الذين يتدخلون ويوجهون المخرج خصوصا اذا كان من المبتدئين.
أما فيلم "ذيب" الذي يمثل "العرب" كما يقال، في مسابقة الأوسكار، فصحيح أنه من إخراج الأردني هاني أبو نوار، لكن مدير تصويره هو النمساوي ولفغانغ ثالر، والمونتير هو البريطاني روبرت لويد، ومصممة المناظر هي البريطانية أنا لافيل، ومؤلف الموسيقى التصويرية المصاحبة هو البريطاني جيري لين.. وهكذا. وقد تلقى أبو نوار مساعدة ملموسة يعترف هو بها، من جانب مستشاري السيناريو (الأوروبيين) أثناء كتابة السيناريو.
هذه الحقائق تدفعنا الى التساؤل عن مدى "عربية" أفلام من هذا النوع.. إلى أي حد تعكس المستوى السينمائي "العربي"، وتعبر عن الفكر السينمائي "العربي" وتعرض المهارة التقنية السينمائية "العربية".
لقد أصبحت هذه القضية "خلافية" حقا، فكثير من النقاد لا يعتبر تلك الافلام أفلاما عربية أنتجت في نفس الظروف وبموجب نفس الامكانيات الموضوعية التي تتاح لغيرها من الأفلام العربية التي تعتمد على جهود العرب وحدهم.
والأمثلة في هذا المجال كثيرة لمن يريد أن يدرس تلك الظاهرة، التي أرى أنها تستحق الدراسة بلاشك.



الثلاثاء، 1 مارس 2016

عن هذا الفيلم.. وهذا الجمهور



منذ زمن بعيد وأنا مشغول بمحاولة فهم “جمهور السينما”.. ما هو بالضبط هذا الجمهور؟ وممن يتكون؟ وما الذي يعجبه من أفلام؟ وكيف يستقبل الأفلام؟ وهل لدى هذا الجمهور أجهزة استقبال ذهنية تختلف عما لدى الناقد المخضرم المحترف الذي قضى عمره في المشاهدة الدقيقة والقراءة والتعلم؟ وعلى أي أساس يرفض جمهور ما فيلما ما؟ ويقبل بغيره ويرحب به ويرفعه إلى مصاف الأعمال العظيمة؟ بينما يمكن أن يكون هذا الفيلم عملا بدائيا ضعيفـا حسب المقاييس الفنيـة والجمالية؟
هذه التساؤلات وغيرها وردت على ذهني بعد مشاهدة الفيلم الإسرائيلي “عاصفة رملية” في مهرجان برلين السينمائي.
قصة الفيلم تدور في بيئة بدوية في صحراء النقب، أبطالها امرأة تدعى جليلة وزوجها سليمان الذي يبدأ الفيلم بحفل زواجه من امرأة ثانية هي عفاف، أكثر شبابا ونضارة من جليلة العابسة المتجهمة.
ومع ذلك، فجليلة هي التي تدير الأمور، ترعى بناتها الأربع من سليمان، وكبرى أولئك البنات هي ليلى ابنة الثمانية عشر ربيعا التي تحب شابا في مثل عمرها هو منير زميل دراستها، فهي تتمتع بهامش كبير من الحرية التي أتاحها لها والدها، رغم أنه ينتمي لقبيلة من البدو.. فهي رغم أنها محجبة، تقود السيارة وتستخدم الهاتف المحمول. ووالدها سليمان يرتدي الملابس الأوروبية، يدخن السجائر الأميركية، ويمتلك الهاتف المحمول والسيارة.
ولكي لا أطيل في وصف تفاصيل عمل تقليدي ربما يكون مألوفا تماما لمشاهدي الأفلام المصرية القديمة (البدوية) التي كانت تقوم ببطولتها كوكا، أكتفي بالقول إن الأم ترفض علاقة ابنتها بالشاب منير، وتخشى العواقب، والابنة تصرّ على اطلاع الأب على رغبة منير في الزواج منها، بل يذهب منير نفسه للأب لكي يخطبها منه، ويظل الأب يردد على مسامع ابنته أنه شاب جيد وسيكون زوجا جيدا بالتأكيد، لكننا نفاجأ في النهاية بأنه يفرض عليها الزواج من رجل لا تعرفه.
الفيلم هو أول أفلام المخرجة الإسرائيلية إليت زكسر، وكان يمكن أن تروى أحداثه في 20 أو 25 دقيقة لا أكثر لكنه يمتد لساعة ونصف دون أن نرى فيه شيئا متميزا، فحواره مفكك، وأخطاؤه كثيرة ومشاهده طويلة وفكرته سطحية.
ربما يكون هناك تميز في أداء الممثلين الفلسطينيين الذين ساهموا فيه، لكنه رغم نقده لفكرة السيطرة الذكورية على المرأة في المجتمع البدوي، لا يتجاوز “الحدوتة” الميلودرامية المألوفة.


إنها صورة نمطية مستهكلة في بناء مهلهل وحوار مفتعل وسخيف، لكن القاعة التي امتلأت عن آخرها بالجمهور الألماني، انفجرت في النهاية في عاصفة من التصفيق خاصة بعد أن صعدت المخرجة على المسرح وهي ترتدي سروال الجينز ضيقة، تتلوى وهي تلوك الكلمات بلكنة أميركية مصرة على تقديم كل العاملين بالفيلم من الإسرائيليين.
والأكثر مدعاة للدهشة أن ينهض شخص وراء آخر، يغالي كثيرا في الإشادة بالفيلم والتغزل بمستواه الفني، بل إن أحدهم وصفه بأنه “قصيدة شعر”، وهو ما دفعني إلى التفكير: كيف كان هذا الجمهور نفسه يمكن أن يستقبل فيلما مثل “غرام بثينة” أو “رابحة” أو “وهيبة ملكة الغجر” أو “وداد”؟ وكلها أفلام بدوية تناقش مواضيع مشابهة وبأسلوب أكثر حرفية من أسلوب هذه المخرجة التي لا تعرف أصلا كلمة واحدة من اللغة العربية التي تستخدمها في فيلمها، بل ولا يعنيها أمر الفلسطينيين أو البدو في شيء، بدليل أن فيلمها يبدو وكأنه يدور في كوكب آخر.
فلا ذكر للسلطة الإسرائيلية ومسؤوليتها عن غياب التنمية في تلك المناطق البدوية وتهميش هذه الفئة ومصادرة أراضيها وهدم منازلها.
وفي المقابـل، فالمهم أن يظهـر الفيلـم أمام العالم باعتباره معبرا عن رؤية نسائية تتضامن مع المرأة أينما كانت، وهو ما أجده نوعا من “الغش التجاري”.

الخميس، 11 فبراير 2016

صبحي شفيق الذي غادرنا








توفي مؤخرا عن 84 عاما، الناقد والمخرج السينمائي المصري صبحي شفيق، أحد رواد النقد السينمائي العربي من جيل العمالقة الذين أسسوا في الخمسينات والستينات مدرسة النقد السينمائي العلمي الذي يقوم على تحليل العناصر الفنية للفيلم والإلمام بتاريخ السينما.

كان الراحل الكبير ناقدا مثقفا كثير الإطلاع، وكان بحكم معرفته باللغة الفرنسية، ودراسته في باريس ومعاصرته لحركة "الموجة الجديدة" في الخمسينيات، قد أصبح في وقت ما من أوائل الستينيات "نبي السينما الجديدة" في مصر.

كنا نستمع إليه عادة في "البرنامج الثاني"، وهي الإذاعة التي كانت مخصصة للثقافة في مصر، يصول ويجول، يحدثنا عن التيارات الجديدة في السينما العالمية، وعن العلاقة بين السينما والأدب الجديد الذي كان أحد رواده وقتها آلان روب غرييه. 

وكان أيضا يكتب في الملحق الثقافي في "الأهرام"، وقت أن كان يكتب فيه عمالقة الكتاب في مصر مثل الدكتور لويس عوض، توفيق الحكيم، نجيب محفوظ، حسين فوزي، زكي نجيب محمود، عائشة عبد الرحمن، يوسف إدريس، وغيرهم.

وعندما أصدرت وزارة الثقافة مجلة "المسرح والسينما" عام 1968 كان صبحي شفيق أحد أعضاء هيئة تحرير قسم السينما فيها. وقد اطلعنا على كتاباته وترجماته ومنها دراسة حول بدايات الموجة الجديدة وأصول نظرية "الكاميرا- قلم"، و"المخرج- المؤلف" لألكسندر أستروك، المنظر والمخرج السينمائي الفرنسي الذي كتب عنه صبحي شفيق الكثير، وشرح نظريته بطريقة جذابة وممتعة، واعتبره الأب الروحي الحقيقي للموجة الجديدة الفرنسية. وقد ترجم صبحي شفيق ونشر في هذه المجلة، سيناريو فيلم "عاشت حياتها" لغودار، وقدم له تقديما مثيرا للانتباه. إلا وقد أراد صبحي شفيق، الناقد، أن يحقق نظريته الخاصة في السينما، وأن يسير على درب مخرجي "الموجة الجديدة"، الذين تحولوا من النقد إلى ممارسة الإخراج السينمائي، فأخرج فيلمه الروائي الطويل الوحيد "التلاقي" عام 1973، وكان يدور فكرة التدهور الاجتماعي ويقدم إدانة سياسية لمجتمع الهزيمة، وقد منع من العرض وظل ممنوعا ربما حتى يومنا هذا، وكان- للمفارقة- من إنتاج مؤسسة السينما التابعة للدولة، أي أن الدولة أنتجن ثم منعت!

وقد أدى شعور صبحي بالاضطهاد في مصر إلى أن غادر البلاد في منتصف الثمانينيات إلى باريس، حيث قضى هناك نحو عشر سنوات، عمل خلالها في مجلة "جون أفريك"، وقدم بعض التجارب السينمائية القصيرة. وعندما عاد إلى مصر، كانت الظروف قد تغيرت تماما، وأصبح صبحي خارج "التركيبة" بالكامل، إلا أنه التحق بتدريس التليفزيون، في إحدى الجامعات الاقليمية.

وقد تعاونت مع صبحي شفيق عندما أصدرنا من جمعية نقاد السينما  التي رأستت مجلس إدارتها في 2002 مجلة "السينما الجديدة"، ثم تعاونا معا في الكتاب الذي أعددته عن "كلاسيكيات السينما التسجيلية" وكتب صبحي دراسة طويلة عن الفيلم التسجيلي الحديث في عصر الكاميرات الرقمية، وكان شديد الاهتمام عموما بالتركيز على جماليات الصورة، وكثيرا ما كان يأتي الى جمعية النقاد ويتحدث بحماسة شديدة، عن الصورة ومكوناتها، وينتقد شباب المخرجين الذين يتعاملون بدون وعي كاف، مع الكاميرا، وكان له أيضا تشبيه طريف لمن يفرطون في تحريك الكاميرا باستخدام عدسة "الزووم" إلى الأمام وإلى الخلف، فكان يشبههم بالفلاح الذي يستخدم ما يسمى بـ "الطلمبة" اليدوية التي يحركها الى أعلا وأسفل لاستخراج الماء من باطن الأرض!

كان صبحي خلال السنوات الأخيرة، يقضي الليل بأكمله يبحث، ويدرس وينقب عن المعلومات الجديدة في مجال السينما ووسائل الاتصال عوما. ورغم أنه ينتمي إلى جيل قديم إلا أنه تمكن بفضل دأبه الشخصي، من تطوير قدراته وأدواته، وتعلم كيف يتعامل مع اجهزة الكومبيوتر وشبكة الانترنت، كما درس الكاميرات الرقمية وامكانيات عملها، وكان يستعين باحدى هذه الكاميرا وهو يقوم بالتدريس لطلابه.

رحم الله صبحي شفيق الذي تعلمنا على يديه كيف نفكر سينمائيا!


الأربعاء، 10 فبراير 2016

الأصول الاجتماعية والثقافية والفلسفية لمفهوم النقد



لكي يتعلم بعض من لا يريدون التعلم أن "الصنعة" ليست بالصراخ والعويل والبكاء على غياب النقد وتدهور النقد وجهل النقاد، نعيد نشر هذا المقال الهام للكاتب والمفكر ابراهيم الحيدري الذي نراه مفتاحا لفهم الكثير من الأشياء..



                     الأصول الاجتماعية والثقافية والفلسفية لمفهوم النقد

                                                                  بقلم: ابراهيم الحيدري
 


لا يمكن فهم الاصول الاجتماعية والثقافية والفلسفية لمفهوم النقد من دون الرجوع الى الفلاسفة وعلماء الاجتماع الذين ساهموا في ارساء قواعده. ويقف على رأس هؤلاء عامنوئيل كانت في نقده للعقل الخالص وفردريك هيغل في جدليته وكارل ماركس في نقده للاقتصاد السياسي. وكذلك دلتاى وركرت في اتجاههم التأويلي ورواد مدرسة فرانكفورت في علم الاجتماع النقدي. ان هذه التيارات الفكرية شكلت المصادر الاساسية والاطار العام للفلسفة وعلم الاجتماع النقديين وكذلك لجميع الاتجاهات النقدية الحديثة الاخرى.

مفهوم النقد
ان مفههوم النقد، بوصفه ظاهرة من ظواهر التاريخ والمجتمع والثقافة يعود الى نهاية القرون الوسطى، التي مهدت الطريق لتطور مفهوم النقد في ابعاده الاجتماعية والثقافية والفلسفية والسياسية.
فلسفيا، بدأ النقد حسب الموضوع ثم اصبح حسب الكلمة. وجاءت كلمة نقد( Kritik،Critic) لاول مرة في اللغة الاغريقية ( techne)، بمعنى الاختبار او الحكم، الذي يعتبر اهم المقدرات عند الانسان التي تحفظه من الخطأ او الخديعة، وبصورة خاصة، فيما يخص الشخص ذاته، وهو ما اطلق عيه بـ "النقد الذاتي"، وفي ذات الوقت دلت كلمة "نقد" على نوع من الجدل العقلي او النشاط المتميز للعقل من اجل الوصول الى معرفة اخرى.
جاء مفهوم النقد عند افلاطون بمعنى فلسفي تماما، ولكن ليس بالمعنى الشائع اليوم لكلمة "نقد" وانما بمعنى مختلف وهو " الحكم "، اذ اعتبر افلاطون النقد كقطيعة بين الروح والجسد وربطه باسطورة الحكمة الإلهية لليوم الآخر. فالروح حين تخرج من الجسد في اليوم الاخر يكافأ الانسان اما بالصعود الى عالم السماء او النزول الى عالم الجحيم والعذاب. وبصورة او باخرى فالانسان يولد من جديد.
اما عند سقراط فجاءت كلمة " نقد" بمعنى التمييز بين ما هو حقيقي وبين ما هو غير ذلك. وتشير كلمة نقد، تقنية Technik او فن Kunst او " تقنيةالاخلاق" الى نفس معنى الحكم او اصدار قرار، وهو المعنى الذي انتقل الى الفلسفة الاخلاقية. والحال ان الفلسفة منذ قرون هي نظام للعمل النقدي الذي ميزه بلوتارخ في نظريته:"ما هو الجميل/ الاصيل" عن القبيح المشين، وكذلك ماهو العادل وغير العادل. وبايجاز شديد: ما هو القصد، وما هو المخرج ؟
وكان من الطبيعي ان ياتي دور العقل في المرتبة الثانية بعد الايمان وبخاصة بعد توسع نفوذ الكنيسة وهيمنتها على المجتمع حيث اخذ مصطلح النقد يشير الى عملية اصدار احكام صحيحة تستند على معلومات حقيقية تتعلق بدراسة النصوص القديمة، سواء كانت كلاسيكية او مقدسة، واستخدم من قبل الاتجاهات الدينية المختلفة آنذاك كسلاح ذو حدين. فقد استخدمه الكاثوليك كمنهج لغوي للتدليل على اهمية ودور الكنيسة مثلما استخدمه البروتستانت في دعم أولوية الاعتماد على الكتاب المقدس ذاته. وقد اكد القديس اوغسطين على قاعدة اصولية مؤداها " ان سلطة الكتاب المقدس هي اكبر من جميع قوى العقل الانساني." وبعد تنامي الفلسفة المدرسية، اخذت هذه النظرة تتغير بالتدريج وذلك بفعل افكار اريجين الفلسفية، الذي كان معاصرا للفيلسوف العربي ابو يوسف الكندي. كما كان اول فيلسوف أوربي ربط بين سلطة العقل وموضوع الدين، واكد بان اي سلطة لا تقوم على العقل تعتبر سلطة كسيحة، واول من اعطى لنفسه الحرية في تفسير النصوص الدينية تفسيرا عقلانيا، ولذلك نظرت الكنيسة بعين الريبة والحذر الى افكاره، وامرت بحرق كتبه وطرده من الكنيسة. كما كان القديس أنسلم ، الذي عاش في القرن الثاني عشر الميلادي، احد الدعاة الى تحكيم العقل في امور الدين.
وخلال القرن الثالث عشر ازدادت النزعة العقلية (النقدية) على اثر اتصال الاوربيين بالعرب والمسلمين عن طريق الحروب الصليبية وترجمة امهات الكتب الفلسفية للمفكرين العرب الى اللغة اللاتينية وبخاصة مؤلفات الكندي وابن سينا والفارابي وابن رشد. ومع بدايات القرن الرابع عشر، الذي جاء محملا برياح التغيير، تزعزعت الابنية الفكرية القديمة وتفجرت الصراعات بين الانظمة الملكية الجديدة وبين الكهانة وظهرت بدايات الفصل بين الدين والفلسفة. ويعتبر الفيلسوف اوكام (1349) اول من قام بحركة قوية لنقد الفلسفة الكهنوتية والمطالبة بالفصل بين السلطتين الدينية والمدنية.
والواقع بقى النقد في تلك الفترة لا يخرج عن كونه عملية اصدار احكام صحيحة تستند على معلومات حقيقية تتعلق بدراسة وتفسير النصوص القديمة سواء كانت دينية او دنيوية.

المنهج النقدي
غير ان المنهج النقدي لم يحقق نوعا من الاستقلالية الا بعد ان حلت الافكار التأملية الرشيدة مكان المفاهيم والافكار التقليدية القديمة، وبخاصة تلك التي ترتبط بالحق والمقدس. وبالتدريج اصبحت فكرة النقد تعني " الجدل العقلي" ثم النشاط المتميز للعقل باعتبارها اداة تحكيم عقلانية. ثم تطور مفهوم النقد ليصبح عملا من اعمال الفكر في شروط المعرفة الممكنة، اي القدرات التي تمكن الانسان من المعرفة والنظر في الامور بحرية. لان هدف النقد هو ان لا يضيع الانسان في واقع مزيف او يستسلم لحقيقة كاذبة، او يتوهم بانها ابدية ولا يمكن مسها بالنقد والتجريح. كما ان هدف النقد هو ايقاض الوعي الانساني عن طريق القدرة على الرفض، الذي يلغي الحق في التفكير الحر، ورفع القدرة على الابداع. ومن هنا تاتي أهمية النقد باعتباره عملية رفض وتحد وليس خضوعا واستسلاما.
والنقد هو " فن ألحكم "، أي الفصل بين الاشياء والحقائق التي يختلف حولها ووضعها موضع التساؤل. وهو بهذا احد أهم القابليات العقلية في الاختبار والحكم التي يمتلكها الانسان والتي تجنبه الخطأ والضلال، وبخاصة ما يمس الشخص ذاته، مثلما يشير الى القدرة على استخدام النقد، أي المعرفة والاستيعاب والقابلية على التصرف بحكمة للوصول الى الهدف الأصل و القدرة على التمرن على ممارسة النقد. فالنقد يشترط وجود قدرة وامكانية لمعرفة مناحي القوة او الضعف في الموضوع المنقود او في كليهما، مثلما يشترط ان لا يكون هجوما على الشخص ولا حتى الشعور بالهجوم، لأن أي تعامل خاص مع أي موضوع أو نص أو وجهة نظر تعتبر عموما حكم مسبق يظهر خاصة بتأثير عاطفة او نزوة او مصلحة. وقابلية النقد هي جزء من قابلية الثقافة والجماعة واستعدادها على تقبل النقد.

جوهر النقد هوالحرية
والصعوبة في عملية النقد تأتي من خضوعه لاختبار حر ومفتوح، لأن العامل الاساسي الفاصل في ذلك هو تقديم الدلالات والبراهين الكافية لبيان مناطق القوة والضعف، مثلما ترتبط قابلية النقد بقابلية تقديم الحجج المقنعة. واذا كان النقد عادلا، فيعني ذلك وجود من له قابلية على النقد واستعداده للاعتراف بنقاط الضعف في الموضوع المنقود.
والنقد عملية تساعد على تنمية التفكير وتحريكه والتخلص من عقدة الخوف والوجل والتردد من قول الحقيقة، وتوليد افكار ورؤى جديدة، ولذلك فهو عملية ضرورية للتخلص من الطاعة العمياء والخضوع والانقياد للقدر الاعمى، وعدم طرح الاراء والافكار من دون تأمل، كما يرتبط سؤال النقد بالحرية، لان نقد الفكر من الداخل غالبا ما يكون محكوم بقيم وقواعد واعراف وشروط انتاج المعرفة في المجتمع. واذا كان جوهر النقد هو الحرية، فهل يستطيع الناقد ان يرفض القيم الاجتماعية ويتخطاها؟ هذا هو السؤال الجوهري؟!
يقول فولتير:" قد اخالفك فيما تقول، ولكنني اضحي بحياتي دفاعا عن حقك في ما تقوله". ويقول الامام الشافعي:" رأي صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيري خطأ يحتمل الصواب". ومعنى هذا، ان النقد يرتبط بالرأي، الذي يحتمل الصواب والخطأ، وكذلك بالموقف من الآخر، وكل رأي معرض الى الخطأ والصواب، لان الرأي والموقف نسبيان ولا يرقيان الى الحقيقة المطلقة. وعندما يكون في الرأي احتمال الخطأ، يكون هناك اختلاف. واذا غاب النقد عن الاختلاف، يكون هناك خلاف وانحراف عن الاحكام العقلية.
النقد والابداع
النقد منذ البداية جزء من تاريخ الفكر والمعرفة والثقافة، الذي انبثق عنها، لانه قائم في سياق تاريخي واجتماعي وارتبط بالتغيرات الذاتية والموضوعية وكذلك بالمناخ الاجتماعي ـ الثقافي وبتاريخ الافكار والنظم والفلسفات في العصر الحديث التي اثرت بدورها على حركة النقد وانواعه واتجاهاته، وبخاصة الحركات الفكرية والاجتماعية والسياسية.
ويشكل النقد لولب الحراك الاجتماعي الذي ينتج عمليات التغير والتغيير والتطور والتقدم الاجتماعي. ولولاه لظل التفكير الاجتماعي ثابتا وجامدا. وهو جزء من الوعي الانساني بالذات وبالآخر ومحركه، وهدفه ايقاظ الوعي الاجتماعي عن طريق القدرة على الرفض وعدم الغاء الحق في التفكير والحرية في الرأي والقدرة على الابداع. فهو عملية تحد وصمود وعدم الاستسلام او الخضوع لقمع اي فكر تسلطي.
ورسالة النقد ذات ابعاد متعددة، فهو آلية من آليات الخلق والابداع، التي تفكك الخطاب وتحلله وتؤوله، بعد ان تستشرف فضاءاته وآفاقه وابعاده ودواخله وتسبر جوهره لتعيد انتاجه بخطاب جديد يقوم عليه. ولهذا اصبح النقد شرط الابداع. والابداع شرط التطور والتقدم.
ولا يكسب النقد شرعيته الا بعد ان يستكشف الناقد ما يكمن داخل الخطاب ـ النص، من دلائل ورموز ومعاني واشارات، بل ويكشف عن ما هو غامض وسري ودفين فيه.
واذا كان النقد ابداعا، فهو يشترط ذائقة نقدية، مثلما يشترط امتلاك ادواته النقدية، وكذلك ذائقة جمالية، لان النقد خطاب جمالي ذو منطلق علمي تتحدد قيمته بمدى الحرية المفتوحة امامه، ومدى الوعي بهذه الحرية واستخدامها، وكذلك التمكن من استخدام ادواته النقدية وذائقته الجمالية ومخزونه المعرفي، الذي ينبغي ان يستجيب للتعديل والتحوير والتطوير ليكون ابداعا وابتكارا واصالة.
وكان افلاطون اعتبر الابداع لغزا محيرا لا يمكن تفسيره الا بالإلهام، ونسبه الى الآلهة والقوى السماوية. اما ارسطو فقد اعتبر الطبيعة مصدر الالهام والابداع وهو تفسير عقلاني يتجاوز رأي افلاطون بارجاعه الى عوامل سحرية وما ورائية.
غير ان كانت، كان اكثر وضوحا حين شدد على ان جوهر الابداع هو خلق وابتكار ما هو غير موجود وليس تقليدا ومحاكاة محضة لما في الطبيعة، وميز بين الخلق والتقليد وعزا الخلق والابتكار الى العبقرية، وقرن الابداع الحقيقي بالفن وليس العلم. فالابداع عنده هو النتيجة الطبيعية للتفاعل المتبادل بين التصور والادراك. في حين اعتبر سيغموند فرويد بان منشأ الابداع في اللا شعور، ويعود الى خصوبة الخيال والفنطازيا في التفكير.
وهكذا فالنقد منهج مفتوح على المعرفة العلمية وعلى وعي جديد يكشف عن المعلوم والمجهول في الفكر متطابقا او مخالفا معه، ليؤسس لفكر جديد.

المصادر:
1-Philosophisches woerterbuch, Kritik, Kroener Verlag، Stuttgart,1965, s.331
-2W. F.Haug. Zur Kritikbegriff markistischen Denkens, Das Arqument, Heft 240. 2001
- 3Kritik, in,dtv.Lexikon, Bd. 10
4- ابراهيم الحيدري، صورة الشرق في عيون الغرب، دار الساقي 1996
5- رينيه ويليك، تاريخ النقد الادبي الحديث 1750 - 1950، الجزء الاول، (ترجمة)، القاهرة 1998
6- محمد مندور، في الادب والنقد، القاهرة 1988
جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger