الأحد، 4 سبتمبر 2011

يوميات مهرجان فينيسيا 3



لاشك أن ديفيد كروننبرج يقدم لنا عملا رصينا متوازنا، في فيلمه "منهج خطير" A Dangerous Method المشارك في مسابقة مهرجان فينيسيا والمأخوذ عن مسرحية الكاتب الانجليزي كريستوفر هامبتون "العلاج المتكلم" The Talking Cure

نحن أمام ثلاثي شهير في عالم الطب النفسي: البروفيسور والعالم الكبير سيجموند فرويد، وتلميذه الباحث والعالم المرموق فيما بعد كارل جوستاف يونج، وسابينا شبيلرين.. اليهودية الروسية الشابة التي تصادف أنها كانت المريضة الأولى التي يتعامل معها تلميذ فرويد، "يونج" ويقع في حبها ويقيم معها علاقة حسية جارفة (رغم كونه متزوجا من زوجة ثرية)، قبل أن يوقف هذه العلاقة بعد أن بدأ يتشكك في أنها قد تكون نتيجة خطة دبرتها سابينا، وما يتركه أثر هذه العلاقة على سابينا نفسيا.
سابينا.. طالبة الطب.. التي جاءت كمريضة تعاني من تشنجات واضطرابات عقلية شديدة، تمكن يونج من علاجها طبقا لمنهج أستاذه فرويد بعد أن توصل الى أن سبب عقدتها يكمن أساسا، في الكبت الجنسي بل الشعور بالقمع والحرمان. هل كانت علاقته الجنسية بها سببا من أسباب اعتدالها وشفائها؟
في الفيلم نقاشات كثير حول منهج فرويد في التحليل النفسي الذي يقوم على ارجاع معظم الاضطرابات النفسية التي يعاني منها البشر الى العامل الجنسي: أي الجنس بكل جوانبه، من لحظة الميلاد الى ما الموت.
هذه النقطة يطرح يونج الكثير من التشكك حولها، ويناقش استاذه فيها ويختلف معه ذلك الخلاف الشهير، كما تجد سابينا نفسها طرفا بين الإثنين، في جدال طويل ومعقد حول العلاقة بين الجنس والتحليل النفسي، وبين الكبت الجنسي، وفكرة الحرية، وهل يمكن تغيير نظرة المريض نفسيا الى نفسه فقط بأن نكشف له عن سبب عقدته، أم أن من الضروري دفعه الى التطلع للقيام بنشاط ما يعيد له توازنه النفسي هل يجب قبول العالم على ما هو عليه، كما يرى فرويد أم يجب أن نطمح الى تغيير، كما يرى يونج؟
الأحداث تتواصل في الفيلم من لحظة وصول سابينا شبيلرين الى المصحة النفسية للدكتور يونج قرب ميونيخ عام 1904 حتى عام 1914 أي بعد فترة من تخرجها واعدادها رسالة عن الشيزوفرينيا، ومقابلتها لفريويد في فيينا.
ويعتمد السيناريو (شأنه في ذلك شأن المسرحية المقتبس عنها) على ما ورد في الرسائل المتبادلة بين يونج وسابينا وفرويد والتي اكتشفت في شقة بزيورخ عام 1977.
الفيلم يقوم بالطبع على تلك المناقشات الذهنية والعلمية التي تصل الى المتفرج من خلال التمثيل البارع للثلاثي المشارك في الفيلم: فيجو مورتنسن (فرويد)، مايكل فاسبندر (يونج)، وكيرا نايتلي (سابينا). والثلاثة تفوقوا في أداء أدوارهم، وبدت حنكة وخبرة كروننبرج واضحة في السيطرة التامة على الأداء، ودفعه في الاتجاه الصحيح بحيث تمكن من خلق كيمياء خاصة بين الممثلين الثلاثة ساهمت في إضفاء الواقعية على الفيلم.
لكن يجب القول إن هذا فيلم تقليدي تماما في حبكته وفي بنائه وتصميم مناظره وأسلوب اخراجه. هنا اهتمام واضح بكل التفاصيل المتعلقة بالفترة: الملابس والاكسسوارات والديكورات والاضاءة التي تضفي طابعا خاصا يوحي بفترة وقوع الأحداث، وحركة الكاميرا المقتصدة والمحسوبة بدقة (في المشاهد التي تجسد الحالة العقلية لسابينا في البداية)، والاعتماد في الانتقال السلس من لقطة إلى أخرى على وسيلة القطع.
ورغم براعة الإخراج والتمثيل ومتانة السيناريو (وضوح الشخصيات ورسمها جيدا) والحوار المتدفق الحيوي الذي لا نلمح فيه أي أثر للافتعال أو للنقل من كتب التاريخ، لا نتوقع أن يكون للفيلم نصيب كبير في سباق الجوائز في فينيسيا على عكس التوقعات الكبيرة المحيطة به، فهو لاشك يختلف تماما عن أفلام كروننبرج المميزة السابقة، كما أنه سيجد صعوبة في منافسة أفلام أخرى أقوى بدأت في الظهور مبكرا.. ليس أقلها بالطبع فيلم بولانسكي (المسرحي أيضا).

* سبق أن شاهدت في مهرجان لوكارنو قبل عشر سنوات (وكنت عضوا في لجنة تحكيم اسبوع النقاد) فيلما تسجيليا طويلا بديعا بعنوان "كان إسمي سابينا شبيلرين" من اخراج المخرجة المجرية اليزابيث مارتون. ولكنه لم يكن فيلما وثائقيا، بل كان يعتمد أساسا على إعادة التمثيل أي باستخدام ممثلين لاعادة مقاطع حياة سابينا ممزوجة بالوثائق والصور الفوتوغرافية واللقطات القديمة من تلك الفترة، وكان أيضا يعتمد على ما كشفت عنه الرسائل المتبادلة بين الثلاثي والتي عثر عليها في شقة بزيورخ عام 1977، وقد جسدت المخرجة التي تقيم في السويد، ببراعة كبيرة العلاقة العاطفية بين سابينا ويونج (وكان في التاسعة والعشرين من عمره).. لكننا لم نمنح الفيلم الجائزة وكان أقرب إليها لأنني تمسكت بضروروة منحها لفيلم أجده كشفا في وقته هو فيلم "إنس بغداد.. يهود عرب: الرابطة العراقية" للمخرج العراقي الأصل (السويدي الاقامة) سمير.

* الممثل (دنماركي- أمريكي) فيجو مورتنسن الذي قام بدور فرويد في الفيلم، دعا خلال المؤتمر الصحفي لمناقشة "منهج خطير" من يمتلك الرسائل المتبادلة بين فرويد ويونج الى ضرورة الكشف عنها من أجل الصالح العام، ولكي يعرف العالم تفاصيل تلك الخلافات العلمية التي كانت قائمة بين الرجلين المرموقين.


* أجمل وأفضل ما عرض من أفلام حتى الآن في المهرجان كله (في رأيي الشخصي) هو الفيلم الفرنسي "دجاج بالخوخ" الذي يوحي لي بدراسة خاصة عن "تأثير الثقافات الأجنبية في السينما الفرنسية"، فوراء هذا الفيلم عبقرية من أصل إيراني هي ماريان ساترابي المخرجة التي تشترك مع رفيقها الفرنسي فنسنت بارونو في الاخراج، وسبق لهما أن أدهشانا بفيلم الرسوم "برسيبوليس"، وهي أيضا ممثلة وكاتبة ومقدمة تليفزيونية. موهبة خارقة لاشك. وسأعود للكتابة عن الفيلم تفصيلا.


0 comments:

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger