الجمعة، 30 يوليو 2010

ردود مؤجلة: عن توفيق صالح وفيلليني وجيتراي ومشهراوي


اقتضت الظروف تأجيل الرد على عدد من الرسائل التي وصلت من الأصدقاء ومناقشة ما جاء فيها هنا في هذه المدونة. فعذرا. وها أنا أحاول الإجابة عن بعض هذه التساؤلات الأخيرة......
* هناك أولا بعض الرسائل التي تتساءل عما إذا كنت طرفا في مدونة جديدة صدرت باسم "سرقات سينمائية". ولهؤلاء أقول بوضوح إنني بلا اي شك مع فكرة التصدي لمحاربة السرقات الأدبية والفكرية خاصة على الفضاء الالكتروني، من باب أن للناقد والكاتب كل الحق في الحصول على حق النشر، وليس من حق أي شخص أن ينهب جهد الآخرين وينسبه إلى نفسه.
ولكني أؤكد ايضا لهؤلاء أنني لست طرفا في هذه المدونة التي صدرت أخيرا، ولست من أعضاء هيئة تحريرها ولا صلة لي بها، بل إنني رفعت زاوية من زوايا مدونتي "حياة في السينما" كانت تحمل عنوان "سرقات سينمائية" لكي لا يختلط الأمر على الآخرين. والواضح لي من المدونة الجديدة أنها لا تهتم فقط بالجانب الذي يعنيني وهو سرقة النصوص النقدية بل تتطرق إلى جوانب أخرى مثل عمل مديري المهرجانات ومبرمجي الأفلام والمشرفين على التظاهرات السينمائية، وغير ذلك من الامور.
* هل يمكن تنسيق عمل النقاد في تجمع عربي يضمهم؟ سؤال طرحه كثيرون أيضا سواء من خلال الرسائل أو بشكل مباشر اثناء زيارتي الأخيرة إلى القاهرة. وردي على ذلك بكل بساطة إنه ما لم توجد اساسا تجمعات لنقاد السينما (محلية) أي في البلدان العربية التي تعرف النشاط السينمائي، تتولى حمايتهم والدفاع عن مصالحهم وتمثيلهم أمام الجهات الرسمية المحلية والدولية، فلن يكون لأي اتحاد عام أي معنى خصوصا لو نشأ في المهجر أي في أوروبا او أمريكا مثلا.
---------------------------------------------------------------------
* تلقيت قبل فترة هذه الرسالة الطويلة من الصديق محمود مخلص:
أكتب إليك بعد فترة طويلة من الغياب منذ آخر رسالة والتي كنت اتكلم فيها عن افلام الاوسكار. ولكن هناك الكثير من الاحداث التي حدثت ومنعتني من الكتابة ولكن لم تمنعني من متابعة المدونة، فقد توفي والدي منذ شهرين وظهرت لنا البيروقراطية المصرية في احلي صورها والتي لاتحترم اي نوع من حزن الاهل علي وفاة الميت.
تابعت كلامك عن صلاح عيسي والمثقفين الذين غيروا موقفهم ولا اعرف فعلا ما هو تأثير سيادة الوزير الفنان عليهم كلهم؟ وحتي محمد صبحي الذي اعتقدت ان له موقفا ثابتا من الوزير انساق له عندما جعله مستشاره للمسرح، ويعتقد انه يستطيع حل مشاكل المسرح بلجنة وما اكثر اللجان في مصر!
وسبقه ايضا عبد الرحمن الابنودي الذي تنكر لمواقفه الثابتة بل تبني الكثير من مواقف الحكومة طبعا مقابل ان يطلق عليه الخال عبد الرحمن،
واخرين واخرين والذين يحصلون علي مكانة وتستضيفهم الفضائيات لمجرد كبر سنهم وكلامهم علي تاريخ ساذج من صنعم هم- يذكروني بشخصية في فيلم اماركورد الذي يصر على أن يحكي حكاية عن كل شيء- اليس كذلك؟؟
* "يهيمون حبا بأسلوب ولغة كياروستامي ويبالغون كثيرا في تفسير خواء أفلامه وفراغها، وجنوحها إلى التجريد، وافتقادها المرعب إلى روح السخرية والمرح، وتركيزها على "الريفي" و"البدوي"، وابتعادها المتعمد، عن تناول أي مشاكل اجتماعية قائمة، وتغييبها المرأة على نحو ما، بحيث يمكن أن نقول إن كياروستامي هو المسؤول عن تيار الالتفاف على الرقابة، وصنع تلك "السينما المحجبة" التي يعتبرها نقاد فرنسا والغرب عموما، معادلا لسينما "الآخر" الغريب، الإسلامي، الذي لا يمكن أن نفهمه أبضا بموجب قوانين المجتمع الحديثة بل يجب أن نخترع له قوانين خاصة.. وسأتناول هذه الأسطورة في مقال تفصيلي فيما بعد."
هذا نص كلام حضرتك عن عباس كياروستامي وارجو ان تتطرق لهذا الموضوع فأنا أري انه فعلا يأخذ أكبر من حجمه ففيلم شجرة الكرز لم استطيع استكماله لنفس الاسباب التي كتبتها فوق..
سؤال أخير من أين كان يضمن فيلليني انتاج لما كان يقدمه فأفلامه انتاجيا مكلفة فعلا بخصوص كلام حضرتك عند ديفيد لينش.
اخيرا هل اعمال المخرج الهندي ساتيا جيتراي اعمال مهمة وتستحق المشاهدة فعلا؟
محمود مخلص- القاهرة
* عزيزي محمود.. أولا البقية في حياتك ورحم الله الفقيد ألف رحمة.. دعنا نبدأ من النهاية: نعم أفلام المخرج الهندي الراحل ساتيا جيتراي أفلام مهمة في معظمها وتستحق ليس فقط المشاهدة، بل التدريس في معاهد السينما، لكننا لا نعرف من السينما الهندية سوى افلام الرقص والغناء والمبالغات الميلودرامية، فجيتراي هو اديب السينما الهندية بلا شك، فقد رفعها إلى درجة موازية للأدب والشعر، وخلصها من التوابل الهندية الحراقة والمناظر الفارغة.
أماعن كياروستامي فسأكتب عندما تتوفر لي مساحة جيدة من الوقت لمراجعة أعمال هذا المخرج الذي يردد الكثيرون الاعجاب به دون فحص جيد وواف لأفلامه حسبما أعتقد.
فيلليني كان يحصل على تمويل لأفلامه لأنه ببساطة "فيلليني" أي المخرج الذي كان اسمه كافيا لكي يبيع الفيلم في زمن كانت السينما الايطالية افضل حالا كثيرا مما هي الآن. وكانت نسبة تردد الجمهور على دور السينما كبيرة. وأتذكر ان الأمور بدأت تتغير في الفترة الأخيرة من حياته، وأنه حصل على تمويل لفيلمه قبل الأخير "المقابلة" من منتج ياباني كان معجبا به وبأفلامه، وقد أدخل فيلليني في فيلمه بعض المشاهد الطريفة التي يسخر فيها من هوس السياح اليابانيين بتصوير أي شيء في أوروبا.

توفيق صالح

* هذه الرسالة وصلتني أخيرا من الصديق سامر من الأرض المحتلة، الذي كان قد توقف منذ فترة عن مراسلتي.
لم أراسلك منذ مدة طويلة إذ لم يكن لدي ما أقوله، لكن هنالك مسألتان أريد أن أسألك عنهما:
أولا، بالنسبة لمسألة توفيق صالح كنت قد لاحظت رمزا خفيفا عابرا في أحد تعليقاتك السابقة لكونك تراه يحظى بتقدير أكثر مما يستحق وأردت مراسلتك حينها لكنني عدلت عن ذلك والآن أرى أنك قد كتبت فقرة خاصة عنه.. أنا لا أعرف الشخص ولا أريد نقاش الأحداث الأخيرة وما حدث معه ما أريده هو معرفة رأيك بتاريخه الفني.. أول فيلم شاهدته من إخراجه كان فيلم "المخدوعون" الذي عرض في مهرجان محلي للفيلم الفلسطيني، أذكر أن الأستاذ وقتها (كنت لا أزال تلميذا مدرسيا) كان قد نصحني بمشاهدة الفيلم بسبب مخرجه... وقد أعجبني الفيلم وقتها. وسيمر وقت طويل قبل أن أشاهد الفيلم مرة أخرى وأشاهد يوميات نائب في الارياف ودرب المهابيل... وقد قرأت عن توفيق صالح مما وجدت في الإنترنت (من مقالات ومقابلات)... الحقيقة أنني حتى قراءتي لتعليقاتك فانطباعي كان أن الرجل مخرج موهوب لكن صعب المراس وليس دبلوماسيا مما سبب له المتاعب في الحصول على تمويل لأفلامه (بالإضافة إلى متاعب الرقابة ومتاعب إنتاج فيلم "غير تجاري") فقضى أغلب حياته في التعليم... وكنت أعتقد أنه مخرج لم يحصل على حقه من الشهرة أو التقدير فأغلب أبناء جيلي لم يسمعوا بوجوده وأذكر أنني قرأت في موقع الجزيرة (أو العربية) أنه في جنازة يوسف شاهين قام الصحفيون بمقابلة كل من كان له علاقة بشاهين مهما صغرت (حتى بعض الممثلات الشابات اللاتي لم يعملن معه سوى بفيلم واحد) لكنهم لم يتعرفوا على توفيق صالح حتى أن أحدهم سأل من هذا الرجل الشائب الذي يقف هنا... رغم أن توفيق صالح كان زميل يوسف شاهين في المدرسة وهو مخرج مهم (قد نختلف في درجة الأهمية لكنه يبقى مهما... لذا استغربت قولك أنه أصبح أسطورة في بعض الأوساط اليسارية لكن ذلك يعود ربما إلى اندثار هذه الأوساط اليسارية "المثقفة" بعد أن أرخو العنان للحاهم واهتدوا إلى ربهم (وهو عكس المسار الذي عبره حافيير باردم في أشباح غويا)... لذا أود لم تخبرني المزيد عن رأيك به.
ثانيا، شاهدت مؤخرا فيلم "عيد ميلاد ليلى" من إخراج رشيد مشهراوي وبطولة محمد بكري.. ومن عادتي أن أبحث عما كتب عن الأفلام التي أشاهدها وقد وصلت إلى صفحة في مدونتك فيها مقالة كتبها أحدهم عن كتابك حياة في السينما وفيها يذكر إعجابك بسينما رشيد مشهراوي... ليتك تخبرني ما رأيك في الفيلم... لأنه شخصيا الفيلم من ناحية المحتوى جميل ينتقد الحالة الفلسطينية الراهنة ببلاغة واختياره سردها بواسطة قصة رجل فلسطيني مستقيمم كانت موفقة... لكن بعض الأمور أزعجتني (مثلا أنا أحب التأني في اللقطات وقد رأيت أن قطعها كان سريعا - لا أعلم كيف أشرح ذلك- مما يحيل إلى نفسية عصبية بدلا من التأمل الذي يريد الفيلم منك أن تفعل كذلك... وأكثر ما أزعجني هو شخصية أبو ليلى لا أعلم لكنني وجدت صعوبة كبرى في التماثل معه ولا أعلم هل الأمر ذنب محمد بكري أم ذنب السيناريو واضح أن الفيلم يرتكز كليا على دور أبو ليلى ولكنني وجدته أحيانا عصبيا أكثر من اللازم مثلا عندما تحدث بالهاتف بعد الانفجار أو عندما لمح صاحب الهاتف أنه ربما لا يرغب بإعادته... لا أعلم كان يفضل لو يكون شخصا أكثر وافعية أي شخص مبدئي لكنه لا "يحمل السلم بالعرض" ولا يغضب من كل ربع كلمة... لكن في نهاية الأمر الفيلم جيد وبه نوع من الكوميديا السوداء وإن كانت أخف من أسلوب إيليا سليمان إلا أنها تذكر بها ولعل وضعنا العبثي لا يتيح لنا إلا أن تحوي أفلامنا هذه اللمحات الساخرة (شر البلية ما يضحك).
* عزيزي سامر:

أهلا بك مجددا.. بالنسبة لتوفيق صالح هو أخرج خلال مسيرته الفنية سبعة أفلام فقط أهمها بلاشك في رأيي فيلم "المخدوعون" الذي أنتجته مؤسسة السينما السورية بعد خروج توفيق صالح من مصر عام 1970 لخلافاته العديدة مع المسؤولين عن مؤسسة السينما المصرية التابعة للحكومة في عهد ما عرف بالقطاع العام إبان العهد الناصري (الذي كان توفيق ينتقده بشدة، وعاد اليوم وياللعجب، للدفاع عنه واتهام كل من يوجه له النقد بالتفاهة والجنون والجهل وأشياء أخرى يعاقب عليها القانون، وذلك في الندوة الأخيرة التي انعقدت لمناقشة ما يسمى بدور "ثورة" يوليو في السينما المصرية. ولكن عودة إلى الناحية الفنية فاظن ان "درب المهابيل: فيلم جيد يستعيد أجواء فيلم "العزيمة"، وباقي أفلام توفيق صالح يمكن مناقشتها وربما يكون المضمون فيها أقوى كثيرا من الجوانب السينمائية الفنية، وهذا على أي حال هو ما نراه تحديدا في فيلم "المتمردون" الذي أظنه عملا رتيبا مملا مسرحيا لا يحمل أي طموح لتجديد طريقة السرد. ومع ذلك فقد أحيط بهالة كبيرة وبولغ كثيرا في أمره من قبل نقاد اليسار المؤدلجين (للتفرقة بينهم وبين اليساريين أصحاب الفكر المفتوح على الدنيا بأسرها وغير الخاضعين للهوس الايديولوجي!). وكلامك أيضا صحيح بشأن صعوبة التعامل مع شخصية توفيق صالح، لذلك نأى المنتجون بأنفسهم عنه وعن تقلباته المزاجية منذ عودته إلى مصر قبل أكثر من عشرين عاما، لم ينجح في أن يقف خلالها مرة واحدة وراء الكاميرا، ولعل المشكلة ترجع أيضا إليه ذاته، فقد تردد أنه يخشى الإقدام على فيلم جديد لأنه فقد قدرته على السيطرة على العمل السينمائي أو نسى السينما، تماما مثلما يمكن أن يفقد العازف قدرته (ولا أقول مهارته) على العزف اذا ما احتجب عن ممارسة الفن لأكثر من ثلاثين سنة مثلا.. أليس كذلك!
وطبيعي أن مخرجا محتجبا عن العمل يثير فضول الجيل الشاب جدا (في العشرينيات من عمره) عندما يظهر في جنازة شاهين. فلا أحد يعرفه رغم كونه منتشرا في كل لجان التحكيم في مصر كما سبق أن كتبت. لدرجة أننا اصبحنا نطلق عليه: توفيق صالح عضو لجنة التحكيم!
أما بخصوص فيلم "عيد ميلاد ليلى"لرشيد مشهراوي فقد كتبت عنه حين ظهوره ومقالي منشور في موقع بي بي سي ويمكنك مطالعته عبر هذا الرابط:
عيد ميلاد ليلى

الاثنين، 26 يوليو 2010

التعبير السينمائي تعبير أولي سابق على التعبير اللغوي

في إطار التداعيات التي أثارتها دراسة المخرج والناقد قيس الزبيدي حول "اللغة السينمائية" يسعدني أن أنشر هنا المساهمة التي بعث بها الدكتور بدر الدين مصطفى، مدرس علم الجمال بكلية الآداب جامعة القاهرة، وآمل من وراء نشرها أن تثري مثل هذه الدراسات الاكاديمية المنهجية الجادة نقدنا السينمائي العربي وتضيف إليه.


بقلم: د. بدر الدين مصطفى


احتلت إشكالية العلاقة بين ما هو مرئي وما هو مكتوب، أو بمعنى آخر النص-الصورة، مكانة هامة في التراث الثقافي، واتخذت أشكالا عديدة، وفقا للحقول المعرفية التي تمت مناقشتها من خلالها. ففي الابستمولوجيا طرحت هذه الإشكالية في سياقات عديدة، خاصة في الابستمولوجيا المعاصرة، وكان السؤال عن الكيفية التي تتم بها عملية المعرفة واكتساب الوعي هو منطلقها: أيهما يمتلك الأولوية والسيادة على الوعي..اللغة أم المرئي؟ هل التفكير يتم بواسطة اللغة؟ أي هل العقل يترجم كل ما يراه إلى لغة؟ وبدون هذه العملية تفقد الأشياء دلالتها، أم أن المرئي له لغته الخاصة التي تتجاوز وتعلو على أية صياغة لغوية حتى ولو تمت؟ هل اللغة تستوعب ما هو مرئي، بحيث تنوب عنه في غيابه؟ أم أنها مجرد قوالب وصياغات تحفز الذهن على استحضار الصورة والمشهد؟ خاصة مع الوضع في الاعتبار، الأسبقية الأونطولوجية للمرئي، وأن التفكير يتم بالصورة أولا قبل أن يتم باللغة. في اللغويات حظيت هذه الإشكالية باهتمام كل اللغويين، وكان أبرز من تناولها بالدرس والتمحيص أهم تياران في اللغويات المعاصرة: السيميولوجيا والسيميوطيقا، وعلى الرغم من وجود أوجه تشابه بين كلا التيارين في نواح عديدة، إلا أن الخلاف بينهم كان واضحا بصدد هذه المسألة، ففي حين جعلت سيميولوجيا سوسير من النظام اللغوي نمطا متسيدا على كافة الظواهر والأنماط المعرفية الأخري؛ فإن سيميوطيقا بيرس Pierce قد أفسحت الطريق أمام أنظمة علاماتية أخرى مستقلة تماما عن النظام اللغوي، بمعنى أنها تمارس دورها بطريقة لا لغوية. وفي الحقل السيكولوجي، كانت هذه الإشكالية حاضرة، في سياق شبيه بالسياق الابستمولوجي، في المناقشات التي دارت حول تطور الوعي والسلوك، ومراحل اكتساب المعرفة. أما في الفن، فقد دارت سجالات عديدة حول هذه المسألة، في سياق المقارنة بين أنماط الفنون: الفنون المرئية، الفنون اللغوية.. الأدب والتصوير، الموسيقى والعمارة، السينما والسرد... إلخ.
ويبدو أن علاقة الصورة السينمائية باللغة ستظل مناط بحث ودراسة، خاصة أن هناك علم قائم بذاته يدعى بـ"السيميولوجيا البصرية"، وهو علم يرد كل أنظمة الاتصال، بما فيها الفنون البصرية، إلى اللغة. وهو ينظر إلى اللغة على أنها النظام التواصلي المتكامل الذي أنبنى عليه كافة الأنظمة الأخرى، والتي ترد في النهاية إليه.
ومعظم محاولات تطوير نظرية دي سوسير في السيميولوجيا تركزت في البداية حول اللغات الصغيرة Micro language مثل شفرة الطريق العام، والنظم الإشارية للسفن، ولغة الصم والبكم....ومع ذلك، فمن الواضح أن هذه الحالات محدودة ومشتقة بالفعل من اللغة اللفظية نفسها. وقد توصل رولان بارت في بحثه عن لغة الأزياء "نظام الموضة" أنه فقط في حالات نادرة جدا استطاعت اللغة غير اللفظية أن توجد دون دعم إضافي من الكلمات.
وربما تكون النقاشات حول العلاقة بين اللغة والصورة السينمائية سابقة على ظهور النظريات التي تؤيد أو تعارض مثل هذه العلاقة. وقد انطلقت هذه النقاشات في وقت مبكر من ظهور السينما وكانت معظمها تدور حول مدى أصالة الفن السينمائي ومدى استقلاله عن باقي الفنون السابقة عليه، خاصة فنون الأدب. وكما هو معروف فقد نظر إلى فن السينما في بداية نشأته على أنه فن هجين تابع يعتمد على كافة الفنون الأخرى من أدب وموسيقى وتشكيل.....إلخ. وقد وصل الأمر بجراهام جرين إلى القول: لسنا في حاجة إلى اعتبار السينما كفن جديد فهي في شكلها الروائي لديها نفس غرض الرواية مثلما للرواية نفس غرض الدراما. وقد غالى البعض من النقاد والكتاب ومؤرخي السينما في محاولاتهم إيجاد التشابه بين السينما والأدب إلى درجة أن بعضهم قد دفعته هذه المغالاة إلى المناداة بوجود تطابق بين مفردات كل منهما. فالكادر السينمائي يقابل الكلمة، ولااللقطة هي بمثابة الجملة، والفقرة في مقابل المشهد، والفصل لا يختلف عن الفصل، أما المونتاج فيعتبر بمثابة القواعد النحوية وأدوات الربط....إلخ. وقد رد موريس بيجا في كتابه "الفيلم والأدب" هذا الرأي بشدة متسائلا في استنكار "إذا كان هذا صحيحا وكانت الكلمات هي المقابل للكادرات فأين القاموس الذي يستطيع أن يحدد معنى كل صورة". وهو رد مقنع إلى حد كبير.
لقد أظهر لنا الناقد الكبير محمد رضا، ومن قبله الأستاذ قيس الزبيدي، خصوصية التعبير في الصورة السينمائية، ولعل مثال كلمة "أنا" الذي اعتمدت عليه مداخلته قد أوضح لنا الاختلاف الجذري بين التعبير اللساني والتعبير السينمائي (وأنا أفضل استخدام كلمة لسان للإشارة إلى النظام اللغوي الكلامي، لأن اللغة أوسع نطاقا وأكثر رحابة من الكلام)، ولعل هذا يدفعني إلى القول ان اللغة السينمائية (وأنا استخدم كلمة لغة هنا للإشارة إلى أن الصورة السينمائية في النهاية تهدف إلى التعبير، أي أنها وسيلة اتصال معبرة، فهي لغة غير كلامية)، هي لغة سابقة على النظام اللغوي الكلامي، أي أنها لا تخاطبنا من خلال الكلام أو اللسان، بل من خلال نظام مختلف نابع من داخل مكونات الصورة السينمائية ذاتها (وهو ما سنوضحه)، ولهذا السبب لا يمكن الاعتماد على الحوار فقط في الفيلم السينمائي وإهمال باقي المكونات الأخرى للصورة، فالصورة السينمائية في الأساس صورة ممتدة زمانيا ومكانيا وهو ما يجعل لها خصوصية فريدة. وربما يكون من قبيل التطرف في الرأي أن أقول أن هناك جزء من الوعي، وربما من العقل، لم يتحرر ولم يعمل بصورة كاملة إلا مع ظهور السينما.
أشار الأستاذ قيس الزبيدي في مقالته إلى الفيلسوف والمنظر السينمائي الفرنسي جيل دولوز (1925-1995) على اعتبار أنه اتخذ موقفا نقديا من التحليل اللغوي للفيلم وتحديدا لدى كريستيان ميتز ويوري لوتمان، فقد كان دولوز مؤمنا بخصوصية التعبير السينمائي واختلافه جذريا عن أي نظام تواصلي آخر وفي مقدمته اللغة. ولأنني معني بصورة كبيرة بجيل دولوز، فقد كان موضوعا لأطروحتي في الدكتوراه، فإنني أريد أن أختم مداخلتي بعرض تفصيلي لرأيه بصدد العلاقة بين اللغة والصورة السينمائية.

عندما نشر دولوز كتابه عن الرسام الإنجليزي "فرنسيس بيكون"، كان مصحوبًا بجزء آخر يضم صورًا لسبعة وتسعين لوحة. لكن الملفت للنظر هو أنه عندما وضع كتابيه عن السينما، (الصورة- الحركة) و(الصورة- الزمن)، لم يضمنهما أي صور أو لقطات كادر أو زوايا تصوير... إلخ. وهذا بعكس المتبع في معظم المؤلفات التي تتناول السينما. وقطعًا فإن هذا الأمر كان مقصودًا في ذاته، إذ الصورة نفسها لا تجسد شيئًا من الخصائص السينماتوجرافية، فالعلاقة بين الصورة الساكنة والسينما واهية. بل يمكن القول إن الصورة الثابتة تزيف أو تقضي على الخاصية الفريدة للصورة السينمائية: الحركة- الزمن. إذن فوفقًا لدولوز لا يمكن تجزئة الصورة السينمائية أو عزلها "إن الصورة لا تقوم وحدها والمهم هو العلاقة بين الصور". وهذا بعكس ما ذهب إليه منظر السينما الفرنسي "كريستيان ميتز" Metz، الذي أراد أن يطبق النموذج اللغوي على "الفيلم السينمائي" وذلك بتقسيم الصورة السينمائية إلى وحدات يمكن التعامل معها وفقًا لمنظومة العلامات اللغوية.
في الفصل الثانى من كتابه "الصورة- الزمن" خصص دولوز حديثه لنقد التحليل اللغوي للفيلم الذي تبناه ميتز وبازولينى وسار على نفس النهج منظر السينما الروسي يورى لوتمان. وينطلق هؤلاء جميعًا من فكرة أن السينما وسيط أو وسيلة اتصال مثلها في ذلك مثل اللغة، وبالتالي فهي تحمل رسالة.. أو بالأحرى إنها هي "الرسالة" التي يقف وراءها "مرسل" وتكون موجهة إلى "مستقبل". وهذا هو نموذج جاكوبسون الذي حاول السيمولوجيون تطبيق على كل أنظمة الاتصال. يقول لوتمان "ثمة ما يدفع للاعتقاد بتكافؤ هذين البديلين (الرسالة المكتوبة lettre- الصورة image) فكلتاهما تؤلف عملية اتصال، كلتاهما تنقل معلومة معينة مشفرة من قبل مرسل نص إلى المستقبل الذي يقوم بفك شفرتها. فالرسالة المكتوبة والصورة يشكلان النص أو الرسالة. وكلاهما ذو طبيعة سيميائية، ذلك أنهما لا يتضمنان الأشياء ذاتها بل بديلاتها".

يرى دولوز أن التحليل اللغوي لا يكشف طبيعة ما هو سينمائي، فهو يتعامل مع الصورة بنفس الطريقة التي يتعامل بها العلم مع مفهومي الحركة والزمان، أي من خلال تقسيم الصورة إلى وحدات صغرى ومحاولة فك شفرتها، وهو بهذا يتجاهل أن الصورة السينمائية في الأساس تخاطب الحس والشعور، وهي من الغنى بحيث يصعب قولبتها كما هو الحال في اللغة "إن اللغة قالب، بينما السينما عملية قولبة لا تنتهي، تخضع مقاييس الصورة باستمرار إلى تنويعات وتكرارات وتبدلات وإعادة إنتاج". إن الصورة السينمائية وسيط مشحون بالعديد من المعاني المباشرة وغير المباشرة، وهذه المعاني لا ينحصر وجودها بمساحة الشاشة فقط حيث تأتى الرسالة إلينا "ليس فقط مما نراه أو نسمعه، ولكن أيضًا مما لا نراه"، ما هو متاح وحاضر، وما هو مستبعد وغائب. كما أن السيمولوجيا لا تترك مساحة لفهم العلاقة بين الصورة والزمن. فالزمن في علاقته بالحركة يتم إلغاؤه، لأن الأسلوب التركيبي الكبيرgrand syntagmatique الذي طبقه ميتز على الأفلام، يوقف حركة الصورة فيكون عبارة عن تحليل للحيز الثابت لا المتحرك "إن البحث عن لغة مضمرة تختزل الصور في متغيرات ذات بنية ثابتة لا تتغير، يُستبدل بالزمن كعملية مفتوحة للتطور الإبداعي. كما أن هذه البنية ذاتها غير متحركة وغير زمنية".
على أن دولوز رغم انتقاده للتحليل اللغوي للفيلم لا ينفي أن الفيلم هو مجموعة من العلامات، لكنها علامات غير لغوية أو بالأحرى "علامات قبل لغوية" pré lingustique، تحمل المعنى دون أن تعبر عنه". فطبيعة اللغة تفرض قيام علاقة ثنائية بين اللفظ –الذي يحل محل الأشياء والموجودات في العالم الواقعي، وبين المعنى الذي يدركه العقل، ولكن الأمر في السينما يختلف وعلى نحو أكثر تعقيدًا، ذلك أنه إذا كانت اللغة تفترض قيام علاقة ثنائية (double articulation)؛ فإن السينما تؤسس لعلاقة ارتباط ثلاثية (triple articulation) حيث إن الفيلم هو نظام من الإشارات والرموز على مستوى اللقطة أو مجموعة اللقطات، لكنه غير مطابق لسيميولوجيا الواقع، فهو يتفوق عليها لأنه يختزلها، وبكثافة، داخل إطار اللقطة؛ ومن ثم فإن السينما لا تعيد إنتاج الواقع من خلال التطابق أو التماثل أو التمثل، ولكنها تضيف عليه قوة تعبيرية لم تكن موجودة في الأشياء أو الموجودات كما هي في الواقع. وقد ذهب الروائي والفيلسوف الإيطالي "إمبرتو إيكو" في تعليقه على دراسة بازولينى "سينما الشعر" 1965 ودراسة ميتز "اللغة السينمائية" 1965 إلى أننا إذا أردنا أن نؤسس كيانًا لغويًا سينمائيًا فإننا لا نحتاج إلى نظام العلاقة الثنائية أو الارتباط الثنائي الذي يطبقه اللغويون على اللغة اللفظية، ولكن "بالبحث عن أدوات ارتباط جديدة أو نظام مختلف عما هو معمول به داخل حقل اللغة اللفظية، وبالعمل على أن يستنبط هذا النظام روابطه وقواعده الخاصة".
الخلاصة إذن أن دولوز لا يجعل من الصورة مرادفًا للغة، وإذا كان البعض (كميتز وبازولينى ولوتمان) قد قصر استخدام علم العلامات- اعتمادًا على دى سوسير- في تحويل ما هو مرئي إلى ما هو لغوي؛ فإن دولوز يجعل من علم العلامات- اعتمادًا على بيرس- ميدانًا أكثر اتساعًا يستوعب ما هو سينمائي دون رده إلى ما هو لغوي، انطلاقًا من أن السينما تعمل من خلال مفاهيم تتجاوز حدود اللغة. ولا يعنى هذا أن التحليل اللغوي قد فشل أو عجز في تطبيق منهجه على الأفلام، فقد قدم ميتز ولوتمان تحليلات دقيقة للعديد من الأفلام، لكنهم في الوقت الذي فعلوا فيه هذا جردوا السينما من خصائصها الفريدة، وتعاملوا معها بأسلوب كمي مجرد، في حين أن الحركة والزمن يتجاوزان ما هو لغوي وما هو كمي.

الأربعاء، 21 يوليو 2010

ملحمة "دراكيلا": بيرلسكوني بطلا أمام نفسه!


كان من أهم الأفلام الوثائقية التي عرضت في دورة مهرجان كان الأخيرة، الفيلم الإيطالي "دراكيلا: إيطاليا تهتز" Draquila: L’Italia Che Trema للمخرجة سابينا جوزانتي.هذا الفيلم جاء نموذجا على التطور الكبير الذي حققه صناع السينما الوثائقية، فهو لم يعد مجرد "بيان" لما يجري في الواقع، بل رؤية تحليلية ساخرة، وبناء يتجاوز جفاف المادة الوثائقية، لكي يضفي نوعا من الإثارة والمتعة على المشاهدة، بقدر لا يقل عما يمكن أن يحققه الفيلم الدرامي الروائي. هنا يزول الفرق بين الوثائقي والروائي، ويصبح الفيلم فيلما شاملا بكل معنى الكلمة، يقدم عرضا للفرجة والمتعة والفهم، بل والكشف الصارم عن بواطن الفساد بما يمثل على نحو ما، دعوة إلى تغيير الواقع أيضا.عنوان الفيلم "دراكيلا" هو مزيج ساخر من كلمتين هما "لاكيلا" l’aquila وهي مدينة إيطالية تاريخية معروفة بآثارها القديمة، تعرضت في أبريل/ نيسان 2009 لزلزال مدمر. و"دراكولا".. الشخصية الأسطورية لمصاص الدماء الشهير في الأدب والخيال المصور. أما الشق الثاني من عنوان الفيلم أي "إيطاليا تهتز" فهو تنويع على عنوان الفيلم الإيطالي الكلاسيكي الشهير "الأرض تهتز" (1948) للمخرج الراحل لوتشينو فيسكونتي، ويعد من العلامات الكبرى في مدرسة الواقعية الجديدة فيما بعد الحرب العالمية الثانية.
مخرجة الفيلم سابينا جوزانتي Sabina Guzzanti، جاءت إلى السينما من عالم التمثيل والبرامج التليفزيونية الساخرة. كان والدها عضوا في البرلمان الإيطالي عن حزب بيرلسكوني لكنه اختلف معه كثيرا واستقال بعد أن وجه انتقادات قاسية للحزب وزعيمه.
ذهبت سابينا بعد وقوع الزلزال إلى المدينة المتضررة، وبدأت تجري التحقيقات والأبحاث حتى اتضحت في ذهنها المادة التي ستعتمد عليها في بناء فيلمها، بطريقة مشوقة وممتعة.
يبدأ الفيلم بلقطة لقارب من القوارب الإيطالية الشهيرة (جندولا) يسير في إحدى قنوات البندقية، ثم تتراجع الكاميرا إلى الوراء لكي نرى صورة مرسومة لبيرلسكوني، يجلس وقد أسند ذقنه على يده، يتطلع نحو جهاز للتليفزيون عبارة عن صورة مرسومة أيضا لكن الصور التي يعرضها حقيقية تماما، ويأتي التعليق الصوتي بصوت المخرجة، يقول لنا إن "اليوم كان بداية الربيع في شبه الجزيرة (أي إيطاليا) لكنه كان يوما سيئا آخر لبيرلسكوني، فقد أمسك القضاء بخناقه". ونرى لقطات لبيرلسكوني أمام المحكمة عندما اضطر للمثول أمامها للإدلاء بشهادته فيما يتعلق بتهم فساد. وسرعان ما يظهر بيرلسكوني نفسه وهو يقول: "لقد كنت محظوظا أن تمكنت من دفع 200 مليون يورو (حوالي 250 مليون دولار) للمستشارين و"القضاة"..". وعندما يدرك خطأه يتوقف ويستدرك قائلا :أقصد للمحامين".
هذا الأسلوب سيطبع الفيلم بكامله، فنحن نتلقى الصور كما لو كنا نشاهد فيلما مسلياً من أفلام الأطفال، تروى لنا المخرجة أحداثه وتفاصيله، تلتقط من الصور (الحقيقية تماما) ما يدعم رؤيتها للموضوع. ولكنها لا تتوقف فقط أمام الصور، بل تستخدم الرسوم البيانية التي تحتوي على إحصائيات ومعلومات، كما تستخدم الرسوم الكاريكاتورية وأشكال التحريك المختلفة، واللقطات المأخوذة من البرامج التليفزيونية ونشرات الأخبار، وتمزجها مع المقابلات التي تجريها من وراء الكاميرا، والتي تظهر هي فيها أحيانا كطرف مباشر أمام الكاميرا، تناقش وتجادل وتسأل.الرسم البياني الذي يعقب ذلك يقول لنا إن شعبية بيرلسكوني كانت قد تدهورت كثيرا في تلك الفترة، ولكن التعليق يخبرنا أنه "في الساعة الثالثة و33 دقيقة من صباح 6 أبريل 2009، وقع زلزال لاكيلا الذي أيقظ حتى سكان منزل الأخ الأكبر" (كما نرى في لقطات بالأبيض والأسود مأخوذة بكاميرا الفيديو السرية)، في إشارة إلى البرنامج التليفزيوني الشهير لما يسمى بـ"تليفزيون الواقع" الذي تسخر منه المخرجة بالطبع، حين تعرض لقطة سريعة لشاب يستيقظ من الفراش مذعورا.وتمضي الصور يصاحبها التعليق. رسم لبيرلسكوني عاريا تماما سوى من ربطة عنق وورقة من ذات الخمسمائة يورو تستر عورته، وهو يمد يده مبتسما.. في حين يقول التعليق إنه "على حين دمرت بلدة بأسرها، فقد كان الأمر بالنسبة لبيرلسكوني كما لو أن العناية الإلهية مدت إليه يدها مجددا".
على هذا التعليق الطريف نشاهد إحدى لوحات عصر النهضة التي تصور العالم الآخر، ويد تمتد تلمس يد بريلسكوني في رقة قبل أن تمتليء السماء بالبرق والرعد!
هذا هو الأسلوب، يتشكل ويتحدد منذ اللقطات الأولى من الفيلم: اللقطات المتناقضة، والتعليق الساخر، والحقيقة ممزوجة بالرسوم، والبيانات والمعلومات ممتزجة بالتعليقات المباشرة من قلب الواقع وعلى ألسنة الشخصيات المختلفة القريبة من الحكاية.تروي المخرجة (وهي حاضرة طوال الوقت في الفيلم تستخدم ضمير المتكلم) كيف سارع بيرلسكوني، رجل الدعاية البارع، إلى استغلال الزلزال المدمر الذي أدى إلى مقتل 300 شخص وتشريد 70 ألف آخرين، من أجل استعادة شعبيته المتراجعة. وكيف يتوجه مباشرة إلى موقع الزلزال، ويتعهد بأن يوفر مسكنا بديلا لكل أسرة بحلول الخريف، ويشرح أمام كاميرات التليفزيون كيف ستكون كل شقة مفروشة بالكامل بما في ذلك التفاصيل الصغيرة، بل ومع "كعكة كبيرة وزجاجة شمبانيا في الثلاجة" أيضا!
لكننا نرى في الوقت نفسه، كيف أرغم السكان على مغادرة المدينة، وأرسلت السلطات 30 ألفا منهم للإقامة في فنادق على الشاطئ البعيد بشكل مؤقت، حتى أولئك الذين لم تتضرر منازلهم، كما أرسلت باقي السكان للإقامة داخل خيام في منطقة معزولة، تحاصرها قوات الجيش التي تحظر على السكان الاتصال بالصحافة والإعلام، كما تحظر تماما دخول الصحافة كما نرى بالفعل عندما يتصدورن لفريق الفيلم ويدفعونه بعيدا. ونرى كيف ينظم سكان المخيم تظاهرات يومية للاحتجاج على الأوضاع المزرية التي يعيشونها.والطريف أيضا أن السلطات تحظر عليهم تناول الكوكاكولا والقهوة، كما تخبرنا اللافتات المعلقة في أرجاء المخيم ، فالسلطات المسؤولة تعتبر هذه المواد من "المنبهات" التي يمكن أن تثير السكان وتدفعهم إلى الخروج من عقالهم!
وتكشف جوزانتي كيف أسندت الحكومة تصميم مساكن جديدة في الضواحي، إلى نفس المهندس الذي كان يطمئن السكان قبل فترة وجيزة من وقوع الزلزال، بأن مكروها لن يقع لمدينتهم التاريخية.بعد ستة أشهر من وقوع الزلزال يتم بناء 30 في المائة فقط من المساكن الموعودة يتسلمها المحظوظون، لكنهم يقولون لنا إنهم ليسوا محظوظين تماما، فقد اشترطوا عليهم ضرورة تسليم تلك المساكن في النهاية، بعد أن تنتهي عملية ترميم المدينة، على الحالة التي كانت عليها عند استلامهم لها، أي أن المطلوب أن يعيدوا كل شيء إلى أصله، ويحظر عليهم دق أي مسامير في الجدران، وضرورة المحافظة على صناديق القمامة لتسليمها، وعدم العبث بالستائر.. إلخعلى الجانب الآخر، في لاكيلا نفسها يحتل الجيش وسط المدينة ويرفض السماح لأي مخلوق بدخول المنطقة، في حين أن الآثار التاريخية القديمة المتداعية تركت لكي
تتداعى.
ويتهم الفيلم بيرلسكوني بالتخريب المتعمد بعد أن أسند مسؤولية التعامل مع الأزمة إلى ما يعرف بـ"وكالة الحماية المدنية" التي يرأسها رجل يعد من أخلص حلفائه هو جويدو برتولاسو، الذي وجهت إليه اتهامات بالتحرش الجنسي والفساد، مما دفعه إلى أن يعرض تقديم استقالته إلا أن بيرلسكوني رفض وألح عليه أن يبقى في منصبه.هذه الوكالة كما يكشف الفيلم، يفترض أن تتعامل مع الأوضاع المدنية في حالة الطواريء فقط، إلا أن حكومة بيرلسكوني كما تكشف لنا المخرجة، أضافت بندا آخر تحت مسمى "الأحداث الكبيرة" وهو تعبير عمومي، يمنح تلك المؤسسة سلطة كاملة، ويبيح لها تجاوز القانون بل والدستور أيضا، فالدستور الإيطالي يسمح بالتجمعات والمظاهرات في حين أن سلطة الحماية المدنية تفرض على السكان المقيمين في المخيم المؤقت، عدم التجمع أو التظاهر. وهذه النقطة هي ما تجعل المخرجة جوزانتي تتهم حكومة بيرلسكوني بانتهاج سياسية شمولية تتنافى تماما مع الديمقراطية.
ويصور الفيلم كيف استغل بيرلسكوني المأساة لكي ينقل مؤتمر مجموعة الدول الصناعية الثماني الكبرى، من صقلية إلى لاكيلا، وسط إجراءات أمنية غير مسبوقة، وبتكاليف باهظة من أموال دافعي الضرائب، فقط من أجل التباهي بأنه مهتم بأحوال المدينة وسكانها الذين هجروها، أي باستخدام المؤتمر للدعاية الشخصية لنفسه.
ثم نرى كيف يقوم بيرلسكوني بزيارة يتفقد خلالها بعض أعمال البناء في ضواحي المدينة، حيث يلتقي بمجموعة من العمال، ولكنه يلاحظ غياب النساء فيتساءل في بساطة: أين النساء؟ ثم يتعهد بأنه عندما يأتي في المرة القادمة "سأصطحب معي مجموعة من فتيات الاستعراض"!
مخرجة الفيلم سابينا جوزانتي


وفي مرة أخرى يصر على التقاط صورة مع مجموعة من العمال ومسؤولي البلدية، وبينهم امراة واحدة تتمتع بقسط من الجاذبية، فيقول وهو يقترب منها أريد أن أشعر بالمرأة أكثر!هذا التصوير الكاريكاتوري هو جزء أساسي من الطابع الهجائي للفيلم، وهو يقربه من المشاهدين، على نحو ما يفعل المخرج الأمريكي الشهير مايكل مور في أفلامه الوثائقية، كما يساهم في تأكيد فكرة اللامبالاة إزاء الكارثة التي حلت بعشرات الآلاف من البشر في الوقت، فنحن نرى كيف يلهو بيرلسكوني بالمأساة، ويصور الأمر أمام كاميرات التليفزيون في معرض تعليقه على السكان الذين انزلتهم السلطات في فنادق مؤقتة على الشاطئ بقوله: "إنهم سعداء هناك كما لو كانوا يقضون عطلة"!
ويصور الفيلم كيف يحتفل بيرلسكوني علانية، وبشكل مبالغ فيه، بعيد ميلاده في الوقت الذي يعلن فيه توزيع المساكن على قطاع من سكان المدينة المنكوبة، في شكل احتفالي غير لائق، وكيف يستخدم الدعاية التي توفرها له امبراطوريته الإعلامية من أجل كسب الأصوات، وهو ما تظهره جيدا سابينا جوزانتي من خلال المقابلات العديدة التي تجريها مع نساء ورجال خاصة من المسنين، وكيف يبدون إعجابهم ببيرلسكوني وجاذبيته وكرمه وأريحيته، ويقولون إنه لولاه ما كان شيئا ليتحقق، كما لو كان الرجل يعطي الشعب من أمواله، وهي فكرة يروج لها عادة الكثير من رجال الأعمال عندما يتولون السلطة السياسية.
فيلم "دراكيلا" أخيرا، أحد الأفلام الشجاعة الجريئة، التي تكشف وتعري، ورغم أنه ليس فيلما "محايدا" حسب المفهوم التقليدي في السينما الوثائقية، إلا أنه متوازن إلى حد كبير، وهو يعتمد على الحقائق، كما يعتمد على الوثائق والشهادات الإنسانية المباشرة، ويكشف أيضا تقاعس المعارضة السياسية والصحافة عن القيام بدورها كما ينبغي، بعد أن أحكمت سلطة، تراها المخرجة "شمولية"، قبضتها على الإعلام، وقلصت من دور المعارضة على نحو مثير للأسى والأسف!
تقول سابينا جوزانتي: "إن تصوير هذا الفيلم ثم مشاهدة لقطاته وانا أقوم بالمونتاج وأربط بين الصور والأحداث، هزني كثيرا. سيستغرق الأمر زمنا طويلا قبل أن يعاد بناء لاكيلا: المدينة التي بدأ تشييدها في عصر فريدريك الثاني كقلعة حصينة ضد روما الفاسدة، واستكمل بناؤها في القرن الثالث عشر على يدي ابنه، مدينة تعرضت للكثير من الزلازل العنيفة، واليوم أصبحت تواجه بشيء أشد وأخطر. سيستغرق الامر على الأقل وقتا مشابها إلى أن يعاد بناؤها".

الخميس، 15 يوليو 2010

للفيلم لغته الخاصّة والفصل بين لغة الإنسان ولغة الإبداع الإنساني ضروري

((أنشر هنا ورقة الناقد السينمائي الأستاذ محمد رضا في معرض التعليق على ما طرحه الأستاذ قيس الزبيدي فيما يتعلق بإشكالية "اللغة السينمائية"، هذا المصطلح الذي نسعى من خلال هذا الحوار بين نخبة من النقاد، إلى استجلائه واستبيانه وتحديد معناه ومغزاه، وليس من الضروري أن تكون مداخلات الأساتذة النقاد محصورة بالطبع في مجال التعقيب أو الرد، بل يمكن أن تأتي متحررة، تستمد أفكارها من وحي ما أثاره قيس الزبيدي، على أن تحلق في نفس الفضاء. ونحن في انتظار المزيد من أوراق النقاد الأفاضل ونأمل أن نتمكن من إصدار حصيلة الجدل حول هذه القضية النظرية في كتاب يجمعنا رغم اختلاف الآراء)).


بقلم: محمد رُضا

حتى يشعر الناقد السينمائي بالحرج لاستخدامه مصطلحاً معيّناً، عليه أن يكون واثقاً، وفي الأساس مدركاً، لما يكمن في هذا المصلح ومصدره كمفهوم ولماذا هو خطأ لا يجب إستخدامه٠
في الوقت ذاته، فإن تعريف "لغة السينما" بأنها "حرفة الفنان السينمائي ووسيلته لتحقيق رؤيته وتوضيح موقفه بشأنها، شأن اللغة التي يستخدمها الكاتب وفق القواعد والأساليب البلاغية والنحوية" تعريف لا يفي جيّداً بالمفهوم ومضامينه٠
قراءة ما تفضّل به الأستاذ قيس الزبيدي من إيضاحات وافية حول اللغة التي نتكلّمها واللغة التي نعبّر بها واستشهاداته المتوالية لمنظّرين ونقاد اقتربوا من هذا الموضوع من زوايا متعددة، تفي في نهاية المطاف بأن "اللغة" السينمائية مصطلح بحاجة الى تعريف كامل قبل إتخاذ موقف منه، هذا على الرغم من أن الأستاذ الزبيدي، وهو من أفضل من يكتب في ثقافة الفيلم النظرية بالعربية، يحدد موقفاً يفضّل فيه عدم اعتبار أن للسينما لغة خاصّة بها لأن ذلك "يضعنا بمواجهة وجود مادة تعبير مسبقة، هي في واقع الحال، غير موجودة"٠
لكن أغلب ما أورده الزبيدي ، فيه، بالنسبة إليّ، الكثير من المقارنة بين اللغة التي نتحدّث بها بألسنة شتّى حول العالم وباختلاف الشعوب، وبين السينما التي نستقبلها بصور شتّى حول العالم وباختلاف مصادرها، علماً بأن المقارنة تصل مباشرة الى مبدأ نفي أن تكون للسينما لغة خاصّة بها وذلك لكل الأسباب المقنعة التي أوردها الزبيدي، سواء من معرفته ومعرفته او بالإستناد الى المصادر التي أوردها لإيضاح المسألة المختلف حولها٠
لكن هل المقصود أساساً هو الحديث عن لغة السينما كما لو أن عليها أن تتمتّع بذات الخصال النظمية والقواعدية التي للغة المحكية؟
أعتقد أن الفصل بين المسألتين واجب لأنه فصل بين كيانين مختلفين أكثر مما هما مجتمعين. بكلمات أخرى، إذا كانت الكلمة التي ننطق بها، ولنأخذ كلمة "أنا" هي كلمة لابد من وجودها في كل لغات العالم قائمة على استخدام حروف معيّنة تتغيّر بين معظم الشعوب حسب اللغة المستخدمة، فإن وجود كلمة "أنا" في الفيلم كصورة، متأتٍ عن أصل مختلف تماماً. "أنا" الفيلم ليست حروفاً مؤلّفة من لقطات، وأنا أوافق على القول بأن الصورة لا ترمز او تحتل مكان الكلمة طالما أبدي اعتراضاً على توخّي علاقة بين اللغة واللغة السينمائية٠
في الفيلم، إذاً، كلمة "أنا" لابد أن تصبح صورة. الصورة هي من صنيع أي لغة لأي شعب وحتى يمكن لها أن تكون صنيع مخرج أو مبدع أخرس لا يتكلّم أساساً. التعبير عنها هو المختار من مفردات الفيلم الخاصّة به: أنا في فيلم "سفر الرؤيا... الآن" لفرنسيس فورد كوبولا هي عبارة عن صورة الممثل مارتن شين الذي يسرد (باستخدام الصوت أيضاً) الحدث الذي سنراه والموضوع كحكاية وكمضمون أيضاً. إنه يتحدّث بما نعرفه لغوياً بصوت المصدر وهذا ليس حال استخدام فيلم آخر صورة "هو" للحديث عن الشخص الآخر من وجهة نظر أنا غائبة او مغيّبة. الأنا في فيلم آخر مثل "برسونا" لإنغمار برغمن لم تعد سينمائية كشرط. فهي تمثّل إنغمار برغمن من ناحية ثم، وحين مشاهدة الفيلم فإن قدراً من "أنا" المخرج يصبح متاحاً للمشاهد لكي يتبنّاه او لكي يتداخل مع نظرته صوب ما يحدث٠
الـ "أنا" تختفي أيضاً في وجود مختلف عن ذلك الذي يفرضه سرد الفيلم من وجهة نظر بطله. فهي قد تكون نظرة المخرج الكاملة لموضوع ما. في أي من أفلام مايكل مور الوثائقية، تصبح التجسيد لما يعتقده صحيحاً ويسرده مختاراً الصور التي يريد أن يسرد موضوعه التسجيلي بها٠
إذاً، ليس هناك علاقة لغوية بين كلمة أنا المستخدمة ملايين المرّات كل يوم وبين "أنا" الفيلم. ولأنه لا توجد علاقة فإن البحث في احتمالية أننا كمنظّرين او نقاد او مشاهدين نستطيع أن نتحدّث عن لغة خاصّة بالسينما يصبح احتمالاً مطروحاً مزوّداً بكل ما يحتاجه من شرعية٠
الصورة التي تعبّر عن "أنا" تختلف. إذا كانت كلمة "أنا" اللغوية مؤلّفة عربياً من حرفي ألف ونون في الوسط، فإنها في السينما تتألّف من حروف وأشكال عدّة. قد يجسّدها الممثل داخل الفيلم وقد يجسّدها صوت لممثل لا نراه، وقد يجسّدها المخرج في طرح ذاتي لموضوعه. حينها قد تكون الصورة لبزوغ الشمس مثلاً، مع كلمات منطوقة (او مطبوعة) مثل "مع بزوغ شمس كل يوم أشعر بأنني ولدت من جديد" هو أيضاً صورة تمثّل او تقف محل كلمة "أنا"٠
وكيف يمكن لنا أن نخلع عن السينما لغتها إذا ما نظرنا الى كيفية التعبير عن تلك الأنا. "أنا" في اللغة المحكية بحاجة الى تفسير: "أنا من صعد السلّم لأدخل من النافذة حين نسيت مفتاح الشقّة في الداخل" هنا هي مفردة او كلمة من عدّة كلمات لأنه إذا ما توقّفت عند كلمة أنا، لم أقل شيئاً. في الرواية هي تقريباً النحو ذاته. لكن في السينما أنا هي ما أراه. في فيلم روبرت ألتمن "الوداع الطويل" نسمع فيليب مارلو يتحدّث عن نفسه في مشهد ليلي آت فيه بإتجاه الكاميرا قبيل صعوده السلم الى منزله. لنلغ التعليق المسموع (على أهميّته) ونرقب الصورة: ما نراه هو "أنا" مزوّدة في اللحظة ذاتها (لحظة فتح الكاميرا عليه) بالحدث وبالمعرفة الشخصية والسلوكية: جمّد اللقطة عند أي كادر منها يطالعك جنس الأنا (ذكر او أنثى) عمره التقريبي، طريقة مشيه، ما يرتديه، إذا ما كان يحمل شيئاً في يديه، إذا ما كان حذراً او لا، إذا ما كان يدخّن، إذا ما كان يهرع او يمشي بطيئاً، وبل في أي وقت من الزمن هذا "الأنا" الآن.
إذاً في حين أن "أنا" في اللغة المحكية لا تقول شيئاً لوحدها، وحين تُجمع مع كلمات أخرى بغاية التفسير تتمدد أفقياً (او عمودياً في اليابانية ولغات أخرى)، تقول أشياء عديدة في لغة الفيلم البصرية عبر Frame واحد (او ما يُسمّى بالكادر). ليس فقط لغة الصورة استوعبت أكثر من لغة الكلام، بل أيضاً أثبتت أنها لغة أساساً٠
المنطلق لبحث الموضوع على هذا النحو، كما ورد في كتاب الناقد مارسل مارتان (النون تُكتب ولا تُلفظ) هو أيضاً ليس منطلقاً قائماً على المقارنة بين اللغة المحكية ونظمها وبين اللغة السينمائية من حيث وجودها او عدم وجودها. هذا كان جزءاً من سجال أوسع قاده، على الأرجح ولست واثقاً، الباحث أندريه بازان (النون أيضاً تُكتب هنا ولا تُلفظ) حين تصدّى لمفهوم المونتاج عند السوڤييتي سيرغي أيزنشتين. حسبما هو معروف لدى المتابعين اعتبر المخرج الروسي أن المونتاج هو عماد السينما. اللقطات المصوّرة عليها أن تخضع لترتيب صوري ممنهج بغية خلق الحدث المروي والخلق يأتي عن طريق المونتاج: اللقطة التي تأتي أوّلاً لتثبيت حقيقة سينمائية (لنقل إمرأة أصيب طفلها برصاصة). اللقطة التالية هي للجنود القياصرة وهم يطلقون النار. هذه حقيقة ثانية. الثالثة وهي تنهض لتجابه. ثم لهم وهم لا يزالون يطلقون الرصاص. عبر هذا الترتيب سرد موقفين من الحدث الواحد نفذ بهما الى مفاد بأن الجنود القياصرة مارسوا القتل عشوائياً على المتظاهرين العزّل (المثال مأخوذ بالطبع من «البارجة بوتمكين») ومن هذا المفاد الى الموقف السياسي الذي من أجله صنع المخرج فيلمه.
عند أندريه تاركوڤسكي، كنموذج لمجموعة كبيرة من السينمائيين الكاسرين حدّة المونتاج وأهميّته ومنهم أنطونيوني وبرغمَن وأنجيلوبولوس وسوخورف وبريسون الخ٠٠٠، لغة الفيلم مستمدّة من أسلوب المعايشة وضرورة خلق إيقاع حياتي كامل. بازا وجد أن المونتاج على أي نحو خارج هذا النطاق إنما يسهم في خداع مشاهديه. تاركوڤسكي في كتابه "النحت في الزمن" اعتبر أن الواقع يمكن أن يقع على الشاشة بفعل الملاحظة والرؤية وليس عبر المونتاج المتقطّع٠
ليس المطلوب أن أعقد جلسة حكم هنا، ولو أنني أقدّر اللغتين معاً لأسباب يضيق المجال هنا عن ذكرها، لكن هذا للقول أن اللغة في هذا النطاق باتت لغتين تستخدم كل منهما وسيلة تعبير مختلفة لغاية مختلفة. حتى حين تكون الغاية واحدة (الواقعية) فإن اللغتين تبقيان مختلفتين تماماً كالحديث بالفرنسية والبولندية مثلاً٠
الخلاصة التي أريد الوصول اليها هو أن المقارنة بين اللغة البشرية واللغة السينمائية قد يقود، كما ورد في مداخلة قيس الزبيدي الرائعة، الى اعتبار أن أي لغة بحاجة الى قانون أساسي وأن السينما لا تملك "التمفصل المزدوج" لتكوين لغتها. لكن هذا لا يلغي أن لديها لغة خاصّة بها. قد لا تحتوي ذلك "التمفصل" المذكور، لكن من قال أن عليها بالضرورة أن تحتويه؟ لم لا يشكّل المشهد الذي ينتقل فيه بَستر كيتون من الحلم الى الواقع في "شرلوك جونيور" جملة سينمائية، بالتالي يشكّل الفيلم بأسره خطاباً؟
وعلى أي أساس، إذا ما كان ذلك غير ممكناً للمعطيات الواردة بين مؤيدي نظرية عدم وجود لغة للسينما، نتحدّث دوماً عن "خطاب سينمائي"؟ كيف يمكن الحديث عن "خطاب سينمائي" أصلاً؟ وإذا لم تكن هناك لغة فما الذي نسمّي مفردات السينما به؟ ألسنتها التي هي أساليبها؟
إن كريستيان مَتز، المُستند الى نظرياته في بحث الزميل العزيز، هو أحد كبار المنظّرين السيميائيين (علم الرموز) والسينمائيين في فرنسا، لكن ما لم يأتي ذكره في المقال هو أن مَتز إنما آثر دوماً في نظرياته التعامل مع السينما من زاوية اللغة التي نتحدّث بها. أمر لم ينل موافقة العديد من المنظّرين والنقاد (مجلة "سكرين" البريطانية - وهي غير "سكرين إنترناشنال" طبعاً- خصصت عددها الصادر عن ربيع وصيف العام 1973 لترجمة نظريته ومناقشتها) وهذا وحده كفيل بطرح صواب هذا التعامل، ناهيك عن أهميّته. يقول مَتز "الصورة، على عكس الكلمة، ليست وحدة منفصلة في نظام مفتوح" ويصل الى القول "أنها تفتقد للمسافة بين المعنى ومصدره" وذلك، مرّة أخرى في المقارنة مع معطيات اللغة المحكية، ما يُعيدنا الى طرح أهمية المقارنة طالما أنها بين نظام صوتي شامل يتبع طبيعة إنسانية وبين نتاج فني تتألف عناصره من آليات مصنوعة في الوقت الذي لا يمكن اعتبار اللغة المحكية نتاجاً فنيّاً مصنوعاً (بصرف النظر عما إذا كان الكلام نفسه فعلاً فنيّاً او لا)٠
الى ذلك، لابد من الإشارة الى أن نظرية مَتز من الأهمية والشمولية بحيث يتطلّب الأمر كتاباً لعرضها والحديث فيها (وغيرنا لابد فعل ذلك) وأنا لا أحاول هنا التقليل من أهميّته، بل مجرّد التساؤل عن الحكمة في فعل المقارنة خصوصاً وأن مَتز على خطأ جسيم حين يعتبر أنه "من بين كل الإحتمالات التي واكبت اختراع الكاميرا، فإن السينما تحوّلت الى سرد حكايات"، علماً أنه في كتاباته يبدي أن "السينما الروائية" هي السينما "كل شيء آخر هو غير سينما"٠ أعتقد هنا بدأت أبتعد عن ناصية الموضوع وعليّ أن أكتفي بهذا القدر إذ كل ما قصدّته من هذا التوسّع هو القول أن أحد كبار من تم الاستشهاد بهم في تبنّي نظرية عدم وجود لغة أسمها "اللغة السينمائية" تعامل معها تحبيذياً وبالنسبة لبعض النقاد من موقع برجوازي في الثقافة لابد له، والحال هذه، مناهضة إتجاهات آخرين تبنّوا وجهات نظر معارضة.

الجمعة، 9 يوليو 2010

حول مصطلح اللغة السينمائية



(أنشر هنا هذه الدراسة النظرية القيمة التي كتبها الناقد والمنظر والمخرج السينمائي الصديق قيس الزبيدي خصيصا للنشر هنا آملا أن تفتح الباب أمام مناقشة جادة بين نخبة من النقاد العرب الذين أرسلت إليهم هذه الدراسة للتعقيب أو مناقشة ما مرد فيها من أفكار، لعلنا في ذلك نعمل على تجميع النقاد العرب حول قضية فكرية نقدية بدلا من الانغماس في تلك الصراعات الصغيرة المنتشرة في الساحة، وبعيدا أيضا عن الشللية القاتلة التي تبتعد بنا عن جوهر مهمتنا النقدية.. ونحن في انتظار وصول كتابات الزملاء الأفاضل لكي ننشرها تباعا- أمير العمري)
بقلم: قيس الزبيدي

أشار الناقد عدنان مدانات في الفصل الثالث "إكلاشيهات المصطلح النقدي المضللة"من كتابه "ازمة السينما العربية" بأن صدور كتاب مارسيل مارتين "اللغة السينمائية" - قبل أكثر من نصف قرن – قاد الى استخدام مصطلح لغة السينما وانتشاره، ويعترف الناقد نفسه، بوقوعه في استخدام هذا المصطلح المُضلل، ومن ثم تراجعه عن استعماله، واستخدم بدله، بعدئذ، وسائل التعبير السينمائية، رغم أن النقاد العرب، ما زالوا يستخدمونه حتى اليوم، دونما أي شعور بالحرج. فنحن نرى مثلا ناقداً بارزاً كعلي أبو شادي، الذي عنوّن كتابه "الفيلم السينمائي" والذي سبق وصدر في طبعته الاولى عن الثقافة الجماهيرية في العام 1989، لكنه حينما اعاد إصداره عن مكتبة الاسرة في العام 1996 واعاد إصداره في دمشق في سلسلة الفن السابع 114 في العام 2006- غير عنوانه إلى "لغة السينما"، التي يعرّفها: حرفة الفنان السينمائي و"ووسيلته لتحقيق رؤيته وتوضيح موقفه بشأنها، شأن اللغة التي يستخدمها الكاتب وفق القواعد والأساليب البلاغية والنحوية". كما إن مخرجاً كبيراً كصلاح أبو سيف أكد، في فترة قريبة، أثناء ما كان يشرح لطلاب المونتاج والإخراج في السنة الثالثة في أكاديمية الفنون بالقاهرة، "علينا فهم السينما كلغة ذات ابجدية واضحة ومحددة، شأنها في ذلك شان جميع اللغات الحية كـاللغة العربية وما تتضمنه من قواعد للنحو والصرف (...) وكلما اتقنا قواعد اللغة كلما استطعنا التعبير عن مرادنا بأبسط وأدق الألفاظ بحيث يفهم حديثنا كل من يستمع إليه. ونتيجة لذلك يرى إن اللغة السينمائية تتألف ابجديتها من ثمانية حروف: خمسة منها تخص الصورة وثلاثة تخص الصوت. ويسمي أبو سيف لطلابه هذه الحروف الخمسة كالتالي: الديكور والممثل والاكسسوار الثابت والمتحرك والاضاءة"!

مقدمة نظرية اولى للنقاش؟
منذ بداية تاريخ السينما تمت مقارنة السينما باللغة الطبيعية وتبع ذلك الاعتقاد بانها لغة تمتلك قواعدها ومونتاجها ونحوها. واستمر عدم الوضوح في عدد من تلك المفاهيم في إطار نظرية السينما، خصوصاً وان نظرية الفيلم الكلاسيكية، لم تمتلك إلا معرفة قليلة بعلم اللغة، كانت بالكاد تؤهلها، بشكل كاف، في عقد عقد مقارنة سليمة بين مفاهيم هذا العلم وتطبيقها في مجال نظرية السينما.
لنعد إلى تاريخ نظرية السينما وإلى الدراسات اللغوية والسيميائية، التي توصلت إلى تحديد وتعريف دقيقين لمفهوم اللغة، بحيث لم يعد من المجدي تطبيق خصائصها ومواصفاتها على ما كان النقد يسميه اللغة السينمائية، والذي تمت مقارنته، منذ بداية تاريخ السينما، باللغة الطبيعية. لقد ساد الاعتقاد بإنها لغة تمتلك قواعدها ونحوها وصرفها. وسبق لبودفكين أن عرف تشابه مفردات السينما بمفردات اللغة الطبيعية كالتالي: “إن المونتاج هو اللغة التي يتحدث بها المخرج إلى جمهوره، واللقطة تمثل الكلمة ومجموعة اللقطات تمثل الجملة والمشهد يتألف من الصور كما تتألف الجملة من الكلمات”. إيزنشتين، أيضاً لجأ بدوره، إلى اللغة، وإلى اللغة اليابانية، بصورة خاصة، لشبه كتابتها بالرسوم الهيروغليفية وانصرفت جهوده في فيلم "اوكتوبر"، إلى اكتشاف الكيفية التي يتمكن بها المونتاج من تحويل صور المواضيع الحسية إلى لغة المفاهيم المجردة. ونتيجة لذلك يرى ميتري أن محاولة ايزنشتين في صنع فيلم عن "رأس المال"، وهي محاولة لم تر النور، ، لو تحققت، لكان مصيرها الفشل.
ليس هناك من يعارض اعتبار الصور السينمائية مثل الكلمات، طبيعتها، كعلامات، التعريف بشيء ما عبر استبداله بشيء آخر، أو بتعبير أفضل، إحلال شيء آخر بدله. ولا شك إن العلامات السينمائية تُظهر بنية نظيرة لبنية لغة الكلام، كما أن استعمالها يخفي نظاماً شبيهاً بنظام لغة الكلام، ويُظهر بنية نظيرة لبنية لغة الكلام. "وإذا ما ارادت السينما أن تكون لغة اصلية فعلينا أن نتنازل عن أن تكون بمنزلة كاريكاتير اللغة الطبيعية".
حدث في منتصف سنوات الستينيات تحول كبير في طبيعة القضايا الجمالية واللغوية السينمائية التي خضعت للدراسة والتحليل من قبل منظرين جدد جاؤوا إلى حقل السينما من حقول معرفية أخرى مثل علم اللغة والبنيوية والسيميائية (سيميولوجي) أو علم نظام العلامات. وقد أغنت مثل هذه الأبحاث نظرية وجمالية السينما عبر عقد الصلة بين أصول وقواعد لغة الكلام وأصول وقواعد لغة السينما. وقد عرّفت السيميائية اللغة والفيلم باعتبارهما ينتميان، من جهة، إلى نظم الاتصال، ويختلفان، من جهة أخرى، في أن اللغة، أية لغة، تملك نظام لغة، أما الفيلم، الذي تجمعه مع اللغة أشياء كثيرة مشتركة، فليس له نظام لغة. ولعل هذه المقارنة توضح ما عناه كريستيان ميتز، حينما اعتبر الفيلم لسانا بدون لغة، أو حينما عقب على ذلك امبيرتو ايكو، وعد الفيلم بمنزلة كلام لا يستند على لغة.
عرف ابن جني اللغة بأنها مجموعة “أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم”. كما اعتبرها الآمدي “اختلاف تركيبات المقاطع الصوتية” التي تفضي إلى دلائل كلامية وعبارات لغوية. والثابت أن لكل لغة وحدات صوتية تتيح لها تركيب الوحدات الدالة التي تنفرد بها، وإذا ما تجاوزنا التعاريف العديدة للغة، التي حاول كل منها وفي أوقات مختلفة أن يقترب من قانون اللغة الأساس، فسنجد أن أندريه مارتينيه، وهو يقارن بين الكلام البشري وبين غيره من ألوان التخاطب، استطاع أن يبين أن الكلام البشري قادر وحده على "التمفصل المزدوج" وأكتشف أن مبدأ التمفصل المزدوج هو القانون الأساس من قوانين اللغة الطبيعية.
يتركب التمفصل المزدوج من تمفصلين: المورفيمات، وحدة التمفصل الأول، وهي وحدات صوتية صغرى دالة، تتألف بدورها من وحدات أصغر منها غير دالة وهي الفونيمات، وحدة التمفصل الثاني، وهي وحدات صوتية تمييزية. يعبر عنها في الكتابة بالحروف الأبجدية يمكن بواسطتها تركيب الوحدات الصوتية الدالة: الكلمات المعجمية، التي تنفرد بها كل لغة. ومع أن عدد الفونيمات محدود، إلا أنه ينتج عدداً غير محدود من المورفيمات، تساعد على التمييز بين المعاني. وان ما ينتج عن تعريف الفونيم بوصفه قيمة تمييزية في المقام الأول، هو أن الفونيمات لا تنجز وظيفتها بفضل تفردها الصوتي وإنما بفضل تقابلها التبادلي ضمن نظام معين. والشيء المهم، الذي يتعلق، بقدر ما بالفونيمات، هو الاختلافات، التي تساعد على التمييز بين الكلمات. وهذه هي القيمة اللغوية الوحيدة للفونيمات. فتلك الاختلافات هي بالضبط، نقطة الانطلاق لأي بحث في الفونيمات. وأكد دي سوسور نفسه اعتماد اللغة على الاختلافات، ورأى أن ليس في اللسان سوى فروقات، من هنا يأتي اكتشاف مارتينيه الحاسم للتمفصل المزدوج ويتيح تعريف اللغة، إذ لا يمكن اعتبار أية وسيلة اتصال أخرى، لا تمتلك هذا القانون الأساس، الذي يصوغ نظام اللغة بمنزلة اللغة. من هنا أيضاً يأتي، مثلاً، تأكيد مونان على إن “التمفصل المزدوج هو ما يُميز اللسان البشري وما هو لغوي خالص في تعابير الإنسان معاً، وهو مشترك بين اللغات كافة. وخارج التمفصل المزدوج لا توجد لغة قط، ولا يوجد شيء يتعلق بعلم اللغة".
كان السؤال، الذي يساق، منذ البداية، ويقارن السينما باللغة الطبيعية هو: كيف نجعل مادة التعبير في السينما ذات دلالة، وكيف نجعل الصور تحمل الدلالات؟
هناك عدد من مشاكل مركزية في نظرية السينما، لا يمكن حلها دون الرجوع إلى نظرية علم اللغة وطريقتها. وثمة أوجه ثلاثة متداخلة فيما بينها: تاريخ النظرية، ونقد النظرية الكلاسيكية في تحليل لغة الفيلم وسيميائية الفيلم، ومشروع نظرية الفيلم الجديدة، وهذه العلاقة المترابطة، لا يمكن كشفها دون استطلاع قصير للمفهوم النقدي لتاريخ النظرية.
تحدث كريستيان ميتز عن مراحل ثلاثة لتاريخ النظرية، جرى فيها تسليط الضوء على الفيلم، وتأسس، نتيجة لذلك، ما سُمي نظرية الفيلم أو نظرية السينما، و يعني الشئ ذاته، وتمت فيها معرفة ما هو فيلمي أو ما هو سينماتوغرافي. وكانت تلك الابحاث الإنتقائية والتركيبية متألقة، في بعض الأحيان، رغم إنها لم تستعمل منهجاً معرفيا بعينه، بشكل كامل، بل استعملت مناهج عديدة. وفي مرحلة ثالثة، كانت متوقعة، كان على كل منهج من هذه المناهج، وهو يرتبط بغيره ويتداخل، أن تختفي اشكاله الحاضرة، وأن يتخلص تركيب نظرية السينما، فعلاً، من انتقائيته ويراجع مدى صحة تقديراته المختلفة ومعرفة مستواها التجريدي الخاص. ويبدو إننا في الوقت الحاضر، نجد أنفسنا في المرحلة الثانية، التي هي "مصح شفاء" لا مفر منه، وعلينا أن نتعرف على تعددية المناهج الضرورية. إن سيكولوجية الفيلم وسيميائيته لم تكن موجودة في الماضي، وربما لن توجد في المستقبل، لكن علينا اليوم أن نرعاها، لأن الوصول إلى خلاصة حقيقية، لن يتحقق بالإملاء، إنما يتحقق، في النهاية، عن طريق الابحاث الوفيرة".
كان الهولندي جان ماري بيترس من أوائل السيميائيين الذين بحثوا في هذه الإشكالية. وتقف دراسته الأولى التأسيسية "بنية اللغة السينمائية" التي نشرت عام 1961 على رأس قائمة البحوث الجديدة المهمة. ويبدأ بيترس بحثه بالسؤال التالي: "ماذا نريد أن نفهم من كلمة "لغة"؟ وإذا ما كنا نرى في لغة الكلام الظاهرة اللغوية الوحيدة. فعندها ستكون كل مناقشة حول طبيعة لغة السينما بدون أي معنى. أما إذا سلمّنا بوجود لغات أخرى إلى جانب لغة الكلام، وانطلقنا من مفهوم لغة عام جداً، فعندها يمكننا أيضاً أن نفكر بـلغة للسينما. وإذا ما توصلنا، بناء على ذلك، إلى الاستنتاج القائل بأن استعمال تعبير لغة سينمائية تم تفسيره، فنكون، بذلك، توصلنا بالتأكيد إلى نتيجة ناقصة.
تتوقف الدراسات المقارنة الحديثة عند هذه المسألة طويلاً، وتتوصل إلى نتيجة: إن اللقطة لا تشابه الكلمة والمشهد لا يشابه الجملة، لأن الفيلم أصلاً لا يمتلك، مثل اللغة، نظاماً خاصاً، يجعل منه لغة. فالكلمات هي رموز اصطلاحية ينوب فيها الدال عن المدلول على أساس المواضعة، أما الصور فهي علامات أيقونية، تقوم نفسها على أساس مشابهة ما تدل عليه. وكما تملك الكلمة علاقة غير مباشرة بما تدل عليه، تملك الصورة علاقة أيقونية مباشرة بما تدل عليه وتصوره : أي إن الكلمة، وحدة لغوية، علامة، وظيفتها إحلال شيء بدل شيء آخر، فهي دال ينفصل عن مدلوله: الكلمة تساوي الشيء. أما الصورة، فهي علامة بصرية، تتشابه فيها العلاقة بين الشيء ومظهره، ويتطابق فيها الدال مع المدلول: أي إن العلامة هنا هي مظهر الشيء ذاته: العلامة تشبه مظهر الشيء. وتكمن قوة اللغة في استعمال علامات يتباين فيها الدال والمدلول، بينما قوة الفيلم تكمن في استعمال علامات يتطابق فيها الدال والمدلول.
بإمكاننا الوقوف على غنى هذا التصور عندما يطبقه رولان بارت على العمليات الدلالية التي ننعتها عادة بلفظي التعيين DENOTATION أي المعنى الحرفي للكلمة والتضمين CONNOTATION أي المعنى الثاني الإيحائي للكلمة. إن معنى التعيين هو عادة استعمال اللغة بطريقة أو بأخرى، لتدل بها على ما تقوله، بينما معنى التضمين هو استعمالها بطريقة أو بأخرى، لتدل بها على غير ما تقوله. ويحدث التضمين عندما تغدو نفس العلامة، الناتجة عن علاقة سابقة بين الدال والمدلول، دالاً على مدلول جديد. وهذا يعني إن التعبير في السينما يمكن أن يتحول بدوره، عبر حضور العلامة الأيقونة، إلى تضمين، إلى دال، يبتكر كل مرة، مدلوله. ولعلّ هذا ما دفع كريستيان ميتز إلى التأكيد على إن الفيلم: "يروي لنا قصصاً مترابطة، ويقول لنا اشياء كثيرة، تقولها ايضا اللغة المنطوقة، لكنه يقولها بطريقة اخرى. إن الذهاب إلى السينما يعني رؤية هذه القصص".بمعنى آخر: "ليس لان السينما لغة تستطيع أن تروي لنا قصصا جميلة، إنما لأنها روت لنا هذه القصص اصبحت، بذلك، لغة". على الفيلم أن يقول شيئا وله أن يقوله، لكن دون أن يلتزم بشعور معالجة الصور ككلمات وتنظيمها وفقا لقواعد نحو لغوي مشابه. أن حظ الفيلم في قدرته على التفريج والتعبير عن معنى، ليس وفقا لافكار مسبقة أو مستعارة، انما عبر تنظيم عناصره في الزمان والمكان. كيف؟ يستنتج ميتز: "الكاتب يستعمل اللغة، أما السينمائي فإنه يبتكرها".
يتطرق جان ميتري في مؤلفه "جماليات وسيكولوجية السينما" إلى قضية "اللغة" في السينما، ويعدها من أهم القضايا السينمائية وأكثرها شيوعاً على الإطلاق. وينطلق ميتري، في معالجة هذه القضية، من منظور مختلف إلى حد ما عن ميتز، وينتهي، بعد عرض أفكاره، إلى أن السينما أيضاً لغة، لكنها تختلف عن اللغة المنطوقة، رغم أنه، يراها، في النهاية،لغة طالما إنها تشارك اللغة اللفظية في خاصية إيصال المعنى. يكتب ميتري: إلى أي مدى يمكن اطلاق مفهوم لغة على الفيلم بصورة عامة؟ إذا ما عدنا إلى مفهوم اللغة بمعناه الكلاسيكي، فمن الواضح أن السينما لا يمكن أن تكون لغة (...) لان مفهوم اللغة الكلاسيكي يصح على اللغة المنطوقة فقط، لأنه مفهومٌ لغويٌ وليس مفهوما منطقياً. ليست الصورة، كما نعرف، علامة في ذاتها، غير إن المعنى الذي تحمله، يتغير وفقا لاسلوب عرضه (...) كما أن من الواضح أيضاً، بان الفيلم هو شيء يختلف تماماً عن نظام العلامات والرموز، وانه على الأقل لا يبدو، وحده، كذلك. الفيلم أولا هو نظام صور، صور لأشياء، نظام صور هدفه وصف تتابع إحداث معينة، يطورها الى سرد. وهي صور تذعن، وفقا لطريقة السرد، المختارة، لنظام من العلامات والرموز، تصبح أو يمكنها إضافة إلى ذلك، رموزاً. وإنها أخيراً ليست علامات كالكلمات، إنما هي، في الدرجة الأولى، مواضيع من واقع ملموس، مواضيع، تحمل أو يمكن أن تحمل معانٍ معينة. من هنا فان الفيلم لغة ويصير بهذا المقياس لغة حينما يعرض أولا بمعونة هذا العرض.
باختصار صنف جان ميتري السينما في تصنيف يختلف عن اللغة الكلامية، لأنه يجد الصورة تختلف عن الكلمة التي تقارن ، ولان الصورة تتطابق مع أشياء الواقع. غير إن محاولة جعل المونتاج يعمل عمل اللغة، هو مجرد اساءة لاستعمال قدرات وسيط السينما الفني. ومع إن الناقدة دينا دريفوس تقول الشيء نفسه الذي يقوله ميتري، إلا أنها ترفض اعتبار السينما لغة. ويوضح ميتز، بأن الملاحظة التي يوردها ميتري ومفادها، انه من اليسير مناقشة أن كل لغة ينبغي أن تشبه اللغة المنطوقة، تجعلنا نستنتج أن لغة الفيلم، لاختلافها عن اللغة المنطوقة، هي بالتالي ليست لغة.
على أساس من هذه الإشكالية، تاريخياً، جرت مساع عديدة لمحاولة البرهنة على وجود "تمفصل مزدوج" في التعبير السينمائي، يتناظر مع وجوده في اللغة، فمثلاً وجد بازوليني علامات الفيلم هي علامات الواقع نفسه، والفيلم هو فلتر/ مرشح بين صانع الفيلم والواقع، لأن الفيلم يحكي لغة الواقع المكتوبة ويعرض الواقع بالواقع نفسه ولغة الواقع الموجودة في العالم هي لغة الواقع الطبيعي النقية والوحيدة، التي تجعل الواقع يحاكي حاله. وتجعل من سيميائية الواقع مادة الفيلم الواقعية، سيميائية تقول لنا شيئا، وتسرد معاني، بالعلاقة مع معاني الأشياء والأحداث التي يصورها الفيلم.
ووصل بازوليني إلى كون الوحدات الصغرى في السينما، التي يعاد إنتاجها كما هي على الفيلم، تعادل الفونيمات، وأن لغة السينما هي صياغة خاصة للتمفصل المزدوج. لان وحدات لغة السينما الصغرى تبرهن على أشياء الواقع المتنوعة وتحتل الصدارة في الصورة، وتعادل، عبر التشابه، الفونيمات، التي تقابل مورفيمات اللغة الطبيعية وتوازيها. أما ايكو فيجد حجة بازوليني تدل على فهم ناقص في معرفة الكود الثقافي،ومعرفة إيديولوجية وطبيعة، ليس فقط الفيلم إنما طبيعة السلوك الإنساني وعملية التفاهم بصورة عامة. فأشياء الواقع، التي تحتل الصورة، بالنسبة له، هي مجرد مظاهر اصطلاحية مقررة، تتم بوساطة التكويد/ التشفير إلا يقوني، وتدل على صفات المعاني، وهي بالتالي، وحدات صغرى لا تعادل الفونيمات اللغوية ولا تستند في إنتاج المعاني المختلفة على تمفصل صورة مزدوج.
غير أن محاولة بازوليني بينت، في نهاية المطاف، نوعية مغايرة للتمفصل المزدوج، التي سعت للبرهنة على وجوده. ففي كتابه الأول"الصورة ـ الحركة" أشار الفيلسوف جيل دولوز إلى مسعى بازوليني في إيجاد مقاربات في السينما مع اللغة، ووجدها مقاربات غير موفقة، لأنه يرى إن كان للقطة من نظير فسيكون في المنظومة المعلوماتية، وليس في المنظومة اللسانية. ويعود دولوز في فترة لاحقة إلى مناقشة مسألة العلاقة بين السينما واللغة، لينبه إلى أنها ساعدت على صياغة شروط وإمكانات سيميائية الفيلم. ويطري حذر كريستيان ميتز في تناوله لهذه العلاقة، إذ انه لم يسأل: “ما الذي يجعل من السينما لغة؟”، إنما طرح السؤال بشكل آخر: “ما الذي يجعلنا نعتبر السينما لغة؟”. ويستنتج ميتز أن: “السينما فن حين تصبح لغة”. وقد وضع ميتز أمامنا جوابين، الأول الذي تبيّنه “الواقعة” التاريخية، وهو أن السينما تطورت، بالدرجة الأولى، إلى سينما سردية تروي حكايات. والثاني يتعلق بتتابع الصور واقترابه، كمعنى، من العبارة الملفوظة، مما قاد إلى اعتبار اللقطة المنفردة كعبارة سردية صغرى. ولربما دفعته مقارنة كهذه إلى التوضيح: "بأننا نفهم الفيلم ليس بسبب من فهمنا المُسبق لنظامه، إنما على العكس من ذلك، فنحن، لأننا نفهم الفيلم، نقترب من فهم نظامه. فالسينما لم ترو لنا قصصا جميلة لأنها لغة، بل لأنها روت لنا مثل هذه القصص والحكايات أصبحت كما اللغة". ويستنتج ميتز: “السينما فن حين تصبح لغة”.
وإذ يجد لوتمان اللغة الطبيعية كموديل نموذج للعالم أولي، فانه يجد أشكال التعبير في الفن وسائط موديل من نوع آخر ثانوي. وهو يعتبر اللغة “نظام تنمذج أولي” في التعبير، كما يعتبر وسائل التعبير الأخرى الأدبية والفنية “نظام تنمذج ثانوي” في التعبير، وقلما يستطيع نظام التنمذج الثانوي، وهو يبتكر لغته في التعبير، الاستغناء عن النظام الأولي.
إن التحليل الذي يقدمه لوتمان ويصل انطلاقاً منه إلى نظام موديل الفن كلغة "تعبير" ثانية بالعلاقة مع اللغة الأولى، يساعد إلى حد كبير على فهم الإشكالية التي واجهت العديدين. فهو إذ يسمي هذه اللغة الثانية “نظام تنمذج ثانوي” يضع بيد المختصين مصطلحاً يعينهم على إزالة الالتباس، الذي يحيط بهذه الإشكالية المطروحة، الناتجة من عدم الوضوح العام.
يتم عندنا الحديث في أدبيات عديدة عن اللغة السينمائية وعن سيطرة مفرداتها وقواعدها، نحوها وصرفها، على كل الأشكال في كل الأفلام، ويربط مثل هذا التصور كل شيء هنا بخاصية فيزيائية، تتم عن طريق الاستعانة بالكودات والتقنيات السينمائية المتداولة التي تشكل معجماً صغيراً في عملية الابتكار السينمائي، الذي يرتبط بمجموع دلالات الأفلام. كما أن هذا التصور يرد اعتماد مصطلح اللغة السينمائية إلى استخدام هذه أو تلك من الكودات الفيلمية والتقنيات السينمائية، التي تم اكتشافها في عملية إنجاز الأفلام، وهو ما يطلق عليه كريستيان ميتز صفة "سينمائي"، أي كل ما يتألف من تركيبات تظهر في الأفلام وتحمل دلالات وتنتج معاني. إن هذه الفرضية تؤكد، بالتالي، على بعض المكونات السطحية، لان أية لغة تميز نفسها عن لغة أخرى بواسطة مادة تعبيرها، واعتبار السينما لغة يضعنا، أيضا، بمواجهة وجود مادة تعبير مسبقة، هي في واقع الحال غير موجودة.
ليس المهم، لمن يبحث، التراجع عن مصطلح "لغة السينما"، حتى وان كان يستعمله مجازاً، المهم أن تتاح لنا فرصة الوقوف عند: “إشكالية” موجودة حقا ويجب علينا فهمها بعمق، خصوصا وان "الالتباس" يأتي من استعمال مصطلح "لغة" بينما الوسيط السينمائي، ليس، في واقع الحال، لغة جاهزة، لها قاموسها الخاص وقواعدها العامة ونحوها...
يبقى أن من يعتقد إن تقسيم المشهد إلى لقطات بأحجام مختلفة واستعمال الشاريو أو الزوم والبانوراما أوالتصوير بكاميرا واحدة واعتماد مواقع تصوير عديدة واستخدام طرق مونتاج مختلفة الخ... يخوله باستعمال هذا المفهوم، فليس علينا سوى أن نبين إن ذلك يشكل للسينمائي "كودات" حيادية، ليس لها، في الأصل، دوال جاهزة، ترتبط بمدلولات قاموسية، فالفيلمي المنجز يسبق الفيلم، وما هو سينمائي ينتج من الفيلم ويأتي مصدره من علامات مبتكرة تتآلف في الفيلم كخطاب. وبناء على ذلك يستطيع البحث السيميائي في بنية الفيلم "العميقة " أن يستدل، فقط، على خاصية تعبيره المُميزة، التي تشكل خطابه السينمائي، والتي هي " اللغة " الثانية ـ نظام التنمذج الثانوي ـ التي لا تسبق التعبير إنما تنشأ عنه.
لنحاول أن نصل الى خلاصة، نستنبطها، من سؤال جان ماري بيترس الهام، الذي لم يتمكن، حينئذ، أن يجد جوابه الحاسم، لكنه استطاع أن يفتح الحوار أمام الدارسين بهدف الوصول إلى معرفة جديدة. ولعل العلاقة إذا ما توضحت عندنا بين لغة السينما وفن السينما ذات وضوحها في لغة الكلام وفي فن الشعر، فإن هذا الوضوح يقدم فائدة جليلة في الكشف العميق عن طبيعة عملية التعبير البصري وخصوصيتها ويظل يفتح آفاقاً جديدة أمام علم جمال السينما.
مصادر مختارة
1- عدنان مدانات. أزمة السينما العربية - الهيئة العامة لقصور الثقافة/ 2007/ القاهرة .
2- د. منى الصبان. أنا والمونتاج. تجارب خاصّة في السينما المصرية. الفن السابع 116 منشورات وزارة الثقافة-المؤسسة العامة للسينما/دمشق/ 2006.
3- قيس الزبيدي. بنية المسلسل الدرامي التلفزيوني: نحو درامية جديدة. قدمس للنشر والتوزيع/دمشق/ 2000 .
4- جيل دولوز. الصورة ـ الحركة. وزارة الثقافة ـ المؤسسة العامة للسينما/ دمشق/ 1997.
5- كريستيان ميتز. دراسة عن جان ميتري. مجلة الفكر والفن المعاصر. ديسمبر/ 1997.
6- ج. مونين. في اللسانية- مفهومات في بنية النص ـ دار معد للنشر/ دمشق/ 1996
7- جيل دولوز. الصورة ـ الزمن. سوركامب/ فرانكفورت/ 1991.
8- بيتر فايس. قيمة فن وخواص جماهيرية الوسيط.، مفاهيم في تاريخ ونظرية الفيلم الروائي. دار نشر هينشل/ برلين/ 1990.
9- يوري لوتمان. مدخل إلى السيميائية. النادي السينمائي. ترجمة. نبيل الدبس. مراجعة. قيس الزبيدي. دمشق/ 1989.
10- كارل-ديتمار موللير-ناس. لغة الفيلم. نظرية تاريخ نقدي. الطبعة الثانية/1988. دار نشر ماكس- منستر.ألمانيا
11- ترنس هوكس. مدخل إلى السيمياء. مجلة بيت الحكمة. المغرب/ العدد الخامس أبريل/ 1987.
12- ج. دادلي أندرو. ترجمة: د. جرجس فؤاد الرشيدي. مراجعة: هاشم النحاس. الألف كتاب (الثاني-51) الهيئة المصرية العامة للكتاب/ 1987
13- أندريه مارتينيه. مبادئ اللسانيات العامة. ترجمة الدكتور احمد الحمو. وزارة التعليم العالي/دمشق/1985.
14- كريستيان ميتز. سيميائية الفيلم. Wilhelm Fink Verlag، ميونيخ/ 1972
15- بودفكين. الفن السينمائي. ترجمة. صلاح التهامي. دار الفكر/ القاهرة 1957.

الاثنين، 5 يوليو 2010

"حنين للضوء": التطلع إلى السماء لمعرفة ما في باطن الأرض

كان من أهم وأجمل ما عرض من أفلام وثائقية في مهرجان كان السينمائي الـ63 فيلم "حنين للضوء" Nostalgia De La Luz للمخرج التشيلي الكبير باتريشيو جوزمان Guzman
وقد صنع جوزمان فيلمه في نحو ساعة ونصف، وصوره للشاشة العريضة، وفيه يحاول أن ينقل الفيلم الوثائقي نقلة جديدة، ليس من خلال التلاعب بالشكل بل عن طريق، التعامل مع التاريخ والسياسة ولكن من خلال نظرة فلسفية ذهنية، ترى علاقة بين دقائق الكون، وحبيبات الرمال في جوف الصحراء، بين الكواكب وحركتها وما تسقطه من ضوء، وبين العتمة التي تمكن داخل باطن الأرض، والعتمة القائمة التي تحلق فوق منطقة معينة من "تاريخ" تشيلي، لا يصلها ضوء الكواكب، ولا تخترقها نظرة المناظير العملاقة التي نراها في المشاهد الأولى من الفيلم.
إننا أمام فيلم يبدو للوهلة لأولى، تقليديا، في بنائه، وفي استخدامه للتعليق الصوتي المصاحب لصوره ولقطاته، غير أن الفيلم في جوهر مادته وتركيبها معا، ليس تقليديا على الإطلاق، بل ويمكن أن يكون فيه نوعا من السيريالية أيضا، فهناك علاقة وثيقة بين ما يحدث في الكون، خارج عالمنا المحدود، وبين ما هو كائن في جوف الأرض "حرفيا"، بين التاريخ: تاريخ الإنسان على هذه الأرض، وبين ما يكمن تحت هذه السماء، بين الماضي البعيد والماضي القريب، وبين الإنسان والتاريخ. ولذلك يمكن القول إن فيلمنا هذا ينحو منحى ذهنيا، يحيل المشاهدين إلى التأمل، ويدعوهم إلى التوقف أمام أفكار تتجاوز مجرد الهجاء الشائع في الأفلام التي تبحث عادة، في قضية الاضطهاد السياسي.
يدور الفيلم في معظمه في صحراء "أتاكاما" Atacama التي تبلغ مساحتها نحو الف كيلومتر مربع، وتمتد بين تشيلي وبيرو. وتعتبر هذه الصحراء أكثر مناطق العالم جفافا، ولذا تعتبر بمثابة "جنة" لعلماء الفلك، وفيها كما نرى في الفيلم، عدد من المراصد ذت القباب التي تحتوي على أكبر المناظير الفلكية في العالم.
هنا، من خلال هذه المناظير، يمكن رصد حركة بعض الكواكب.. ويمكن متابعة أشعة الضوء التي تنعكس من هذه الكواكب وتصل إلى كوكبنا بعد فترة زمنية لها بالطبع حساباتها العلمية.

رحلة إلى الماضي
رحلة الضوء بكل ما يحمله من لغز في داخله، هي مدخلنا إلى موضوع الفيلم، ولكن الموضوع ليس علم الفلك. إنه التاريخ: تاريخ القتل وسفك الدماء وعدوان الإنسان على الإنسان.. ما شهدته تشيلي في عهد الجنرال أوجستو بينوشيه، من تصفيات للمعارضين ودفنهم في مقابر جماعية.
ولكن ما علاقة الفلك والضوء بهذا؟
يتحدث عالم الفلك الشاب جاسبار جالاز في الفيلم عن الضوء فيقول إن العلماء عندما يتطلعون إلى السماء لرصد الضوء ومساره، فإنهم في الحقيقة يتطلعون إلى الماضي، فالضوء عندما يسقط لا يصل إلينا مباشرة بل يقتضي الأمر مرور بعض الوقت، قبل أن يصل إلينا، وإذن فنحن في الحقيقة نتعامل مع ظاهرة تنتمي إلى الماضي.
ويقول العالم الشاب إن بحث الإنسان يتركز في الماضي، في التاريخ، فيما وقع بالفعل.
في صحراء أتاكاما الممتدة الشاسعة، ينتشر أيضا عدد من علماء الجيولوجيا والحفريات الذين ينقبون عن أصل الإنسان، ويجرون الكثير من الحفريات التي يستخرجون خلالها الكثير من البقايا التي تدل على نشاط الإنسان في تلك المنطقة منذ أكثر من عشرة آلاف سنة. ولعل هذا النشاط العلمي المزدهر هنا يعود أيضا إلى ان احتواء التربة على أملاح النترات التي تساعد على حفظ الهياكل العظمية والبقايا البشرية.

لكن المفارقة التي يركز عليها جوزمان هنا، هي أنه في حين يجري الاهتمام بالفضاء وما يحدث فيه من خلال رصد أدق التفاصيل، وبينما يلقى الماضي السحيق اهتماما من جانب علماء الحفريات والآثار القديمة، لا أحد يبدو مهتما كثيرا بالبحث فيما وقع في الماضي القريب، خلال سبع عشرة سنة من حكم الجنرال بينوشيه الذي جاء في انقلاب عسكري دموي على حكومة الرئيس سلفادور اليندي عام 1973.
في تلك المناطق الصحراوية التي تقسو فيها الحياة، وتشتد الحرارة، ويتصاعد اللهيب بفعل الجفاف الشديد، هناك بقايا قائمة من مساكن عمال مناجم أملاح النترات، أقيمت في عشرينيات القرن الماضي. هي مهجورة حاليا، لكن نظام الجنرال بينوشيه كان يستخدمها كمعسكرات اعتقال جماعية قتل فيها آلاف الضحايا. ويقدم اثنان من الناجين من تلك المعسكرات الرهيبة شهاداتهم في الفيلم، ويتحدثان عما كان يقع من تصفيات فيها وعمليات تعذيب، ويرويان عن معاناتهما الشخصية خلال سنوات الاعتقال، ثم كيف تمكنا من الهرب.
وفي الصحراء جنبا إلى جنب مع علماء الفلك، وعلماء الآثار، نساء بلا مستقبل، يعشن جميعهن في الماضي، جئن إلى تلك المنطقة النائية واتخذن منها مكانا لإقامتهن الطويلة، من أجل هدف واحد يجمع بينهن جميعا: العثور على رفات الأهل والأحباب والأبناء والأزواج من المعارضين السياسيين لنظام العسكر بزعامة بينوشيه، والذين قضوا خلال سنوات الحكم العسكري، ودفنوا في عمق الصحراء.
الباحثات عن الحقيقة
ماذا يمكن أن تفعل تلك المناظير الضخمة التي تراقب ما يحدث في الفضاء الخارجي، وماذا يمكن أن يقدم العلماء لهاته النسوة المعذبات؟
هنا نرى النسوة وهن يحفرن بأيديهن، يوما بعد يوم، يروادهن الأمل في العثور على رفات أحبائهن الغائبين، دليلا على تلك الجريمة الكبرى التي لوثت تاريخ تشيلي الحديث، وأرادت الأنظمة التي تعاقبت بعد سقوط نظام بينوشيه، أن تنساها، أو تتجاوزها وتتستر عليها، لكن جوزمان، المخرج الذي لعب هو نفسه دورا بارزا في مقاومة الديكتاتورية العسكرية بأفلامه، ودفع ثمنا باهظا لمعارضته، لا ينساها ويريد أن يساهم بفيلمه هذا في إعادة التذكير بتلك التراجيديا الكبرى. إمرأة مثل فيوليتا بيريوسي، وهي في السبعين من عمرها، نحيلة البنية، تشع عيناها ببريق غريب، تأسرك بكلماتها. يسألها جوزمان من وراء الكاميرا: هل ستواصلين التنقيب؟
فتجيب: "سأواصل التنقيب مهما كلفني الأمر ومهما طال الزمن. حتى لو كانت لدي شكوك واسئلة لا أملك إجابات عنها. إنهم يقولون إنهم قاموا بإخراجهم من تحت الأرض وألقوا بهم في مياه البحر. هل حدث هذا حقا؟ لا يمكنني العثور على إجابة عن مثل هذا السؤال. ماذا لو كانوا قد ألقوا بهم في الجبال القريبة. حتى بعد ان بلغت هذا السن، وأنا في السبعين من عمري الآن، أجد من الصعب أن أصدقهم. لقد علموني ألا أصدقهم. أحيانا أشعر أنني كالبلهاء، لأنني لا أكف عن طرح الأسئلة. ولا أحد يريد أن يمنحني الإجابة التي أنشدها. إذا قال لي أحد إنهم ألقوا بهم في أعلى الجبل، فسوف أعثر على وسيلة للوصول إلى قمة الجبل . لست مثلما كنت في العشرين، سيكون من الصعب أن أفعل ذلك.. لكن الأمل يمنحك القوة".فيلم "حنين إلى الضوء"، أي حنين إلى المعرفة، إلى الإبصار، إبصار الحقيقة، والكشف عن الماضي، يكشف لنا طبقة جديدة من المعاناة: معاناة العيش في الماضي ليس من أجل التلذذ به، بل للكشف عن درس في التاريخ لا يجب نسيانه.
الكاميرا- قلم
والفيلم عمل فني رفيع، يستخدم فيه مخرجه كل إمكانيات السينما الوثائقية الحديثة للتعبيرعن فكرته. إنه يستخدم الكاميرا كما يستخدم الشاعر القلم، يبدأ الفيلم بلقطات من خلال عدسات المناظير الفلكية العملاقة، للكون، لقطات سيريالية تتداخل فيها الالوان وتبدو فيها الحركة الدقيقة للأشياء مثل حركة جنين لم يولد بعد. وينتقل بعد ذلك إلى الصحراء، ويصنع من اللقطات التي تمتزج فيها حبيبات الرمال المتطايرة مع الضباب في الليل، صورة فريدة تعمق من إحساسنا بالاغتراب من أجل الاقتراب.
ويشيع طوال الفيلم إيقاع بطيء، يسمح بمساحة جيدة للتفكير والتأمل، وموسيقى كلاسيكية رصينة، تساعد على التحليق بنا إلى مأساة الماضي، إلى عمق التاريخ بطبقاته المختلفة التي يكشف لنا عنها الفيلم تدريجيا، إلى أن يواجهنا بالصدمات الأخيرة. ويستخدم الفيلم الشهادات الحية ويمزجها بالوثائق والصور الفوتوغرافية والخرائط والرسوم. ويستخدم التعليق الصوتي بدقة شديدة، ويحرص على الابتعاد عن الثرثرة، بل بلغة ذات إيقاع شاعري حزين، فيها الكثير من الرصانة، والكثير من الرنين الذي يضفي عليها رونق خاص. والتعليق كله بصون جوزمان نفسه، الذي يريد أن يقول لنا إنه يوجه رسالته بشكل مباشر إلينا نحن المشاهدين.
ورغم ما يبدو من صرامة باردة ظاهرية في التعامل مع الموضوع إلا أن هناك الكثير من المشاهد الصادمة المثيرة للعديد من المشاعر. فهل يمكن مثلا نسيان امرأة مثل فيكي سافيدرا التي استطاعت، بعد سنوات من التنقيب، العثور على جزء من جمجمة شقيقها وبعض أسنانه وإحدى قدميه والحذاء لايزال فيها، وهي تواصل التنقيب، تريد أن تعثر على باقي أجزاء جسده!
تجربة المخرج
باتريشيو جوزمان المخرج من مواليد تشيلي عام 1941، درس السينما في مدريد (اسبانيا)، وتخصص في إخراج الافلام الوثائقية التي يعتبر أشهرها فيلم "معركة تشيلي" الذي يسجل ويوثق فيه لسنوات تجربة حكومة الوحدة الشعبية وما لاقته من متاعب، إلى أن وقع الاتقلاب العسكري عام 1973 وقد سجن جوزمان لفترة قبل ان يتمكن من الفرار من تشيلي ونجح تهريب المادة المصورة إلى كوبا حيث تمكن من عمل المونتاج لفيلمه الطويل، كما أخرج هناك أفلاما أخرى. وله فيلم مرجعي عن سلفادور أليندي. وقد عاش في اسبانيا وفرنسا قبل أن يعود إلى تشيلي حيث واصل عمله في التأريخ للمتغيرات السياسية في بلاده خلال 40 عاما، وهو يمتلك مادة مصورة هائلة صورها لحسابه الشخصي كما يستعين في أفلامه بالكثير من المواد المصورة من الأرشيف.

جميع الحقوق محفوظة ولا يسمح بإعادة النشر إلا بعد الحصول على إذن خاص من ناشر المدونة - أمير العمري 2020- 2008
للاتصال بريد الكتروني:
amarcord222@gmail.com

Powered By Blogger